منها- في صفة خلق اصناف من الحيوان و لو فكّروا في عظيم القدرة، و جسيم النّعمة، لرجعوا إلى الطّريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكنّ القلوب عليلة، و الأبصار «و البصائر خ» مدخولة، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، و أتقن تركيبه، و فلق له السّمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر. أنظروا إلى النّملة في صغر جثّتها، و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، و صبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها، و تعدّها في مستقرّها، تجمع في حرّها لبردها، و في ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، و لا يحرمها الدّيّان، و لو في الصّفا اليابس، و الحجر الجامس. و لو فكّرت في مجاري أكلها، و في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرّأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا، فتعالى الّذي أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، و لم يعنه في خلقها قادر، و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلّا على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّشي ء و غامض اختلاف كلّ حيّ، و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف، في خلقه إلّا سواء، و كذلك السّماء و الهواء و الرّياح و الماء. فانظر إلى الشّمس و القمر، و النّبات و الشّجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا اللّيل و النّهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال، و تفرّق هذه اللّغات، و الألسن المختلفات. فالويل لمن جحد المقدّر، و أنكر المدبّر، يزعمون «زعموا خ» أنّهم كالنّبات ما لهم زارع، و لا لاختلاف صورهم صانع، و لم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا، و لا تحقيق لما أوعوا، و هل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان.
اللغة
(البشر) جمع البشرة مثل قصب و قصبة ظاهر الجلد و (النملة) واحدة النمل و (جثّة) الانسان شخصه.
و (استدرك) الشي ء و إدراكه بمعنى و استدركت ما فات و تداركته بمعنى و استدركت الشي ء أى حاولت إدراكه به، و مستدرك الفكر يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الادراك و أن يكون اسم مفعول و (الفكر) و زان عنب جمع فكرة بالكسر و هو اعمال النظر و قيل اسم من الافتكار و في بعض النسخ الفكر بسكون العين.
و (صبّت) على البناء للمفعول من صبّ الماء أراقه، و في بعض النّسخ بالضاد المعجمة و النون على بناء المعلوم أى بخلت و (الجحر) بالضمّ الحفرة التي تحتفرها الهوام و السّباع لأنفسها (و في ورودها لصدرها) الورود في الأصل الاشراف على الماء للشرب ثمّ اطلق على مطلق الاشراف على الشي ء دخله أو لم يدخله كالورود و الصدر بالتحريك اسم من صدر صدرا و مصدار أى رجع، و في نسخة الشارح البحراني في وردها لصدرها. و (كفل) كفالة من باب نصر و علم و شرف ضمن و كفلته و به و عنه إذا تحملت به و (المنان) من المن بمعنى العطاء لا من المنّة و (الدّيان) الحاكم و القاضي و قيل القهار، و قيل السائس أى القائم على الشي ء بما يصلحه و (الصفا) بالقصر الحجر و قيل الحجر الصّلبة الضخم لا ينبت شيئا و الواحدة صفاة و (الجامس) الجامد و قيل أكثر ما يستعمل في الماء جمد و في السمن و غيره جمس.
و (اكلها) بالضمّ فى بعض النسخ و في بعضها بضمتين المأكول و (علوها) و (سفلها) بالضمّ فيهما في بعض النسخ و بالكسر في بعضها و (الشراسيف) مقاط الاضلاع و هي أطرافها التي تشرف على البطن، و قيل الشرسوف كعصفور غضروف معلّق بكلّ ضلع مثل غضروف الكتف و (الاذن) بالضمّ و بضمّتين على اختلاف النسخ و (العجب) التعجّب أو التّعجب الكامل و (الضرب في الأرض) السيّر فيها أو الاسراع به و (الدلالة) بالكسر و الفتح اسم من دلّه إلى الشي ء، و عليه أي أرشده و سدّده و (الغامض) خلاف الواضح و (القلال) و زان جبال جمع قلّة بالضمّ و هى أعلى الجبل، و قيل الجبل.
