478وَ قَالَ ع: يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَ بَاهِتٌ مُفْتَرٍقال الرضي رحمه الله تعالى: و هذا مثل قوله ع يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ مُحِبٌّ غَالٍ وَ مُبْغِضٌ قَالٍ قد تقدم شرح مثل هذا الكلام- و خلاصة هذا القول أن الهالك فيه المفرط و المفرط- أما المفرط فالغلاة- و من قال بتكفير أعيان الصحابة و نفاقهم أو فسقهم- و أما المفرط فمن استنقص به ع- أو أبغضه أو حاربه أو أضمر له غلا- و لهذا كان أصحابنا أصحاب النجاة و الخلاص- و الفوز في هذه المسألة- لأنهم سلكوا طريقة مقتصدة- قالوا هو أفضل الخلق في الآخرة- و أعلاهم منزلة في الجنة و أفضل الخلق في الدنيا- و أكثرهم خصائص و مزايا و مناقب- و كل من عاداه أو حاربه أو أبغضه فإنه عدو لله سبحانه- و خالد في النار مع الكفار و المنافقين- إلا أن يكون ممن قد ثبتت توبته و مات على توليه و حبه- . فأما الأفاضل من المهاجرين و الأنصار- الذين ولوا الإمامة قبله- فلو أنه أنكر إمامتهم و غضب عليهم و سخط فعلهم- فضلا عن أن يشهر عليهم السيف- أو يدعو إلى نفسه- لقلنا إنهم من الهالكين- كما لو غضب عليهم رسول الله ص- لأنه قد ثبت
أن رسول الله ص قال له حربك حربي و سلمك سلمي
- و أنه قال اللهم وال من والاه و عاد من عاداه
و قال له لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
- و لكنا رأينا رضي إمامتهم و بايعهم و صلى خلفهم- و أنكحهم و أكل من فيئهم- فلم يكن لنا أن نتعدى فعله- و لا نتجاوز ما اشتهر عنه- أ لا ترى أنه لما برئ من معاوية برئنا منه و لما لعنه لعناه- و لما حكم بضلال أهل الشام- و من كان فيهم من بقايا الصحابة كعمرو بن العاص- و عبد الله ابنه و غيرهما حكمنا أيضا بضلالهم- . و الحاصل أنا لم نجعل بينه و بين النبي ص إلا رتبة النبوة- و أعطيناه كل ما عدا ذلك من الفضل المشترك بينه و بينه- و لم نطعن في أكابر الصحابة- الذين لم يصح عندنا أنه طعن فيهم- و عاملناهم بما عاملهم ع به
فصل فيما قيل في التفضيل بين الصحابة
و القول بالتفضيل قول قديم- قد قال به كثير من الصحابة و التابعين- فمن الصحابة عمار و المقداد و أبو ذر و سلمان- و جابر بن عبد الله و أبي بن كعب و حذيفة- و بريدة و أبو أيوب و سهل بن حنيف- و عثمان بن حنيف و أبو الهيثم بن التيهان- و خزيمة بن ثابت و أبو الطفيل عامر بن واثلة- و العباس بن عبد المطلب و بنوه- و بنو هاشم كافة و بنو المطلب كافة- . و كان الزبير من القائلين به في بدء الأمر- ثم رجع و كان من بني أمية قوم يقولون بذلك- منهم خالد بن سعيد بن العاص و منهم عمر بن عبد العزيز- . و أنا أذكر هاهنا الخبر المروي المشهور عن عمر- و هو من رواية ابن الكلبي- قال بينا عمر بن عبد العزيز جالسا في مجلسه- دخل حاجبه و معه امرأة أدماء طويلة- حسنة الجسم و القامة- و رجلان متعلقان بها- و معهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر- فدفعوا إليه الكتاب- ففضه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم- إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز- من ميمون بن مهران- سلام عليك و رحمة الله و بركاته- أما بعد فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور- و عجزت عنه الأوساع و هربنا بأنفسنا عنه- و وكلناه إلى عالمه لقول الله عز و جل- وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ- لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ- و هذه المرأة و الرجلان أحدهما زوجها و الآخر أبوها- و إن أباها يا أمير المؤمنين زعم أن زوجها حلف بطلاقها- أن علي بن أبي طالب ع خير هذه الأمة- و أولاها برسول الله ص- و أنه يزعم أن ابنته طلقت منه- و أنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهرا- و هو يعلم أنها حرام عليه كأمه- و إن الزوج يقول له كذبت و أثمت- لقد بر قسمي و صدقت مقالتي- و إنها امرأتي على رغم أنفك و غيظ قلبك- فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك- فسألت الرجل عن يمينه فقال نعم قد كان ذلك- و قد حلفت بطلاقها أن عليا خير هذه الأمة- و أولاها برسول الله ص- عرفه من عرفه و أنكره من أنكره- فليغضب من غضب و ليرض من رضي- و تسامع الناس بذلك فاجتمعوا له- و إن كانت الألسن مجتمعة فالقلوب شتى- و قد علمت يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم- و تسرعهم إلى ما فيه الفتنة- فاحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك الله- و إنهما تعلقا بها- و أقسم أبوها ألا يدعها معه- و أقسم زوجها ألا يفارقها و لو ضربت عنقها- إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم- لا يستطيع مخالفته و الامتناع منه- فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين- أحسن الله توفيقك و أرشدك- . و كتب في أسفل الكتاب-
إذا ما المشكلات وردن يوما فحارت في تأملها العيون
و ضاق القوم ذرعا عن نباها
فأنت لها أبا حفص أمين
لأنك قد حويت العلم طرا و أحكمك التجارب و الشئون
و خلفك الإله على الرعايا
فحظك فيهم الحظ الثمين
