373: أَيُّهَا النَّاسُ مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ مُوبِئٌ- فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاةً قُلْعَتُهَا أَحْظَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهَا- وَ بُلْغَتُهَا أَزْكَى مِنْ ثَرْوَتِهَا- حُكِمَ عَلَى مُكْثِرِيهَا بِالْفَاقَةِ- وَ أُغْنِيَ مَنْ غَنِيَ عَنْهَا بِالرَّاحَةِ- مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ نَاظِرَيْهِ كَمَهاً- وَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِيرَهُ أَشْجَاناً- لَهُنَّ رَقْصٌ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ- هَمٌّ يَشْغَلُهُ وَ غَمٌّ يَحْزُنُهُ- حَتَّى يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ فَيُلْقَى بِالْفَضَاءِ مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ- هَيِّناً عَلَى اللَّهِ فَنَاؤُهُ وَ عَلَى الْإِخْوَانِ إِلْقَاؤُهُ- وَ إِنَّمَا يَنْظُرُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ- وَ يَقْتَاتُ مِنْهَا بِبَطْنِ الِاضْطِرَارِ- وَ يَسْمَعُ فِيهَا بِأُذُنِ الْمَقْتِ وَ الْإِبْغَاضِ- إِنْ قِيلَ أَثْرَى قِيلَ أَكْدَى- وَ إِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ لَهُ بِالْفَنَاءِ- هَذَا وَ لَمْ يَأْتِهِمْ يَوْمٌ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ متاع الدنيا أموالها و قنيانها- . و الحطام ما تكسر من الحشيش و اليبس- و شبه متاع الدنيا بذلك لحقارته- . و موبئ محدث للوباء و هو المرض العام- . و مرعاة بقعة ترعى- كقولك مأسدة فيها الأسد و محياة فيها الحيات- . و قلعتها بسكون اللام- خير من طمأنينتها- أي كون الإنسان فيها منزعجا متهيئا
للرحيل عنها- خير له من أن يكون ساكنا إليها مطمئنا بالمقام فيها- . و البلغة ما يتبلغ به و الثروة اليسار و الغنى- و إنما حكم على مكثريها بالفاقة و الفقر- لأنهم لا ينتهون إلى حد من الثروة و المال- إلا و جدوا و اجتهدوا- و حرصوا في طلب الزيادة عليه- فهم في كل أحوالهم فقراء إلى تحصيل المال- كما أن من لا مال له أصلا- يجد و يجتهد في تحصيل المال- بل ربما كان جدهم و حرصهم على ذلك- أعظم من كدح الفقير و حرصه- و روي و أعين من غني عنها- و من رواه أغنى أي أغنى الله- من غني عنها و زهد فيها- بالراحة و خلو البال و عدم الهم و الغم- . و الزبرج الزينة و راقه أعجبه- . و الكمه العمى الشديد و قيل هو أن يولد أعمى- . و الأشجان الأحزان- . و الرقص بفتح القاف- الاضطراب و الغليان و الحركة- . و الكظم بفتح الظاء مجرى النفس- . و الأبهران عرقان متصلان بالقلب- و يقال للميت قد انقطع أبهراه- . قوله و إنما ينظر المؤمن- إخبار في الصورة و أمر في المعنى- أي لينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار- و ليأكل منها ببطن الاضطرار- أي قدر الضرورة لا احتكار أو استكثار- و ليسمع حديثها بأذن المقت و البغض- أي ليتخذها عدوا قد صاحبه في طريق- فليأخذ حذره منه جهده و طاقته- و ليسمع كلامه و حديثه لا استماع مصغ و محب وامق- بل استماع مبغض محترز من غائلته- .
