و من خطبة له عليه السّلام و هى الثامنة و التسعون من المختار فى باب الخطب
نحمده على ما كان، و نستعينه من أمرنا على ما يكون، و نسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان. عباد اللّه أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم و إن لم تحبّوا تركها، و المبلية لأجسامكم و إن كنتم تحبّون تجديدها، فإنّما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علما فكأنّهم قد بلغوه، و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتّى يبلغها، و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، و طالب حثيث يجدوه في الدّنيا حتّى يفارقها
اللغة
(عافاه) اللّه من المكروه معافاة و عافية وهب اللّه له العافية من العلل و البلاء كأعفاه و العافية دفاع اللّه عن العبد و (رفضت) الدّنيا رفضا من باب نصر و ضرب تركتها و (سفر) بسكون العين جمع سافر كركب و راكب و صحب و صاحب و (جرى) الفرس جريا و أجريته أنا أرسلته و حملته على السير و (حثثت) الانسان على الشي ء حثّا من باب قتل حرضته عليه و ذهب حثيثا أى مسرعا
الاعراب
قوله. و كم عسى المجرى، أما لفظة كم استفهاميّة للتحقير بمعنى أيّ مدّة، و عسى فعل من أفعال المقاربة مفيد للرجاء و الطمع، و المرفوع بعده في مثل عسى زيد أن يخرج اسمه و ان مع الفعل في محلّ النصب على الخبر أى رجا زيد الخروج و قال الكوفيّون: ان مع الفعل في محلّ رفع بدلا ممّا قبله بدل الاشتمال كقوله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ إلى قوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ أى لا ينهيكم اللّه عن أن تبرّوهم و على هذا فمعنى عسى زيد أن يخرج يتوقّع و يرجا خروج زيد، و الأشهر الأوّل هذا.
و قد يقع ان مع الفعل فاعلا له مستغنا به عن الخبر لكونه حينئذ تامّا بمعنى قرب تقول عسى أن يخرج زيد أى قرب خروجه.
و قال الرّضي انّ من ذهب إلى أنّ أن مع الفعل في عسى زيد أن يخرج خبر عسى، جاز أن يقول في عسى أن يخرج زيد أنّ أن يخرج خبر أيضا و هو من باب التنازع يعنى يجوز في المثال جعل زيد اسما لعسى و أن مع الفعل خبرا مقدّما له في محلّ النّصب فيضمر فى الفعل ضمير عايد إلى زيد، كما يجوز جعل زيد فاعلا للفعل و جعل عسى مسندا إلى ان و الفعل مستغنى بهما عن الخبر.
إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ لفظة عسى في قوله عليه السّلام كم عسى ناقصة و المجرى اسمها و ان يجرى إليها خبرها، و في قوله و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه تامّة وقعت بعد ما النافية و أن يكون فى محل الرّفع على الفاعل و يكون تامة أيضا بمعنى يوجد، و الواو في قوله و طالب آه للحال و الضمير في قوله عليه السّلام يحدوه عايد إلى من الموصولة
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للوصيّة بالتّقوى و الأمر برفض الدّنيا و التنفير عنها بذكر معايبها و مثالبها، و افتتح الكلام بحمد الملك المتعال و استعانة الربّ ذى الجلال لأنّ ذكره سبحانه مفتاح للمطالب، و وسيلة إلى المآرب فقال: (نحمده على ما كان و نستعينه من أمرنا على ما يكون) تخصيص الحمد بما كان و الاستعانة بما يكون من حيث إنّ الثّناء على النعمة موقوف و مترتب على وقوعها فيما مضى، و طلب العون على أمر لا يتصوّر إلّا فيما يأتي و ما هو بصدد أن يفعله (و نسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان) فانّ الأديان لها سقم و شفاء كما للأبدان، و مرض الاولى أشدّ و آكد و تأثيره أكثر و أزيد، و لذلك قدّم طلب العافية لها، لأنّ مرض الأبدان عبارة عن انحراف المزاج الحيواني عن حدّ الاعتدال، و نقصانه يقع على الأعضا و الجوارح الظاهرة، و مرض الأديان عبارة عن ميل القلب عن الصراط المستقيم و المنهج القويم، و تأثيره يقع على القلب، و ضرره يعود إلى القوّة القدسيّة و نعم ما قيل:
- و إذا مرضت من الذّنوب فداوهابالذكر إنّ الذكر خير دواء
- و السّقم في الأبدان ليس بضائرو السّقم في الأديان شرّ بلاء
(عباد اللّه اوصيكم بالرفض لهذه الدّنيا التاركة لكم و ان لم تحبّوا تركها) أمر برفض الدّنيا و تركها و نفّر عنها بالتنبيه على أنّها تاركة لكم لا محالة، مفارقة إياكم و إن كانت محبوبة عندكم عزيزا عليكم فراقها، فانّ طبعها التّلطف في الاستدراج أوّلا و التّوصّل إلى الاهلاك آخرا، و هي كامرأة تتزيّن للخطاب حتّى إذا نكحوها ذبحتهم فمن كان ذا بصيرة لا يعقد قلبه على محبّة محبوبة كذلك، و لا يخاطب امرأة شأنها ذلك.