و (وعا) الشي ء و أوعاه حفظه و جمعه، و في بعض النسخ وعوه على المجرّد بدل أوعوه و (جنا) فلان جناية بالكسر أى جرّ جريرة على نفسه و قومه، و جنيت الثمرة و اجتنيتها اقتطفتها و اسم الفاعل منهما جان إلّا أنّ المصدر من الثاني جنى لا جناية
الاعراب
الباء في قوله بوجوب الحجج تحتمل المصاحبة و السببيّة، و جملة لا تكاد تنال حال من النملة و العامل انظروا، و قوله: كيف دبّت، في محلّ الجرّ بدل من النملة أو كلام مستأنف و الاستفهام للتّعجّب.
و مكفولة برزقها و مرزوقة بوفقها بالرفع في أكثر النسخ خبران لمبتدأ محذوف قال الشارح البحراني نصب على الحال و في بعض النسخ رزقها و وفقها بدون الباء، و عجبا مفعول به لقضيت قال الشارح البحراني: و يحتمل المفعول له على كون القضاء بمعنى الموت و هو بعيد.
و قوله: فالويل لمن جحد المقدّر، جملة اخبارية أو إنشائية دعائية قال سيبويه: الويل مشترك بين الدّعاء و الخبر
(منها)
أى من جملة فصول تلك الخطبة (في صفة) عجيب (خلق أصناف من الحيوان) أي في وصف عجايب خلقتها الدالّة على قدرة بارئها و عظمة مبدئها و تدبيره و حكمته في صنعتها، و قد تقدّم فصل واف من الكلام على هذا المعنى في الخطبة المأة و الرّابعة و الستّين و شرحها.
و قال عليه السّلام هنا: (و لو فكّروا) أى تفكروا و اعملوا نظرهم (في عظيم القدرة) أى في آثار قدرته العظيمة الظاهرة في مخلوقاته (و جسيم النعمة) أى عظيم نعمته التي أنعم بها على عباده (لرجعوا إلى الطريق) و الصراط المستقيم (و خافوا عذاب الحريق) و عقاب الجحيم لكفايتها في الهداية إليه و الاخافة منه.
قال تعالى في الاشارة إلى عظيم قدرته «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ». و قال «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ».
قال الطبرسي «ره» في هذه الاية استفهام يراد به التقريع و المعنى أو لم يعلموا أنّ اللّه سبحانه الّذي يفعل هذه الأشياء و لا يقدر عليها غيره فهو الاله المستحقّ للعبادة دون غيره. و قال في الدلالة على جسيم نعمته أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَ الْجِبالَ أَوْتاداً.. وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً. وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.. وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً. وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً. وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً. وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً.
فانّ في تعداد تلك النعم اشارة إلى عظيم ما منّ به على عباده فمن تفكّر فيها أناب إلى طريق الحقّ و نهج الصواب، و خاف من سوء المال و أليم العذاب (و لكن) الناس بمعزل عن هذا بعيدون عن الاهتداء إليه لأنّ (القلوب عليلة) سقيمة (و الأبصار) أى البصاير كما في بعض النسخ (مدخولة) معيبة، فكان مرضها و علّتها مانعة عن التدبّر و التفكر.
و المراد بعلّتها خروجها عن حدّ الاعتدال و الاستقامة بسبب توجّهها إلى الشهوات النفسانيّة و العلايق البدنية، لأنّ مرض القلوب عبارة عن فتورها عن درك الحق بسبب شوبها بالشكوك و الشبهات و فسادها بالعلايق و الامنيات، كما أنّ مرض الأعضاء عبارة عن فتورها عن القيام بالاثار المطلوبة منها بسبب طروّ الفساد عليها و خروجها عن حدّ الاعتدال.
قال تعالى «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» و قال «وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» أي غطاء، فانهم لما اعرضوا عن النظر فيما كلفوه أو قصروا فيما اريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء و هو معنى العيب في الأبصار.
فان قيل: لم خصّ القلوب و الأبصار بالذكر.
