فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الارض و خلق آدم عليه السلام
و هي الخطبة الاولى من المختار فى باب الخطب
و يذكر فيها صفة الحجّ و وجوبه، و هي من جلائل خطبه و مشاهيرها، و قد رواها المحدث
العلّامة المجلسى طاب ثراه في كتاب البحار إلى قوله الى يوم الوقت المعلوم آخر الفصل
الحادي عشر من كتاب عيون الحكمة و المواعظ لمحمّد بن علي الواسطي مرسلة كما في الكتاب،
و شرحها في ضمن فصول:
الفصل الاول
الحمد للّه الّذي لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصي نعمائه العادّون و لا يؤدّي حقّه
المجتهدون.
اللغة
(الحمد) و المدح و الشكر متقاربة المعاني و مشتركة في الدّلالة على الثّناء الجميل،
و ربّما يحكم باتحاد الأوّلين و كونهما أخوين قال في الكشاف: الحمد و المدح أخوان،
و هو الثّناء و النّداء على الجميل من نعمة و غيرها، تقول: حمدت الرّجل على انعامه
و حمدت على حسنه و شجاعته انتهى، و نسبه الشّارح المعتزلي إلى أكثر الادباء و المتكلمين،
و مثل لهما بقوله: حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه، و حمدته على شجاعته و
مدحته على شجاعته، ثم قال: فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الانسان، و فيما ليس من
فعله كما ذكرناه من المثالين هذا و لكنّ المعروف أخصّية الحمد من المدح بوجوه: أحدها
أن الحمد هو الثّناء على ذي علم و حياة لكماله، و المدح هو الثّناء على الشّي ء لكماله،
سواء كان ذا علم و حياة أم لا، أ لا ترى أنّ من رأى لؤلؤة في غاية الحسن، أو ياقوتة
كذلك، فانّه قد يمدحها، و يستحيل أن يحمدها.
الثّاني أن الحمد لا يكون إلّا بعد الاحسان، و المدح قد يكون قبل الاحسان و قد يكون
بعده.
الثّالث أن الحمد هو الثّناء على الجميل الاختياري، تقول: حمدته على كرمه، و لا تقول:
على حسنه، و المدح يعم الاختياري و غيره.
و أما الشكر فربما يعرّف بأنّه تعظيم المنعم من حيث انّه منعم على الشّاكر، فيكون أخصّ
من الحمد من وجه و اعم منه بوجه آخر.
أمّا الأوّل فلأنّ الشكر لا يكون الّا على النّعمة الواصلة إلى الشاكر، و الحمد يكون
على النّعمة و غيرها، و على النّعمة العائدة إلى الحامد و غيرها و أمّا الثّاني فلأن
الحمد لا يكون إلّا باللّسان، و الشكر يكون باللّسان و الجوارح و القلب، قال الشّاعر:
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثةيدي و لساني و الضمير المحجبا
أقول: هكذا فرق جماعة بينهما منهم الزّمخشري و التّفتازاني و البيضاوي و غيرهم، إلّا
أن تخصيص مورد الحمد باللّسان يشكل بقوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ
شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
اللّهمّ إلّا أن يراد باللّسان الأعم من لسان الحال و لسان المقال، بعنوان عموم المجاز،
فانّه سبحانه حيث بسط بساط الوجود على أفراد الممكنات و آحاد الموجودات، و وضع عليه
موائد كرمه و ألطافه التي لا تتناهى، فكلّ ذرّة من ذرات الوجود لسان حال ناطق بحمده،
و نظيره إرادة الخضوع التكويني و الافتقار الذّاتي من السّجود الظاهر في وضع الجبهة
في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ
الْجِبالُ وَ.
فان قلت: سلّمنا هذا كله و لكنّك ما تصنع بقوله: و لكن لا تفقهون تسبيحهم، فان التّسبيح
و الحمد بلسان الحال مفقوه معلوم قلنا: الخطاب للمشركين، و هم و إن كانوا إذا سئلوا
عن خالق السّماوات و الأرض قالوا: اللّه، إلّا أنّهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم
فكأنّهم لم ينظروا و لم يقرّوا، لأنّ نتيجة النّظر الصحيح و الاقرار الثّابت خلاف ما
كانوا عليه، فاذن لم يفقهوا التّسبيح و لم يستوضحوا الدلالة على الخالق هذا، و مثل
هذا الاشكال و الجواب يجري في قوله سبحانه: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ.
