اللغة
(الوقرة) ثقل في الاذن أو ذهاب السمع كلّه و (العشوة) مرّة من العشاء بالفتح و القصر سوء البصر باللّيل و النّهار أو العمى و (البرهة) بالضمّ الزّمان الطّويل أو الأعمّ و (الفترة) ما بين كلّ النّبيّين و (الفلاة) المفازة لا ماء فيها أو الصحراء الواسعة
الاعراب
قوله تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قرء ابن عامر و أبو بكر يسبّح بفتح الباء بالبناء على المفعول و الباقون بكسرها، فعلي قولهم يكون رجال فاعله و على القول الأوّل فالسّاد مسدّ الفاعل أحد الظّروف الثلاثة أعني له فيها بالغدوّ، و على هذه القراءة فيكون رجال فاعلا لفعل محذوف مدلول عليه بالفعل المذكور فكأنّه قيل من يسبّحه فقال: رجال، أى يسبّحه رجال كما في قول الشّاعر:
- ليبك يزيد ضارع لخصومةو مختبط ممّا تطيح الطّوايح
أى يبكيه ضارع، و قيل: هو خبر مبتدأ محذوف أى المسبّح رجال و قيل: التقدير فيها رجال.
و قوله عليه السّلام: و ما برح للّه آه برح فعل ناقص بمعني زال من نواسخ المبتدأ و الخبر يدخل عليهما فيرفع المبتدأ تشبيها بالفاعل و ينصب الخبر تشبيها بالمفعول، و للّه خبره المقدّم و عباد اسمه المؤخّر، و إنما يعمل هذا العمل بشرط تقدّم النفي عليه كما هنا و في قوله «لن نبرح عليه عاكفين» و مثله زال في الاشتراط به قال تعالى: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ و جملة عزّت آلاؤه حال من اللّه.
و قوله: في البرهة بعد البرهة إما ظرف لغو متعلّق ببرح، أو ظرف مستقرّ حال من عباد قدّمت على ذيها للظرفية.
و قوله: حمدوا إليه تعديته بالى لتضمين معني الانهاء كما في قولهم: أحمد إليك اللّه أى أحمد منهيا حمده إليك.
و قوله عليه السّلام: فكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات، كان فعل ناقص و الضمير اسمه و كذلك خبره، و الكاف فيه إما للتشبيه أو بمعني على كما قاله الأخفش و الكوفيّون مستدلّين بأنّ بعضهم قيل له كيف أصبحت فقال كخير أى على خير أى كان عباد اللّه كما وصفناه أو على ما وصفناه، و مصابيح تلك الظلمات فى بعض النسخ بالنصب و فى بعضها بالرّفع، فعلى النصب يجوز أن تكون بدلا من كذلك بدل تفصيل كما في قوله تعالى أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ. وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ و أن تكون حالا من اسم كان على القول بجواز عمل الفعل الناقص فى الحال، و على الرّفع فهو بدل من ضمير كانوا كابدال الّذين ظلموا من ضمير أسرّوا في قوله تعالى وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام الشريف حسبما أشار إليه الرضىّ قدّس سرّه (قاله) عليه السّلام (عند تلاوته) قوله تعالى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ و قبل الشروع في شرحه ينبغي أن نفسّر الاية باقتضاء المقام، و قد مضى بعض الكلام فيها في شرح الكلام المأة و الثامن و التسعين و أقول هنا:
قال تعالى في سورة النور فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ أى هذه المشكاة المذكورة في سابق الاية في بيوت أو توقد في بيوت هذه صفتها.
قال ابن عباس: و هى المساجد، و يعضده قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المساجد بيوت اللّه في الأرض و هي تضي ء لأهل السماء كما تضى ء النجوم لأهل الأرض و قيل: هي بيوت الأنبياء قال في مجمع البيان: و روى ذلك مرفوعا أنّه سئل عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما قرء الاية أىّ بيوت هذه فقال: بيوت الأنبياء، فقام أبو بكر فقال: يا رسول اللّه هذا البيت منها لبيت عليّ عليه السّلام و فاطمة عليهما السّلام قال: نعم من أفاضلها، و يعضد هذا القول قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و قوله رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
و فى الصافي من الكافي و الاكمال عن الباقر عليه السّلام هى بيوتات الأنبياء و الرّسل و الحكماء و أئمة الهدى و القمّى عنه عليه السّلام هى بيوت الأنبياء و بيوت عليّ عليه السّلام منها.