قلت: لأنّ القلب محلّ الفكر و النظر و الأبصار طريق إليها و إن كانت الأسماع طريقا أيضا إلّا أنّ الأبصار لكونها أعظم الطرق خصّت بالذّكر و قد جمعتها جميعا الاية الشريفة خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
و لما أشار إلى عظيم قدرته اجمالا و وبخ على غفلة القلوب و عيب الأبصار و كان المقصود بذلك جذب نفوس المخاطبين و توجيه قلوبهم إلى إقبال ما يذكّرهم به أو تشويقهم إلى إصغاء ما يتلى عليهم أردفه بالتنبيه على لطيف صنعه تعالى في صغير ما خلق فقال: (ألا ينظرون إلى صغير ما خلق) من أنواع الحيوان (كيف أحكم خلقه) و أتقنه (و أتقن تركيبه) و أحكمه (و فلق) أى شقّ (له السّمع و البصر و سوّى) أى عدل (له العظم و البشر) مع ما هو عليه من الصغر.
ثمّ تخلص إلى تفصيل المرام بعد ما كساه ثوب الاجمال و الابهام، لأنّ ذكر الشي ء مبهما ثمّ مفسّرا و مفصّلا أوقع في النفوس و أثبت في القلوب فقال عليه السّلام: (انظروا إلى النملة) نظرا يوجب البصيرة و يعرف به عظيم القدرة (في صغر جثّتها) و شخصها (و لطافة هيئتها) و كيفيتها (لا تكاد تنال بلحظ البصر) أى النظر و هكذا في بعض النسخ (و لا بمستدرك الفكر).
قال العلّامة المجلسيّ «ره» مستدرك الفكر على بناء المفعول يحتمل أن يكون مصدرا أى ادراك الفكر أو بطلبها الادراك و لعلّه أنسب بقوله: بلحظ البصر، و أن يكون اسم مفعول أى بالفكر الذي يدركه الانسان و يصل إليه أو يطلب ادراكه أى منتهى طلبه لا يصل إلى ادراك ذلك، و أن يكون اسم مكان و الباء بمعنى في.
(كيف دبّت على أرضها) الاضافة لأدنى ملابسة (و صبّت على رزقها) قيل هو على العكس أى صبّ رزقها عليها.
قال الشارح المعتزلي: و الكلام صحيح و لا حاجة فيه الى هذا، و المراد و كيف ألهمت حتّى انصبّت على رزقها انصبابا أى انحطت عليه قال: و يروى و ضنّت على رزقها أى بخلت، انتهى.
و على الأوّل فلفظ الصّب استعارة لسرعة الحركة إليه كما في الماء المصبوب نحو ما ينصب فيه، و على الثاني فضنّتها لعلمها بحاجتها إلى الرزق و سعيها في الاعداد و الحفظ (تنقل الحبّة إلى حجرها) و بيتها (و تعدّها في مستقرّها) أى تهيّؤ الحبّة في محلّ استقرارها (تجمع فى حرّها لبردها) أى في أيّام الصّيف للشتاء (و فى ورودها لصدرها) أى تجمع في أيّام التمكن من الحركة لأيام العجز لأنّها تظهر في أيّام الصّيف و تختفى في أيّام الشّتاء لبرودة الهواء (مكفولة) أى مضمون (برزقها مرزوقة بوفقها) أى بما يوافقها من الرزق كمّا و كيفا.
(لا يغفلها المنّان) أى لا يتركها غفلة عنها و اهمالا من غير نسيان اللّه الذي هو كثير المنّ و العطاء (و لا يحرمها الدّيان) أى لا يجعلها محرومة من رزقها الدّيان المجازي لعباده ما يستحقّون من الجزاء.
و قد يفسّر الدّيان بالحاكم، و القاضي، و القهار، و بالسايس القائم على الشي ء بما يصلحه كما تفعل الولاة و الأمراء بالرعيّة.
و وجه المناسبة على الأوّل أنها حيث دخلت في الوجود طايعة لأمره و قامت فيه منقادة لتسخيره، وجبت في الحكمة الالهيّة جزاؤها و مقابلتها بما يقوم بوجودها فلا تكون محرومة من مادّة بقائها على وفق تدبيره، قاله الشارح البحراني.