و لا حاجة إلى تكلف التّأويل بانّه يسبّح سامع الرّعد من العباد، الرّاجين للمطر حامدين
له كما تحمله في الكشاف، و يأتي ان شاء اللّه تحقيق ذلك في شرح المختار المأة و التسعين
بما لا مزيد عليه.
(و اللّه) اسم جامد علم للذّات المستجمع لصفات الكمال، و اختار جموده جماعة من المفسرين
و غيرهم محتجّين بحجج مذكورة في محالها.
و ذهب الكوفيون إلى أنّ الأولين قالوا: باشتقاقه من إله على وزن فعال، فادخلت عليه
الألف و اللّام للتّعظيم، فصار الاله، فخذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة،
فاجتمع لامان فادغمت الاولى، و الآخرين قالوا: بأن اصله لاه، فادخلت عليه الألف و اللّام،
فقيل اللّه، و أمّا لفظة الالاه، فقال الزّمخشري و تبعه الشّارح المعتزلي و غيره: إنّه
من أسماء الأجناس اسم يقع على كلّ معبود بحقّ أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحقّ كالنّجم
للثّريا، و الكتاب لكتاب سيبويه، و البيت لبيت اللّه، و السّنة لعام القحط.
و ذهب جماعة الى اشتقاقها و اختلفوا في أصلها على أقوال شتّى: فقيل إنّها مأخوذة من
أله إلاهة و الوهة و الوهية، من باب منع إذا عبد عبادة، فالاله بمعنى مألوه، ككتاب
بمعنى مكتوب، و بساط بمعنى مبسوط، و انكار الشّارح المعتزلي له لا وجه له مع تصريح
جماعة من اللغويّين و المفسرين به، و لكونها بهذا المعنى صحّ تعلق الظرف بها في قوله: هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ.
و قيل: إنّها مأخوذة من أله إذا تحيّر، لتحيّر العقول في معرفة ذاته.
و قيل: إنّها مأخوذة من ألهت إلى فلان، أى سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره سبحانه،
و الأرواح تسكن إلى معرفته، أو من ألهت إلى فلان، أى فزعت إليه، لأن العائذ يفزع إليه
و هو يجيره.
و قيل: إنّها من لاه مصدر لاه يليه ليها و لاها إذا احتجب و ارتفع، لأنّه تعالى محجوب
عن إدراك الأبصار، و مرتفع على كلّ شي ء، و قيل أقوال اخر يطول ذكرها.
فان قيل: ما معنى الاشتقاق الذي ذكرته قلت: الاشتقاق على ما ذكره الزّمخشري و غيره
هو أن ينتظم الصّيغتين فصاعدا معنى واحد و هذا موجود بينها و بين الاصول المذكورة (و
البلوغ) هو الوصول أو المشارفة يقال: بلغ المكان بلوغا من باب نصر إذا وصل إليه أو
شارف عليه، و الثاني أكمل و أبلغ بالنّسبة إلى المقام (و المدحة) قال الشّارح المعتزلي:
هي هيئة المدح، كالركبة هيئة الركوب، و الجلسة هيئة الجلوس، و في القاموس مدحه كمنعه
مدحا و مدحة، أحسن الثّناء عليه (و المجتهد) من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه و طاقته
في طلبه ليبلغ مجهوده و يصل إلى نهايته.
الاعراب
الحمد مرفوع بالابتداء، و خبره للّه، و أصله النّصب، و به قرء بعضهم في الكتاب العزيز
باضمار فعله، على انّه من المصادر السّادة مساد الأفعال، مثل شكرا و كفرا، و العدول
من النّصب إلى الرّفع للدّلالة على الثبات و الاستقرار، و مثله قوله تعالى: قالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ.
حيث رفع الثّاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحية أحسن من تحيّتهم،
لأنّ الرّفع دال على معنى ثبات السّلام لهم دون تجدده و حدوثه، و حرف التّعريف الدّاخل
عليه للجنس، لأنّه المتبادر إلى الفهم الشّايع في الاستعمال، لا سيّما في المصادر و
عند خفاء قراين الاستغراق، أو لأنّ المصادر الخالية عن اللواحق و الدّواخل لا تدل إلّا
على الماهية لا بشرط شي ء، كما ادّعى السّكاكى إجماع أهل العربية عليه في محكيّ كلامه،
و حرف التّعريف لا تفيد إلّا التّعيين و الاشارة، فيكون معناها الاشارة إلى ما يعرفه
كل أحد أن الحمد ما هو.
