و (كلح) يكلح من باب منع كلوحا تكشّر في عبوس و (نضر) نضارة حسن و (الأهدام) جمع الهدم بالكسر الثّوب البالى و المرقّع و (تكاءد) في الأمر و تكادنى من باب تفاعل و تفعّل شقّ علىّ، و عقبة كئود أى صعب و (التّهكم) التهدّم في البئر و نحوه، و في بعض النسخ تهدّمت بدل تهكّمت قال الشّارح المعتزلي يقال تهدّم فلان على فلان غضبا إذا اشتدّ غضبه، و يجوز أن يكون تهدّمت أى تساقطت قال: و روى تهكّمت بالكاف و هو كقولك تهدّمت بالتّفسيرين جميعا، و (رسخ) الغدير يرسخ من باب منع رسوخا نشّ ماؤه و نضب فذهب، و رسخ المطر نضب نداؤه في الأرض و (الهوامّ) بتشديد الميم جمع الهامّة بالتشديد أيضا مثل دوابّ و دابّة قال الأزهري: ماله سمّ يقتل كالحيّة، و قال الفيومى: و قد تطلق الهوام على ما لا يقتل كالحشرات، و لسان (ذلق) ذرب و ذلق السكّين حدده و (الهمود) الموت و طفوء النار و ذهاب حرارتها و (عاثه) يعيثه من باب ضرب أفسده.
و قوله: و لئن عميت الواو للقسم و المقسم به محذوف و اللّام موطئة عند سيبويه و زايدة عند غيره، و جواب القسم قوله: لقد رجعت و استغنى به عن جواب الشّرط كما في قوله تعالى لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و هذه قاعدة مطردة، فانّ القسم و الشرط إذا اجتمعا في الكلام فالجواب للمتقدّم منهما و يستغنى عن جواب الثاني لقيام جواب الأوّل مقامه، و القسم المقدّر في حكم المقسم الملفوظ كما صرّح به ابن الحاجب في الكافية و نجم الأئمة الرّضى في شرحه و قوله: و قد ارتسخت، الجملة فى محلّ النصب على الحال من مفعول مثلتهم، و قوله: مستسلمات حال من ضمير إليها و قوله: لرأيت أشجان قلوب جواب لو مثلتهم.
(و لئن عميت آثارهم) أى خفيت عن أبصار الناظرين (و انقطعت أخبارهم)
عن آذان المستمعين (لقد رجعت فيهم أبصار العبر و سمعت عنهم آذان العقول) هذا ناظر إلى طرف الأحياء (و تكلّموا من غير جهات النّطق) هذا ناظر إلى طرف الأموات.
و محصّل المراد أنّ الأحياء و إن لم يمكن لهم إدراك حالات من القبور بطرق المشاعر الظاهرة و استطلاعها بالأبصار و الاذان، لكنّهم تمكّنوا من معرفتها بأبصار البصائر و العبر و الاطلاع عليها بطريق العقل، و كذلك الموتى و إن لم يكن لهم ايصال أخبارهم إلى الأحياء و إظهار حالاتهم بالنّطق و لسان المقال، لكنّهم أخبروهم و تكلّموا بلسان الحال.
(فقالوا كلحت الوجوه النّواضر) أى عبست الوجوه ذات الحسن و البياض و البهجة و النّضارة قال تعالى هُمْ فِيها كالِحُونَ أى عابسون، و قيل: هو من الكلوح الّذى قصرت شفته عن أسنانه كما تقلص رءوس الغنم إذا شيطت بالنار.
(و خوت الأجساد النّواعم) و في بعض النّسخ الأجسام النّواعم أى سقطت الأجساد المنعّمة بلذايذ الدّنيا في وهدة القبور أو خلت الأبدان النّاعمة اللّينة من الأرواح فصارت جيفة منتنة أو المراد خلوّها من الدّم و الرّطوبة و ذهاب طراوتها.
(و لبسنا أهدام البلى) قال الشّارح البحراني استعار لفظ الأهدام للتّغير و التّقشف و التّمزيق العارض لجسم الميّت لمشابهتها العظم البالى، و يحتمل أن يريد بها الأكفان، انتهى.
أقول: يجوز أن يكون الكلام من قبيل التشبيه المرشح بأن يقدر تشبيه البلى المحيط بهم بالأهدام و الأثواب الممزقة البالية المحيطة بالبدن، فاضيف المشبّه به إلى المشبه ثمّ قرن بما يلايم المشبّه به و يناسبه و هو اللّبس ترشيحا للتّشبيه، و أن يكون من باب الاستعارة لا الاستعارة الأصليّة كما توهّمه الشارح لعدم انتظام معنى الكلام على ما ذكره إلّا بتكلّف، بل من الاستعارة التّبعيّة بأن يستعار اللّبس للشمول و الاحاطة فيكون محصل المعنى أحاط بنا و شملنا البلى و التمزيق إحاطة اللّباس بالبدن فافهم.
(و تكاءدنا ضيق المضجع) أى شقّ علينا ضيق القبر (و توارثنا الوحشة) أى وحشة القبور و استعار لفظ التوارث لكون الوحشة منها لابائهم و أسلافهم قبلهم
فحصلت لهم بعدهم (و تهكّمت علينا الرّبوع الصّموت) أى تساقطت علينا المنازل الصامتة و أراد بها القبور و وصفها بالصمت من المجاز العقلى و تساقطها كناية عن خرابها و انهدامها، و على كون التّهكم بمعنى اشتداد الغضب فيكون استعارة لعذاب القبور و يختصّ بغير المؤمن لأنّ المؤمن مأمون منه.
