40: لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى- و هذا من المعاني العجيبة الشريفة- و المراد به أن العاقل لا يطلق لسانه- إلا بعد مشاورة الروية و مؤامرة الفكرة- و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتات كلامه- مراجعة فكره و مماخضة رأيه- فكان لسان العاقل تابع لقلبه- و كان قلب الأحمق تابع للسانه- قال و قد روي عنه ع هذا المعنى بلفظ آخر- و هو قوله قلب الأحمق في فيه- و لسان العاقل في قلبه- و معناهما واحد قد تقدم القول في العقل و الحمق- و نذكر هاهنا زيادات أخرى
أقوال و حكايات حول الحمقى
قالوا كل شي ء يعز إذا قل- و العقل كلما كان أكثر كان أعز و أغلى- . و كان عبد الملك يقول- أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل- . قيل لبعضهم ما جماع العقل- فقال ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه- و ما لا يوجد كاملا فلا حد له- .
و قال الزهري- إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل- . و قيل- عظمت المئونة في عاقل متجاهل و جاهل متعاقل- . و قيل- الأحمق يتحفظ من كل شي ء إلا من نفسه- . و قيل لبعضهم- العقل أفضل أم الجد فقال العقل من الجد- . و خطب رجلان إلى ديماووس الحكيم ابنته- و كان أحدهما فقيرا و الآخر غنيا فزوجها من الفقير- فسأله الإسكندر عن ذلك فقال لأن الغني كان أحمق- فكنت أخاف عليه الفقر و الفقير كان عاقلا- فرجوت له الغنى- . و قال أرسطو العاقل يوافق العاقل- و الأحمق لا يوافق العاقل- و لا أحمق كالعود المستقيم الذي ينطبق على المستقيم- فأما المعوج- فإنه لا ينطبق على المعوج و لا على المستقيم- . و قال بعضهم- لأن أزاول أحمق أحب إلي من أن أزاول نصف أحمق- أعني الجاهل المتعاقل- . و اعلم أن أخبار الحمقى و نوادرهم كثيرة- إلا أنا نذكر منها هاهنا ما يليق بكتابنا- فإنه كتاب نزهناه عن الخلاعة و الفحش- إجلالا لمنصب أمير المؤمنين- . قال هشام بن عبد الملك يوما لأصحابه- إن حمق الرجل يعرف بخصال أربع- طول لحيته و بشاعة كنيته- و نقش خاتمه و إفراط نهمته- فدخل عليه شيخ طويل العثنون- فقال هشام أما هذا فقد جاء بواحدة- فانظروا أين هو من الباقي- قالوا له ما كنية الشيخ قال أبو الياقوت- فسألوه عن نقش خاتمه فإذا هو- وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ- فقيل له أي الطعام تشتهي قال الدباء بالزيت- فقال هشام إن صاحبكم قد كمل- . و سمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادي آخر- يا أبا العمرين فقال لو كان له عقل لكفاه أحدهما و أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له في حلبة- فجاء سابقا- فقيل له سمه باسم يعرف به فقام ففقأ عينه و قال- قد سميته الأعور فقال شاعر يهجوه-
رمتني بنو عجل بداء أبيهم و أي عباد الله أنوك من عجل
أ ليس أبوهم عار عين جواده
فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل
- . و قال أبو كعب القاص في قصصه- إن النبي ص قال في كبد حمزة ما علمتم- فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزة- . و قال مرة في قصصه- اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا و كذا- فقيل له إن يوسف لم يأكله الذئب- فقال فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف- . و دخل كعب البقر الهاشمي على محمد بن عبد الله بن طاهر- يعزيه في أخيه فقال له أعظم الله مصيبة الأمير- فقال الأمير أما فيك فقد فعل- و الله لقد هممت أن أحلق لحيتك- فقال إنما هي لحية الله و لحية الأمير فليفعل ما أحب- . و كان عامر بن كريز أبو عبد الله بن عامر من حمقى قريش- نظر إلى عبد الله و هو يخطب و الناس يستحسنون كلامه- فقال لإنسان إلى جانبه أنا أخرجته من هذا- و أشار إلى متاعه- . و من حمقى قريش العاص بن هشام المخزومي- و كان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم داره- ثم قليله و كثيره و أهله و نفسه- فاتخذه عبدا و أسلمه قينا- فلما كان يوم بدر بعث به بديلا عن نفسه- فقتل ببدر قتله عمر بن الخطاب و كان ابن عم أمه- . و من الحمقى الأحوص بن جعفر بن عمرو بن حريث- قال له