منه- قد شخصوا من مستقرّ الأجداث، و صاروا إلى مصائر الغايات، لكلّ دار أهلها، لا يستبدلون بها، و لا ينقلون عنها، و إنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه، و إنّهما لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و عليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين، و النّور المبين، و الشّفآء النّافع، و الرّيّ النّاقع، و العصمة للمتمسّك، و النّجاة للمتعلّق، لا يعوج فيقام، و لا يزيغ فيستعتب، و لا تخلقه كثرة الرّدّ، و ولوج السّمع، من قال به صدق، و من عمل به سبق.
اللغة
(شخص) من بلد كذا رحل و خرج منه و (الأجداث) القبور جمع جدث بالتّحريك كأسباب و سبب و (الشّفاء النّافع) بالفاء و (الرّى النّاقع) بالقاف يقال: ماء ناقع أى ينقع الغلة أى يقطعها و يروى منها.
المعنى
الفصل الثاني (منه)
في وصف حال أهل القبور و الحثّ على الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر و على لزوم كتاب اللّه و بيان معنى الفتنة و هو قوله عليه السّلام (قد شخصوا من مستقرّ الأجداث) أى ارتحل الموتى من محلّ استقرارهم و هى القبور (و صاروا إلى مصائر الغايات) أى انتقلوا إلى محال هى غاية منازل السّالكين و منتهى سير السّائرين، يعني درجات و دركات الجحيم (و لكلّ دار) من هاتين الدّارين (أهل) من السّعداء و الأشقياء (لا يستبدلون بها) غيرها (و لا ينقلون عنها) إلى غيرها يعني أنّ أهل الجنّة لا يطلبون إبدالها لما هم عليه من عظيم النّعماء و ألذّ الآلاء، و أهل النّار لا ينقلون عنها و لو طلبوا النّقل و الأبدال لكونهم مخلّدين فيها، و هذه قرينة على أن يكون مراده عليه السّلام بأهل النّار الكفار و المنافقين، إذ غيرهم من أصحاب الجرائر من المسلمين المذعنين بالولاية لا يخلّدون في النّار لو دخلوها، بل يخرجون بعد تمحيص الذّنوب إمّا بفضل من اللّه سبحانه، أو بشفاعة أولياء اللّه تعالى كما دلّت عليه الاصول المحكمة.
ثمّ حثّ على الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر بالتنبيه على فضلهما بقوله (و إنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لخلقان من خلق اللّه) قال الشّارح البحراني «ره» إطلاق لفظ الخلق على اللّه استعارة، لأنّ حقيقة الخلق ملكة نفسانية تصدر عن الانسان بها أفعال خيريّة أو شريّة، و إذ قد تنزّه قدسه تعالى عن الكيفيّات و الهيئات لم يصدق هذا اللّفظ عليه حقيقة، لكن لمّا كان الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر و الأفعال الخيريّة الّتي بها نظام العالم و بقاؤه كحكمته و قدرته وجوده و عنايته و عدم حاجته بما يتعارف من الأخلاق الفاضلة الّتي تصدر عنها الأفعال الخيريّة البشريّة، فاستعير بها لفظ الاخلاق و اطلق عليه، انتهى.
أقول: هذا كلّه مبنيّ على التجوّز في لفظ الخلق حسبما صرّح به، و يجوز ابقائه على حقيقته و البناء على التجوّز في الاضافة، يعني أنّهما خلقان نسبتهما إليه سبحانه باعتبار كونهما مرضيّين عند اللّه و محبوبين له تعالى، فصحّ بذلك الاعتبار كونهما من خلقه تعالى أى من خلق هو محبوبه و مطلوبه كما نقول: بيت اللّه تشريفا، و روح اللّه تعظيما و تكريما و نحو ذلك، هذا.
و لمّا كان أكثر النّاس يكفون عن الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، و يمسكون عن ردع الظلمة بتوهّم أن يبطش به فيقتل أو يقطع رزقه و يحرم فأشار عليه السّلام إلى دفع هذا التّوهم بقوله (و انّهما لا يقربان من أجل و لا ينقصان من رزق) و قد روى هذا المعنى عنه عليه السّلام في حديث آخر.
و هو ما رواه في الوسايل من الكافي عن يحيى بن عقيل عن حسن عليه السّلام قال خطب أمير المؤمنين عليه السّلام فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد فانّه إنّما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي و لم ينههم الرّبانيون و الأحبار عن ذلك، و إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي و لم ينههم الرّبانيّون و الأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر و اعلموا أنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لن يقربا أجلا و لن يقطعا رزقا.