كما يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن يحيى عن محمّد بن الحسين عن عبد الرحمن ابن أبي هاشم عن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من موضع قبر إلّا و هو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات أنا بيت التّراب، أنا بيت البلى، أنا بيت الدّود قال عليه السّلام: إذا دخله عبد مؤمن قال: مرحبا و أهلا أما و اللّه لقد كنت أحبّك و أنت تمشى على ظهرى فكيف إذا دخلت بطنى فسترى ذلك، قال عليه السّلام: فيفسح له مدّ البصر و يفتح له باب يرى مقعده من الجنة- إلى أن قال- فلا تزل نفحة من الجنة تصيب جسده و يجد لذّتها و طيبها حتّى يبعث.
قال عليه السّلام: و إذا دخل الكافر قالت: لا مرحبا بك و لا أهلا و اللّه لقد كنت أبغضك و أنت تمشى على ظهرى فكيف إذا دخلت بطنى سترى ذلك، قال عليه السّلام: فتضمّ عليه فتجعله رميما و يعاد كما كان و يفتح له باب إلى النّار يرى مقعده من النار- إلى أن قال- ثمّ لم تزل نفحة من النار تصيب جسده فيجد ألمها و حرّها في جسده إلى يوم يبعث الحديث.
و قد مرّ بتمامه مع أحاديث أخر و مطالب نافعة في التذييل الثالث من تذييلات شرح الفصل السابع من فصول الخطبة الثانية و الثمانين فليراجع هناك.
و يؤيّد المعنى الأخير تفريع قوله (فانمحت محاسن أجسادنا) أى ذهب آثار المواضع الحسنة من أبداننا لشدّة عذاب القبور و مزيد تاثير آلامها (و تنكّرت معارف صورنا) أى تغيّرت وجوهنا الّتي بها كنّا نعرف في الدّنيا بعظم تأثير أهاويل البرزخ (و طالت في مساكن الوحشة) أى القبور (إقامتنا و لم نجد من كرب) و هو الغمّ الّذى يأخذ بالنفس (فرجا و لا من ضيق متّسعا) أى من ضيق
المضجع محلّا ذا سعة يكون بدلا منه، أو مطلق الضّيق أى لم نجد من ضيق الحال و ضنك المعيشة اتّساعا أى رفاه حال و رغد عيش قال تعالى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أى عيشا ضيّقا، قال ابن مسعود و غيره: هو عذاب القبر.
(فلو مثلتهم بعقلك) أى تخيّلت صورهم و مثالهم بقوّتك المتخيّلة (أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك) أى ارتفع عنهم الغطاء الحاجب و تبيّن حالهم عندك فالمفعول بمعنى الفاعل كما فى حجابا مستورا و قال الشارح البحرانى، أى ما حجب بأغطية التراب و السواتر لأجسادهم عن بصرك، انتهى.
و على قوله: فالمحجوب وصف للميّت لا للغطاء و يبعّده لفظة عنهم كما لا يخفى.
و كيف كان فالمراد إنه لو شاهدتهم (و) الحال أنه (قد ارتسخت أسماعهم بالهواء فاستكت) أى ذهبت رطوبتها و نضبت نداوتها، بتسلّط حشرات الأرض عليها فانسدّت (و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت) أى فقئت (و تقطعت الألسنة فى أفواههم بعد ذلاقتها) و حدّتها (و همدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها) أى سكنت حركتها و ذهبت حرارتها بعد ما كانت متيقظة، و هو كناية عن موتها بعد حياتها (و عاث في كل جارحة منهم جديد بلى سمجها) أى أوقع الفساد في كلّ جارحة من جوارحهم بلى متجدّد أوجب سماجتها و قبحها و سوء منظرها (و سهل طرق الافة إليها) لأنّ العنصر الترابى إذا استولى على الأعضاء قوى استعدادها للاستحالة من صورتها التي هي عليها إلى غيرها حال كونها (مستسلمات) منقادات غير ممتنعة من قبول الافة و الفساد (فلا أيد) أى قوّة و قدرة و سلطان أو كفّ (تدفع) الالام و الافات عنها (و لا قلوب تجزع) و تحزن لما نزل بها.
(لرأيت) جواب لو أى لو تصوّرت حالاتهم بخيالك أو شاهدت فظايعهم بعينك على ما فصّل لرأيت (أشجان قلوب و أقذاء عيون) أى شاهدت فيهم من الفظايع و الشنائع المفرطة المجاوزة عن الحدّ ما يورث حزن قلوب الناظرين و أذى عيونهم (لهم من كلّ فظاعة صفة حال لا تنتقل) قال الشارح المعتزلي أى لا تنتقل إلى حسن و صلاح و ليس يريد لا تنتقل مطلقا لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال (و) من كلّ شناعة (غمرة لا تنجلى) أى شدّة لا تنكشف و قد مضى في شرح الخطبة الثانية و الثمانين مطالب مناسبة لهذا الفصل من أراد الاطلاع فليراجع ثمّة.
|