ثم عاد إلى وصف الدنيا و طالبها فقال- إن قيل أثرى قيل أكدى و فاعل أثرى- هو الضمير العائد إلى من استشعر الشغف بها- يقول بينا يقال أثرى قيل افتقر- لأن هذه صفة الدنيا في تقلبها بأهلها- و إن فرح له بالحياة و دوامها قيل مات و عدم- هذا و لم يأتهم يوم القيامة يوم هم فيه مبلسون- أبلس الرجل يبلس إبلاسا أي قنط و يئس- و اللفظ من لفظات الكتاب العزيز
نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا و صروفها
و قد ذكرنا من حال الدنيا و صروفها- و غدرها بأهلها فيما تقدم أبوابا كثيرة نافعة- . و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك- . فمن كلام بعض الحكماء- ويل لصاحب الدنيا كيف يموت و يتركها- و تغره و يأمنها و تخذله و يثق بها- ويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون- و فاتهم ما يحبون و جاءهم ما يوعدون- ويل لمن الدنيا همه و الخطايا عمله- كيف يفتضح غدا بذنبه- . و
روى أنس قال كانت ناقة رسول الله ص العضباء لا تسبق- فجاء أعرابي بناقة له فسبقها- فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله ص- حق على الله ألا يرفع في الدنيا شيئا إلا وضعه
- . و قال بعض الحكماء- من ذا الذي يبني على موج البحر دارا- تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا- .
و قيل لحكيم- علمنا عملا واحدا إذا عملناه أحبنا الله عليه- فقال أبغضوا الدنيا يحببكم الله- . و
قال أبو الدرداء قال رسول الله ص لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا- و لهانت عليكم الدنيا و لآثرتم الآخرة
- . ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه- أيها الناس لو تعلمون ما أعلم- لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم- و لتركتم أموالكم لا حارس لها- و لا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه- و لكن غاب عن قلوبكم ذكر الآخرة- و حضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم- و صرتم كالذين لا يعلمون- فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها- ما لكم لا تحابون و لا تناصحون في أموركم- و أنتم إخوان على دين واحد- ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم- و لو اجتمعتم على البر لتحاببتم- ما لكم لا تناصحون في أموركم- ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم- و لو كنتم توقنون بأمر الآخرة كما توقنون بالدنيا- لآثرتم طلب الآخرة- فإن قلت حب العاجلة غالب- فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للأجل منها- ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا- و تحزنون على اليسير منها بفوتكم- حتى يتبين ذلك في وجوهكم و يظهر على ألسنتكم- و تسمونها المصائب و تقيمون فيها المآتم- و عامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم- ثم لا يتبين ذلك في وجوههم- و لا تتغير حال بهم يلقى بعضهم بعضا بالمسرة- و يكره كل منكم أن يستقبل صاحبه بما يكره- مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله- فاصطحبتم على الغل و بنيتم مراعيكم على الدمن- و تصافيتم على رفض الأجل- أراحني الله منكم و ألحقني بمن أحب رؤيته- . و قال حكيم لأصحابه- ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين- كما رضي أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا- .
و قيل في معناه-
أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا و لا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما
استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
- . و في الحديث المرفوع لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم- كما تأكل النار الحطب
- . و قال الحسن رحمه الله- أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة- فأدوها إلى من ائتمنهم عليها- ثم ركضوا خفافا- . و قال أيضا من نافسك في دينك فنافسه- و من نافسك في دنياك فألقها في نحره- . و قال الفضيل طالت فكرتي في هذه الآية- إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها- لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً- . و من كلام بعض الحكماء- لن تصبح في شي ء من الدنيا- إلا و قد كان له أهل قبلك- و يكون له أهل من بعدك- و ليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة و غداء يوم- فلا تهلك نفسك في أكلة- و صم عن الدنيا و أفطر على الآخرة- فإن رأس مال الدنيا الهوى و ربحها النار- . و قيل لبعض الرهبان كيف ترى الدهر- قال يخلق الأبدان و يجدد الآمال- و يقرب المنية و يباعد الأمنية- قيل فما حال أهله- قال من ظفر به تعب و من فاته اكتأب- . و من هذا المعنى قول الشاعر-