و قد مضى في شرح الكلام المأة و الثامن و التسعين حديث من غاية المرام عن موسى بن جعفر عن أبيه عليهما السّلام في هذه الاية أنه قال بيوت آل محمّد صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين بيت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر عليهم السّلام.
و فيه أيضا من الكافي باسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت جالسا في مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ أقبل رجل فسلّم فقال: من أنت يا عبد اللّه فقلت: رجل من أهل الكوفة فما حاجتك فقال لي: أتعرف أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام فقلت: نعم فما حاجتك إليه قال: هيّأت له أربعين مسأله أسأله عنها فما كان من حقّ أخذته و ما كان من باطل تركته، فقلت له: هل تعرف ما بين الحقّ و الباطل قال: نعم، قلت: فما حاجتك إليه إذا كنت تعرف ما بين الحقّ و الباطل، فقال لي: يا أهل الكوفة أنتم قوم ما تطاقون إذا رأيت أبا جعفر عليه السّلام فأخبرني، فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر عليه السّلام و حوله أهل خراسان و غيرهم يسألونه عن مناسك الحجّ فمضى حتّى جلس مجلسه و جلس الرجل قريبا منه، قال أبو حمزة: فجلست حتى أسمع الكلام و حوله العالم من الناس، فلما قضى حوائجهم و انصرفوا التفت عليه السّلام إلى الرجل فقال له: من أنت قال أنا قتادة بن دعامة البصرى، فقال أبو جعفر عليه السّلام أنت فقيه أهل البصرة فقال: نعم، فقال له أبو جعفر عليه السّلام: ويحك يا قتادة إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق خلقا من خلقه فجعلهم حججا على خلقه فهم أوتاد الأرض قوّام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلّة عن يمين العرش، قال: فسكت قتادة طويلا ثمّ قال: أصلحك اللّه و اللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّام ابن عبّاس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك، فقال أبو جعفر عليه السّلام ما تدرى أين أنت، أنت بين يدي فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ. الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ و نحن اولئك، فقال له قتادة: صدقت و اللّه جعلنى اللّه فداك و اللّه ما هى بيوت حجارة و لا طين، الحديث.
و المراد بالرفع في قوله «أن ترفع» التعظيم و رفع القدر، و قيل: رفع الحوائج فيها إلى اللّه تعالى وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أى يتلى فيها كتابه، و قيل: يذكر فيها أسماؤه الحسنى: و قيل: عام فيما يتضمن ذكره حتى المذكورة في أفعاله و المباحثة في أحكامه يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ أى يصلّي فيها بالبكر و العشايا قال ابن عباس كلّ تسبيح فى القرآن صلاة، و قيل: المراد بالتسبيح تنزيهه عما لا يجوز عليه و وصفه بصفات الكمال التي يستحقّها لذاته و أفعاله.
ثمّ بين المسبّح فقال «رجال لا تلهيهم» أى لا تشغلهم و لا تصرفهم «تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه» و ستعرف الفرق بين التجارة و البيع في شرح المتن، و أما ذكر اللّه فهو يعمّ جميع الأذكار و قد مرّ تفصيلا في التّنبيه الثاني من تنبيهات الفصل السّادس من فصول الخطبة الثانية و الثمانين.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى شرح كلامه عليه السّلام فأقول: إنّ مدار هذا الكلام
على فصول ثلاثة: الأوّل في التّنبيه على فضيلة الذّكر نفسه.
و الثّاني في وصف حال المذكّرين و كيفية تذكيرهم.
و الثّالث في بيان أوصاف الذّاكرين و الاشارة إلى مقاماتهم الجليلة و مقاومهم المحمودة.
اما الفصل الاول
فهو قوله عليه السّلام (إنّ اللّه سبحانه جعل الذّكر جلاء للقلوب) المراد بالذّكر هنا مطلق الذكر من التسبيح و التهليل و التّحميد و الدّعاء و المناجاة و تلاوة الكتاب الكريم و نحوها، فانّ المداومة عليها باللّسان مع حضور القلب و توجّهه إليها توجب صفاء القلب و نوره و جلائه و طهارته و نقائه من ظلمة الذّنوب و رين المعاصي و الغواشي كالمرآة المجلوّة الّتى ليس عليها شي ء من الكدر.
