و من اخرى و هى المأة من المختار فى باب الخطب و من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم
الأوّل قبل كلّ أوّل، و الآخر بعد كلّ آخر، بأوّليّته وجب أن لا أوّل له، و بآخريّته وجب أن لا آخر له، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان، و القلب اللّسان، أيّها النّاس لا يجرمنّكم شقاقي، و لا يستهوينّكم عصياني، و لا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّي
اللغة
(الملحمة) الوقعة العظيمة القتل مأخوذة من التحم القتال أى اشتبك و اختلط اشتباك لحمة«» الثوب بالسّدى
الاعراب
الأوّل خبر لمبتدأ محذوف، و الضمير في ما تسمعونه راجع إلى الكلام المستفاد بالسّياق على حدّ قوله تعالى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أى الشّمس، أو يجعل ما موصولة و الضمير راجعا إليها
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم و الوقايع العظيمة التي اتفقت بعده عليه السّلام أخبر فيها عمّا يكون قبل كونه، و افتتحها بأوصاف العظمة و الكمال للّه المتعال فقال (الأوّل قبل كلّ أوّل و الآخر بعد كلّ آخر) قد مضى تحقيق الكلام مستقصى في أوّليته و آخريّته سبحانه و أنّه لا شي ء قبله و بعده في شرح الخطبة الرابعة و السّتين و الرابعة و الثمانين و الخطبة التسعين.
و أقول هنا إنّ قوله الأوّل قبل كلّ أوّل، اخبار عن قدمه، و قوله و الآخر بعد كلّ آخر، اخبار عن استحالة عدمه، يعني أنه تعالى قديم أزلي و دائم أبدي و هو أوّل الأوائل و آخر الأواخر، فلو فرض وجود شي ء قبله لزم بطلان قدمه، و لو فرض وجود شي ء بعده لزم جواز عدمه، و كلاهما محال لتنافيهما لوجوب الوجود و لا بأس بتحقيق الكلام في قدمه تعالى فنقول: إنّ القديم على ما حقّقه بعض المتألّهين له معنيان بل معان ثلاثة: أحدها القديم الزّماني، و هو أن لا يكون للزّمان و وجوده ابتداء و اللّه سبحانه لا يتّصف بالقدم بهذا المعنى، لأنه تعالى برى ء عن مقارنة الزّمان و التغيّر و التقدّر بالمقدار، سواء كان مقدارا قارّا كالجسم و الخطّ، أو غير قار كالزّمان.
و الثاني القديم الذاتي، و هو أن لا يكون ذاته من حيث ذاته مفتقرا إلى غيره حتّى يكون متأخّرا عنه بالذّات، و لا أن يكون معه شي ء آخر معيّة بالذات حتّى يتأخّرا جميعا عن شي ء ثالث تأخّرا بالذّات، فانّ المعية الذاتية بين شيئين هو أن لا يمكن انفكاك أحدهما نظرا إلى ذاته عن صاحبه، و هذا المعنى يستلزم أن يكون كلاهما معلولى علّة واحدة، فانّ الذّاتين إذا لم يكن بينهما علاقة ذاتية افتقارية بأن يكون إحداهما سببا للاخرى، أو يكونا جميعا مسبّبين عن ثالث موجب لهما، فيجوز عند العقل انفكاك كلّ منهما عن صاحبه، فكانت مصاحبتهما لا بالذّات بل بالاتفاق في زمان أو نحوه.
فالحق تعالى إذ هو مبدء كلّ شي ء كان الزّمان مخلوقا له متأخّرا عنه، فلم يكن قديما بالزّمان، فهو قديم بالذّات لأنّ ذاته غير متعلّق بشي ء فلا شي ء قبله قبليّة بالذات، و لا معه معيّة بالذات لما علمت، و إذ كلّ ما سواه مفتقر الذات إليه فيكون متأخّرا عنه فيكون حادثا.
فظهر بذلك عدم جواز كون شي ء قبله أو معه، لأنّه لو كان معه شي ء لم يكن اللّه سببا موجدا له، بل يلزم أن يكون ثالث موجدا لهما، و لو كان قبله شي ء لكان ذلك القبل خالقا و الخالق مخلوقا له.
و تحقّق من ذلك بطلان قول من قال إنّ العالم قديم، لأنّه إن أراد به أنّه قديم بالذات فهو يناقض كونه عالما مفتقرا إلى غيره، و إن أراد أنّ ذاته مع ذات البارى فحيث ذات البارى لم يكن له وجود في تلك المرتبة أصلا، و إن قال إنّه قديم بالزّمان فالزّمان ليس الّا كمية الحركة و عددها و الحركة ليست حقيقتها الّا الحدوث و التجدّد، فكذلك كلّ ما فيها أو معها فعلم بذلك أن لا قديم بالذّات إلّا الأوّل تعالى.