و على الثاني أنّ إعطائه كلّ شي ء ما يستحقّه و لو على وجه التفضّل من فروع الحكم بالحق.
و على الثالث الاشعار بأنّ قهره سبحانه لا يمنعه من العطاء كما يكون في غيره احيانا.
و على الرّابع أنّ مقتضى قيمومته بالأصلح عدم الحرمان كما هو شأن الموالى بالنسبة إلى العبيد.
و كيف كان فهو سبحانه لا يمنعها من الرزق (و لو) كانت (في الصّفا) الصلد (اليابس) الذي لا ينبت شيئا (و الحجر) الجامد (الجامس) الذي لا يتحول من موضع موضعا بل يفتح عليها أبواب معاشها في كلّ مكان و يهديها إلى أقواتها في كلّ زمان.
ثمّ نبّه على مجال آخر للفكرة في النملة موجبة للتنبيه و العبرة فقال (و لو فكرت في مجاري اكلها) أى مجاري ما تأكله من الطعام و هى الحلق و الأمعاء (و في علوها و سفلها).
قال الشارح البحراني علوها بسكون اللّام نقيض سفلها و هو رأسها و ما يليه إلى الجزء المتوسّط و سفلها ما جاوز الحر من طرفها الاخر.
أقول: فعلى ذلك الضميران مرجعهما نفس النملة على حذو ما سبق، و يحتمل رجوعهما إلى المجاري و المراد واحد.
(و ما في الجوف من شراسيف بطنها) أى أطراف أضلاعها المشرفة على بطنها (و ما في الرّأس من عينها و اذنها).
قال الشارح المعتزلي و لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رؤوسها و يجب إن صحّ ذلك أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على قوّة الاحساس بالأصوات فانّه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوّة لها، و لهذا إذا صيح عليهنّ هدبن.
و قوله عليه السّلام (لقضيت من خلقها عجبا) جواب لو أى لو فكرت في هذه الأمورات التي أبدعها اللّه سبحانه فيها بحسن تدبيره و حكمته و قدرته مع مالها من الصّغر و اللطافة لأدّيت من ذلك عجبا أى تعجّبت غاية التّعجب (و لقيت من وصفها تعبا) و مشقّة إن وصفتها حقّ الوصف.
(فتعالى اللّه الذي أقامها على قوائمها) مع ما بها من الدقّة و اللطافة لا يكاد أن يدركه الطرف لغاية دقتها كالخيوط الدّقيقة (و بناها على دعائمها) استعار الدّعامة الّتي هو عمود البيت لما يقوم به بدنها من الأجزاء القائمة مقام العظام و الأوتار و فيه تشبيهها بالبيت المبنيّ على الدّعائم (لم يشركه في فطرتها) أي خلقتها و ايجادها (فاطر) مبدع (و لم يعنه على خلقها قادر) مدبّر بل توحّد بالفطر و التدبير و تفرّد بالخلق و التقدير فسبحانه ما أعظم شأنه و أظهر سلطانه.
(و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته) أى لو سرت أو أسرعت في طرق فكرك و هى الأدلّة و اجزاء الأدلة لتصل إلى غايات الفكر في الموجودات و المكونات (ما دلّتك الدلالة) أى لم يدلّك الدّليل (إلّا على أنّ فاطر النملة) على صغرها (هو فاطر النخلة) على طولها و عظمتها، يعني أنّ خالقهما واحد و الغرض منه دفع توهّم يسر الخلق و سهولته في الأشياء الصّغيرة (لدقيق تفصيل كلّ شي ء و غامض اختلاف كلّ حيّ). يعني أنّ كلا من الأجسام و الأشياء صغيرا كان أو كبيرا فتفصيل جسمه و خلقته و هيئته تفصيل دقيق و اختلاف أشكالها و صورها و ألوانها و مقاديرها اختلاف غامض السّبب، فلا بدّ للكلّ من مدبّر حكيم خصّصه بذلك التفصيل و الاختلاف على اقتضاء التدبير و الحكمة، فثبت بذلك أنّها لا تفاوت فيها بين الصّغر و الكبر في الافتقار إلى الصّانع المدبّر.
