الفصل العاشر منها فى صفة آدم عليه السّلام
ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها، تربة سنّها بالماء حتّى خلصت، و لاطها بالبلّة حتّى لزبت، فجبل (فجعل خ) منها صورة ذات أحناء و وصول، و أعضاء و فصول، أجمدها حتّى استمسكت، و أصلدها حتّى صلصلت، لوقت معدود، و أجل معلوم، و نفخ فيها من روحه فتمثّلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، و فكر يتصرّف بها، و جوارح يختدمها، و أدوات يقلّبها، و معرفة يفرّق بها بين الحقّ و الباطل، و الأذواق و المشامّ، و الألوان و الأجناس، معجونا بطينة الألوان المختلفة، و الأشباه المؤتلفة، و الأضداد المتعادية، و الأخلاط المتباينة، من الحرّ و البرد، و البلّة و الجمود، و المسائة و السّرور.
اللغة
(الحزن) من الأرض ما غلظ منها و هو على وزن فلس (و السّهل) خلافه (و العذب) من الأرض ما طاب منها و استعد للنّبات (و السّبخ) كفلس أيضا المالحة منها يعلوها الملوحة الغير الصّالحة للنّبات و لا تكاد تنبت إلّا بعض الأشجار و مثله السّبخة بفتح الموحدة و سكونها أيضا تخفيفا واحدة السّباخ مثل كلبة و كلاب بالكسر أيضا يجمع على سبخات مثل كلمة و كلمات (و التّربة) التّراب و الجمع ترب كغرفة و غرف (سنها بالماء) من سننت الماء على الأرض صببتها (و لاطها) أى مزجها من لاط الشّي ء بالشي ء لوطا لصق (و البلة) بالكسر الرّطوبة من البلل (و اللّزوب) الاشتداد يقال لزب الشّي ء لزوبا من باب قعد اشتدّ، و طين لازب يلزق باليد لاشتداده (فجبل) و فى بعض النّسخ (فجعل) و كلاهما بمعنى خلق (و احناء) جمع حنو و هو الجانب و (وصول) جمع الوصل كما أنّ (فصول) جمع الفصل و هما كلّ ملتقى عظمين في الجسد يطلق عليه باعتبار اتّصال أحد العظمين بالآخر وصولا و أوصالا، و باعتبار انفصال أحدهما عن الآخر فصولا و مفاصل.
و تفسير الشّارح البحراني الوصول بالمفاصل غير مناسب لما عرفت من ترادف المفاصل للفصول و إن كان محل الوصل عين محلّ الفصل إلّا أنّ التّغاير بحسب الاعتبار موجود و ملحوظ نعم مصداقهما متّحد (و أصلدها) من الصّلد و هو الصلب المتين و (صلصل) الشي ء صلصلة إذا صوّت يقال صلصل الحديد و صلصل الرّعد و الصّلصال الطين اليابس الغير المطبوخ الذي يسمع له عند النّقر صوت كما يصوت الفخار و هو المطبوخ من الطين، و قيل: إنّ الصّلصال هو الطين المنتن مأخوذ من صلّ اللحم و أصلّ إذا صار منتنا، و هو ضعيف لما سنذكره (فتمثّلت) أى تصورت و في بعض النّسخ فمثلت من مثل بين يديه مثولا من باب قعد انتصب قائما (و الأذهان) جمع الذّهن و هو الفطنة و في الاصطلاح القوى الباطنة المدركة (و الاختدام) الاستخدام (و الأدوات) الآلات (و المشام) جمع المشموم لما يشم كالمأكول لما يؤكل (معجونا) من عجنه عجنا أى خمره و العجين الخمير (و الطينة) الخلقة و الجبلة (و الاشباه) جمع الشبه المثل و النظير.
الاعراب
كلمة حتّى في قوله حتّى خلصت و حتّى لزبت حرف ابتداء يبتدء بها الجمل المستأنفة مثل قوله:«ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا».
و ذهب ابن مالك إلى أنّها جارة و أنّ بعدها ان مضمرة قال ابن هشام: و لا أعرف له في ذلك سلفا و فيه تكلّف اضماران من غير ضرورة، و لفظة ذات منصوبة على الوصفية مؤنثة ذو، و جملة أجمدها لا محلّ لها من الاعراب لأنّها مستأنفة بيانيّة فكأنّه قيل: ثم فعل بها ما ذا فقال: أجمدها و تحتمل الانتصاب على الحالية، و الضمير فيه و في أصلدها راجع إلى الصّورة، و اللّام في قوله عليه السّلام لوقت معدود للتّعليل أو بمعنى إلى، و الضمير في قوله عليه السّلام: نفخ فيها راجع إلى الصّورة أيضا، و كلمة من في قوله من روحه زائدة أو تبعّضية أو نشوية بناء على الاختلاف في معنى الرّوح حسبما تعرفه، و معجونا منتصب على الحاليّة من انسانا و يحتمل الوصفية له، و كلمة من في قوله: من الحرّ و البرد بيانية.
المعنى
(منها في صفة آدم عليه السّلام) يعنى بعض هذه الخطبة في صفته عليه السّلام فانّه عليه السّلام لمّا فرغ من اظهار قدرة اللّه سبحانه في عجائب خلقة الملكوت و السّماوات و بدايع صنعته في ايجاد الفضاء و الهواء و المجرّدات أشار إلى لطائف صنعه في العنصريات من ايجاد الانسان و اختياره على الأشباه و الأقران لكونه نسخة جامعة لما في عالم الملك و الملكوت، و نخبة مصطفاة من رشحات القدرة و الجبروت،
من ايجاد الانسان و اختياره على الأشباه و الأقران لكونه نسخة جامعة لما في عالم الملك و الملكوت، و نخبة مصطفاة من رشحات القدرة و الجبروت،
أ تزعم أنك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الاكبر
فقال عليه السّلام: (ثمّ جمع سبحانه) اسناد الجمع إليه تعالى من التّوسع في الاسناد من باب بنى الأمير المدينة إذ الجمع حقيقة فعل ملك الموت بأمر اللّه سبحانه بعد أن اقتضت الحكمة خلقة آدم و جعله خليفة في الأرض.
قال سيد بن طاوس في كتاب سعد السّعود على ما حكى عنه في البحار: وجدت في صحف إدريس من نسخة عتيقة أنّ الأرض عرّفها اللّه جلّ جلاله أنّه يخلق منها خلقا فمنهم من يطيعه و منهم من يعصيه، فاقشعرت الأرض و استعفت إليه و سألته أن لا يأخذ منها من يعصيه و يدخله النّار و أنّ جبرئيل أتاها ليأخذ عنها طينة آدم عليه السّلام فسألته بعزّة اللّه أن لا يأخذ منها شيئا حتّى يتضرّع إلى اللّه و تضرّعت فأمره اللّه بالانصراف عنها، فأمر اللّه ميكائيل فاقشعرّت و تضرّعت و سألت فأمره اللّه الانصراف عنها، فأمر اللّه تعالى اسرافيل بذلك فاقشعرّت و سألت و تضرّعت فأمره اللّه بالانصراف عنها، فأمر عزرائيل فاقشعرّت و تضرّعت فقال: قد أمرني ربّي بأمر أنا ماض سرّك ذاك أم سائك فقبض منها كما أمره اللّه ثمّ صعد بها إلى موقفه فقال اللّه له: كما وليت قبضها من الأرض و هو كاره كذلك تلي قبض أرواح كلّ من عليها و كلّما قضيت عليه الموت من اليوم إلى يوم القيامة و مضمون هذه الرّواية مطابق لأخبار أهل البيت عليهم السّلام، فانّ الموجود فيها أيضا أنّ القابض هو عزرائيل و أنّه قبض (من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها) أى من غليظها و ليّنها و طيبها و مالحها، و هذه إشارة إلى أنّ القبضة المأخوذة من غير محلّ واحد من وجه الأرض و يوافقه ساير الأخبار، و لعلّ ذلك هو السّر في تفاوت أنواع الخلق لاستناده إلى اختلاف المواد و في بعض الأخبار أنّها اخذت من أديم الأرض أى من وجهها و منه سمّي آدم و المراد أنّه جمع سبحانه من أجزاء الأرض المختلفة (تربة سنّها بالماء) أى مزجها به (حتى خلصت) أى صارت خالصة (و لاطها) أى ألصقها (بالبلة) أى بالرّطوبة (حتى لزبت) و اشتدت.
قيل: هاتان الفقرتان إشارتان إلى أصل امتزاج العناصر و إنّما خصّ الأرض و الماء لأنهما الأصل في تكون الأعضاء المشاهدة التي تدور عليها صورة الانسان المحسوسة (فجبل) (فجعل خ) منها (صورة ذات أحناء و وصول) أى صاحبة جوانب و أوصال (و اعضاء و فصول) أى جوارح و مفاصل.
و هاتان إشارتان إلى خلق الصورة الانسانية و إفاضتها بكمال أعضائها و جوارحها و مفاصلها و ما يقوم به صورتها (أجمدها حتى استمسكت، و أصلدها حتى صلصلت) أى جعلها جامدة بعد ما كانت رطبة ليّنة حتّى صار لها استمساك و قوام، و جعلها صلبة متينة حتى صارت صلصالا يابسا يسمع له عند النّقر صوت كصلصلة الحديد.
و قال بعضهم: إنّ الصّلصال هو المنتن و كلام الامام عليه السّلام شاهد على فساده حيث إنّه عليه السّلام نبّه بحصول الاستمساك بعد الجمود و حصول الصّلصالية بعد الصلود و من الواضح أنّ النّتن يرتفع مع حصول الجمود و اليبوسة فهو على تقدير وجوده انّما كان قبل تلك الحالة و هي حالة المسنونية المشار اليها في قوله تعالى:«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ».
قال الفخر الرّازي كونه حماء مسنونا يدلّ على النّتن و التغير و ظاهر الآية يدلّ على أنّ هذا الصّلصال إنّما تولد من الحمإ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالا مغاير الكونه حمأ مسنونا، و لو كان كونه صلصالا عبارة عن النّتن و التغير لم يبق بين كونه صلصالا و بين كونه حمأ مسنونا تفاوت، انتهى هذا.
و يحتمل أن تكون هاتان الفقرتان إشارة إلى قوام مادّة الانسان، فالاجماد لغاية الاستمساك راجع إلى بعض أجزاء الصّورة المجعولة كاللّحم و العروق و الأعصاب و نحوها، و الاصلاد راجع إلى البعض الاخر كالأسنان و العظام و بعد أن أكمل اللّه سبحانه للصّورة أعضائها و جوارحها و هيّئها لقبول الرّوح أبقاها (لوقت معدود و أجل معلوم) أى لأجل وقت أو الى وقت معيّن اقتضت الحكمة و المصلحة نفخ الرّوح فيها، و إلى هذا الوقت اشير في قوله تعالى:«هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً».
قال في مجمع البيان: و قد كان شيئا إلا انه لم يكن شيئا مذكورا، لأنّه كان ترابا و طينا إلى أن نفخ فيه الرّوح، و قيل إنّه أتى على آدم أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء و لا في الأرض، لأنّه كان جسدا ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الرّوح.
و روى عطا عن ابن عبّاس أنّه تمّ خلقه بعد عشرين و مأئة سنة انتهى.
