399: نِعْمَ الطِّيبُ الْمِسْكُ خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ عَطِرٌ رِيحُهُ
فصل فيما ورد في الطيب من الآثار
كان النبي ص كثير التطيب بالمسك- و بغيره من أصناف الطيب- . و
جاء الخبر الصحيح عنه حبب إلي من دنياكم ثلاث- الطيب و النساء و قرة عيني في الصلاة
- . و قد رويت لفظة أمير المؤمنين ع عنه مرفوعة- و نحوها
لا تردوا الطيب فإنه طيب الريح خفيف المحمل
- . سرق أعرابي نافجة مسك- فقيل له و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة- قال إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل- . و
في الحديث المرفوع أنه ع بايع قوما- كان بيد رجل منهم ردع خلوق- فبايعه بأطراف أصابعه و قال- خير طيب الرجال ما ظهر ريحه و خفي لونه- و خير طيب النساء ما ظهر لونه و خفي ريحه
و عنه ع في صفة أهل الجنة و مجامرهم الألوة
- و هي العود الهندي- .
و روى سهل بن سعد عنه ع أن في الجنة لمراغا من مسك- مثل مراغ دوابكم هذه
و روي عنه ع أيضا في صفة الكوثر جاله المسك أي جانبه- و رضراضة التوم و حصباؤه اللؤلؤ
و قالت عائشة كأني أنظر إلى وبيص المسك- في مفارق رسول الله ص و هو محرم
و كان ابن عمر يستجمر بعود غير مطرى- و يجعل معه الكافور و يقول- هكذا رأيت رسول الله ص يصنع
و روى أنس بن مالك قال دخل علينا رسول الله ص فقال عندنا- و الوقت صيف فعرق- فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت عرقه- فاستيقظ و قال يا أم سليم ما تصنعين- قالت هذا عرقك نجعله في طيبنا- فإنه من أطيب الطيب- و نرجو به بركة صبياننا فقال أصبت
- . و من كلام عمر- لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر- إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه- . ناول المتوكل أحمد بن أبي فنن فأرة مسك- فأنشده
لئن كان هذا طيبنا و هو طيب لقد طيبته من يديك الأنامل
- . قالوا سميت الغالية غالية- لأن عبد الله بن جعفر أهدى لمعاوية قارورة منها- فسأله كم أنفق عليها فذكر مالا- فقال هذه غالية فسميت غالية- . شم مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري- من أخته هند بنت أسماء ريح غالية- و كانت تحت الحجاج- فقال علميني طيبك- قالت لا أفعل أ تريد أن تعلمه
جواريك- هو لك عندي ما أردته ثم ضحكت و قالت- و الله ما تعلمته إلا من شعرك حيث قلت-
أطيب الطيب طيب أم أبان فأر مسك بعنبر مسحوق
خلطته بعودها و ببان
فهو أحوى على اليدين شريق
- . و روى أبو قلابة قال- كان ابن مسعود إذا خرج من بيته إلى المسجد- عرف من في الطريق أنه قد مر من طيب ريحه- . و روى الحسن بن زيد عن أبيه- قال رأيت ابن عباس حين أحرم- و الغالية على صلعته كأنها الرب- . أولم المتوكل في طهر بنيه- فلما كثر اللعب قال ليحيي بن أكثم- انصرف أيها القاضي قال و لم- قال لأنهم يريدون أن يخلطوا- قال أحوج ما يكونون إلى قاض إذا خلطوا- فاستظرفه و أمر أن تغلف لحيته ففعل- فقال يحيى إنا لله ضاعت الغالية- كانت هذه تكفيني دهرا لو دفعت إلي- فأمر له بزورق لطيف من ذهب- مملوء من غالية و درج بخور فأخذهما و انصرف- . و روى عكرمة- أن ابن عباس كان يطلي جسده بالمسك- فإذا مر بالطريق قال الناس- أ مر ابن عباس أم المسك و قال أبو الضحى- رأيت على رأس ابن الزبير من المسك- ما لو كان لي لكان رأس مالي- . لما بنى عمر بن عبد العزيز على فاطمة بنت عبد الملك- أسرج في مسارجه تلك الليلة الغالية- إلى أن طلعت الشمس- . كانت لابن عمر بندقة من مسك- يبوكها بين راحتيه فتفوح رائحتها- . كان عمر بن عبد العزيز في إمارته المدينة- يجعل المسك بين قدميه و نعله- فقال فيه الشاعر يمدحه-
له نعل لا تطبي الكلب ريحها و إن وضعت في مجلس القوم شمت
- .