و من يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة و إن أقبلت كانت كثيرا همومها
- . و قال بعض الحكماء- كانت الدنيا و لم أكن فيها- و تذهب الدنيا و لا أكون فيها- و لست أسكن إليها- فإن عيشها نكد و صفوها كدر- و أهلها منها على وجل- إما بنعمة زائلة أو ببلية نازلة أو ميتة قاضية- . و قال بعضهم- من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحدا ما يستحق- إما أن تزيد له و إما أن تنقص- . و قال سفيان الثوري- أ ما ترون النعم كأنها مغضوب عليها- قد وضعت في غير أهلها- . و قال يحيى بن معاذ الدنيا حانوت الشيطان- فلا تسرق من حانوته شيئا- فإنه يجي ء في طلبك حتى يأخذك- . و قال الفضيل- لو كانت الدنيا من ذهب يفنى- و الآخرة من خزف يبقى- لكان ينبغي لنا أن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى- فكيف و قد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى- . و قال بعضهم- ما أصبح أحد في الدنيا إلا و هو ضيف- و لا شبهة في أن الضيف مرتحل- و ما أصبح ذو مال فيها إلا و ماله عارية عنده- و لا ريب أن العارية مردودة- . و مثل هذا قول الشاعر-
و ما المال و الأهلون إلا وديعة و لا بد يوما أن ترد الودائع
- . و قيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت- فأنشد
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع
و زار رابعة العدوية أصحابها- فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها- فقالت اسكتوا عن ذكرها و كفوا- فلو لا موقعها في قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها- إن من أحب شيئا أكثر من ذكره- . و قال مطرف بن الشخير- لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك و لين رياشهم- و لكن انظروا إلى سرعة ظعنهم و سوء منقلبهم- . قال الشاعر
أرى طالب الدنيا و إن طال عمره و نال من الدنيا سرورا و أنعما
كبان بنى بنيانه فأقامه
فلما استوى ما قد بناه تهدما
- . و قال أبو العتاهية-
تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا
أ ليس مصير ذلك إلى الزوال
و ما دنياك إلا مثل في ء أظلك ثم آذن بانتقال
- . و قال بعضهم الدنيا جيفة- فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب- . و قال أبو أمامة الباهلي- لما بعث الله محمدا ص- أتت إبليس جنوده و قالوا- قد بعث نبي و جدت ملة و أمة- فقال كيف حالهم أ يحبون الدنيا قالوا نعم- قال إن كانوا يحبونها فلا أبالي ألا يعبدوا الأصنام- فإنما أغدو عليهم و أروح بثلاث- أخذ المال من غير حقه- و إنفاقه في غير حقه و إمساكه عن حقه- و الشر كله لهذه الثلاث تبع- . و كان مالك بن دينار يقول- اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا- .
و قال أبو سليمان الرازي- إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا فزاحمتها- و إذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة- لأن الآخرة كريمة و الدنيا لئيمة- . و قال مالك بن دينار- بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك- و بقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك- و هذا مقتبس
من قول أمير المؤمنين ع الدنيا و الآخرة ضرتان- فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى
- . و قال الشاعر
يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم
إن التي تخطب غدارة
قريبة العرس من المأتم
- . و قالوا لو وصفت الدنيا نفسها- لما قالت أحسن من قول أبي نواس فيها-
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
- . و من كلام الشافعي يعظ أخا له- يا أخي إن الدنيا دحض مزلة و دار مذلة- عمرانها إلى الخراب سائر- و ساكنها إلى القبور زائر- شملها على الفرقة موقوف- و غناها إلى الفقر مصروف- الإكثار فيها إعسار و الإعسار فيها يسار- فافزع إلى الله و ارض برزق الله- و لا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك- فإن عيشك في ء زائل و جدار مائل- أكثر من عملك و أقصر من أملك- . و قال إبراهيم بن أدهم لرجل- أ درهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة- فقال دينار في اليقظة- فقال كذبت إن الذي تحبه في الدنيا- فكأنك تحبه في المنام- و الذي تحبه في الآخرة فكأنك تحبه في اليقظة- . و قال بعض الحكماء- من فرح قلبه بشي ء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة- و من
جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله- و من غلب علمه هواه فهو الغالب- . و قال بعضهم- الدنيا تبغض إلينا نفسها و نحن نحبها- فكيف لو تحببت إلينا- . و قال بعضهم الدنيا دار خراب- و أخرب منها قلب من يعمرها- و الجنة دار عمران و أعمر منها قلب من يطلبها- . و قال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة- من ترك الدنيا قبل أن تتركه- و بنى قبره قبل أن يدخله- و أرضى خالقه قبل أن يلقاه- . و قال بعضهم- من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا- كان كمطفئ النار بالتبن- . و من كلام بعض فصحاء الزهاد- أيها الناس اعملوا في مهل- و كونوا من الله على وجل- و لا تغتروا بالأمل و نسيان الأجل- و لا تركنوا إلى الدنيا- فإنها غدارة غرارة خداعة- قد تزخرفت لكم بغرورها- و فتنتكم بأمانيها و تزينت لخطابها- فأضحت كالعروس المتجلية- العيون إليها ناظرة- و القلوب عليها عاكفة و النفوس لها عاشقة- فكم من عاشق لها قتلت- و مطمئن إليها خذلت- فانظروا إليها بعين الحقيقة- فإنها دار كثرت بوائقها و ذمها خالقها- جديدها يبلى و ملكها يفنى- و عزيزها يذل و كثيرها يقل- و حيها يموت و خيرها يفوت- فاستيقظوا من غفلتكم- و انتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال- فلان عليل و مدنف ثقيل- فهل على الدواء من دليل- و هل إلى الطبيب من سبيل- فتدعى لك الأطباء و لا يرجى لك الشفاء- ثم يقال فلان أوصى و ماله أحصى- ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه- و لا يعرف جيرانه- و عرق عند ذلك جبينك- و تتابع أنينك و ثبت يقينك- و طمحت جفونك و صدقت ظنونك- و تلجلج لسانك و بكى إخوانك- و قيل لك هذا ابنك فلان و هذا أخوك
فلان- منعت من الكلام فلا تنطق- و ختم على لسانك فلا ينطبق- ثم حل بك القضاء- و انتزعت روحك من الأعضاء- ثم عرج بها إلى السماء- فاجتمع عند ذلك إخوانك- و أحضرت أكفانك- فغسلوك و كفنوك ثم حملوك فدفنوك- فانقطع عوادك و استراح حسادك- و انصرف أهلك إلى مالك- و بقيت مرتهنا بأعمالك- . و قال بعض الزهاد لبعض الملوك- إن أحق الناس بذم الدنيا و قلاها- من بسط له فيها و أعطي حاجته منها- لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه- و على جمعه فتفرقه- أو تأتي على سلطانه فتهدمه من القواعد- أو تدب إلى جسمه فتسقمه- أو تفجعه بشي ء هو ضنين به من أحبابه- فالدنيا الأحق بالذم و هي الآخذة ما تعطي- الراجعة فيما تهب- فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره- و بينا هي تبكي له إذ أبكت عليه- و بينا هي تبسط كفه بالإعطاء- إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع و الاسترداد- تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم- و تعفره في التراب غدا- سواء عليها ذهاب من ذهب و بقاء من بقي- تجد في الباقي من الذاهب خلفا- و ترضى بكل من كل بدلا- . و كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز- أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة- و إنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها- فإن الزاد منها ربحها و الغنى منها فقرها- لها في كل حين قتيل- تذل من أعزها و تفقر من جمعها- هي كالسم يأكله من لا يعرفه و هو حتفه- فكن فيها كالمداوي جراحه- يحمي قليلا مخافة ما يكرهه طويلا- و يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء- فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة الختالة الخداعة- التي قد تزينت بخدعها و فتنت بغرورها- و تحلت بآمالها و تشرفت لخطابها- فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها- العيون إليها ناظرة و القلوب عليها والهة- و النفوس لها عاشقة و هي لأزواجها كلهم قاتلة- فلا الباقي بالماضي معتبر- و لا الآخر بالأول مزدجر- و لا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر- فمن عاشق لها قد