و عن بعض الصّحف السّماويّة أنّ طينة آدم عليه السّلام عجنت أربعين سنة ثم جعلت لازبا، ثم جعلت حمأ مسنونا أربعين سنة ثمّ جعلت صلصالا كالفخار أربعين سنة، ثمّ جعلت جسدا ملقى على طريق الملائكة أربعين سنة و نفخ فيها من روحه بعد تلك المدّة.
و في العلل باسناده عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام أسأله عن علّة الغائط و نتنه، قال: إنّ اللّه خلق آدم و كان جسده طيّبا فبقى أربعين سنة ملقى تمرّ به الملائكة فتقول لأمر ما خلقت، و كان ابليس يدخل في فيه و يخرج من دبره فلذلك صار ما في جوف آدم منتنا خبيثا غير طيّب و في البحار عن الخصال و تفسير الفرات باسناده عن الحسن عليه السّلام فيما سأله كعب الأحبار أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لما أراد اللّه خلق آدم بعث جبرئيل فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب و المالح و ركب فيه الطبايع قبل أن ينفخ فيه الرّوح فخلقه من أديم الأرض فطرحه كالجبل العظيم، و كان إبليس يومئذ خازنا على السّماء الخامسة يدخل في منخر آدم ثم يخرج من دبره ثم يضرب بيده على بطنه فيقول لأي امر خلقت لئن جعلت فوقي لا اطعتك، و لئن جعلت أسفل منّي لأعينك فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الرّوح الحديث.
و وجه الجمع بين هذه الرّواية و ما سبق من حيث اختلافهما في مقدار مدّة تأخير النّفخ غير خفي على العارف الفطن.
فان قيل: لما ذا أخّر نفخ الرّوح في تلك المدّة الطويلة.
قلنا: لعلّه من باب اللّطف في حقّ الملائكة لتذهب ظنونهم في ذلك كلّ مذهب فصار كانزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان في تخريجها و في ضمن ذلك يكون اللّطف، و يجوز أن يكون في اخبار ذريّة آدم بذلك لطف لهم و لا يجوز اخبارهم بذلك إلّا إذا كان المخبر عنه حقّا.
أقول: هكذا أجاب الشّارح المعتزلي، و يشير إلى جوابه الأوّل الرّواية السّابقة فيما حكاه عليه السّلام من قول ابليس لأيّ أمر خلقت اه.
و الأولى أن يقال: إنّ السرّ فيه لعلّة اعتبار الملائكة، إذ الاعتبار في التدريج أكثر أو ليعلم النّاس التّأني في الأمور و عدم الاستعجال، و مثله خلق السّماوات و الارض في ستّة أيام على ما نطق به القرآن الحكيم مع أنّه سبحانه كان قادرا على خلقها في طرفة عين، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لو شاء أن يخلقها في أقلّ من لمح البصر لخلق، و لكنّه جعل الانائة و المداراة مثالا لأمنائه و ايجابا للحجّة على خلقه.
(و) كيف كان فلما حلّ الأجل الذي اقتضت الحكمة فيه النّفخ (نفخ فيها) أى في الصّورة المستعدة لقبول النّفخ (من روحه) الذي اصطفاه على ساير الأرواح و المراد بنفخ الرّوح فيها إفاضته عليها، استعير به عنها لأنّ نفخ الرّيح في الوعاء لما كان عبارة عن إدخال الرّيح في جوفه و كان الاحياء عبارة عن إفاضة النّفس على الجسد و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثّة باطنا و ظاهرا حسن الاستعارة.
قال بعض المتألهين: إنّ النّفخ لمّا كان عبارة عن تحريك هواء يشتعل به الحطب و نحوه كالفحم فالبدن كالفحم و هذا الرّوح كالهواء الذي في منافذ الفحم و أجوافه، و النّفخ سبب لاشتعال الرّوح البخاري بنار النّفس و تنورها بنور الروح الامري فللنّفخ صورة و حقيقة و نتيجة، فصورته إخراج الهواء من آلة النّفخ إلى جوف المنفوخ فيه حتّى تشتعل نارا و هذه الصّورة في حق اللّه محال، و لكن النتيجة و المسبب غير محال، و قد يكنّى بالسّبب عن النتيجة و الأثر المترتب عليه كقوله تعالى:«غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» «وَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ».
و صورة الغضب عبارة عن نوع تغير في نفس الغضبان يتأذى به و نتيجته إهلاك المغضوب عليه أو جرحه و ايلامه فعبر في حقّ اللّه عن نتيجة الغضب بالغضب و عن نتيجة الانتقام بالانتقام، فكذلك يمكن أن يقال هاهنا: إنه عبّر عمّا ينتج نتيجة النّفخ بالنفخ و إن لم يكن على صورة النّفخ و لكن نحن لا نكتفي في الأسماء التي هي مبادي أفعال اللّه بهذا القدر، و هو مجرّد ترتّب الأثر من غير حقيقة تكون بازاء الصورة، بل نقول: حقيقة النّفخ الذي في عالم الصّورة عبارة عن إخراج شي ء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه كالزّقّ و نحوه هي إفاضة نور سر الرّوح العلوي الالهي على القالب اللّطيف المعتدل المستوي أعني به الرّوح الحيواني القابل لفيضان النّور العقلي و الروح الالهي كقبول البلور لفيضان النّور الحسي من الشّمس النافذ في أجزائه و أقطاره و هكذا يكون
أنوار الحسّ و الحياة نافذة في كل جزء من أجزاء القالب و البدن، فعبر عن إضافة الروح على البدن بالنّفخ فيه انتهى.
بقى الكلام في إضافة الروح إليه سبحانه، فنقول: إنّ الافاضة من باب التشريف و الاكرام، روى في الكافي باسناده عن محمّد بن مسلم، قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ و نفخت فيه من روحى كيف هذا النفخ فقال: إنّ الرّوح متحرّك كالرّيح و إنّما سمّي روحا لأنّه اشتق اسمه من الرّيح، و إنّما إخراجه على لفظة الرّيح لأنّ الأرواح مجانسة«» للرّيح، و إنّما أضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على ساير الأرواح كما قال لبيت من البيوت، بيتي، و لرسول من الرّسل خليلي و أشباه ذلك و كلّ ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبّر.
و مثل إضافة الروح إليه تعالى إضافة الصّورة إليه سبحانه في بعض الأخبار كما رواه في الكافي عن محمّد بن مسلم أيضا قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يروون أنّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته فقال: هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه تعالى و اختارها على ساير الصّور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه و الرّوح إلى نفسه فقال: بيتي و نفخت فيه من روحى هذا.
و لكن الصّدوق روى في العيون باسناده عن الحسين بن خالد قال: قلت للرّضا عليه السّلام: يابن رسول اللّه إنّ النّاس يروون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه خلق آدم على صورته فقال: قاتلهم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح اللّه وجهك و وجه من يشبهك، فقال رسول اللّه:
يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك فان اللّه عزّ و جلّ خلق آدم على صورته.
فانّ المستفاد من هذه الرّواية رجوع الضّمير في صورته إلى الرّجل المسبوب، و إنّما لم يتعرّض الباقر عليه السّلام في الرّواية الاولى لردّه و لم يشر إلى تحريف الرّواية إمّا للتّقية أو إشارة إلى أنّ الرّواية على تقدير صحّتها أيضا لا دلالة فيها على ما هو مطلوب العامة من اعتقاد التّجسيم و إثبات الصّورة له، سبحانه عمّا يقول الظالمون و تعالى علوّا كبيرا.
و ربّما يجاب بأنّ المراد أنّه على صورته لأنّه مظهر الصّفات الكماليّة الالهيّة، أو يقال: إنّ الضّمير راجع إلى آدم أى صورته اللّايقة به المناسبة له هذا.
و قد تحقّق بما ذكرناه كلّه معنى نفخ الرّوح و وجه المناسبة في إضافته إلى الضّمير الرّاجع إليه تعالى.
و أمّا نفس الرّوح فاعلم أنّه قد يطلق على النّفس النّاطقة التي تزعم الحكماء أنّها مجردة، و هي محلّ للعلوم و الكمالات و مدبّرة للبدن، و قد يطلق على الروح الحيواني و هو البخار اللّطيف المنبعث من القلب السّاري في جميع أجزاء البدن، و يمكن إرادة المعنيين كليهما من الرّوح المنفوخ في آدم، و قد استفيد من قول الباقر عليه السّلام في الرّواية السّابقة: إنّ الرّوح متحرّك كالرّيح كون الرّوح متحرّكا سريعا في جميع أجزاء البدن و أنّه يجري آثاره في تجاويف أعضائه فيصلح البدن و يحيى ما دام فيه، كما أنّ الرّيح متحرّك سريعا في أقطار العالم و يجري آثاره فيها فيصلح العالم بجريانه و يفسد بفقدانه.
و في الاحتجاج في جملة مسائل الزّنديق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: فهل يوصف الرّوح بخفّة و ثقل و وزن قال عليه السّلام: الرّوح بمنزلة الرّيح في الزّقّ إذا نفخت فيه امتلاء الزّقّ منها فلا يزيد في وزن الزّقّ و لوجها فيه و لا ينقصها خروجها منه كذلك الرّوح ليس لها ثقل و لا وزن، قال: أخبرني ما جوهر الرّيح قال عليه السّلام:
الرّيح هواء إذا تحرك سمّي ريحا و إذا سكن سمّي هواء و به قوام الدنيا و لو كفت الرّيح ثلاثة أيام لفسد كلّ شي ء على وجه الأرض و نتن. و ذلك إنّ الرّيح بمنزلة مروحة تذب و تدفع الفساد عن كلّ شي ء و تطيّبه فهي بمنزلة الرّوح إذا خرج عن البدن نتن البدن و تغيّر تبارك اللّه أحسن الخالقين (فتمثّلت) الصّورة المجبولة بعد نفخ الرّوح (إنسانا).
روى في العلل مرفوعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: سمّي الانسان إنسانا لأنّه ينسي و قال اللّه عزّ و جلّ: و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي.
و عن الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال: خلق اللّه آدم من أديم الأرض يوم الجمعة بعد العصر فسمّاه آدم ثمّ عهد اللّه فنسي فسمّاه الانسان، قال ابن عبّاس: فباللّه ما غابت الشّمس من ذلك اليوم حتّى اهبط من الجنّة.
و قال الرّاغب الانسان قيل سمّي بذلك لأنّه خلق خلقة لا قوام له إلّا بأنس بعضهم ببعض، و لهذا قيل الانسان مدنيّ بالطبع من حيث إنّه لا قوام لبعضهم إلّا ببعض و لا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه و محاوجه.
و قيل سمّي بذلك لأنّه يأنس بكلّ ما يألفه، و قيل هو افعلان و أصله انسيان سمّي بذلك لأنّه عهد إليه فنسي.
أقول: الانسان لو كان من الانس فوزنه فعلان و هو مذهب البصريّين، و لو كان من النّسي فوزنه إفعان أصله إنسيان على وزن إفعلان فحذفت الياء استخفافا لكثرة ما يجري على ألسنتهم و عند التّصغير يردّ إلى الأصل يقال انيسيان، و هو مذهب الكوفيّين و الرّواية السّابقة مؤيّدة لمذهبهم، و قوله عليه السّلام (ذا أذهان يجيلها) قال الشّارح البحراني: إشارة إلى ما للانسان من القوى الباطنة المدركة و المتصرّفة«» و معنى اجالتها تحريكها و بعثها في انتزاع الصّور الجزئية كما للحسّ المشترك، و المعاني الجزئية كما للوهم (و فكر يتصرف بها) أى صاحب حركات فكرية يتصرّف بها في امور معاشه و معاده، و إلّا فالقوّة المتفكّرة في الانسان واحدة و هي القوّة المودعة في مقدم البطن الأوسط من الدّماغ من شأنها تركيب الصّور بالصّور و المعاني بالمعاني و المعاني بالصّور و الصّور بالمعاني (و جوارح يختدمها، و أدوات يقلبها).