- . قال فجمع عمر بن عبد العزيز- بني هاشم و بني أمية و أفخاذ قريش- ثم قال لأبي المرأة ما تقول أيها الشيخ- قال يا أمير المؤمنين هذا الرجل زوجته ابنتي- و جهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها- حتى إذا أملت خيره و رجوت صلاحه- حلف بطلاقها كاذبا ثم أراد الإقامة معها- فقال له عمر يا شيخ لعله لم يطلق امرأته- فكيف حلف قال الشيخ سبحان الله- الذي حلف عليه لأبين حنثا و أوضح كذبا- من أن يختلج في صدري منه شك- مع سني و علمي لأنه زعم أن عليا خير هذه الأمة- و إلا فامرأته طالق ثلاثا- فقال للزوج ما تقول أ هكذا حلفت قال نعم- فقيل إنه لما قال نعم كاد المجلس يرتج بأهله- و بنو أمية ينظرون إليه شزرا- إلا أنهم لم ينطقوا بشي ء كل ينظر إلى وجه عمر- . فأكب عمر مليا ينكت الأرض بيده- و القوم صامتون ينظرون ما يقوله- ثم رفع رأسه و قال-
إذا ولي الحكومة بين قوم أصاب الحق و التمس السدادا
و ما خير الإمام إذا تعدى
خلاف الحق و اجتنب الرشادا
- . ثم قال للقوم ما تقولون في يمين هذا الرجل- فسكتوا فقال سبحان الله قولوا- فقال رجل من بني أمية هذا حكم في فرج- و لسنا نجترئ على القول فيه- و أنت عالم بالقول مؤتمن لهم و عليهم- قل ما عندك فإن القول ما لم يكن يحق باطلا و يبطل حقا- جائز علي في مجلسي- . قال لا أقول شيئا- فالتفت إلى رجل من بني هاشم- من ولد عقيل بن أبي طالب- فقال له ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي- فاغتنمها فقال يا أمير المؤمنين- إن جعلت قولي حكما أو حكمي جائزا قلت- و إن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي و أبقى للمودة- قال قل و قولك حكم و حكمك ماض- . فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا- ما أنصفتنا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا- و نحن من لحمتك و أولى رحمك- فقال عمر اسكتوا أ عجزا و لؤما- عرضت ذلك عليكم آنفا فما انتدبتم له- قالوا لأنك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي- و لا حكمتنا كما حكمته- فقال عمر إن كان أصاب و أخطأتم- و حزم و عجزتم و أبصر و عميتم فما ذنب عمر- لا أبا لكم أ تدرون ما مثلكم- قالوا لا ندري قال لكن العقيلي يدري- ثم قال ما تقول يا رجل- قال نعم يا أمير المؤمنين كما قال الأول-
دعيتم إلى أمر فلما عجزتم تناوله من لا يداخله عجز
فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم
نداما و هل يغني من القدر الحذر
- . فقال عمر أحسنت و أصبت فقل ما سألتك عنه- قال يا أمير المؤمنين بر قسمه و لم تطلق امرأته- قال و أنى علمت ذاك- قال نشدتك الله يا أمير المؤمنين- أ لم تعلم
أن رسول الله ص قال لفاطمة ع- و هو عندها في بيتها عائد لها- يا بنية ما علتك قالت الوعك يا أبتاه- و كان علي غائبا في بعض حوائج النبي ص- فقال لها أ تشتهين شيئا قالت نعم أشتهي عنبا- و أنا أعلم أنه عزيز و ليس وقت عنب- فقال ص إن الله قادر على أن يجيئنا به- ثم قال اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة- فطرق علي الباب- و دخل و معه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه- فقال له النبي ص ما هذا يا علي- قال عنب التمسته لفاطمة- فقال الله أكبر الله أكبر- اللهم كما سررتني بأن خصصت عليا بدعوتي- فاجعل فيه شفاء بنيتي- ثم قال كلي على اسم الله يا بنية فأكلت- و ما خرج رسول الله ص حتى استقلت و برأت
- فقال عمر صدقت و بررت أشهد لقد سمعته و وعيته- يا رجل خذ بيد امرأتك- فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه- ثم قال يا بني عبد مناف و الله ما نجهل ما يعلم غيرنا- و لا بنا عمى في ديننا و لكنا كما قال الأول-
تصيدت الدنيا رجالا بفخها فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا
و أعماهم حب الغنى و أصمهم
فلم يدركوا إلا الخسارة و الوزرا
- . قيل فكأنما ألقم بني أمية حجرا- و مضى الرجل بامرأته- . و كتب عمر إلى ميمون بن مهران- عليك سلام- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإني قد فهمت كتابك و ورد الرجلان و المرأة- و قد صدق الله يمين الزوج و أبر قسمه- و أثبته على نكاحه- فاستيقن ذلك و اعمل عليه- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- . فأما من قال بتفضيله على الناس كافة من التابعين- فخلق كثير- كأويس القرني و زيد بن صوحان و صعصعة أخيه- و جندب الخير و عبيدة السلماني- و غيرهم ممن لا يحصى كثرة- و لم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العصر- إلا لمن قال بتفضيله- و لم تكن مقالة الإمامية و من نحا نحوها- من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ- على هذا النحو من الاشتهار- فكان القائلون بالتفضيل هم المسمون الشيعة- و جميع ما ورد من الآثار و الأخبار في فضل الشيعة- و أنهم موعودون بالجنة- فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم- و لذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم و تصانيفهم- نحن الشيعة حقا- فهذا القول هو أقرب إلى السلامة و أشبه بالحق- من القولين المقتسمين طرفي الإفراط و التفريط إن شاء الله
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 20، ص 220 - 226)
|