قال في الكشّاف: التّعريف فيه نحو التّعريف في أرسلها العراك، و هو تعريف الجنس إلى
أن قال: فالاستغراق الذي يتوهّمه كثير من النّاس و هم، و قيل: إنّها للاستغراق، و ربّما
يرجح على الأوّل بما فيه من إفادتها رجوع جميع المحامد إليه سبحانه بخلاف الأوّل.
و فيه أن كونها للجنس لا ينافي ذلك، و ذلك لأنّ اللّام في قوله للّه إمّا للملك كما
في قولنا: المال لزيد، أو للاختصاص كما في قولنا: الحصير للمسجد، و على التقديرين فتفيد
رجوع المحامد إليه سبحانه، لأنّ معناه أنّ ماهيّة الحمد حق للّه و ملك له و مختص به،
و ذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهيّة لغير اللّه، فثبت على هذا القول أيضا أنّ
قوله عليه السلام: الحمد للّه ينفي حصول الحمد لغير اللّه.
فان قيل: أ ليس أنّ المنعم يستحقّ الحمد من المنعم عليه و الاستاذ من التلميذ قلنا:
كلّ من أنعم على غيره فالانعام في الحقيقة من اللّه سبحانه، لأنّه تعالى لو لا خلق
تلك الدّاعية في قلب المنعم لما أقدم على ذلك الانعام، و لو لا أنّه خلق تلك النّعمة
و سلّط ذلك المنعم عليها و مكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النّعمة،
فثبت أنّ المنعم في الحقيقة هو اللّه سبحانه قال تعالى: وَ ما
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و الالف و اللّام في القائلون للاستغراق،
لعدم خلاف ظاهر بين أصحابنا في إفادة الجمع المعرّف للعموم، و هو المتبادر منه أيضا
و يدلّ عليه أيضا جواز الاستثناء مطردا، و منه يظهر فساد ما توهّمه القطب الرّاوندي
على ما حكاه عنه الشّارح المعتزلي من كونها فيه للجنس كما في الحمد، مضافا إلى لزوم
إرادة الاستغراق و العموم في خصوص المقام و إن لم نقل به في ساير المقامات، لعدم تماميّة
المعنى إلّا به، لأنّ المبالغة بل الحقّ المحض عجز جميع القائلين عن حمده، و معلوم
أنّ الجنس لا يفيد ذلك.
المعنى
(الحمد للّه) أى الثناء الحسن حقّ و مخصوص للذّات المستجمع للصّفات الجماليّة و الجلاليّة.
و عن تفسير الامام عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: اللّه هو الذي يتأله
إليه كلّ مخلوق عند الحوائج و الشّدائد، إذا انقطع الرّجاء من كلّ من دونه، و تقطع
الأسباب من جميع من سواه.
و عنه عليه السلام أيضا اللّه أعظم اسم من أسماء اللّه عزّ و جلّ، لا ينبغي أن يتسم
به غيره.
و في التّوحيد عنه عليه السلام أيضا اللّه معناه المعبود الذي يأله«» فيه
الخلق و يوله إليه، و المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات.
و فيه عن الباقر عليه السلام اللّه معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك مائيّته، و
الاحاطة بكيفيّته، و يقول العرب: أله الرّجل إذا تحيّر في الشي ء فلم يحط به علما،
و وله إذا فزع إلى شي ء ممّا يحذره و يخافه، فالاله هو المستور عن حواس الخلق (الذي
لا يبلغ مدحته القائلون) أى لا يشارف على مدحه أحد من آحاد القائلين، فكيف يصلون إليه
و هو إشارة إلى العجز عن القيام بحمده سبحانه كما هو أهله و مستحقّه، و من ثمّ قال
صلّى اللّه عليه و آله: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
فان قلت: روى في الكافي عن الصّادق عليه السلام ما أنعم اللّه على عبده بنعمته صغرت
أو كبرت فقال: الحمد للّه إلّا أدّى شكرها، فكيف التّوفيق بينه و بين النّبويّ و الخطبة
قلت: يمكن الجمع بينهما بأنّ المراد بها إظهار العجز عن الحمد و الثّناء اللّايق بحضرته
سبحانه كما أشرنا إليه، و المراد بأداء الشكر فيه، أداؤه اللّايق بحال العبد الموجب
لسقوط تكليف الشكر عنه و المحصّل لرضائه سبحانه و تعالى عنه بهذا المقدار بكرمه العميم
و لطفه الجسيم.