المراد بالجوارح و الادوات إمّا معنى واحد و هي الأعضاء و الآلات البدنيّة جميعا فانها خادمة للنّفس النّاطقة و واسطة التقليب، و إمّا أن المراد بالاولى الأعمّ و بالثّانية خصوص بعض الأعضاء ممّا يصحّ نسبة التّقليب و التّقلب اليه كاليد و الرّجل و البصر و القلب (و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل) و المراد بالمعرفة هي القوّة العاقلة إذ الحقّ و الباطل من الأمور الكليّة و التميّز بينها حظّ العقل (و) هي المفرّقة أيضا بين (الأذواق و المشام و الألوان و الأجناس).
و المراد بالأذواق المذوقات المدركة بالذّوق و هي قوّة منبثّة في العصب المفروش على سطح اللّسان التي يدرك بها الطعوم من الحلاوة و المرارة و الحموضة و الملوحة و غيرها.
و بالمشام المشمومات المدركة بالشمّ و هي قوّة مودعة في زائدتي مقدّم الدّماغ الشّبيهتين بحلمتي الثدى بها تدرك الروايح من الطيبة و المنتنة و غيرهما.
و بالألوان المبصرات المدركة بحس البصر و هي قوّة مرتبة في العصبتين المجوفتين اللّتين تتلاقيان فتفترقان إلى العينين التي بها يدرك الألوان من السّواد و البياض و الحمرة و الصّفرة و الأشكال«» و المقادير و الحركات و نحوها.
و بالأجناس الأمور الكلّية المنتزعة من تصفّح الجزئيّات و إدراكها و لذلك أخّر عليه السّلام ذكر الأجناس عنها إشارة إلى ما ذكر، و ذلك لأنّ النّفس بعد ما أدرك الجزئيّات بالمدركات و المشاعر السّالفة تتنبّه لمشاركات بينها و مباينات فاصلة بينها مميّزة لكلّ واحد منها عن الآخر، فتنتزع منها تصوّرات كليّة بعضها ما به الاشتراك بينها، و بعضها ما به امتياز إحداها عن الاخرى، و لعلّه اريد بالأجناس مطلق الامور الكليّة لا الجنس المصطلح في علم المنطق و الكلام.
فان قلت: التفرقة بين الأذواق و المشام و الألوان إنّما هو من فعل الحواسّ الظاهرة، إذ هي المدركة لها و المميزة بينها حسبما ذكرت فما معنى نسبته إلى العقل قلت: إدراك هذه و إن كان بالحواس المذكورة إلّا أنّها قد يقع فيها الشّك و المرجع فيها حينئذ إلى العقل لأنّه الرّافع للشّك عنها.
توضيح ذلك ما ورد في رواية الكافي باسناده عن يونس بن يعقوب، قال: كان عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين و محمّد بن النّعمان و هشام ابن سالم و الطيار و جماعة فيهم هشام بن الحكم و هو شاب، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا هشام الا تخبرني كيف صنعت بعمر و بن عبيد و كيف سألته فقال هشام: يابن رسول اللّه إنّي اجلّك و استحييك و لا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا أمرتكم بشي ء فافعلوا، قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علىّ فخرجت إليه و دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فاذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد و عليه شملة«» سوداء متزر«» بها من صوف و شملة مرتد«» بها و النّاس يسألونه فاستفرجت النّاس فافرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت:
أيّها العالم إنّي رجل غريب تأذنلي في مسألة فقال لي: نعم، فقلت
له: ألك عين فقال لي يا بنىّ أىّ شي ء تريد من هذا السؤال و شي ء تراه كيف تسأل عنه فقلت: هكذا مسألتي فقال: يا بنىّ سل و إن كانت مسألتك حمقاء، قلت: أجبني فيها، قال لي: سل، قلت: ألك عين قال: نعم، قلت: فما تصنع بها قال: أرى بها الألوان و الأشخاص قلت: فلك أنف قال: نعم، قلت: فما تصنع به قال: أشم به الرائحة، قلت: ألك فم قال: نعم، قلت: فما تصنع به قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك اذن قال: نعم، قلت: فما تصنع بها قال: أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب قال: نعم، قلت: فما تصنع به قال: أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح و الحواس، قلت: أ و ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب فقال: لا، قلت: و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة قال: يا بنىّ إنّ الجوارح إذا شكت في شي ء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستبين اليقين «فيستيقن خ» و يبطل الشّك، قال هشام: فقلت له: فانما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح قال: نعم قلت: لا بدّ من القلب و إلّا لم يستيقن الجوارح قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان فانّ اللّه تبارك و تعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماما يصحّ لها الصحيح و يتيقن به ما شككت فيه و يترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم و شكّهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكّهم و حيرتهم و يقيم لك إماما لجوارحك تردّ إليه حيرتك و شكّك قال: فسكت و لم يقل لي شيئا، ثمّ التفت إلىّ فقال لي: أنت هشام بن الحكم فقلت: لا، فقال: أمن جلسائه قلت: لا، قال: فمن أين أنت قلت: من أهل الكوفة، قال: فأنت إذا هو، ثمّ ضمّني إليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه و ما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد اللّه عليه السّلام فقال: يا هشام من علّمك هذا قلت: شي ء أخذته منك و الفته، فقال هذا و اللّه مكتوب في صحف إبراهيم و موسى.
قال بعض المحققين«» من شراح الحديث: و معنى شكّ الحواس و غلطها أنّ الحسّ أو الوهم المشوب بالحسّ يشك أو يغلط بسبب من الأسباب، ثمّ يعلم النّفس بقوّة العقل ما هو الحقّ المتيقّن كما يرى البصر العظيم صغيرا لبعده و الصغير كبيرا لقربه و الواحد اثنين لحول في العين و الشّجرة التي في طرف الحوض منكوسة لانعكاس شعاع البصر من الماء اليها، و السّمع يسمع الصّوت الواحد عند الجبل و نحوه ممّا فيه صلابة أو صقالة صوتين لمثل العلّة المذكورة من انعكاس الهواء المتموّج بكيفيّة المسموع إلى الصّماخ تارة اخرى و يقال للصوت الثّاني: الصّداء، و كما تجد الذّائقة الحلو مرّا لغلبة المرة الصّفراء على جرم اللّسان، و كذا تشمئزّ الشّامة من الرّوائح الطيبة بالزّكام فهذه و أمثالها أغلاط حسيّة يعرف القلب حقيقة الأمر فيها انتهى ما أهمّنا نقله.
و اتّضح به كلّ الوضوح أنّ التّفرقة بين الحقّ و الباطل و بين المحسوسات عند الشّكّ و الارتياب إنّما هي وظيفة العقل و القلب و هو اللّطيفة النّورانية المتعلّقة أوّل تعلّقها بهذا القلب الصّنوبري و نسبته إلى أعضاء الحسّ و الحركة كنسبة النّفس إلى قوى الحسّ و الحركة في أنّه ينبعث منه الدّم و الرّوح البخاري إلى ساير الأعضاء فالنّفس رئيس القوى و إمامها و القلب و هو مستقرّها و عرش استوائها باذن اللّه رئيس ساير الأعضاء و إمامها.
(معجونا) أى مخمرا ذلك الانسان (بطينة الألوان المختلفة) و أصلها و هذه إشارة إلى اختلاف أجزاء الانسان فان بعض أعضائه أبيض كالعظام و الشّحم، و بعضها أحمر كالدّم و اللّحم، و بعضها أسود كالشّعر و حدقة العين و هكذا، و مثل اختلاف أجزائه اختلاف أفراد نوع الانسان، فمنهم السّعيد و الشقيّ و الطيب و الخبيث، و كل ذلك مستند إلى اختلاف المواد.
كما يدلّ عليه ما رواه القميّ في تفسيره باسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم في حديث طويل، و فيه قال: فاغترف ربّنا تبارك و تعالى غرفة بيمينه من الماء العذب الفرات و كلتا يديه يمين فصلصلها في كفه فجمدت، فقال لها: منك أخلق النّبيين و المرسلين و عبادي الصّالحين و الأئمة المهتدين و الدّعاة إلى الجنّة و أتباعهم إلى يوم القيامة و لا أبالي و لا أسأل عمّا أفعل و هم يسألون، ثمّ اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج فصلصلها في كفّه فجمدت، ثم قال: منك أخلق الجبّارين و الفراعنة و العتاة و إخوان الشّياطين و الدّعاة إلى النّار و أشياعهم إلى يوم القيامة، و لا اسأل عمّا أفعل و هم يسألون، قال: و شرط في ذلك البداء فيهم و لم يشترط في أصحاب اليمين، ثم خلط المائين جميعا في كفه فصلصلهما ثم كفاهما«» قدام عرشه و هما سلالة من طين الحديث، و سيأتي تمامه بعيد ذلك.
(و الأشباه المؤتلفة) كالايتلاف بين العظام و الأسنان و نحوها فانّها أجسام متشابهة ايتلف بعضها مع بعض و بها قامت الصّورة الانسانية (و الأضداد المتعادية، و الأخلاط المتباينة، من الحرّ و البرد و البلّة و الجمود و المسائة و السّرور).
و المراد بالبلّة و الجمود الرّطوبة و اليبوسة، و كلمة من تبيين للأضداد و الأخلاط جميعا و ليست بيانا للأخلاط فقط بقرينة ذكر المسائة و السّرور.
قيل: و المراد بالحرّ الصّفراء و بالبرد البلغم و بالبلّة الدّم و بالجمود السّوداء فكلامه عليه السّلام إشارة إلى الطبايع الأربع التي بها تحصل المزاج و بها قوام البدن الانساني.
و في حديث القميّ السّابق بعد قوله عليه السّلام: ثم كفاهما قدام عرشه و هما سلالة من طين، قال: ثمّ أمر اللّه الملائكة الأربعة الشّمال و الجنوب و الصّبا و الدّبور أن يجولوا على هذه السّلالة من طين فأبرءوها و أنشأوها ثمّ جزوها و فصلوها و أجروا فيها الطبايع الأربعة.
قال: الرّيح في الطبايع الأربعة من البدن من ناحية الشّمال، و البلغم في الطبايع الأربعة من ناحية الصّبا، و المرة في الطبايع الأربعة من ناحية الدّبور، و الدّم في الطبايع الأربعة من ناحية الجنوب.
قال: فاستقلّت النّسمة و كمل البدن، فلزمه من ناحية الرّيح حبّ النّساء و طول الأمل و الحرص، و لزمه من ناحية البلغم حبّ الطعام و الشّراب و البرّ و الحلم و الرّفق، و لزمه من ناحية المرّة الغضب و السّفه و الشّيطنة و التّجبر و التمرّد و العجلة، و لزمه من ناحية الدّم حب الفساد و اللّذات و ركوب المحارم و الشهوات قال أبو جعفر: وجدنا هذا في كتاب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه هذا.
و أمّا المسائة و السّرور فهما من الكيفيات النّفسانية، و سبب السرور إدراك الكمال و الاحساس بالمحسوسات الملائمة و التمكّن من تحصيل المرادات و القهر و الاستيلاء على الغير و الخروج عن الآلام و تذكر الملذّات، و سبب المسائة مقابلات هذه.