و ذلك لما عرفت في شرح الكلام المأتين و السّادس عشر أنّ الاستغراق في الذكر و المداومة عليه يصرف القلب عمّا سوى اللّه إلى اللّه عزّ و جلّ، فلا يبقى فيه مجال للتّوجه إلى الدّواعي النفسانيّة و لا محلّ لطرد الوساوس الشّيطانيّة التي هي منشأ الذّنوب و مبدء ظلمات القلوب.
و قد تقدّم في التّنبيه الثاني من شرح الفصل السّادس من فصول الخطبة الثانية و الثمانين كيفية مطاردة جنود الملائكة و الشياطين في القلب و غلبتهم على الشياطين و ابعادهم لهم عن القلب بالمداومة على الذّكر و الطاعة، و مضى هناك مطالب نفيسة نافعة فى المقام.
و قوله عليه السّلام (تسمع به بعد الوقرة) يعنى يكون الذكر سببا لكون القلوب سميعة بعد صممها أى مستعدّة لاستماع كلام اللّه و كلام الأنبياء و الدّعاة إلى اللّه و استفادة الكمالات و القربات منها بعد ما كانت قاصرة عنها.
(و تبصر به بعد العشوة) أى يكون سببا لكونها بصيرة بعد عشاها و ضعف
بصرها أى قابلة للانتفاع بما في الكون من عجايب التّدبير مدركة لما في الافاق و الأنفس من الايات و العبر بعد ما كانت غافلة عن إدراكها.
(و تنقاد به بعد المعاندة) أى تنقاد للحقّ بعد العناد و الالحاد، و ذلك لأنّه يحصل بدوام الذّكر و الفكر حالة المراقبة و استشعار عظمة اللّه تعالى و جلاله و كبريائه فيحصل بذلك ذلّ و انكسار و مهانة للقلب و يكون داخرا ذليلا منقادا لقبول أمر الرب و نهيه، سالكا لسبيله بعد ما كانت منحرفا عنه و تجلو الذكر قلبه و تقرّ عين باطنه فتبصر بما لا يبصر به قبل المداومة بالذّكر، اللّهمّ آنسنا به بلطفك الخفيّ
و اما الفصل الثاني
فهو قوله: (و ما برح) أى ما زال (للّه) بمقتضى لطفه و رحمته (عزّت آلاؤه) و جلّت نعماؤه (في البرهة بعد البرهة و في أزمان الفترات) من الرّسل و طول الهجعة من الامم (عباد) صالحون كاملون في معرفته تامّون في عبوديّته قائمون بأمره في أنفسهم مبشّرون و منذرون لغيرهم (ناجاهم في فكرهم) أى ألهمهم معرفته و أفاض على قلوبهم كيفيّة سلوك سبيله و هداية الناس إليه (و كلّمهم في ذات عقولهم) أى خاطبهم في باطنهم سرّا و تجوز به كالمناجاة عن الالهام و الإفاضة التي أشرنا إليها (فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع و الأبصار و الأفئدة) أى استيقظوا بشمول الألطاف الغيبيّة و الافاضات الالهيّة من نوم الغفلة و رقد الجهالة، و استضاءوا بنور حاصل في الأسماع بسبب استماعها إلى ما فيه صلاح الدّين من المواعظ و الحكم و الفضايل و آيات الكتاب المبين.
و قد قال تعالى إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا فانّ الاستماع إلى ذلك بقصد الفهم و القبول محصّل لأنوار الكمالات النفسانية، و لذلك مدح اللّه تعالى المؤمنين بكون استماعهم على هذا الوجه و قال عزّ من قائل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ» أى إذا قرء على المؤمنين القرآن و استمعوه زادتهم آياته تبصرة و يقيناعلى يقين و أمّا الاستماع لا بقصد الفهم و القبول فقد ذمّ المستمعين كذلك في قوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ أى لم يستمعوه استماع نظر و تدبّر و قبول و تفكّر و إنّما استمعوه استماع لعب و استهزاء، و فى قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أى من جملة هؤلاء الكفّار من يطلبون السمع إلى كلامك للرّد و التّعنّت لا للفهم و القبول، فلمّا كان استماعهم على هذا الوجه كانوا كأنّهم صمّ لا يستمعوه حيث لم ينتفعوا به فاستحقّوا الطعن و التعريض من اللّه عزّ و جلّ بذلك.