و يشير إليه ما رواه الصّادق عن أبيه عليهما السّلام قال: فقد أبي بغلة له، فقال: لان
ردّها اللّه تعالى لأحمدنّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن اتي بها بسرجها و لجامها فلما
استوى عليها و ضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء، فقال: الحمد للّه، و لم يزد، ثمّ
قال: و ما تركت و ما أبقيت شيئا جعلت كلّ أنواع المحامد للّه عزّ و جلّ، ما من حمد
إلّا هو داخل فيما قلت انتهى.
قيل: و إنّما اختار عليه السلام القائلين على المادحين، لكونه أبلغ، من حيث إنّ القائل
أعمّ من المادح، و عدم بلوغ الأعم بمدحته مستلزم لعدم بلوغ الأخص.
أقول: و الأولى أن يقال: إنّ السّر في العدول عنه إليه هو أنّ الغرض من الجملة الوصفيّة
الاشارة إلى عدم إمكان القيام على مدحته حسبما عرفت سابقا، فاذا لم يمكن القيام عليه
لم يوجد هناك من قام به المدح، فلا يوجد له مادح في الحقيقة، و التّعبير بالمادحين
ينافي هذا الغرض، كما أنّ التّعبير بالقائلين يؤكده، لأنّ فيه إشعارا بأنّ من صدر عنه
مدح فهو قول يليق بقائله و ليس بمدح حقيقي يليق به تعالى كما لا يخفى، و يأتي إن شاء
اللّه تمام التّحقيق في عدم إمكان مدحه و وصفه سبحانه في شرح الخطبة المأة و السّابعة
و السّبعين (و لا يحصي نعمائه العادّون) إذ النّعم غير محصورة، و الفيوضات غير متناهية،
فلا يحيط بها عدّ، و لا يضبطها حدّ.
قال سبحانه: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
قال البيضاوي: لا تحصروها، و لا تطيقوا عدّ أنواعها فضلا من أفرادها، فانّها
غير متناهيّة، ثمّ قال: و فيه دليل على أنّ المفرد يفيد الاستغراق بالاضافة.
أقول: أمّا إفادة المفرد المضاف للعموم في الآية فممّا لا غبار عليه، لقيام القرينة،
و أمّا دلالته عليه مطلقا فمحلّ منع كما برهن في الاصول (و لا يؤدّي حقّه المجتهدون)
أى حقّه اللّازم على العباد و إن بذلوا وسعهم و طاقتهم، و اجتهدوا في أدائه و قضائه،
و المراد بالحقّ اللّازم هو القيام على شكر النّعماء، و حمد الآلاء، فأشار عليه السلام
إلى أنّه لا يمكن القيام بوظايف حمده، لأنّ الحمد من جملة نعمه، فيستحق عليه حمدا و
شكرا، فلا ينقضي ما يستحقه من المحامد، لعدم تناهي نعمه، فالأولى حينئذ الاعتراف بالعجز
و القصور.
كما اعترف به داود النبيّ عليه السلام فيما روي عنه، حيث قال: يا ربّ كيف أشكرك، و
شكري لك نعمة اخرى توجب علىّ الشكر لك، فاوحى اللّه إليه، إذا عرفت أنّ النّعم منّي
رضيت منك بذلك شكرا.