قال البحراني: و مقصوده عليه السّلام التّنبيه على أنّ طبيعة الانسان فيها قوّة قبول و استعداد لتلك الكيفيات و أمثالها، و تلك القوّة هي المراد بطينة المسائة و السّرور و اللّه العالم.
الترجمة
پس جمع فرمود حق سبحانه و تعالى از زمين درشت و زمين نرم و زمين شيرين و زمين شور پاره خاك را، آميخت و ممزوج نمود آن خاك را به آب تا اين كه خالص و پاكيزه شد، و مخلوط و ملصق نمود آن را برطوبت تا اين كه چسبان گشت پس ايجاد كرد از آن صورت و شكلى كه صاحب طرفها بود و بندها و صاحب جوارح بود و فصلها، خشك ساخت آن صورت را تا اين كه قوام حاصل شد آنرا، و سخت گردانيد آن را تا اين كه گل خشك آواز كننده گرديد پس باقى گذاشت آن را بجهت وقت شمرده شده و اجل دانسته گرديده، پس از آن دميد در آن صورت روح خود را يا از روحى كه اختيار كرده بود آن را بساير ارواح، پس متمثّل شد و متصور گرديد انسانى كه صاحب ذهنهائيست كه متحرك مى سازد آن را، و صاحب فكرهاييست كه تصرف و تفتيش مى كند با آن، و صاحب جوارحى كه طلب خدمت مى كند از آنها، و صاحب آلاتى كه برميگرداند آن ها را در امورات خود، و صاحب معرفت و عقلى كه فرق مى گذارد با آن ميان حق و باطل و ميان ذوقها و مشامها و ميان رنگها و جنسها در حالتى كه آميخته و خمير شده بود آن انسان به اصل رنگهاى گوناگون و شبه هائى كه با همديگر الفت دارند، چون استخوان و دندان و ضدهائى كه تعاند دارند با همديگر و خلطهائى كه تباين دارند با يكديگر از حرارت و برودت و رطوبت و يبوست و پريشانى و خوشحالى.
الفصل الحادى عشر
و استأدى اللّه الملائكة وديعته لديهم، و عهد وصيّته إليهم، في الإذعان بالسّجود له و الخنوع لتكرمته فقال: اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس و قبيله (و جنوده خ)، اعترتهم الحميّة، و غلبت عليهم الشّقوة، تعزّزوا بخلقة النّار، و استوهنوا خلق الصّلصال، فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسّخطة، و استتماما للبليّة، و إنجازا للعدة، فقال: إنّك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
اللغة
(استأدى اللّه الملائكة) أى طلب منهم الأداء (و الخنوع) كالخضوع لفظا و معنى (و التكرمة) إمّا بمعنى التكريم و هو التّعظيم و الاحترام مصدر ثان من التّفعيل كما في الاوقيانوس، أو اسم من التكريم على ما قاله الفيومى (و ابليس) افعيل من ابلس قال سبحانه:«فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» أى آيسون من رحمة اللّه، و اسمه بالعبرانية عزازيل بزائين معجمتين و بالعربيّة الحارث و كنيته أبو مرّة (و القبيل) في الأصل الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى فان كانوا من أب واحد فقبيلة، و قد تسمى قبيلا و جمعه قبل و جمع القبيلة القبائل (و الشّقوة) بكسر الشّين الشّقاوة (و التّعزز) التكبر (و استوهنوا) عدوّه واهنا ضعيفا (و النظرة) بكسر الظاء مثل كلمة اسم من انظرت الدين أخّرته قال سبحانه:«فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ».
أى تأخير (و السّخطة) بالضمّ كالسّخط الغضب و عدم الرّضا (و البليّة) اسم من الابتلاء و هو الامتحان (و أنجز) وعده وعدته إذا وفى به.
الاعراب
الملائكة منصوب بنزع الخافض أى من الملائكة، و اضافة العهد إلى الوصية قيل من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف أى وصيّته المعهودة، و استثناء ابليس امّا منقطع على ما هو الأظهر الأشهر بين أصحابنا و كثير من المعتزلة، أو متّصل على ما ذهب إليه طائفة من متكلّمي العامة و اختاره منا الشيخ (ره) في التّبيان، و منشأ الخلاف أنّ إبليس هل هو من الجنّ أم من الملائكة، و يأتي تحقيق الكلام فيه، و انتصاب الاستحقاق و الاستتمام و الانجاز على المفعول له.
المعنى
(و استادى اللّه الملائكة) أى طلب منهم أداء (وديعته) المودعة (لديهم و) طلب أداء (عهد وصيّته إليهم) و المراد بتلك الوديعة و الوصيّة ما أشار اليه سبحانه في سورتي الحجر وص.
قال في الأولى:«وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ».
قال أمير المؤمنين عليه السّلام على ما رواه القميّ عنه و كان ذلك من اللّه تقدمة في آدم قبل أن يخلقه و احتجاجا منه عليهم.
و في الثّانية:«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» فلقد كان عزّ و جلّ أوصاهم و عهد إليهم أنّه خالق بشرا لا بد لهم من السّجود له بعد استوائه و نفخ الرّوح فيه، و إلى ذلك أشار عليه السّلام بقوله (في الاذعان بالسّجود له و) الانقياد ب (الخنوع) و الخضوع (لتكرمته) و تعظيمه (فقال) سبحانه للملائكة بعد الاستواء و نفخ الرّوح (اسجدوا لآدم) قال الصّادق عليه السّلام: و كان ذلك الخطاب بعد ظهر الجمعة (فسجدوا) و بقوا على السّجدة إلى العصر (إلا إبليس) قال الرضا عليه السّلام كان اسمه الحارث سمّي إبليس لأنّه ابلس من رحمة اللّه (و قبيله) قال المحدّث المجلسى قده: و ضمّ القبيل هنا إلى ابليس غريب، فانّه لم يكن له في هذا الوقت ذريّة و لم يكن أشباهه في السّماء، فيمكن أن يكون المراد به أشباهه من الجنّ في الأرض بأن يكونوا مأمورين بالسّجود أيضا، و عدم ذكرهم في الآيات و ساير الأخبار لعدم الاعتناء بشأنهم، أو المراد به طائفة خلقها اللّه تعالى في السّماء غير الملائكة، و يمكن أن يكون المراد بالقبيل ذريته و يكون اسناد عدم السّجود إليهم لرضاهم بفعله كما قال عليه السّلام في موضع آخر: إنّما يجمع النّاس الرّضا و السّخط، و إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرّضا، فقال سبحانه:«فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ». انتهى أقول: و الأوجه ما أجاب به أخيرا و يشهد به مضافا إلى ما ذكره ما رواه السيّد (ره) في آخر الكتاب عنه عليه السّلام من أنّ الرّاضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم و قال سبحانه:«قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
فانّه روى في الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: كان بين القاتلين و القائلين خمسمائة عام، فألزمهم اللّه القتل لرضاهم بما فعلوا، و مثله عن العياشي في عدّة روايات (اعترتهم) و غشيتهم (الحميّة) و العصبيّة (و غلبت عليهم الشّقوة) و الضّلالة (تعزّزوا) و تكبروا (بخلقة النار و استوهنوا) و استضعفوا (خلق الصلصال) و قالوا: إنّ مادتنا و جوهرنا خير من جوهر آدم الطيني فلا نسجد له، لأنّ السّجود إنّما هو لمكان شرف الجوهر و جوهر النّار أشرف من جوهر التراب، و هذا معنى قوله سبحانه في سورة الأعراف:«قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» و في الكافي و الاحتجاج عن الصّادق عليه السّلام أنّه دخل عليه أبو حنيفة فقال له: يا با حنيفة بلغني أنك تقيس، قال: نعم، أقيس قال: لا تقس فانّ أوّل من قاس ابليس حين قال:«خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» فقاس ما بين النّار و الطين و لو قاس نوريّة آدم بنورية النّار عرف فضل ما بين النّورين و صفاء أحدهما على الآخر.
قال بعض الأفاضل: إنّ إبليس قد غلط حيث لاحظ الفضل باعتبار الجوهر و العنصر فلو لاحظه باعتبار الفاعل لعلم فضل آدم عليه نظرا إلى ما أكرمه اللّه به من إضافة روحه إلى نفسه و نسبة خلقته إلى يديه حيث قال:«فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» و قال:«لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» مضافا إلى ما في قياسه في نفسه أيضا من الفساد من حيث إنّ الطين أمين يحفظ كلّ ما اودع عنده و النّار خائن يفني كلّ ما يلقى فيه. و النّار متكبّر طالب للعلوّ، و التّراب متواضع طالب السّفل، و التّواضع أفضل من التكبر هذا«» و قد ظهر ممّا ذكرناه فساد العمل بالقياس أيضا و قد عنونه أصحابنا في علم الأصول و حكموا بعدم جواز العمل في الأحكام الشرعية بالأقيسة و الاستحسانات العقليّة، نظرا إلى ما نشاهده من حكم الشّارع في الموارد الكثيرة بخلاف ما يقتضيه عقولنا النّاقصة.
كجمعه بين المتشاكلات و تفريقه بين المختلفات في منزوحات البئر.
و كجمعه بين النّوم و البول و الغائط في الأحداث.
و حكمه بوجوب الاحرام في الحلّ مع أنّ الحرم أفضل.
و حكمه بوجوب مسح ظاهر القدم مع أنّ الباطن أولى.
و حكمه بحرمة صوم يوم العيد و وجوب سابقه و ندبيّة لاحقه.
و حكمه بوجوب خمسمائة دينار و هو نصف الدّية الكاملة في قطع إحدى اليدين و قطع اليد لربع دينار.
و حكمه لقطع اليد لسرقة ربع دينار و عدم جواز قطعه للغصب و لو كان ألفا إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع و مع ذلك كيف يمكن الاستبداد بالعقول النّاقصة و الآراء الفاسدة في استخراج مناطات الأحكام الشّرعيّة، و قد قام الأخبار المتواترة عن أئمّتنا عليهم السّلام على النّهى عن العمل بالقياس و الاستحسانات العقليّة، مثل قولهم: إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول، و إنّ السّنة إذا قيست محق الدين، و إنّه لا شي ء أبعد عن عقول الرّجال من دين اللّه.
روى الصّدوق و الكليني باسنادهما عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في رجل قطع أصبعا من أصابع المرأة كم فيها قال: عشرة من الابل، قال: قلت: قطع اثنين فقال: عشرون، قلت: قطع ثلاثا قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعا قال: عشرون، قلت: سبحان اللّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون فيقطع أربعا فيكون عليه عشرون، إن هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول: إنّ الذي «جاء به خ» قاله شيطان، فقال: مهلا يا أبان هذا حكم رسول اللّه إنّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدّية فاذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النّصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس، و السّنة إذا قيست محق الدين.
و في الاحتجاج أن الصّادق عليه السّلام قال لأبي حنيفة لما دخل عليه: من أنت قال: أبو حنيفة، قال: مفتي أهل العراق، قال: نعم، قال: بم تفتيهم قال: كتاب اللّه، قال: فأنت العالم بكتاب اللّه ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه، قال: نعم، قال: فأخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ.
«وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ» أى موضع هو قال أبو حنيفة: هو ما بين مكّة و المدينة، فالتفت أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى جلسائه و قال: نشدتكم باللّه هل تسيرون بين مكّة و المدينة و لا تؤمنون على دمائكم من القتل و على أموالكم من السّرق فقالوا اللهمّ نعم، قال: ويحك يا أبا حنيفة إن اللّه لا يقول إلا حقّا، أخبرني عن قول اللّه:«وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» أىّ موضع هو قال: ذاك بيت اللّه الحرام، فالتفت أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى جلسائه و قال لهم: نشدتكم باللّه هل تعلمون أنّ عبد اللّه بن زبير و سعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل قالوا اللهمّ نعم، فقال: أبو عبد اللّه عليه السّلام: ويحك يا أبا حنيفة إنّ اللّه لا يقول إلّا حقّا.
فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب اللّه عزّ و جلّ إنّما أنّا صاحب قياس، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فانظر في قياسك إن كنت مقيسا أيّما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا قال: بل القتل، قال: فكيف رضي اللّه في القتل بشاهدين و لم يرض في الزّنا إلّا بأربعة ثمّ قال له: الصّلاة أفضل أم الصّيام قال: بل الصّلاة أفضل، قال: فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصّلاة في حال حيضها دون الصّيام، و قد أوجب اللّه عليها قضاء الصّوم دون الصّلاة، ثم قال: البول أقذر أم المني قال: البول أقذر، قال: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، و قد أوجب اللّه الغسل على المني دون البول.
قال: إنّما أنا صاحب رأى، قال عليه السّلام: فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج و زوج عبده في ليلة واحدة فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ثمّ سافرا و جعلا امر أتيهما في بيت واحد فولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين و بقي الغلامان أيهما في رأيك المالك و أيهما المملوك و أيهما الوارث و أيهما الموروث قال: إنّما أنا صاحب حدود، فقال عليه السّلام: فما ترى في رجل أعمى فقاء عين صحيح، و أقطع قطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ قال: إنّما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء، قال: فأخبرني عن قول اللّه تعالى لموسى و هارون حين بعثهما إلى دعوة فرعون:«لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » لعل منك شكّ قال: نعم، قال: ذلك من اللّه شك إذا قال لعلّه قال أبو حنيفة: لا أعلم.
قال عليه السّلام: إنك تفتي بكتاب اللّه و لست ممّن ورثه، و تزعم أنك صاحب قياس و أوّل من قاس إبليس و لم يبن دين الاسلام على القياس، و تزعم أنك صاحب رأى و كان الرّأى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صوابا و من دونه خطاء، لأنّ اللّه قال:«لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» و لم يقل ذلك لغيره، و تزعم أنك صاحب حدود و من انزلت عليه أولى بعلمها منك، و تزعم أنّك عالم بمباعث الأنبياء و خاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، لولا أن يقال: دخل على ابن رسول اللّه فلم يسأله من شي ء ما سألتك عن شي ء، فقس إن كنت مقيسا، قال: لا تكلّمت بالرّأى و القياس في دين اللّه بعد هذا المجلس، قال عليه السّلام: كلّا إن حبّ الرّياسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك الخبر.
ثمّ إنّ إبليس اللّعين بعد ما تمرّد عن السّجود و تكبّر عن طاعة المعبود سأل اللّه النّظرة و المهلة و الابقاء إلى يوم البعث و قال:«رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».
(فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسخطة) أى لأجل استحقاقه سخط اللّه سبحانه و غضبه، فانّ في الامهال، و إطالة العمر ازدياد الاثم الموجب لاستحقاق زيادة العقوبة، قال سبحانه:«وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (و استتماما للبليّة) أى لابتلاء بني آدم و تعريضهم للثواب بمخالفته (و انجازا للعدة)
قيل: المراد به وعد الامهال، و ليس بشي ء، لأنّه لم يسبق منه سبحانه وعد في إمهاله حتّى ينجزه، بل الظاهر أن المراد به أنّه تعالى لمّا كان لا يضيع عمل عامل بمقتضى عدله و قد عبده إبليس في الأرض و في السّماء و كان مستحقّا للجزاء الذي وعده سبحانه لكل عامل مكافاة لعمله، فأنجز له الجزاء الموعود في الدّنيا مكافاة لعبادته حيث لم يكن له في الآخرة من خلاق.
روى في البحار عن العيّاشي عن الحسن بن عطيّة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ إبليس عبد اللّه في السّماء في ركعتين ستّة ألف سنة و كان إنظار اللّه، ايّاه إلى يوم الوقت المعلوم بما سبق من تلك العبادة.
و في رواية علي بن ابراهيم الآتية عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال إبليس: يا ربّ و كيف و أنت العدل الذي لا تجور و لا تظلم فثواب عملي بطل، قال: لا، و لكن سلني «اسأل خ» من أمر الدّنيا ما شئت ثوابا لعملك فاعطيك، فاوّل ما سأل البقاء إلى يوم الدين فقال اللّه: قد أعطيتك الخبر.
و في روايته الآتية أيضا عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: جعلت فداك بماذا استوجب إبليس من اللّه أن أعطاه ما أعطاه قال: بشي ء كان منه شكره اللّه عليه، قلت و ما كان منه جعلت فداك قال: ركعتين ركعهما في السّماء في أربعة آلاف«» سنة (فقال: إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم).
قال الرّازي في تفسيره: اعلم أنّ إبليس استنظر إلى يوم البعث و القيامة و غرضه منه أن لا يموت، لأنّه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة و ظاهر أن بعد قيام القيامة لا يموت فحينئذ يلزم منه أن لا يموت البتّة، ثم إنّه تعالى منعه عن هذا المطلوب و قال:«قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ» و اختلفوا في المراد منه على وجوه: أحدها أن المراد من يوم الوقت وقت النّفخة الأولى حين يموت كلّ الخلايق و إنّما سمّي هذا الوقت بالوقت المعلوم، لأنّ من المعلوم أنّه يموت كلّ الخلايق فيه، و قيل إنّما سمّاه اللّه تعالى بهذا الاسم، لأنّ العالم بذلك هو اللّه تعالى لا غير كما قال تعالى:«إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» و قال:«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» و ثانيها أنّ المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره و هو قوله: (إلى يوم يبعثون) و انما سمّاه اللّه تعالى بيوم الوقت المعلوم لان إبليس لما عيّنه و أشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم، فان قيل: لما أجابه اللّه تعالى إلى مطلوبه لزم ان لا يموت إلى وقت قيام السّاعة و بعد قيام القيامة لا يموت أيضا فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكليّة، قلنا يحمل قوله: إلى يوم يبعثون الى ما يكون قريبا منه، و الوقت الذي يموت فيها كلّ المكلفين قريب من يوم البعث على هذا الوجه، فيرجع حاصل هذا الكلام الى الوجه الأول.
و ثالثها أنّ المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلّا اللّه تعالى و ليس المراد منه يوم القيامة انتهى.
أقول: و المستفاد من بعض أخبارنا الوجه الأوّل، و هو ما روى في العلل عن الصّادق عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: يوم الوقت يوم ينفخ في الصّور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الاولى و الثّانية.
و من البعض الآخر أنّه عند الرّجعة، و هو ما رواه القميّ باسناده عن أبي «ج 4» عبد اللّه عليه السّلام في قوله، قال: يوم الوقت المعلوم يوم يذبحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الصّخرة في بيت المقدس، و في رواية اخرى رواها العياشي عنه عليه السّلام أيضا انه سئل عنه فقال: أ تحسب أنّه يوم يبعث فيه النّاس إنّ اللّه أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا، فاذا بعث اللّه قائمنا كان في مسجد الكوفة و جاء إبليس حتّى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول: يا ويله من هذا اليوم فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه فذلك يوم الوقت المعلوم، و يحتمل الجمع بينها بأن يقتله القائم ثم يحيى و يقتله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم يحيى و يموت عند النّفخة، و اللّه العالم بحقايق الامور.
و ينبغي التنبيه على امور مهمة مفيدة لزيادة البصيرة فى المقام
الاوّل أنّه سبحانه ذكر قصّة آدم و كيفيّة خلقته و معاملة إبليس معه في مواقع كثيرة من القرآن الكريم
و في ذلك أسرار كثيرة: منها الاشارة إلى كمال قدرته و عظمته حيث إنّه خلق إنسانا كاملا ذا عقل و حسّ و حياة و صاحب مشاعر ظاهرة و باطنة من تراب جامد، ثمّ جعله طينا لازبا فجعله حمأ مسنونا فجعل الحمأ صلصالا يابسا، ثمّ نفخ فيه من روحه فاستوى انسانا كاملا فتبارك اللّه أحسن الخالقين.
و منها تذكير الخلق بما أنعم به على أبيهم آدم حيث فضّله على ملائكة السّماء بما علّمه من الاسماء و جعله مسجودا لهم و ذا مزيّة عليهم.
و منها تحذير الخلق عن مكائد الشّيطان ليجتنبوا عن مصائده و فخوفه فانّ عداوته أصلية و منافرته ذاتية لا يمكن توقع الوصل و العلقة معه ألبتّة.
و منها تنبيه الخلق على أنّ آدم مع فعله زلّة واحدة كيف أخرج من جوار رحمة اللّه و اهبط الى دار البليّة، فما حال من تورّط في الذّنوب و اقتحم في المهالك و العيوب مدى عمره و طول زمانه و هو مع ذلك يطمع في دخول دار الخلد و نعم ما قيل:
يا ناظرا نورا بعيني راقدو مشاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذّنوب الى الذنوب و ترتجي
درك الجنان و نيل فوز العابد
أنسيت أنّ اللّه أخرج آدمامنها الى الدّنيا بذنب واحد
«»الثاني لقائل أن يقول: أمر الملائكة بالسّجود لآدم لما ذا و ما السّرّ في ذلك
قلنا: فيه أسرار كثيرة.
منها إظهار فضيلته على الملائكة.
و منها الابتلاء و الامتحان ليظهر حال ابليس على الملائكة حيث علموا بعد إبائه و امتناعه عن السجدة أنه لم يكن منهم و قد زعموا قبل ذلك انه منهم كما يدلّ عليه ما رواه عليّ بن ابراهيم القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام«» قال سئل عمّا ندب«» اللّه الخلق إليه أدخل فيه الضّلال «الضلالة خ» قال: نعم و الكافرون دخلوا فيه، لأن اللّه تبارك و تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم فدخل في امره الملائكة و إبليس، فانّ إبليس كان مع الملائكة في السّماء يعبد اللّه و كانت الملائكة يظن أنّه منهم فلمّا أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة أنّ إبليس لم يكن منهم، فقيل له عليه السّلام: فكيف وقع الأمر على إبليس و إنّما أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم فقال: كان إبليس منهم بالولاء و لم يكن من جنس الملائكة، و ذلك انّ اللّه خلق خلقا قبل آدم، و كان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا و أفسدوا و سفكوا الدّماء، فبعث اللّه الملائكة فقتلوهم و أسروا إبليس و رفعوه إلى السّماء فكان مع الملائكة يعبد اللّه إلى أن خلق اللّه تبارك و تعالى آدم.