و أكّد ذلك الغرض بقوله (و ما الجليل و اللّطيف) كالنخلة و النملة (و الثقيل و الخفيف) كالتراب و السحاب (و القوىّ و الضعيف) كالفيلة و السخلة (في خلقه إلّا سواء) لاستواء نسبة قدرته التي هي عين ذاته اليها.
و الغرض بذلك دفع استبعاد نسبة الخلقة العظيمة و الخلقة الصّغيرة إلى صانع واحد، و وجه الدفع أنّ المخلوقات و إن اختلفت من حيث الطبايع و الهيات و الأشكال و المقادير صغرا و كبرا و ثقلا و خفّة و ضعفا و قوّة إلّا أنّها لا اختلاف فيها من حيث النسبة إلى القدرة الكاملة للفاعل المختار.
(و كذلك السماء و الهواء و الرياح و الماء) على اختلاف هيئاتها و هيئاتها و تباينها و تضادها مشابهة للامور السابقة، مستوية لها من حيث الانتساب إلى القدرة.
(فانظر إلى الشّمس و القمر و النّبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا اللّيل و النّهار و تفجّر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرّق هذه اللّغات و الألسن المختلفات.) لا يخفى ما في هذه الفقرة و سابقتيها من الرقة و السّلاسة و اللّطافة من حيث اللّفظ و العبارة، حيث تضمنت سياقة الاعداد مع مراعاة التطبيق و الازدواج و ملاحظة الأسجاع، و أمّا من حيث المعنى فالمراد بها الأمر بالتدبّر فيما أودع في هذه الأشياء من غرايب الصنعة و لطايف الحكمة و براهين القدرة و العظمة حسبما عرفت نبذا منها في شرح الفصل الرابع و السادس من المختار التسعين فانظر ما ذا ترى.
و قال الشارح المعتزلي: المراد بها الاستدلال بامكان الاعراض على ثبوت الصّانع، بأن يقال كلّ جسم يقبل لجسميته المشتركة بينه و بين ساير الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام، فاذا اختلف الأجسام في الاعراض فلا بد من مخصّص و هو الصّانع الحكيم. و قرّره الشارح البحرانى بتقرير أوضح و هو أنّ هذه الأجسام كلّها مشتركة في الجسميّة و اختصاص كلّ منها بما يميّز به من الصّفات المتعدّدة ليست للجسميّة و لوازمها، و إلّا وجب لكلّ منها ما وجب للاخر، ضرورة اشتراكها في علّة الاختصاص فلا مميّز له هذا خلف، و لا لشي ء من عوارض الجسمية لأنّ الكلام في اختصاص كلّ منها بذلك العارض كالكلام في الأوّل و يلزم التسلسل، فيبقى أن يكون لأمر خارج عنها هو الفاعل الحكيم المخصص لكل منها بحدّ من الحكمة و المصلحة.
أقول: و قد اشير إلى هذا الاستدلال في قوله عزّ و جلّ وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَ مِنْ. آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
قال الطبرسيّ: أى من دلالاته على وحدانيّته و كمال قدرته خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما فيهما من عجايب خلقه و بدايع صنعه مثل ما في السّموات من النجوم و الشمس و القمر و جريها في مجاريها على غاية الاتّساق و النظام، و ما في الأرض من الجماد و النبات و الحيوان المخلوقة على وجه الاحكام.
«وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» الألسنة جمع لسان و اختلافها هو أن ينشأها اللّه مختلفة في الشّكل و الهيئة و التركيب فيختلف نغماتها و أصواتها حتّى أنّه لا يشتبه صوتان من نفسين هما اخوان، و قيل: إنّ اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات من العربيّة و العجميّة و غيرهما، و لا شي ء من الحيوانات يتفاوت لغاتها كتفاوت لغات الانسان فان كانت اللّغات توقيفيّا من قبل اللّه فهو الذي فعلها، و إن كانت مواضعة من قبل العباد فهو الذي يسرها.