و مثله موسى عليه السلام روى في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أوحى اللّه
عزّ و جلّ إلى موسى: يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا ربّ كيف أشكرك حقّ شكرك و ليس
من شكر أشكرك به إلّا و أنت أنعمت به علىّ، قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك
منّي. و من طريق العامة في مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنت يا ربّ أسبغت
علىّ النّعم السّوابغ فشكرتك عليها، فكيف لي بشكر شكرك فقال اللّه تعالى: تعلّمت العلم
الذي لا يفوته علم، فحسبك أن تعلم أنّ ذلك من عندي، و في هذا المعنى قال محمود الورّاق:
شكر الاله نعمة موجبة لشكرهو كيف شكري برّه و شكره من
برّه
و قال آخر:
إذا كان شكري نعمة اللّه نعمةعلىّ بها في مثلها يجب
الشّكر
فكيف بلوغ الشّكر إلّا بفضله
و إن طالت الأيّام و اتصل العمر
و في الكافي عن السّجاد عليه السلام، أنّه إذا قرء قوله تعالى:
وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلّا المعرفة بالتّقصير عن معرفتها، كما
لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنّه لا يدرك، فشكر اللّه تعالى معرفة
العارفين بالتّقصير عن معرفة شكره، فجعل معرفتهم بالتّقصير شكرا كما علّم العالمين
أنّهم لا يدركونه، فجعله اللّه إيمانا، علما منه أنّه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك،
فان شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته، و كيف يبلغ مدى عبادته من لا مدى له و لا كيف
تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
الترجمة
يعنى ستايش مر خداوند معبود بحقّ واجب الوجودى راست كه نمى رسد بثناى او يا بهيئة ثناى
او جميع گويندگان، و شمار نمى توانند نمايند نعمتهاى او را جميع شمارندگان، و بجا نمى
توانند آورد حق نعمت او را سعى و كوشش كنندگان، و لنعم ما قيل:
حق شكر تو نداند هيچكسحيرت آمد حاصل دانا و بس
آن بزرگى گفت با حقّ در نهان
كاى پديد آرنده هر دو جهان
اى منزّه از زن و فرزند و جفتكى توانم شكر نعمتهات گفت
پيك حضرت دادش از ايزد پيام
گفتش از تو اين بود شكر مدام
چون در اين ره اين قدر بشناختىشكر نعمتهاى ما پرداختى
الفصل الثاني
الّذي لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن الّذي ليس لصفته حدّ محدود و لا نعت
موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود.
اللغة
(البعد) ضدّ القرب (و الهمم) جمع الهمّة و هو العزم و الجزم الثّابت الذي لا يعتريه
فتور (و النيل) الاصابة (و الغوص) النّزول تحت الماء لاستخراج ما فيه، و منه قيل: غاص
في المعاني إذا بلغ أقصاها حتّى استخرج ما بعد منها (و الفطن) جمع الفطنة و هي الجودة
و الحذاقة (و الوقت) مقدار حركة الفلك (و الاجل) هو الوقت المضروب للشّي ء الذي يحلّ
فيه، و منه أجل الانسان للوقت المقدر فيه موته، و أجل الدّين للوقت الذي يحل فيه قضاؤه.
الاعراب
الذي موصول اسميّ و هو مع صلته في محل الجرّ صفة للّه، و الجملة بعده صلة له، و لا
محلّ لها من الاعراب، و اضافة البعد إلى الهمم، لفظية بمعنى اللام، كاضافة الغوص إلى
الفطن، و ليست من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف على ما قاله بعضهم، لأنّ هذه الاضافة
بعد الاغماض عن الاشكال في أصلها و البناء على مذهب الكوفيّين من صحّتها، لا يمكن جريانها
في المقام، إذ المطابقة بين الصّفة و الموصوف في الافراد و نقيضيه لازمة، و هي في المقام
منتفية، اللّهم إلّا أن يوجّه بان الصّفة هنا مصدر، و يستوي فيه التّذكير و التّأنيث
و الافراد و الجمع و لا باس به.
المعنى
(الذي لا يدركه بعد الهمم) أى لا يدركه همم أصحاب النّظر و أوهام أرباب الفكر و ان
علت و بعدت، و المراد ببعدها تعلقها بالامور المعظمة، و المبادي العالية (و لا يناله
غوص الفطن) أى لا يصيب كنه ذاته غوص أرباب الفطن في بحار معرفته و كنه حقيقته.
قال الصّدر الشّيرازي: و اسناد الغوص إلى الفطن على سبيل الاستعارة، إذ الحقيقة إسناده
إلى الحيوان بالنّسبة، و هو مستلزم لتشبيه العلوم العقلية بالماء و وجه الاستعارة هاهنا
أنّ صفات الجلال و نعوت الكمال، في عدم تناهيها و الوصول إلى حقايقها و أغوارها، تشبه
البحر الخضم الذي لا يصل السّابح له إلى الساحل، و لا ينتهي الغائص فيه إلى قرار، و
كان السّابح لذلك البحر، و الخائض في تياره هي الفطن الثّاقبة، لا جرم كانت الفطنة
شبيهة بالغائص في البحر، فاسند الغوص إليها، و في معناه الغوص في الفكر، و يقرب منه
إسناد الادراك إلى بعد الهمم، اذ كان الادراك حقيقة في لحوق جسم لجسم آخر.