يوما مجالسوه ما بال وجهك أصفر أ تشتكي شيئا- فرجع إلى أهله و قال يا بني الخيبة أنا شاك و لا تعلمونني- اطرحوا علي الثياب و ابعثوا إلي الطبيب- . و من حمقى بني عجل حسان بن الغضبان من أهل الكوفة- ورث نصف دار أبيه فقال أريد أن أبيع حصتي من الدار- و أشتري بالثمن النصف الباقي فتصير الدار كلها لي- . و من حمقى قريش بكار بن عبد الملك بن مروان- و كان أبوه ينهاه أن يجالس خالد بن يزيد بن معاوية- لما يعرف من حمقه- فجلس يوما إلى خالد فقال خالد يعبث به- هذا و الله المردد في بني عبد مناف- فقال بكار أجل أنا و الله كما قال الأول-
مردد في بني اللخناء ترديدا
- . و طار لبكار هذا بازي فقال لصاحب الشرطة- أغلق أبواب دمشق لئلا يخرج البازي- . و من حمقى قريش معاوية بن مروان بن الحكم- بينا هو واقف بباب دمشق- ينتظر أخاه عبد الملك على باب طحان- و حمار الطحان يدور بالرحى و في عنقه جلجل- فقال للطحان لم جعلت في عنق هذا الحمار جلجلا- فقال ربما أدركتني نعسة أو سآمة- فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قد نام فصحت به- فقال أ رأيته إن قام و حرك رأسه ما علمك به أنه قائم- فقال و من لحماري بمثل عقل الأمير- . و قال معاوية لحميه- و قد دخل بابنته تلك الليلة فافتضها- لقد ملأتنا ابنتك البارحة دما- فقال إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن- . و من حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك- قال يوما لعن الله الوليد أخي- فلقد كان فاجرا أرادني على الفاحشة- فقال له قائل من أهله اسكت ويحك- فو الله إن كان هم لقد فعل- . و خطب سعيد بن العاص عائشة ابنة عثمان- فقالت هو أحمق لا أتزوجه أبدا- له برذونان لونهما واحد عند الناس- و يحمل مؤنة اثنين- . و ممن كان يحمق من قريش عتبة بن أبي سفيان بن حرب- و عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان- و عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب- و سهل بن عمرو أخو سهيل بن عمرو بن العاص- و كان عبد الملك بن مروان يقول- أحمق بيت في قريش آل قيس بن مخرمة- . و من القبائل المشهورة بالحمق الأزد- كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب- لما خرج عليهم- أنك لست بصاحب هذا الأمر- إن صاحبه مغمور موتور و أنت مشهور غير موتور- فقام إليه رجل من الأزد فقال- قدم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا- . و قام رجل من الأزد إلى عبيد الله بن زياد فقال- أصلح الله الأمير إن امرأتي هلكت- و قد أردت أن أتزوج أمها- و هذا عريفي فأعني في الصداق- فقال في كم أنت من العطاء فقال في سبعمائة- فقال حطوا من عطائه أربعمائة يكفيك ثلاثمائة- . و مدح رجل منهم المهلب فقال-
نعم أمير الرفقة المهلب أبيض وضاح كتيس الحلب ، فقال المهلب حسبك يرحمك الله- . و كان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل- مملوء حصا للتسبيح فكان يسبح بواحدة واحدة- فإذا مل طرح اثنتين اثنتين ثم ثلاثا ثلاثا- فإذا ازداد ملالة قبض قبضة و قال سبحان الله عددك- فإذا ضجر أخذ بعرا الزنبيل و قلبه- و قال سبحان الله بعدد هذا- . و دخل قوم منزل الخريمي لبعض الأمر- فجاء وقت صلاة الظهر فسألوه عن القبلة- فقال إنما تركتها منذ شهر- . و حكى بعضهم قال رأيت أعرابيا يبكي- فسألته عن سبب بكائه فقال بلغني أن جالوت قتل مظلوما- . وصف بعضهم أحمق فقال يسمع غير ما يقال- و يحفظ غير ما يسمع و يكتب غير ما يحفظ- و يحدث بغير ما يكتب- . قال المأمون لثمامة ما جهد البلاء يا أبا معن- قال عالم يجري عليه حكم جاهل- قال من أين قلت هذا- قال حبسني الرشيد عند مسرور الكبير- فضيق علي أنفاسي فسمعته يوما يقرأ- فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بفتح الذال- فقلت له لا تقل أيها الأمير هكذا قل لِلْمُكَذِّبِينَ- و كسرت له الذال لأن المكذبين هم الأنبياء- فقال قد كان يقال لي عنك أنك قدري- فلا نجوت إن نجوت الليلة مني- فعاينت منه تلك الليلة الموت من شدة ما عذبني- . قال أعرابي لابنه يا بني كن سبعا خالصا- أو ذئبا حائسا أو كلبا حارسا- و لا تكن أحمق ناقصا- .