و منها أنّ سجودهم له لما كان في صلبه من أنوار نبيّنا و أهل بيته المعصومين صلوات اللّه عليهم يدلّ عليه ما رواه في الصّافي و البحار عن تفسير الامام عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن رسول اللّه سلام اللّه عليهم، قال: يا عباد اللّه إن آدم لما رأى النّور ساطعا من صلبه إذ كان اللّه قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النّور و لم يتبين الأشباح، فقال: يا ربّ ما هذه الأنوار فقال عزّ و جلّ: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك و لذلك أمرت الملائكة بالسّجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح، فقال آدم: يا ربّ لو بينتها لي، فقال اللّه عزّ و جلّ: انظر يا آدم الى ذروة العرش، فنظر آدم و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصّافية فرأى أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح يا ربّ قال اللّه يا آدم هذه أشباح أفضل خلايقي و برياتي هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسما من اسمي و هذا عليّ و أنا العليّ العظيم شققت له اسما من اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السّماوات و الأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي و فاطم أوليائي عمّا يعرهم «يعتريهم خ» و يشينهم فشققت لها اسما من اسمي، و هذا الحسن، و هذا الحسين و أنا المحسن المجمل فشققت اسميهما من اسمي هؤلاء خيار خليقتي و كرام بريّتي بهم آخذوا بهم اعطي و بهم أعاقب و بهم أثيب فتوسّل بهم إلىّ يا آدم إذا دهتك داهية فاجعلهم إلىّ شفعائك فانّي آليت على نفسي قسما حقّا أن لا اخيب بهم آملا و لا أردّ بهم سائلا فلذلك حين زلت منه الخطيئة دعا اللّه عزّ و جلّ بهم فتيب عليه و غفرت له.
الثالث لقائل أن يقول: ما ذا كان المانع لابليس عن السّجود
قلت: المستفاد من رواية القمي السّالفة أنّه الحسد، و المستفاد من الآيات القرآنية أنّه الاستكبار، و هو المستفاد أيضا ممّا رواه في البحار عن قصص الرّاوندي بالاسناد إلى الصدوق باسناده إلى ابن عبّاس قال: قال إبليس لنوح عليه السّلام: لك عندي يد سأعلّمك خصالا، قال نوح: و ما يدي عندك قال: دعوتك على قومك حتّى أهلكهم اللّه جميعا، فايّاك و الكبر و إيّاك و الحرص و إيّاك و الحسد، فانّ الكبر هو الذي حملني على أن تركت السّجود لآدم فأكفرني و جعلني شيطانا رجيما، و إيّاك و الحرص فانّ آدم أبيح له الجنّة و نهي عن شجرة واحدة فحمله الحرص على أن أكل منها، و إيّاك و الحسد فانّ ابن آدم حسد أخاه فقتله، فقال نوح: متى تكون أقدر على ابن آدم فقال: عند الغضب هذا.
و لا منافاة بينها لأنّه يجوز أن يكون المانع الحسد و الكبر النّاشي من قياسه الفاسد جميعا.
و يدلّ عليه«» ما رواه عليّ بن إبراهيم باسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم. في حديث طويل و ساق الحديث إلى قوله: فخلق اللّه آدم فبقي أربعين سنة مصوّرا و كان يمرّ به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت، فقال العالم عليه السّلام: فقال ابليس: لأن أمرني اللّه بالسّجود لهذا لعصيته، قال: ثمّ نفخ فيه، فلما بلغت فيه الرّوح إلى دماغه عطس عطسة فقال: الحمد للّه، فقال اللّه له: يرحمك اللّه«»، ثمّ قال اللّه تبارك و تعالى للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا له، فاخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد فقال اللّه عزّ و جلّ.
(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
قال الصّادق عليه السّلام فأوّل من قاس إبليس و استكبر، و الاستكبار هو أوّل معصية عصي اللّه بها، قال: فقال ابليس: يا ربّ اعفني من السّجود لآدم و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، قال اللّه تعالى: لا حاجة لي إلى عبادتك إنّما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد، فأبى أن يسجد فقال اللّه تبارك و تعالى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ.
فقال ابليس: يا رب كيف و أنت العدل الذي لا تجور فثواب عملي بطل، قال: لا، و لكن اسأل من أمر الدّنيا ما شئت ثوابا لعملك فاعطيك فأوّل ما سأل البقاء إلى يوم الدّين، فقال اللّه قد أعطيتك.
قال: سلّطني على ولد آدم، قال: سلّطتك قال: أجرني فيهم مجرى الدّم في العروق قال: أجريتك، قال: لا يولد لهم ولد إلّا ولد لي اثنان و أراهم و لا يروني و أتصوّر لهم في كلّ صورة شئت، فقال: قد أعطيتك، قال: يا ربّ زدني، قال: قد جعلت لك و لذريّتك صدورهم أوطانا، قال: ربّ حسبي فقال ابليس عند ذلك: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ... ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. هذا و روى أيضا باسناده عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لمّا اعطى اللّه تبارك و تعالى لابليس ما أعطاه من القوّة قال آدم: يا ربّ سلّطت إبليس على ولدي و أجريته فيهم مجرى الدّم في العروق و أعطيته ما أعطيته فما لي و لولدي فقال: لك و لولدك السيّئة بواحدة و الحسنة بعشر أمثالها، قال: يا رب زدني، قال: التّوبة مبسوطة إلى حين يبلغ النّفس الحلقوم، فقال: يا ربّ زدني قال: أغفر و لا ابالي قال: حسبي.
الرابع اختلفوا في أنّ ابليس اللّعين هل هو من الجنّ أم من الملائكة،
المعزى إلى أكثر المتكلمين من أصحابنا و المعتزلة هو الأوّل، و ذهب كثير من فقهاء العامّة على ما حكى عنهم الفخر الرّازي و جمهور المفسّرين و منهم ابن عبّاس على ما حكاه عنهم الشّارح البحراني إلى الثّاني.
و المختار عندنا هو الأوّل وفاقا للاكثر و منهم المفيد و قد نسبه إلى الاماميّة كلّها، حيث قال في المحكي عنه في كتاب المقالات: إنّ ابليس من الجنّ خاصّة و إنّه ليس من الملائكة و لا كان منها، قال اللّه تعالى:(إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ).
و جاءت الأخبار المتواترة عن أئمة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام بذلك، و هو مذهب الاماميّة كلّها و كثير من المعتزلة و أصحاب الحديث انتهى.
و احتجّ للمختار بوجوه.
الأوّل: انّ إبليس من الجنّ فوجب أن لا يكون من الملائكة، أمّا أنّه من الجنّ فلقوله تعالى في سورة الكهف:(إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).
و أمّا أنّه إذا كان من الجنّ فوجب أن لا يكون من الملائكة، فلقوله تعالى:(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ، قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) فانّ الآية صريحة في الفرق بين الجنّ و الملائكة.
و ما ربّما يتوهّم من أنّ معنى قوله سبحانه: كان من الجنّ، أنّه كان خازن الجنّة على ما روى عن ابن مسعود، أو أنّ كان بمعنى صار، أى صار من الجنّ كما أنّ قوله: و كان من الكافرين، بمعنى صار من الكافرين، فظاهر الفساد.
أمّا أولا فلأنّه خلاف الظاهر المتبادر من الآية الشّريفة، كما أنّ حمل كان بمعنى صار كذلك.
و أمّا ثانيا فلأنّه سبحانه علّل ترك السّجود بأنّه كان من الجنّ و لا يمكن تعليل ترك السّجود بكونه خازنا للجنّة كما لا يخفى.
و العجب من بعضهم حيث قال: إن كونه من الجنّ لا ينافي كونه من الملائكة لأنّ الجنّ من الاجتنان و هو الاستتار، و الملائكة مستترون عن العيون فصحّ جواز إطلاق اللّفظ عليهم.
و فيه أنّ الجنّ و إن كان يجوز إطلاقه بحسب اللغة على الملك إلّا أنّه صار في الاصطلاح مختصّا بالجنس المقابل للملك و الانس، فلا يجوز الاطلاق.
الثّاني أنّ إبليس له ذريّة و نسل، قال اللّه تعالى:(أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي).
و الملائكة لا ذريّة لهم إذ ليس فيهم انثى كما يدل عليه قوله سبحانه:(وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً).
و اورد عليه بمنع دلالة الاية على انتفاء الانثى أولا، و منع ملازمة انتفاء الانثى على تقديره ثانيا، ألا ترى أنّ الشّياطين ليس فيهم انثى و مع ذلك لهم ذرّية، و لذلك قال شيخنا الطوسي (ره) في محكي كلامه عن التّبيان: من قال إنّ إبليس له ذرّية و الملائكة لا ذرّية لهم و لا يتناكحون و لا يتناسلون فقد عوّل على خبر غير معلوم.
الثّالث أنّ الملائكة معصومون لأدلّة العصمة و إبليس ليس بمعصوم فلا يكون منهم و ربّما يستدلّ بوجوه أخر لا حاجة إلى ذكرها.
و احتجّ للقول الثّاني بوجهين.
الاول انّه سبحانه استثناه في غير موضع من القرآن من الملائكة، و الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، و هو يفيد كونه من الملائكة.
و ما أورد عليه أولا من أنّ الاستثناء المنقطع شايع في كلام العرب و كثير في كلام اللّه سبحانه قال:(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي).
و قال:(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) و قال: وَ لا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا).
إلى غير ذلك.
و ثانيا من أنّ الاستثناء على تسليم اتصاله أيضا لا يفيد الدّخول كما قال الزّمخشري بعد قوله سبحانه إلّا إبليس استثناء متّصل، لأنّه كان جنّيا واحدا بين أظهر الالوف من الملائكة مغمورا بهم فغلبوا عليه في قوله فاسجدوا ثمّ استثنى منهم استثناء واحد منهم.
فقد ردّ الأوّل بانّه خلاف الأصل و لا يصار إليه إلّا بدليل و الأدلّة السّالفة«» لا تصلح للدّلالة لأنّها من قبيل العمومات، و الأمر في المقام دائر بين تخصيصها على جعل ابليس من الملائكة و بين حمل الاستثناء على المنقطع على جعله من الجنّ و كلاهما خلاف الأصل إلّا أنّ الأوّل أولى لأن تخصيص العام أغلب من انقطاع الاستثناء فلا بدّ من المصير اليه.
و الثّاني بأنّ تغليب الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه في جنب الكثير أمّا إذا كان معظم الحديث لا يكون إلّا عن ذلك الواحد لم يجز اجراء حكم غيره عليه و تغليبه عليه و فيه نظر و وجهه سيظهر.
الثاني أنّه لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان الأمر بالسجدة بقوله اسجدوا شاملا له، فلا يكون تركه للسّجود إباء و استكبارا و معصية، و لما استحق الذمّ و العقاب، و حيث حصلت هذه الامور كلّها فعلمنا بتناول الخطاب له، و لا يتناوله إلّا مع كونه من الملائكة.
و ردّ أولا بمنع كونه مخاطبا بذلك الخطاب العام المستلزم للتّناول، لم لا يجوز أن يخاطب بأمر آخر مختص به، و ثانيا بمنع استلزام تناول ذلك الخطاب له على تقدير تسليمه كونه من الملائكة لجواز أن يكون طول مخالطته بهم و نشوه معهم مصحّحا لتعلق الخطاب و تناوله فلا يثبت به الملازمة.
و يضعّف الأول بأن ظاهر قوله: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، أن الاباء و العصيان إنّما حصل بمخالفة هذا الأمر لا بمخالفة أمر آخر.
و الثّاني بأنّ طول المخالطة لا يوجب تناول الحكم و إلّا لتناول خطاب المذكور في الأدلّة الشّرعيّة للاناث و بالعكس و هو خلاف ما صرّح به علماء الأصول.