سمع عمر قول سحيم عبد بني الحسحاس-
و هبت شمال آخر الليل قرة و لا ثوب إلا درعها و ردائيا
فما زال بردي طيبا من ثيابها
مدى الحول حتى أنهج البرد باليا
- فقال له ويحك إنك مقتول- فلم تمض عليه أيام حتى قتل- . قال الشعبي الرائحة الطيبة تزيد في العقل- . كان عبد الله بن زيد يتخلق بالخلوق- ثم يجلس في المجلس- . و كانوا يستحبون إذا قاموا من الليل- أن يمسحوا مقاديم لحاهم بالطيب- . و اشترى تميم الداري حلة بثمانمائة درهم و هيأ طيبا- فكان إذا قام من الليل تطيب و لبس حلته- و قام في المحراب- . و قال أنس يا جميلة هيئي لنا طيبا أمسح به يدي- فإن ابن أم ثابت إذا جاء قبل يدي- يعني ثابتا البناني- . و قال سلم بن قتيبة- لقد شممت من فلان رائحة- أطيب من مشطة العروس الحسناء- في أنف العاشق الشبق- . و من كلام بعض الصالحين- الفاسق رجس و لو تضمخ بالغالية- . عرضت مدنية لكثير فقالت له أنت القائل-
فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها و عرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا
و قد أوقدت بالمندل الرطب نارها
- لو كانت هذه الصفة لزنجية تجتلي الحلة لطابت- هلا قلت كما قال سيدك إمرؤ القيس-
أ لم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا و إن لم تطيب
- . و قال الزمخشري- إن النوى المنقع بالمدينة ينتاب أشرافها- المواضع التي يكون فيها التماسا لطيب ريحه- و إذا وجدوا ريحه بالعراق هربوا منها لخبثها- قال و من اختلف في طرقات المدينة- وجد رائحة طيبة و بنة عجيبة- و لذلك سميت طيبة- و الزنجية بها تجعل في رأسها- شيئا من بلح و ما لا قيمة له فتجد له خمرة- لا يعدلها بيت عروس من ذوات الأقدار- . قال و لو دخلت كل غالية و عطر- قصبة الأهواز و قصبة أنطاكية- لوجدتها قد تغيرت و فسدت في مدة يسيرة- . أراد الرشيد المقام في أنطاكية- فقال له شيخ منها إنها ليست من بلادك- فإن الطيب الفاخر يتغير فيها حتى لا ينتفع منه بشي ء- و السلاح يصدأ فيها- . سيراف من بلاد فارس لها فغمة طيبة- . فأرة المسك دويبة شبيهة بالخشف- تكون في ناحية تبت تصاد لأجل سرتها- فإذا صادها الصائد- عصب سرتها بعصاب شديد و هي مدلاة- فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها- و ما أكثر من يأكلها- ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعر- حتى يستحيل الدم المحتقن فيها مسكا ذكيا- بعد أن كان لا يرام نتنا- و قد يوجد في البيوت جرذان سود- يقال لها فأر المسك- ليس عندها إلا رائحة لازمة لها- . و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ قال- سألت بعض أصحابنا المعتزلة عن شأن المسك- فقال لو لا أن رسول الله ص تطيب بالمسك- لما تطيبت به لأنه دم- فأما
الزباد فليس مما يقرب ثيابي- فقلت له قد يرتضع الجدي من لبن خنزيرة- فلا يحرم لحمه لأن ذلك اللبن استحال لحما- و خرج من تلك الطبيعة- و عن تلك الصورة و عن ذلك الاسم- و كذا لحم الجلالة- فالمسك غير الدم و الخل غير الخمر- و الجوهر لا يحرم لذاته و عينه- و إنما يحرم للأعراض و العلل- فلا تقزز منه عند ذكرك الدم فليس به بأس- . قال الزمخشري و الزبادة هرة- و يقال للزيلع و هم الذين يجتلبون الزباد- يا زيلع الزبادة ماتت فيغضب- . و قال ابن جزلة الطبيب في المنهاج- الزباد طيب يؤخذ من حيوان كالسنور- يقال إنه وسخ في رحمها- . و قال الزمخشري العنبر يأتي طفاوة على الماء- لا يدري أحد معدنه- يقذفه البحر إلى البر فلا يأكل منه شي ء إلا مات- و لا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه- و لا يقع عليه إلا نصلت أظفاره- و البحريون و العطارون- ربما وجدوا فيه المنقار و الظفر- . قال و البال و هو سمكة طولها خمسون ذراعا- يؤكل منه اليسير فيموت- . قال و سمعت ناسا من أهل مكة يقولون- هو ضفع ثور في بحر الهند- و قيل هو من زبد بحر سرنديب- و أجوده الأشهب ثم الأزرق و أدونه الأسود- . و
في حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاة- إنما هو شي ء يدسره البحر أي يدفعه
- .