و إذا اطلق على غيره كان بمعنى ثالث نسبى غير حقيقى و هو أن يكون ما مضى من وجود شي ء أكثر مما مضى من وجود شي ء آخر و هو القديم العرفي هذا.
و لما عرفت أنّ معنى أوليّته سبحانه كونه قديما بالذات و مبدءا للموجودات و معنى آخريّته كونه أبديا و غاية الغايات تعرف بذلك أنه سبحانه (بأوليته وجب أن لا أوّل له و بآخريّتة وجب أن لا آخر له) يعني أنّه سبحانه لما كان بذاته أولا آخرا لا يمكن أن يكون لذاته أوّل و بداية، و لا له آخر و نهاية، كما لا يمكن أن يكون له أوّل سبقه، و لا له آخر بعده.
و يوضح ذلك رواية ميمون البان التي تقدّمت في شرح الخطبة الرابعة و الثمانين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و قد سئل عن الأوّل و الآخر، فقال: الأوّل لا عن أوّل قبله و لا عن بدى ء سبقه، و آخر لا عن نهاية كما يعقل عن صفة المخلوقين، و لكن قديم أوّل آخر لم يزل و لا يزول بلا بدى ء و لا نهاية، لا يقع عليه الحدوث و لا يحول من حال إلى حال، خالق كلّ شي ء.
قال بعض شرّاح الحديث، البدى ء فعيل بمعنى المصدر أى البداية لوقوعه في مقابل النهاية، و عن الثانية بمعنى إلى، و المراد أنّ أوّليته تعالى لا عن ابتداء و آخريّته لا إلى نهاية، فهو الأوّل لم يزل بلا أوّل سبقه و لا بداية له، و هو الآخر لا يزول بلا آخر بعده و لا نهاية له.
و قوله عليه السّلام: و لكن قديم أوّل آخر بترك الواو العاطفة اشارة إلى أنّ أوليّته عين آخريته ليدلّ على أن كونه قديما ليس بمعنى القديم الزماني أى الامتداد الكمي بلا نهاية إذ وجوده ليس بزماني سواء كان الزّمان متناهيا أو غير متناه و إلّا لزم التغيّر و التجدّد في ذاته بل وجوده فوق الزمان، و الدّهر نسبته إلى الأزل كنسبته إلى الأبد، فهو بما هو أزليّ أبديّ، و بما هو أبديّ أزليّ، و أنّه و إن كان مع الأزل و الأبد، لكنه ليس في الأزل و لا في الأبد حتّى يتغيّر ذاته، و إليه الاشارة بقوله: لا يقع عليه الحدوث إذ كلّ زمان و زماني و إن لم يكن ذا بداية فهو حادث اذ كلّ من وجوده مسبوق بعدم سابق فهو حادث.
و قوله عليه السّلام لا يحول من حال إلى حال، إمّا تفسير للحدوث، و إمّا إشارة إلى أن لا تغيّر أصلا في صفاته كما لا تغيّر في ذاته، فليست ذاته و لا صفاته الحقيقية واقعة في الزمان و التّغير.
و قوله عليه السّلام خالق كلّ شي ء، كالبرهان لما ذكر، فانه تعالى لما كان خالق كلّ شي ء سواء كان خالقا للزمان و الدّهر، فيكون وجوده قبل الزّمان قبلية بالذات لا بالزمان، و إلّا لزم تقدّم الزّمان على نفسه و هو محال، فاذا حيث هو تعالى لا زمان و لا حركة و لا تغيّر أصلا فهو تعالى أوّل بما هو آخر و آخر بما هو أوّل، نسبته إلى الآزال و الآباد نسبة واحدة و معيّة قيّومية غير زمانيّة. (و أشهد أن لا إله الا اللّه شهادة يوافق فيها السّر الاعلان و القلب اللّسان) أى شهادة صادرة عن صميم القلب خالصة عن شؤب النفاق و الجحود هذا.
و لمّا كان قصده عليه السّلام اخبارهم عمّا يكبر في صدورهم و يضعف عنه قلوبهم و يكاد أن ينسبوه إلى الكذب فيه لا جرم أيّههم أوّلا و حذّرهم عن التكذيب بقوله: (أيّها الناس لا يجرمنّكم شقاقى) أى لا يحملنّكم معاداتي و خلافي على أن تكذّبوني (و لا يستهوينكم عصياني) أى لا يذهبّن معصيتي بهواكم و عقلكم، و قيل: أى لا تستهيمنّكم و يجعلكم هائمين و هو قريب ممّا قلناه (و لا تتراموا بالابصار عند ما تسمعونه منّي) أى لا ينظر بعضكم بعضا فعل المنكر المكذّب عند سماع الاخبار الغيبية منّى
|