أقول: هذا جملة ما استدلّ به على الطرفين في المقام و التّعويل عندنا على الأخبار الصّحيحة عن العترة الطاهرة: منها رواية عليّ بن ابراهيم القميّ السّالفة في الأمر الثّاني.
و منها ما عن تفسير الامام عن يوسف بن محمّد بن زياد و عليّ بن محمّد بن سيار عن أبويهما عن العسكرى عليه السّلام في ذيل قصّة هاروت و ماروت بعد إثباته عليه السّلام عصمة الملائكة، قالا: قلنا له: فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا، فقال: لابل كان من الجنّ، أما تسمعان اللّه عزّ و جلّ يقول:(وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ).
فأخبر عزّ و جلّ أنّه كان من الجنّ، و هو الذي قال اللّه عزّ و جلّ:(وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).
و منها ما رواه العيّاشي عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن إبليس أ كان من الملائكة او هل كان يلي شيئا من أمر السّماء قال عليه السّلام: لم يكن من الملائكة و لم يكن يلي شيئا من أمر السّماء، و كان من الجنّ، و كان مع الملائكة، و كانت الملائكة ترى أنّه منها، و كان اللّه يعلم أنّه ليس منها، فلما أمر بالسّجود كان منه الذي كان.
و منها ما رواه عليّ بن ابراهيم باسناده عن جميل قال: كان الطيار يقول لي ابليس ليس من الملائكة و إنّما امرت الملائكة بالسّجود لآدم، فقال إبليس لا أسجد فما لابليس يعصى حين لم يسجدو ليس هو من الملائكة، قال فدخلت أنا و هو على أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال فأحسن و اللّه في المسألة فقال جعلت فداك: أرأيت ما ندب اللّه إليه المؤمنين من قوله:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
دخل في ذلك المنافقون معهم قال: نعم، و الضلال و كلّ من أقرّ بالدّعوة الظاهرة، و كان إبليس ممّن أقرّ بالدّعوة الظاهرة معهم.
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي قد سمعت في صدر المسألة عن المفيد «قده» ادعاءه تواترها و نسبة المذهب المختار إلى الاماميّة رضوان اللّه عليهم الظاهر في كونه مجمعا عليه بينهم، و لا يعبأ بخلاف شيخنا الطوسي قدّس اللّه روحه في المسألة و لا يقدح ذلك في الاجماع مع كونه معلوم النّسب و ادّعاؤه الرّواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بكونه من الملائكة ضعيف، بما قاله العلامة المجلسي من أنّا لم نظفر بها و إن ورد في بعض الأخبار فهو نادر مأوّل.
فان قلت: سلّمنا ذلك كلّه و لكن كيف يتصوّر في حقّ الملائكة عدم علمهم بأنّ إبليس منهم بعد أن أسروه من الجنّ و رفعوه إلى السّماء، و ما المراد بقولهم عليهم السّلام في الأخبار السّابقة: و كانت الملائكة ترى أنّه منها قلنا: يحتمل أن يكون المراد أنّ الملائكة ترى أنّه منهم في طاعة اللّه و عدم العصيان لمواظبته على عبادته سبحانه أزمنة متطاولة، فيكون من قبيل قولهم عليهم السّلام: سلمان منا، أو أنّهم لمّا رأوا تباين أخلاقه ظاهرا للجنّ و تكريم اللّه تعالى إياه و جعله من بينهم مرفوعا إلى السّماء، و جعله رئيسا على بعضهم كما قيل، ظنّوا أنّه كان منهم وقع بين الجنّ.
الخامس لقائل أن يقول: كيف كان سجود الملائكة لآدم
أهو بنحو السّجود المتعارف من وضع الجبهة على المسجد أو بنحو آخر قلت: الموجود في كلمات الأعلام أنّه كان بنحو السّجود المتعارف، و هو المروي عن الصّادق عليه السّلام أيضا، و لا إشكال فيه و إنّما الاشكال في أنّ السّجدة عبادة، و كيف جاز في حقّ آدم.
قلت: قد اتّفق المسلمون على أنّ ذلك السّجود ليس سجود عبادة، لأن سجود العبادة لغير اللّه كفر و لا يمكن أن يكون مأمورا به.
ثمّ اختلفوا بعد ذلك على أقوال: أحدها أنّه على وجه التكرمة لآدم و التّعظيم لشأنه و تقديمه عليهم و هو قول قتادة و جماعة من أهل العلم، و هو المرويّ عن أئمّتنا و لهذا جعل أصحابنا ذلك دليلا على أفضليّة الأنبياء من الملائكة من حيث انّه امرهم بالسّجود لآدم و ذلك يقتضي تعظيمه و تفضيله عليهم و إذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنّه أفضل من الملائكة، و قد نسب الصدوق ذلك في العقائد إلى اعتقاد الاماميّة، و هو ظاهر في قيام اجماعهم على هذا القول.
لا يقال: سجود التعظيم و التكرمة هو عبارة اخرى لسجود العبادة فيعود الاشكال لانّا نقول: لا نسلّم كونه عبادة، و ذلك لأن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيدا كالقول يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الاعظام ما يفيده القول و ما ذاك إلّا للعادة فلا يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الانسان على الأرض و إلصاقه الجبين بها مفيدا ضربا من التّعظيم و إن لم يكن ذلك عبادة، و إذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد اللّه الملائكة بذلك إظهارا لرفعته و كرامته.
الثّاني أنّ السّجود كان للّه و آدم كالقبلة حكاه الطبري عن الجبائي و أبي القاسم البلخي.
و أورد عليه أوّلا بأنّه لا يقال صلّيت للقبلة بل يقال صلّيت إلى القبلة فلو كان آدم قبلة يقول اسجدوا إلى آدم مع أنّه قال اسجدوا لآدم، و يظهر منه عدم كونه قبلة.
و ثانيا بأنّ إباء إبليس عن السّجود إنّما هو لاعتقاده تفضيله به و تكرمته و حسبانه أنّ كونه مسجودا له يدلّ على أنّه أعظم شأنا من السّاجد كما يشعر به قوله:(قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ) و قوله:(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ).
و من المعلوم أنّ السّجدة للقبلة لا يوجب تفضيل القبلة على السّاجد ألا ترى أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يصلّي إلى الكعبة و لا يلزم أن يكون الكعبة أفضل منه.
و أجيب عن الأوّل بأنّه كما يجوز ان يقال: صلّيت إلى القبلة كذلك يصحّ أن يقال: صلّيت للقبلة، و كلاهما بمعنى واحد، و يشهد بصحته قول حسان في مدح مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام:
ما كنت أعرف «أحسب خ» انّ الأمر منصرفعن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن
أ ليس أوّل من صلّى لقبلتكم
و أعرف النّاس بالآيات «القرآن خ» و السنن
و عن الثّاني بأنّ إبليس شكى تكريمه و ذلك التكريم لا نسلّم أنّه حصل بمجرّد تلك المسجودية، بل لعلّه حصل بذلك مع امور اخر، هذا، و أنت خبير بما فيه.
الثّالث أنّ السّجود في أصل اللغة هو الانقياد و الخضوع و هو المراد هنا.
و ردّه الفخر الرّازي بأنّ السّجود لا شكّ أنّه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك، لأصالة عدم النّقل انتهى.
و فيه ما لا يخفى و أنت بعد الخبرة بما ذكرناه تعرف أنّ الأقوى هو القول الأوّل.
السادس إن قيل: أىّ حكمة في خلقة الشّيطان و تسليطه على ابن آدم و إمهاله إلى يوم الدين
قلت: هذه شبهة وقعت في البرية و أصلها نشأت من إبليس من استبداده بالرّأى في مقابلة النصّ و اختياره الهوى في معارضة الأمر و استكباره بالنّار التي خلق منها على الطين و الصّلصال، و تفصيل هذه الشّبهة ما حكاه الفخر الرّازي عن محمّد بن عبد الكريم الشّهرستاني في أوّل كتابه المسمّى بالملل و النّحل حكاية عن ماري شارح الأناجيل الأربعة، قال: و هي مذكورة في التوراة متفرّقة على شكل مناظرة بينه و بين الملائكة بعد الأمر بالسّجود، قال إبليس للملائكة: إنّي اسلم أن لي إلها هو خالقي و موجدي و هو خالق الخلق لكن لي على حكمة اللّه أسألة سبعة.
الاول ما الحكمة في الخلق لا سيّما كان عالما بأنّ الكافر لا يستوجب عند خلقه إلّا الآلام الثاني ثمّ ما الفائدة في التّكليف مع أنّه لا يعود منه ضرّ و لا نفع، و كلّ ما يعود إلى المكلّفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التّكليف الثالث هب أنّه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلّفني بالسّجود لآدم الرابع ثمّ لمّا عصيته في ترك السّجود لآدم فلم لعنني و أوجب عقابي مع أنّه لا فائدة له و لا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضّرر الخامس ثمّ لمّا فعل ذلك فلم مكّننى من الدّخول إلى الجنّة و وسوست لآدم عليه السّلام السادس ثمّ لمّا فعلت ذلك فلم سلّطنى على أولاده و مكّننى من إغوائهم و إضلالهم السابع ثمّ لمّا استمهلته المدّة الطويلة في ذلك فلم أمهلني و معلوم أنّ العالم لو كان خاليا عن الشّر لكان ذلك خيرا.
قال شارح الأناجيل: فأوحى اللّه تعالى إليه«» من سرادقات الجلال و الكبرياء يا إبليس انّك ما عرفتني و لو عرفتني لعلمت أنّه لا اعتراض عليّ في شي ء من أفعالي، فانّي انا اللّه لا اله إلّا أنا لا أسأل عمّا أفعل.
قال الفخر الرّازي بعد حكاية ذلك: و اعلم أنّه لو اجتمع الأوّلون و الآخرون من الخلايق و حكموا بتحسين العقل و تقبيحه لم يجدوا عن هذه الشّبهات مخلصا و كان الكلّ لازما، أمّا اذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره اللّه تعالى زالت الشّبهات و اندفعت الاعتراضات، و كيف لا، و كما أنّه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغن في فاعليّته عن المؤثرات المرجحات إذ لو افتقر لكان فقيرا لا غنيّا فهو سبحانه مقطع الحاجات و منتهى الرّغبات و من عنده نيل الطلبات، و إذا كان كذلك لم تتطرق اللميّة إلى أفعاله و لم يتوجه الاعتراض على خالقيّته انتهى.
قال الصّدر الشّيرازي في كتابه المسمّى بمفاتيح الغيب بعد ذكره شبهات إبليس و جوابه سبحانه و ذكره ما حكيناه عن الرّازي: أقول: إنّ لكلّ من هذه الشبهات جوابا برهانيّا صحيحا واضحا عند أصحاب القلوب المستقيمة، لابتنائه على الاصول الحقة العرفانية في المقدمات الاضطرارية اليقينية لكن الجاحد المعوج لا ينفعه كثرة البراهين النّيرة، و إنّما يسكته الجواب الجدلي المشهور المبني على المقدمات المقبولة التي يذعن بها الجمهور، و ليس معنى قوله تعالى لا اسأل عمّا افعل أنّه ليس لما فعله مبدء ذاتي و غاية عقليّة و مصلحة حكميّة، كما هو مذهبهم من إبطال العلّية و المعلوليّة و إنكار العلاقة الذّاتية بين الأسباب و مسبّباتها و تجويز ترجيح أحد المتساويين في النّسبة على الاخر و تمكين المجازات الاختيارية و الارادات التّخييليّة بل المراد أحد معنيين.