ثمّ وجه الحسن في إضافة بعد الهمم، و غوص الفطن و قد مرّ أنّه من باب إضافة الصّفة
بلفظ المصدر إلى الموصوف دون أن يقول كما هو الأصل: الهمم البعيدة، و الفطن الغائصة،
أنّ المقصود لما كان هو المبالغة في عدم إصابة وصفه تعالي بالفطنة من حيث هي ذات غوص،
و بالهمّة من حيث هي ذات بعد، كانت تلك الحيثيّة مقصودة بالقصد الأوّل، و البلاغة تقتضي
تقديم الأهمّ و المقصود الأوّل على ما ليس بأهمّ على ما هو المقرّر عند أهل البيان،
و يشهد له الأذواق السّليمة.
اذا عرفت ذلك فنقول: هاتان الفقرتان إشارتان إلى عدم إمكان إدراك ذاته، و الوصول إلى
حقيقته و هو ممّا لا ريب فيه.
و برهانه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن هشام بن
الحكم، قال: الأشياء لا تدرك إلّا بأمرين بالحواس و القلب، و الحواس إدراكها على ثلاثة
معان: إدراك بالمداخلة، و إدراك بالمماسة، و إدراك بلا مداخلة و لا مماسة.
فامّا الادراك الذي بالمداخلة فالأصوات و المشام و الطعوم.
و أمّا الادراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التّربيع و التّثليث، و معرفة اللين و الخشن،
و الحرّ و البرد.
و أمّا الادراك بلا مماسة و لا مداخلة فالبصر، فانّه يدرك الأشياء بلا مماسة و لا مداخلة
في حيّز غيره لا في حيّزه، و إدراك البصر له سبيل و سبب، فسبيله الهواء، و سببه الضّياء،
فاذا كان السّبيل متّصلا بينه و بين المرئي و السّبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان
و الأشخاص، فاذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعا فحكى ما ورائه، كالنّاظر
في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة، فاذا لم يكن له سبيل رجع راجعا و يحكي ما ورائه،
و كذلك النّاظر إلى الماء الصّافي يرجع راجعا فيحكي ما ورائه، إذ لا سبيل له في إنفاذ
بصره، فأمّا القلب فإنّما سلطانه على الهواء، فهو يدرك جميع ما في الهواء و يتوهّمه،
فاذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا، رجع راجعا فحكى ما في الهواء، فلا ينبغي
للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التّوحيد، فانّه إن فعل ذلك
لم يتوهم إلّا ما في الهواء موجود، كما قلنا في أمر البصر تعالى اللّه أن يشبهه خلقه
انتهى.
توضيحه أنّ المدارك على كثرتها منحصرة في أمرين، لأنّ العوالم على كثرتها منحصرة في
عالمين أحدهما عالم الدّنيا و الشّهادة، و الثاني عالم الغيب و الآخرة، فالمدرك لما
في عالم الشّهادة هو إحدى الحواس الخمس، و المدرك لما في عالم الغيب هو القلب، و المراد
بالقلب مجمع المشاعر الباطنة، أعني الخيال و الوهم و العقل.
أمّا مدركات الحواس فلا تتجاوز عن المحسوسات، و هي منحصرة في الجسم و الجسمانيات، و
اللّه سبحانه منزّه عن ذلك.
و أمّا مدركات القلوب فانّما هي منحصرة لما في الهواء، و المراد بالهواء هو الفضاء
ما بين السّماء و الأرض، و لعل المراد به هنا عالم الامكان طولا و عرضا، و تسميته بالهواء
من باب تسمية الكلّ باسم الجزء.
و أنّما قلنا إن المراد به ذلك، لأنّ إدراك القلب غير مقصور على مدركات الحواس، و لا
مشروط بشرايط إدراك الحواس فيدرك جميع ما في الهواء بوساطة و لا بوساطة بالتّوهم، فاذا
حمل القلب على إدراك ما ليس بموجود في الهواء يعود راجعا، فيخترع صورة من عنده، فيحكي
لما ليس بموجود في العين بما يخترع في وهمه، و هكذا عادته في المواضع المظلمة و المخاوف،
فلا بدّ للعاقل أن لا يحمل قلبه على إدراك ما ليس بموجود، كحمله على الموجود، و لا
يحمل على ما ليس بمحسوس لأن لا يقع في غلط الوهم، و كذا من طلب إدراك الحق من طرق الحواس
وقع في الزّيغ و الضّلال، فانّه سبحانه أجلّ و أعظم من أن يطلب و ينال من سبيل الحس
و الخيال، و لذلك قال الباقر عليه السلام: كلما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مصنوع
مثلكم، مردود إليكم.