فأما صاحب المنهاج في الطب فقال- العنبر من عين في البحر- و يكون جماجم أكبرها وزنه ألف مثقال- و الأسود أردأ أصنافه- و كثيرا ما يوجد في أجواف السمك التي تأكله و تموت- و توجد فيه سهوكة- . و قال في المسك أنه سرة دابة كالظبي- له نابان أبيضان معقفان إلى الجانب الإنسي كقرنين- .
جاء في الحديث المرفوع لا تمنعوا إماء الله مساجد الله- و ليخرجن إذا خرجن ثفلات
- أي غير متطيبات- . و في الحديث أيضا إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا
- و المراد من ذلك ألا تهيج عليهن شهوة الرجال- . قال الشاعر
و المسك بينا تراه ممتهنا بفهر عطاره و ساحقه
حتى تراه في عارضي ملك
أو موضع التاج من مفارقه
- . الصنوبري في استهداء المسك-
المسك أشبه شي ء بالشباب فهب بعض الشباب لبعض العصبة الشيب
- يقال إن رجلا وجد قرطاسا فيه اسم الله تعالى- فرفعه و كان عنده دينار- فاشترى به مسكا فطيبه- فرأى في المنام قائلا يقول له- كما طيبت اسمي لأطيبن ذكرك- . قال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلب- ما رأيت صدا المغفر و لا عبق العنبر بأحد أليق منه بك- فقال حاجتك قال ابن أخ لي في حبسك- فقال يسبقك إلى المنزل- .
شاعر
كأن دخان الند ما بين جمره بقايا ضباب في رياض شقيق
- . قالوا خير العود المندلي- و هو منسوب إلى مندل قرية من قرى الهند- و أجوده أصلبه- و امتحان رطبة أن ينطبع فيه نقش الخاتم- و اليابس تفصح عنه النار- و من خاصية المندلي- أن رائحته تثبت في الثواب أسبوعا- و أنه لا يقمل ما دامت فيه- . قال صاحب المنهاج العود عروق أشجار- تقلع و تدفن في الأرض حتى تتعفن- منها الخشبية و القشرية و يبقى العود الخالص- و أجوده المندلي و يجلب من وسط بلاد الهند- ثم العود الهندي- و هو يفضل على المندلي بأنه لا يولد القمل- و هو أعبق بالثياب- . قال و أفضل العود أرسبه في الماء و الطافي ردي ء- . قال أبو العباس الأعمى-
ليت شعري من أين رائحة المسك و ما إن أخال بالخيف أنسي
حين غابت بنو أمية عنه
و البهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسان على الخيل قالة غير خرس
بحلوم مثل الجبال رزان
و وجوه مثل الدنانير ملس
- . المسيب بن علس-
تبيت الملوك على عتبها و شيبان إن غضبت تعتب
و كالشهد بالراح ألفاظهم
و أخلاقهم منهما أعذب
و كالمسك ترب مقاماتهم و ترب قبورهم أطيب
- . أخذه العباس بن الأحنف فقال-
و أنت إذا ما وطئت التراب كان ترابك للناس طيبا
- . و هجا بعض الشعراء العمال في أيام عمر- و وقع عليهم فقال في بعض شعره-
نئوب إذا آبوا و نغزو إذا غزوا فأنى لهم وفر و لسنا ذوي وفر
إذا التاجر الداري جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري
- فقبض عمر على العمال و صادرهم- . قالوا في الكافور- إنه ماء في شجر مكفور فيه يغرزونه بالحديد- فإذا خرج إلى ظاهر ذلك الشجر- ضربه الهواء فانعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار- . و قال صاحب المنهاج- هو أصناف منها الفنصوري و الرباحي- و الأزاد و الإسفرك الأزرق- و هو المختط بخشبه- و قيل إن شجرته عظيمة تظلل أكثر من مائة فارس- و هي بحرية و خشب الكافور أبيض إلى الحمرة خفيف- و الرباحي يوجد في بدن شجرته قطع كالثلج- فإذا شققت الشجرة