الأوّل أنّه لا لميّة للفعل الصّادر عن ذاته من غير واسطة سوى ذاته و إنّما ذاته هو منشأ الفعل المطلق و غايته و كما لا سبب لذاته في وجوده لا سبب لذاته في ايجاده و إلّا لكان ناقصا في ذاته مستكملا بغيره تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
الثّاني أنّ من ليس له درجة الارتقاء إلى عالم الملكوت و الوصول إلى شهود المعارف الالهيّة و إدراك الحضرة الرّبوبيّة فلا يمكنه العلم بكيفيّة الصّنع و الايجاد على ما هو عليه، و لا سبيل له إلّا التسليم و الاعتراف بالقصور و من له مرتبة إدراك الأشياء كما هي بالعلم اللّدنّي فلا حاجة له إلى السّؤال، لأنّه يلاحظ الامور على ما هي عليه بنور اللّه و بعين قلبه المنوّر بنور الايمان و العرفان، لا بأنوار المشاعر كالشّيطان، و لهذا منع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النّاس عن التّكلم و البحث في الأشياء الغامضة كسرّ القدر و مسألة الرّوح، لأنّ البحث عنها لا يزيد إلّا حيرة و دهشة.
و قال في شرح أصول الكافي ما محصّله: إنّ غرض الفخر الرّازي إثبات مذهب أصحابه من القول بالفاعل المختار و نفي التخصيص في الأفعال، و ذلك ممّا ينسد به باب إثبات المطالب بالبراهين كاثبات الصّانع و صفاته و أفعاله و اثبات البعث و الرّسالة، إذ مع تمكين هذه الارادة الجزافيّة لم يبق اعتماد على شي ء من اليقينيات، فيجوز أن يخلق الفاعل المختار بالارادة التي يعتقدها هؤلاء الجدليون فينا أمرا يرينا الاشياء لا على ما هي عليه.
فاقول: إنّ لكلّ شبهة من هذه الشّبهات التي أوردها اللّعين جوابا برهانيّا حقّا من قبل اللّه تعالى بما يسكته، و هو بيان حاله و ما هو عليه من كفره و ظلمة جوهره عن إدراك الحقّ كما هو، و ان ليس غرضه في ابداء هذه الشبهات إلّا الاعتراض و إغواء من يتبعه من الجهال النّاقصين أو الغاوين الذين هم جنود إبليس أجمعون، فقيل له: إنّك لست بصادق في دعواك معرفة اللّه و ربوبيّته و لو صدقت فيها لم تكن معترضا على فعله.
و أمّا الأجوبة الحكميّة عن تلك الشبهات على التّفصيل لمن هو أهلها و مستحقّها
فهي هذه.
اما الشبهة الاولى و هي السّؤال عن الحكمة و الغاية في خلق إبليس،
فالجواب عنها أنّه من حيث إنّه من جملة الموجودات على الاطلاق فمصدره و غايته ليس إلّا ذاته تعالى التي تقتضي وجود كلّ ما يمكن وجوده و يفيض عنها الوجود على كلّ قابل و منفعل، و أمّا حيثيّة كونه موجودا ظلمانيا و ذاتا شريرة و جوهرا خبيثا فليس ذلك بجعل جاعل، بل هو من لوازم هويته النّازلة في آخر مراتب النّفوس و هي المتعلّقة بما دون الأجرام السّماوية و هو الجسم النّاري الشديدة القوّة فلا جرم غلبت عليه الانانيّة و الاستكبار و الافتخار و الاباء عن الخضوع و الانكسار.
و اما الشبهة الثانية و هي السؤال عن حكمة التّكليف بالمعرفة و الطاعة
فالجواب عنها أنّ الغاية في ذلك تخليص النّفوس من اسر الشّهوات و سجن الظلمات و نقلها من حدود البهيميّة و السبعيّة إلى حدود الانسانية و الملكيّة و تطهيرها و تهذيبها بنور العلم و قوّة العمل من درن الكفر و المعصية و رجس الجهل و الظلمة، و لا ينافي عموم التكليف عدم تأثيره في النّفوس الجاشية و القلوب القاسية، كما أنّ الغاية في إنزال الغيث إخراج الحبوب و إنبات الثّمار و الأقوات منها«» و عدم تأثيره في الصّخور القاسية و الأراضي الخبيثة لا ينافي عموم النّزول، و اللّه أجل من أن تعود إليه فائدة في هداية الخلق كما في إعطائه أصل خلقه بل هو الذي«أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ».
من غير غرض أو عوض في فضله وجوده.
و اما الشبهة الثالثة و هي السّؤال عن فايدة تكليفه بالسّجود لآدم و الحكمة فيه،
فالجواب عنها أولا أنّه ينبغي أن يعلم أن للّه سبحانه في كلّ ما يفعله أو يأمر به حكمة بل حكما كثيرة لأنّه تعالى منزّه عن فعل العبث و الاتفاق و الجزاف و إن خفى علينا وجه الحكمة في كثير من الامور على التّفصيل بعد أن علمنا القانون الكلي في ذلك على الاجمال، و خفاء الشي ء علينا لا يوجب انتفائه، و هذا يصلح للجواب عن هذه الشبهة و نظايرها.
و ثانيا أنّ التكليف بالسّجود كان عامّا للملائكة و كان هو معهم في ذلك الوقت فعمه الأمر بها تبعا و بالقصد الثّاني، لكنه لما تمرّد و عصى و استكبر و أبى بعد ما اعتقد بنفسه أنّه من المأمورين صار مطرودا ملعونا.
و ثالثا أنّ الأوامر الالهيّة و التّكاليف الشّرعيّة ما يمتحن به جواهر النّفوس و يعلن ما في بواطنهم و يبرز ما في مكان صدورهم من الخير و الشّر و الشّقاوة فتتمّ به الحجّه و تظهر المحجة(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ).
و اما الشبهة الرابعة و هي السّؤال عن لمّة تعذيب الكفار و المنافقين و ايلامهم بالعقوبة و إبعادهم عن دار الرّحمة و الكرامة،
فالجواب عنها أنّ العقوبات الاخرويّة من اللّه تعالى ليس باعثها الغضب و الانتقام و إزالة الغيظ و نحوها تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، و إنّما هي لوازم و تبعات ساق إليها أسباب داخليّة نفسانيّة و أحوال باطنيّة انتهت إلى التعذيب بنتائجها من الهوى إلى الهاوية و السقوط في أسفل درك الجحيم و مصاحبة الموذيات من العقارب و الحيّات و غيرها و مثالها في هذا العالم الأمراض الواردة على البدن الموجبة للأوجاع و الأسقام بواسطة نهمة سابقة، فكما أنّ وجع البدن لازم من لوازم ما ساق إليه الأحوال الماضية و الأفعال السّابقة من كثرة الأكل أو إفراط الشّهوة و نحوهما من غير أن يكون هاهنا معذّب خارجيّ، فكذلك حال العواقب الاخرويّة و ما يوجب العذاب الأليم الدّائم لبعض النفوس الجاحدة للحقّ المعرضة عن الآيات و هي«نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» و أما الّتي دلّت عليه الأخبار و الآيات الواردة في الكتب الالهيّة و الشّرايع الحقّة من العقوبات الجسمانية الواردة على بدن المسي ء من خارج على ما يوصف في التّفاسير فهي أيضا منشاها أمور باطنية و هيئات نفسانية برزت من الباطن إلى الظاهر و تصورت بصور النيران و العقارب و الحيّات و المقامع من حديد و غيرها، و هكذا حصول الأجسام و الأشكال و الأشخاص في الآخرة كما حقّق في مباحث المعاد الجسماني و كيفيّة تجسّم الأعمال، و دلّ عليه كثير من الآيات مثل قوله تعالى:«وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» و قوله:«وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» و قوله:«كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» و قوله:«إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» ثمّ إذا سلّم معاقب من خارج فان في ذلك أيضا مصلحة عظيمة، لأنّ التّخويف و الانذار بالعقوبة نافع في أكثر الأشخاص و الانقياد بذلك التخويف بتعذيب المجرم المسي ء تأكيد للتّخويف و مقتض لازدياد النفع، ثم هذا التّعذيب، و ان كان شرّا بالقياس الى الشّخص المعذّب لكنّه خير بالقياس الى أكثر أفراد النّوع فيكون من جملة الخير الكثير الذي يلزمه الشرّ القليل كما في قطع العضو لا صلاح البدن و ساير الأعضاء.
و أما الشبهة الخامسة و هي السؤال عن فائدة تمكين الشيطان من الدّخول إلى آدم في الجنّة
حتى غرّه بوسوسته فأكل ما نهي عنه فاخرج به من الجنّة، فالجواب عنها أنّ الحكمة في ذلك و المنفعة عظيمة، فانّه لو بقي في الجنة أبدا لكان بقي هو وحده في منزلته التي كان عليها في أوّل الفطرة من غير استكمال و اكتساب فطرة اخرى فوق الاولى و إذا هبط إلى الأرض خرج من صلبه أولاد لا تحصى يعبدون اللّه و يطيعونه إلى يوم القيامة و يرتقى منهم عدد كثير في كل زمان إلى درجات الجنان بقوّتي العلم و العبادة، و أىّ حكمة و فائدة أعظم و أجلّ و أرفع و أعلى من وجود الأنبياء و الأولياء و من جملتهم سيد المرسلين و أولاده المعصومون صلوات اللّه عليهم و على ساير الأنبياء
و المرسلين، و لو لم يكن في هبوطه إلى الأرض مع إبليس إلا ابتدائه مدّة الدّنيا و اكتسابه درجة الاصطفاء لكانت الحكمة عظيمة و الخير جليلا.
و أما الشبهة السادسة و هي السؤال عن وجه الحكمة في تسليطه على ذرّية آدم بالاغواء و الوسوسة
بحيث يراهم من حيث لا يرونه، فالجواب عنها أن نفوس أفراد البشر في أوّل الفطرة ناقصة بالقوّة، و مع ذلك بعضها خيرة نورانية شريفة بالقوّة مايلة إلى الامور القدسية عظيمة الرغبة إلى الاخرة، و بعضها خسيسة الجوهر ظلمانية شريرة مائلة إلى الجسمانيّات عظيمة في ايثار الشهوة و الغضب، فلو لم يكن الاغواء و لا طاعة النّفس و الهوى لكان ذلك منافيا للحكمة لبقائهم على طبقة واحدة من نفوس سليمة ساذجة فلا تتمشي عمارة الدّنيا بعدم النفوس الجاسية الغلاظ العمالة في الأرض لأغراض دنيّة عاجلة، ألا ترى إلى ما روي من قوله تعالى في الحديث القدسي: انّي جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم، و ما روي أيضا في الخبر: لو لا أنّكم تذنبون لذهب اللّه بكم و جاء بقوم يذنبون.
و أما الشبهة السابعة و هي السؤال عن فائدة إمهاله إلى يوم الوقت المعلوم
فالجواب عنها بمثل ما ذكرناه، فان بقائه تابع لبقاء النّوع البشري بتعاقب الأفراد و هي مستمرّة إلى يوم القيامة، فكذلك وجب استمراره لأجل ايراثه الفائدة التي ذكرناها في وجوده و وجود وسوسته إلى يوم الدين، انتهى ما أهمنا نقله و بعض أجوبته غير خال عن التأمل فتأمل
|