«وَ أَلْوانِكُمْ» أى و اختلاف ألوانكم من البياض و الحمرة و الصّفرة و السّمرة و غيرها فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة، و ما ذلك إلّا للتراكيب البديعة و اللّطائف العجيبة الدالّة على كمال قدرته و حكمته حتى لا يشتبه اثنان من النّاس و لا يلتبسان مع كثرتهم. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» أى أدلّة واضحات «لِلْعالَمِينَ» أى للمكلّفين.
«وَ مِنْ آياتِهِ» الدالّة على توحيده و اخلاص العبادة له «مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» أى النّوم الذي جعله اللّه راحة لأبدانكم باللّيل و قد تنامون بالنهار فاذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل اللّه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ذلك فيقبلونه و يتفكّرون فيه، لأنّ من لا يتفكّر فيه لا ينتفع به فكأنه لم يسمعه.
«وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً» معناه و من دلالالته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر و يطمع فيه المقيم، و قيل: خوفا من الصواعق و طمعا في الغيث «و ينزّل من السّماء ماء» أى غيثا و مطرا «فيحيى به» أى بذلك الماء «الأرض بعد موتها» أى بعد انقطاع الماء عنها وجدو بها «إنّ في ذلك لايات لقوم يعقلون» أى للعقلاء المكلّفين.
(فالويل) أى الحزن و الهلاك و المشقّة من العذاب و قيل إنّه علم واد في جهنّم (لمن جحد المقدّر و أنكر المدبّر) و هم الدّهريّون الّذين قالوا ما هى إلّا حياتنا الدّنيا نموت و نحيى و ما يهلكنا إلّا الدّهر (و يزعمون أنهم كالنبات) النابت في الصحاري و الجبال من غير زرع فكما أنّه ليس له زارع و مدبّر من البشر فكذلك هؤلاء.
(ما لهم زارع) أصلا (و لا لاختلاف صورهم صانع) قطعا و ذكر اختلاف الصّور لكونه أوضح دلالة على الصانع و قيل: المراد انهم قاسوا أنفسهم على النبات الذي جعلوا من الأصول المسلمة أنه لا مقدّر له بل ينبت بنفسه من غير مدبّر (و لم يلجئوا) أى لم يستندوا (إلى حجّة فيما ادّعوا) من جحود المقدّر (و لا تحقيق لما) حفظوا و (أوعوا) من إنكار المدبّر بل دعويهم مستندة إلى مجرّد الظنّ و الحسبان و محض الهوى و الاستحسان كما نطق به الفرقان.
قال تعالى أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ. وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.
و روى في الصّافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام في حديث وجوه الكفر قال عليه السّلام: فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالرّبوبيّة و هو قول من يقول: لا ربّ و لا جنّة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدّهرية و هم الّذين يقولون و ما يهلكنا إلّا الدّهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان عنهم على غير تثبّت منهم و لا تحقيق لشي ء مما يقولون قال اللّه عزّ و جلّ «وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا» إنّ ذلك كما يقولون.
قال الفخر الرازي: و أما شبهتهم في انكار الإله الفاعل المختار فهو قولهم «وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاج الطبايع و إذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاصّ حصلت الحياة، و اذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة و الموت تأثيرات الطبايع و حركات الأفلاك، و لا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله و بين إنكار البعث و القيامة ثمّ قال تعالى «وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».
و المعنى أنّ قبل النظر و معرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة، فالذي قالوه يحتمل و ضدّه أيضا يحتمل، و ذلك هو أن يكون القول بالبعث و القيامة حقا و القول بوجود الإله الحكيم حقّا فانّهم لم يذكروا شبهة ضعيفة و لا قويّة في أنّ هذا الاحتمال الثاني باطل، و لكنه خطر ببالهم هذا الاحتمال الأوّل فجزموا به و أصرّوا عليه من غير حجّة و لا بيّنة، فثبت أنّهم ليس لهم علم و لا جزم و لا يقين في صحّة القول الّذي اختاروه بسبب الظنّ و الحسبان و ميل القلب إليه من غير موجب و حجّة و دليل، هذا و لما دعا عليه السّلام على الجاحدين بالويل و الثبور زيف قولهم بعدم استناده إلى حجّة و بيّنة و لو كانت ضعيفة هيّنة، عاد إلى تقريعهم و توبيخهم باقامة البرهان المحكم و الدلالة الواضحة على بطلان قولهم و فساد به منهم فقال على سبيل الاستفهام بقصد الإنكار و الإبطال: (و هل يكون بناء من غير بان و جناية من غير جان) يعني افتقار الفعل إلى الفاعل ضروري و إنكاره باطل و منكره ضال جاهل.