تناثر منها الكافور الند هو الغالية- و هو العود المطري بالمسك و العنبر و دهن البان- و من الناس من لا يضيف إليه دهن البان- و يجعل عوضه الكافور- و منهم من لا يضيف إليه الكافور أيضا- و من الناس من يركب الغالية- من المسك و العنبر و الكافور و دهن النيلوفر- . قال الأصمعي قلت لأبي المهدية الأعرابي- كيف تقول ليس الطيب إلا المسك- فلم يحفل الأعرابي و ذهب إلى مذهب آخر- فقال فأين أنت عن العنبر- فقلت كيف تقول ليس الطيب إلا المسك و العنبر- قال فأين أنت عن البان- قلت فكيف
تقول ليس الطيب إلا المسك و العنبر و البان- قال فأين أنت عن ادهان بحجر يعني اليمامة- قلت فكيف تقول ليس الطيب- إلا المسك و العنبر و البان و ادهان بحجر- قال فأين أنت عن فأرة الإبل صادرة- فرأيت أني قد أكثرت عليه فتركته- قال و فأرة الإبل ريحها حين تصدر عن الماء- و قد أكلت العشب الطيب- . و في فأرة الإبل يقول الشاعر-
كأن فأرة مسك في مباءتها إذا بدا من ضياء الصبح تنتشر
- كان لأبي أيوب المرزباني وزير المنصور دهن طيب- يدهن به إذا ركب إلى المنصور- فلما رأى الناس غلبته على المنصور- و طاعته له فيما يريده- حتى إنه ربما كان يستحضره ليوقع به- فإذا رآه تبسم إليه و طابت نفسه- قالوا دهن أبي أيوب من عمل السحرة- و ضربوا به المثل- فقالوا لمن يغلب على الإنسان معه دهن أبي أيوب- . أعرابي فيها مدر كف و مشم أنف- . و قال عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري-
لو كنت أحمل خمرا حين زرتكم لم ينكر الكلب أني صاحب الدار
لكن أتيت و ريح المسك يقدمني
و العنبر الورد مشبوبا على النار
فأنكر الكلب ريحي حين خالطني و كان يألف ريح الزق و القار
- قال الأصمعي- ذكر لأبي أيوب هؤلاء الذين يتقشفون- فقال ما علمت أن القذر و الذفر من الدين- . ريح الكلب مثل في النتن- قال الشاعر
ريحها ريح كلاب هارشت في يوم طل
- . و قال آخر
يزداد لؤما على المديح كما يزداد نتن الكلاب في المطر
- .
و قالت امرأة إمرئ القيس له- و كان مفركا عند النساء- إذا عرقت عرقت بريح كلب- قال صدقت إن أهلي أرضعوني مرة بلبن كلبة- . قال سلمة بن عياش يقول لجعفر بن سليمان-
فما شم أنفي ريح كف رأيتها من الناس إلا ريح كفك أطيب
- فأمر له بألف دينار- و مائة مثقال من المسك و مائة مثقال من العنبر- .
وجه عمر إلى ملك الروم بريدا- فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيبا بدنانير- و جعلته في قارورتين و أهدتهما إلى امرأة ملك الروم- فرجع البريد إليها و معه مل ء القارورتين جواهر- فدخل عليها عمر و قد صبت الجواهر في حجرها- فقال من أين لك هذا فأخبرته- فقبض عليه و قال هذا للمسلمين- قالت كيف و هو عوض هديتي- قال بيني و بينك أبوك- فقال علي ع لك منه بقيمة دينارك- و الباقي للمسلمين جملة لأن بريد المسلمين حمله
- . قيل لخديجة بنت الرشيد- رسل العباس بن محمد على الباب- معهم زنبيل يحمله رجلان- فقالت تراه بعث إلي باقلاء- فكشف الزنبيل عن جرة مملوءة غالية- فيها مسحاة من ذهب و إذا برقعة- هذه جرة أصيبت هي و أختها في خزائن بني أمية- فأما أختها فغلب عليها الخلفاء- و أما هذه فلم أر أحدا أحق بها منك
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 19، ص 341 - 351)
|