و فيه عن الحسن بن عليّ بن شعبة في تحف العقول عن الحسين عليه السّلام قال: و يروى عن عليّ عليه السّلام اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أوليائه من سوء ثنائه عن الأحبار إذ يقول: «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» و قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ و إنّما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم و رهبة ممّا يحذرون و اللّه يقول: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ و قال الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فبدء اللّه بالأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنّها إذا ادّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها و صعبها، و ذلك إنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم و مخالفة الظّالم و قسمة الفى ء و الغنايم و أخذ الصدّقات من مواضعها و وضعها في حقّها، هذا و ينبغي القيام بوظايف الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر بالشروط المقرّرة في الكتب الفقهيّة، و من جملتها الأمن من الضّرر على المباشر أو على بعض المؤمنين نفسا أو مالا أو عرضا، فلو غلب على ظنّه أو قطع بأن يصيبه أو يصيبهم ضرر بهما سقط وجوبهما، بل يحرمان كما صرّح به علماؤنا الأخيار و دلّت عليه أخبار أئمّتنا الأطهار.
روى في الوسايل عن الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن يحيى الطّويل صاحب المقري قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ أو جاهل فيتعلّم فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.
و عنه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن مفضّل بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال لي: يا مفضّل من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّه لم يوجر عليها و لم يرزق الصّبر عليها.
فظهر لك بما ذكرنا أنّ قوله عليه السّلام في المتن: و إنّهما لا يقربان من أجل و لا ينقصان من رزق، لا بدّ أن يحمل على صورة عدم الظنّ بالضّرر فضلا عن القطع به ثمّ أمر بلزوم اتّباع الكتاب المجيد معلّلا وجوب متابعته بأوصاف كمال نبّه عليها فقال (و عليكم بكتاب اللّه فانّه الحبل المتين) استعارة لفظ الحبل له باعتبار حصول النّجاة للمتمسّك به كما يحمل النّجاة للمتمسّك بالحبل و ذكر المتانة ترشيح.
و قد وقع نظير تلك الاستعارة في النّبوي المعروف المروىّ بطرق عديدة منها ما رواه أبو سعيد الخدرى قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.
(و النّور المبين) و هو أيضا استعارة لأنّه نور عقليّ ينكشف به أحوال المبدأ و المعاد و يهتدى به في ظلمات برّ الأجسام و بحر النّفوس كما يهتدى بالنّور المحسوس في الغياهب و الظّلمات و نظير هذه الاستعارة قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (و الشّفاء النّافع) إذ به يحصل البرء من الأسقام الباطنيّة و الأمراض النّفسانيّة كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ و قال في موضع آخر: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (و الرّى النّاقع) أى القاطع لغليل العطشان بماء الحياة الأبديّة أعني ما تضمّنه من المعارف الحقّة و العلوم الالهيّة (و عصمة للمتمسّك و نجاة للمتعلّق) يعني من تمسّك و تعلّق به و أخذ بأحكامه و عمل بها فهو يعصمه من غضب الجبّار و ينجيه من دخول النّار (لا يعوجّ فيقام) لأنه كلام الحقّ يصدّق بعضه بعضا «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» و احتاج إلى إصلاح اختلافه و إقامة اعوجاجه و خلله (و لا يزيغ فيستعتب) أى لا يميل و لا يعدل عن الحقّ حتّى يطلب عتباه و رجوعه إليه (و لا يخلقه كثرة الرّد و ولوج السّمع) يعني أنّ كلّ كلام نثرا كان أو نظما لو تكرّر تردّده على الألسنة و ولوجه في الأسماع مجّه الأسماع و ملّ عنه الطّباع و اشمأزّ منه القلوب و يكون خلقا مبتذلا مرذولا، و أمّا القرآن الكريم فلا يزال غضّا طريّا يزداد على كثرة التّكرار و طول التّلاوة في كرور الأعصار و مرور الدّهور حسنا و بهاء و رونقا و ضياء هو المسك ما كرّرته يتضوّع و ذلك من جملة خصائصها الّتي امتاز بها عن كلام المخلوق.
(من قال به صدق) لأنّه كلام مطابق للواقع فالقول بما أفاده البتّة يكون صدقا و القائل به صادقا (و من عمل به سبق) إلى درجات الجنان و فاز أعظم الرّضوان
|