و قد روى أنّ الصادق عليه السّلام كان يقول لأصحابه: يا بني آدم اهربوا من الدّنيا إلى اللّه و أخرجوا قلوبكم عنها فانكم لا تصلحون لها و لا تصلح لكم و لا تبقون لها و لا تبقى لكم هى الخداعة الفجاعة المغرور من اغترّبها، و المفتون من اطمأنّ إليها، الهالك من أحبّها و أرادها.
و روى انّ عيسى عليه السّلام كوشف بالدّنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كلّ زينة فقال عليه السّلام لها: كم تزوّجت قالت: لا احصيهم، قال فكلّهم مات عنك أم كلّهم طلّقك قالت: بل كلّهم قتلت، فقال عيسى عليه السّلام: بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، و كيف تهلكينهم واحدا بعد واحد و لا يكونون منك على حذر.
ثمّ نبّه عليه السّلام على عيب لها آخر بقوله (و المبلية لأجسادكم و ان كنتم تحبّون تجديدها) و هذا الوصف أيضا منفّر عنها، لأنّ تجديد الأجساد و الأبدان إذا كان محبوبا للانسان و كانت الدّنيا حائلة بينه و بين محبوبه مانعة له عن نيله و وصوله بسهام الأسقام و نشاشيب الأمراض و الأوصاب فمن شأنها أن تبغض و ترفض و تجتنب و لا تحب.
قال بعض الحكماء: الأيّام سهام و النّاس أغراض و الدّهر يرميك كلّ يوم بسهامه، و يخترمك بلياليه و أيّامه، حتى يستغرق جميع أجزائك، فكيف بقاء لسلامتك مع وقوع الأيام بك، و سرعة الليالي في بدنك، لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النّقص لا ستوحشت من كلّ يوم يأتي عليك، و استثقلت ممرّ الساعات بك، و لكن تدبير اللّه فوق تدبير الاعتبار.
ثمّ ضرب عليه السّلام للدّنيا مثلا في قصر مدّتها بقوله (فانّما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علما فكأنهم قد بلغوه) جعل أهل الدّنيا و الكائنين فيها بمنزلة المسافرين، جعلها بمنزلة سبيل يسلكه المسافر، و جعل سرعة سيرهم و انتقالهم فيها و قربهم من الموت الذى هو آخر منازلها بمنزلة قطع المسافر منازله، و بلوغ قاصد علم و منار مقصده، يعنى أنهم في حالكونهم غير قاطعين له كأنّهم قاطعون له، و في حالكونهم غير بالغين له كأنهم بالغون له، لأنه لما قرب زمان احدى الحالتين من زمان الحالة الاخرى شبّهوا و هم في الحال الأولى بهم أنفسهم و هم على الحالة الثّانية و لنعم ما قيل
- يا راقد اللّيل مسرورا بأوّلهاإنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا
- أفنى القرون التي كانت منعمّةكرّ الجديدين إقبالا و إدبارا
- كم قد أبادت صروف الدهر من ملكقد كان في الدّهر نفّاعا و ضرّارا
- يا من يعانق دنيا لا بقاء لهايمسى و يصبح في دنياه سفارا
- هلّا تركت من الدّنيا معانقةحتّى تعانق في الفردوس أبكارا
- إن كنت تبغى جنان الخلد تسكنهافينبغي لك أن لا تأمن النّارا
(و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجرى إليها حتّى يبلغها) يعني أىّ مدّة يرجو و يطمع المرسل مركوبه إلى وصول غاية ارساله إليها حتى يصلها، و الغرض منه تحقير ما يرجوه من مدّة الجرى و هي مدّة الحياة أى لا تظنّ لها طولا و لا تغترن بتماديها فانها عن قليل تنقضى و تنصرم، و في هذا المعنى قال عليه السّلام في الدّيوان:
- إلا إنّما الدّنيا كمنزل راكبأناخ عشيّا و هو في الصّبح راحل
(و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه) يعني ما قرب وجود البقاء لمن له يوم لا يجاوزه، و هو تحقير لما يؤمل من مدّة البقاء أى بقاء من له يوم ليس وراءه بقاء و هو يوم الموت ليس بشي ء يعتدّ به (و) الحال انه له (طالب حثيث يحدوه في الدّنيا حتى يفارقها) لعلّه أراد بالطالب الحثيث الموت و كنى بحدائه له عن سوق أسباب الموت و مقدّماته التي هي كرّ اللّيالي و مرّ الأيام له إليه.
|