ظفر منها بحاجته- فاغتر و طغي و نسي المعاد- و شغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه- فعظمت ندامته و كثرت حسرته- و اجتمعت عليه سكرات الموت بألمه- و حسرات الفوت بغصته- و من راغب فيها لم يدرك منها ما طلب- و لم يرح نفسه من التعب- خرج منها بغير زاد و قدم على غير مهاد- فاحذرها ثم احذرها- و كن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها- فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور- أشخصته إلى مكروه- و السار منها لأهلها غار- و النافع منها في غد ضار- قد وصل الرخاء منها بالبلاء- و جعل البقاء فيها للفناء- فسرورها مشوب بالأحزان- و نعيمها مكدر بالأشجان- لا يرجع ما ولى منها و أدبر- و لا يدرى ما هو آت فينتظر- أمانيها كاذبة و آمالها باطلة- و صفوها كدر و عيشها نكد- و الإنسان فيها على خطر إن عقل و نظر- و هو من النعماء على غرر و من البلاء على حذر- فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا- و لم يضرب لها مثلا- لكانت هي نفسها قد أيقظت النائم و نبهت الغافل- فكيف و قد جاء من الله عنها زاجر- و بتصاريفها واعظ- فما لها عند الله قدر و لا نظر إليها منذ خلقها- و لقد عرضت على نبيك محمد ص بمفاتيحها و خزائنها- لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة- فأبى أن يقبلها- كره أن يخالف على الله أمره- أو يحب ما أبغضه خالقه- أو يرفع ما وضعه مليكه- زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا- و بسطها لأعدائه اغترارا- فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها- و ينسى ما صنع الله تعالى بمحمد ص- من شده الحجر على بطنه- و
قد جاءت الرواية عنه عن ربه سبحانه أنه قال لموسى- إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته- و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين- و إن شئت اقتديت بصاحب الروح و الكلمة عيسى- كان يقول إدامي الجوع- و شعاري الخوف و لباسي الصوف- و صلائي في الشتاء مشارق الشمس- و سراجي القمر و وسادي الحجر- و دابتي رجلاي
و فاكهتي و طعامي ما أنبتت الأرض- أبيت و ليس لي شي ء- و ليس على الأرض أحد أغنى مني
و في بعض الكتب القديمة أن الله تعالى لما بعث موسى و هارون ع إلى فرعون- قال لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا- فإن ناصيته بيدي ليس ينطق- و لا يطرف و لا يتنفس إلا بإذني- و لا يعجبكما ما متع به منها- فإن ذلك زهرة الحياة الدنيا و زينة المترفين- و لو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا- يعرف فرعون حين يراها- أن مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت- و لكني أرغب بكما عن ذلك- و أزوي ذلك عنكما و كذلك أفعل بأوليائي- إني لأذودهم عن نعيمها- كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة- و إني لأجنبهم حب المقام فيها- كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العر- و ما ذاك لهوانهم علي- و لكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا- إنما يتزين لي أوليائي بالذل و الخضوع و الخوف- و إن التقوى لتثبت في قلوبهم- فتظهر على وجوههم- فهي ثيابهم التي يلبسونها- و دثارهم الذي يظهرون- و ضميرهم الذي يستشعرون- و نجاتهم التي بها يفوزون- و رجاؤهم الذي إياه يأملون- و مجدهم الذي به يفتخرون- و سيماهم التي بها يعرفون- فإذا لقيهم أحدكما فليخفض لهم جناحه- و ليذلل لهم قلبه و لسانه- و ليعلم أنه من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة- ثم أنا الثائر به يوم القيامة
- . و من كلام بعض الحكماء- الأيام سهام و الناس أغراض- و الدهر يرميك كل يوم بسهامه- و يتخرمك بلياليه و أيامه- حتى يستغرق جميع أجزائك و يصمي جميع أبعاضك- فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك- و سرعة الليالي في بدنك- و لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص- لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك- و استثقلت ممر الساعات بك- و لكن تدبير الله تعالى فوق النظر و الاعتبار- .
و قال بعض الحكماء- و قد استوصف الدنيا و قدر بقائها- الدنيا وقتك الذي يرجع إليه طرفك- لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه- و ما لم يأت فلا علم لك به- و الدهر يوم مقبل تنعاه ليلته و تطويه ساعاته- و أحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير و النقصان- و الدهر موكل بتشتيت الجماعات و انخرام الشمل- و تنقل الدول و الأمل طويل و العمر قصير- و إلى الله تصير الأمور- . و قال بعض الفضلاء- الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء- تعد بالبقاء و تخلف في الوفاء- تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة- و هي سائرة سيرا عنيفا و مرتحلة ارتحالا سريعا- و لكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها- و إنما يحس بذلك بعد انقضائها- و مثالها الظل فإنه متحرك ساكن- متحرك في الحقيقة و ساكن في الظاهر- لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 19، ص 285 - 297)
|