و استضاءوا أيضا بنور حاصل في الابصار بسبب نظرها إلى ما هو محصّل لنور المعرفة من آيات الكبرياء و العظمة و عجايب الصّنع و القدرة كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ و قال وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
هذا إذا كان النظر اليها للاستبصار و الاعتبار و إلّا فلا خير فيه و لا منفعة و لا يزيد إلّا الغفلة، و لذلك ذمّ اللّه تعالى شأنه الكفّار بكون نظرهم على هذا الوجه في قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أى ينظر إلى أفعالك و أقوالك لا نظر الحقيقة و العبرة بل نظر العادة فلا ينتفع بنظره و لا يزيدهم النظّر إلّا عمى و جهالة.
و أمّا الاستضاءة بنور يقظة الأفئدة فيقظتها عبارة عن فطانتها و جودتها و توجّهها إلى ما ينبغي لها من الكمالات العقلية و تفكّرها في آثار القدرة و الجلال و الجبروت و آيات العظمة و الكمال و الملك و الملكوت، و تدبّرها في بدايع المصنوعات و معاني الايات المحكمات كما قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ و قال كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
و المراد بنور يقظتها هو نور العلم و المعارف الحقّة و العقائد اليقينية الحاصلة من التدبّر و التّفكّر.
و استعارة النّور للعلم شايع كاستعارة الظّلمة للجهل كما قال تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها قال في التفسير: أى كافرا فأحييناه بأن هديناه إلى الايمان و انّما سمّى اللّه تعالى الكافر ميّتا لأنّه لا ينتفع بحياته و لا ينتفع غيره به، و سمّى المؤمن حيّا لأنّ له و لغيره المصلحة و المنفعة في حياته، و جعلنا له نورا، أراد بالنور العلم و الحكمة قال أمين الاسلام الطبرسيّ: سمّى سبحانه ذلك نورا و الجهل ظلمة لأنّ العلم يهتدى به إلى الرّشاد كما يهتدى به في الطرقات و قال ابن عبّاس: المراد بالنّور الايمان، و قيل: المراد به القرآن كمن مثله في الظّلمات أى ظلمات الكفر قال الطبرسيّ: سمّى الايمان و القرآن و العلم نورا لأنّ النّاس يبصرون بذلك و يهتدون من ظلمات الكفر و حيرة الضلالة كما يهتدى بساير الأنوار، و سمّى الكفر ظلمة لأنّ الكافر لا يهتدى بهداه و لا يبصر أمر رشده، و من هذا القبيل استعارة البصير و الأعمى للمؤمن و الكافر قال تعالى وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ.
و الحاصل أنّه تعالى لم يخل الأزمان من عباد استضاءوا و استصبحوا بنور المعرفة و اليقين الحاصل من طريق السمع بالاصغاء، و من طريق البصر بالنظر، و الأفئدة بالفكر و التّدبّر، هذا حالهم في ذات أنفسهم.
و أمّا بالنسبة إلى الخلق فانّهم يهدون بالحقّ و يحكمون بالقسط و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و (يذكرون بأيّام اللّه) أى يذكّرون النّاس بوقايعه و قوارعه و عقوباته الواقعة بالامم الماضية في القرون الخالية على ما عرفته في شرح الفصل السّابع من الخطبة المأة و الحادية و التسعين.
و روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تفسير قوله تعالى وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أنّه يريد بأيّام اللّه سنّته و أفعاله في عباده من إنعام و انتقام.