و كان يقال لو لا ظلمة الخطإ ما أشرق نور الصواب- . و قال أبو سعيد السيرافي رأيت متكلما ببغداد- بلغ به نقصه في العربية أنه قال في مجلس مشهور- إن العبد مضطر بفتح الطاء و الله مضطر بكسرها- و زعم أن من قال الله مضطر عبد إلى كذا بالفتح كافر- فانظر أين بلغ به جهله و إلى أي رذيلة أداه نقصه- .
وصف بعضهم إنسانا أحمق فقال- و الله للحكمة أزل عن قلبه من المداد عن الأديم الدهين- . مر عمر بن الخطاب على رماة غرض- فسمع بعضهم يقول أخطيت و أسبت- فقال له مه فإن سوء اللحن شر من سوء الرماية- . تضجر عمر بن عبد العزيز من كلام رجل بين يديه- فقال له صاحب شرطته قم فقد أوذيت أمير المؤمنين- فقال عمر و الله إنك لأشد أذى لي بكلامك هذا منه- . و من حمقى العرب و جهلائهم كلاب بن صعصعة- خرج إخوته يشترون خيلا فخرج معهم فجاء بعجل يقوده- فقيل له ما هذا فقال فرس اشتريته- قالوا يا مائق هذه بقرة أ ما ترى قرنيها- فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ثم قادها- فقال لهم قد أعدتها فرسا كما تريدون- فأولاده يدعون بني فارس البقرة- . و كان شذرة بن الزبرقان بن بدر من الحمقى- جاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع فأخذ بعضادتي الباب- ثم رفع صوته سلام عليكم أ يلج شذرة- فقيل له هذا يوم لا يستأذن فيه- فقال أ و يلج مثلي على قوم و لم يعرف له مكانه- .
و استعمل معاوية عاملا من كلب فخطب يوما- فذكر المجوس فقال لعنهم الله ينكحون أمهاتهم- و الله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي- فبلغ ذلك معاوية فقال- قبحه الله أ ترونه لو زادوه فعل- و عزله- . و شرد بعير لهبنقة و اسمه يزيد بن شروان- فجعل ينادي لمن أتى به بعيران- فقيل له كيف تبذل ويلك بعيرين في بعير- فقال لحلاوة الوجدان- . و سرق من أعرابي حمار فقيل له أ سرق حمارك- قال نعم و أحمد الله- فقيل له على ما ذا تحمده قال كيف لم أكن عليه- . و خطب وكيع بن أبي سود بخراسان- فقال إن الله خلق السماوات و الأرض في ستة أشهر- فقيل له إنها ستة أيام- فقال و الله لقد قلتها و أنا أستقلها- . و أجريت خيل فطلع فيها فرس سابق- فجعل رجل من النظارة يكبر و يثبت من الفرح- فقال له رجل إلى جانبه يا فتى أ هذا الفرس السابق لك- قال لا و لكن اللجام لي- . و قيل لأبي السفاح الأعرابي عند موته أوص- فقال إنا الكرام يوم طخفة- قالوا قل خيرا يا أبا السفاح- قال إن أحبت امرأتي فأعطوها بعيرا- قالوا قل خيرا قال إذا مات غلامي فهو حر- . و قيل لرجل عند موته قل لا إله إلا الله فأعرض- فأعادوا عليه مرارا- فقال لهم أخبروني عن أبي طالب قالها عند موته- قالوا و ما أنت و أبو طالب- فقال أرغب بنفسي عن ذلك الشريف- .
و قيل لآخر عند موته أ لا توصي فقال أنا مغفور لي- قالوا قل إن شاء الله قال قد شاء الله ذلك- قالوا يا هذا لا تدع الوصية- فقال لابني أخيه يا ابني حريث ارفعا وسادي- و احتفظا بالحلة الجياد فإنما حولكما الأعادي- . و قيل لمعلم بن معلم ما لك أحمق- فقال لو لم أكن أحمق لكنت ولد زنا
( شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 18 ، صفحه ى 159-167)
|