روى في البحار من جامع الأخبار قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن اثبات الصانع فقال عليه السّلام: البعرة تدلّ على البعير، و الرّوثة تدلّ على الحمير، و آثار القدم تدلّ على المسير، فهيكل علوىّ بهذه اللّطافة و مركز سفلى بهذه الكثافة كيف لا يدلّان على اللطيف الخبير و فيه من كتاب التوحيد للصّدوق (ره) بسنده عن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها فقيل له هو بمكّة، فخرج الزنديق إلى مكة و نحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فقاربنا الزنديق و نحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام في الطواف فضرب كتفه «كفّه» كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له جعفر عليه السّلام: ما اسمك قال: اسمي عبد الملك، قال: فما كنيتك قال: أبو عبد اللّه قال عليه السّلام: فمن الملك الذي أنت له عبد أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض و أخبرني عن ابنك أعبد إله السّماء أم عبد إله الأرض فسكت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قل ما شئت تخصم، قال هشام بن الحكم: قلت للزنديق: أما تردّ عليه، فقبح قولي.
فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا.
فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه و نحن مجتمعون عنده فقال للزنديق: أ تعلم أنّ للأرض تحت و فوق قال: نعم، قال عليه السّلام: فدخلت تحتها قال: لا، قال: فما يدريك بما تحتها قال: لا أدرى إلّا أنّي لأظنّ أن ليس تحتها شي ء، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالظنّ عجز ما لم تستيقن.
قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فصعدت إلى السّماء قال: لا، قال: فتدري ما فيها قال لا، قال: فعجبا لك لم تبلغ المشرق و لم تبلغ المغرب و لم تنزل تحت الأرض و لم تصعد إلى السّماء و لم تجز هنالك فتعرف ما خلقهنّ و أنت جاحد ما فيهنّ و هل يجحد العاقل ما لا يعرف فقال الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فأنت في شكّ من ذلك فلعلّ هو و لعلّ ليس هو قال الزّنديق: و لعلّ ذاك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيّها الرّجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم فلا حجّة للجاهل يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فانا لا نشكّ في اللّه أبدا، أما ترى الشّمس و القمر و اللّيل و النهار يلجان ليس لهما مكان إلّا مكانهما فان كانا يقدران على أن يذهبا و لا يرجعان فلم يرجعان فان لم يكونا مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا و النهار ليلا اضطرّا و اللّه يا أخا أهل مصر إلى دوامهما و الذي اضطرّهما أحكم منهما و أكبر منهما، قال الزنديق: صدقت.
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا أهل مصر الذي تذهبون و تظنونه بالوهم فان كان الدّهر يذهب بهم لم لا يردّهم و إن كان يردّهم لم لا يذهب بهم القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر السّماء مرفوعة و الأرض موضوع خطبه 185 نهج البلاغه بخش 3ة لم لا تسقط السماء على الأرض و لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها فلا يتماسكان و لا يتماسك من عليهما فقال الزنديق أمسكهما و اللّه ربّهما و سيّدهما، فامن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام.
و قد أوردت هذه الرواية على طولها لتماميّتها في إبطال مذهب الدّهرية و نزيد إيضاحها بكلام أمير المؤمنين عليه السّلام و لو تأملتها حقّ التأمل ظهر لك أنّها في الحقيقة بمنزلة الشرح لقوله: و لم يلجئوا إلى حجّة، إلى قوله: جان، فتدبّر لتبصر.
|