و حاصله تذكير المحسنين بالانعام تبشيرا لهم، و المسيئين بالانتقام إنذارا و تحذيرا كما ذكر اللّه تعالى أيضا كفّار قريش بذلك فى كتابه العزيز فى سورة القمر حيث قال فيهم وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ و كرّر قوله وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ عقيب التّذكير بقصّة قوم نوح و إهلاكهم بماء منهمر، و بقصّة عاد و إهلاكهم بريح صرصر فى يوم نحس مستمرّ، و بقصّة ثمود و إهلاكهم بصيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، و بقصّة قوم لوط و لقد صبّحهم بكرة عذاب مستقرّ، فختم بقصّة آل فرعون و أخذه عزّ و جلّ لهم أخذ عزيز مقتدر، ثمّ اتبع ذلك كلّه بقوله أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ إلى أن قال تعالى وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
قال أمين الاسلام الطبرسىّ: خوّف سبحانه كفار مكّة فقال «أكفاركم خير» و أشدّ و أقوى «من اولئكم» الّذين ذكرناهم و قد أهلكناهم، و هذا استفهام إنكار أى لستم أفضل من قوم نوح و عاد و ثمود لا فى القوّة و لا فى الثروة و لا فى كثرة العدد و العدّة، و المعنى أنه إذا هلك اولئك الكفار فما الذى يؤمنكم أن ينزل بكم ما نزل بهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أى لكم براءة من العذاب في الكتب السّالفة أنّه لن يصيبكم ما أصاب الامم الخالية.
و قال في قوله وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أى أشباهكم و نظراءكم في الكفر من الامم الماضية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أى فهل من متذكّر لما يوجبه هذا الوعظ من الانزجار عن مثل ما سلف من أعمال الكفار لئلّا يقع فيه ما وقع بهم من الاهلاك.
(و يخوّفون مقامه) أى يخوّفونهم من مقام الرّبوبية المتّصفة بالعظمة و الجلال و الكبرياء و القدرة، و من كونه قائما على كلّ نفس بما كسبت، فانّ التخويف بذلك مستلزم للخوف و الهيبة أو من مقامهم بين يدي الرّب للحساب و ذلك يوم يقوم الناس لربّ العالمين و يقوم الاشهاد و يقوم الرّوح و الملائكة صفّا لا يتكلّمون إلّا من أذن له الرّحمن و قال صوابا.
ثمّ وصفهم بأنهم (بمنزلة الأدلّة) و الهداة (فى) البوادى و (الفلوات) فكما أنّ
الأدلّة يدلّون على الطريق و يهتدون إليه و (من أخذ القصد) أى قصد السبيل و هو الطريق المستقيم المحفوظ من الافراط و التفريط المبلّغ قاصده و سالكه إلى ما يريد (حمدوا إليه طريقه و بشّروه بالنّجاة) من الهلكات (و من) انحرف عنه و (أخذ يمينا و شمالا ذمّوا إليه الطريق و حذّروه من الهلكة) فكذلك هؤلاء يهدون السائرين إلى الاخرة إلى الصراط المستقيم و يبشّرون الاخذين به بالسعادة الأبدية و النجاة من المهالك، و يحذّرون المنحرفين عنه إلى اليمين و الشمال من الشقاوة الأبدية و الوقوع فى المعاتب.
(فكانوا كذلك) أى على ما وصفناه من التّذكير و التخويف و التبشير و التّحذير (مصابيح تلك الظّلمات و أدلّة تلك الشّبهات) أشار بها إلى ظلمات أزمنة الفترة المذكورة سابقا و شبهاتها، و أراد بالظّلمات ظلمات الجهل و الحيرة الّتي تغشى النّاس فيها، و بالشّبهات الامور الباطلة الشبيهة بالحقّ، و شبّههم بالمصابيح لأنّه يهتدى بهم و يقتبس من أنوار علومهم في تلك الظّلمات كما يستضاء بالمصباح في ذلك ظلمة اللّيل.
و بهذا الوجه شبّه الأئمّة عليهم السّلام بالعلامات و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنّجم في قوله تعالى وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نحن العلامات و النّجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و شبّههم عليهم السّلام بالأدلّة لتميزهم بين الحقّ و الباطل و إرشادهم إلى الحقّ كما يفرق الدّليل بين القصد و غيره و يدلّ على القصد.
و قد مرّ نظير ذلك في كلامه عليه السّلام في الخطبة الثامنة و الثلاثين حيث قال عليه السّلام هناك: و إنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين و دليلهم سمت الهدى، و أمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضّلال و دليلهم العمى
|