فقد تلخّص ممّا ذكرنا كله أن كلّ سابح في بحار جلاله غريق، و كلّ مدّع للوصول إليه
فبأنوار كبريائه حريق، سبحانه و تعالى شانه علوّا كبيرا (الذي ليس لصفته حدّ محدود)
الظاهر أنّ المراد بصفته: الصّفات الذّاتية، و هي العلم و الحياة و القدرة و الاختيار
و أمثالها، و المراد بالحدّ: الغاية و النّهاية، يقال: هذا حدّ الأرض أى غايتها و منتهاها،
و المحدود من حدّ الشّي ء عن الشّي ء إذا عيّنه، فالمعنى أنّه ليس لصفاته غاية معينة،
و نهاية مميّزة.
و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن الكابلي قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام
في دعاء: الحمد للّه منتهى علمه، فكتب إلىّ لا تقولن منتهى علمه، فليس لعلمه منتهى،
و لكن قل منتهى رضاه، هذا و يحتمل أن يكون المراد بالحدّ: الحدّ المنطقي، و هو ما يعرّف
به الشّي ء فيكون المعنى أنّه ليس لذاته حدّ يعرف به قياسا على الأشياء المحدودة، و
ذلك لأنّه ليس بمركب و كلّ محدود مركب، و في الكافي عن أبي حمزة، قال: قال لي عليّ
بن الحسين عليهما السّلام: يا با حمزة إنّ اللّه لا يوصف بمحدوديّة، عظم ربّنا عن الصّفة،
و كيف يوصف بمحدوديّة من لا يحدّ.
أقول: يعنى من ليس له حدّ لتنزّهه عن الاجزاء و النّهايات، و الحدّ مستلزم للتّجزية
و التكثّر المنافي للوجوب الذّاتي، و عدم الافتقار، و يمكن أن يكون وصف الحدّ بالمحدود
من باب المبالغة و التّأكيد من قبيل شعر شاعر، و حجرا محجورا، و نسيا منسيّا، و نحو
ذلك، أو المفعول بمعنى الفاعل كما في قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً
أي ساترا وَ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أى
آتيا (و لا نعت موجود) أى رسم موجود يرسم به قياسا على الأشياء المرسومة بلوازمها و
أوصافها، و الّا يلزم كون الذّات محلّا للأعراض و الأوصاف و هو منزّه عن ذلك.
و يدل عليه ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار قال: إنّ اللّه لا يوصف، و كيف يوصف
و قد قال في كتابه: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فلا
يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك، و في رواية أبي حمزة، عن عليّ بن الحسين عليهما
السّلام، قال: قال: لو اجتمع أهل السّماء و الأرض أن يصفوا اللّه بعظمته لم يقدروا.
قال بعض المحقّقين لأنّ الذات الأحدية و الهوية القيوميّة، ممّا لا ماهيّة له، و لا
جزء لذاته، فلا جدّ له و لا صورة تساويه، فلا حكاية عنه، و لأن وجوده الذي هو عين ذاته
غير متناه الشّدة في النّوريّة فلا يكتنهه لاحظ، و لا يستقر لادراكه ناظر (و لا وقت
معدود، و لا أجل ممدود) لأنّه أزليّ أبدي واجب الوجود لا يختصّ وجوده بوقت دون وقت،
و بأجل دون أجل، بل هو خالق الوقت و الأجل لا ابتداء لوجوده، و لا انتهاء لبقائه.
و لذلك نهي في الأخبار الكثيرة عن السؤال عنه سبحانه بمتى، كما في الكافي عن أبي عبد
اللّه عليه السلام، قال: جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا
أمير المؤمنين: متى كان ربّك فقال له: ثكلتك امّك و متى لم يكن حتّى يقال متى كان،
كان ربّنا قبل القبل بلا قبل، و بعد البعد بلا بعد، و لا غاية و لا منتهى لغاية، انقطعت
الغايات عنده، فهو منتهى كلّ غاية، فقال: يا أمير المؤمنين أ فنبيّ أنت فقال: ويلك
إنّما أنا عبد من عبيد محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
قال بعض شرّاح الحديث: متى عبارة عن نسبة المتغيرات إلى الزّمان، و هذا يستلزم أن يكون
الموجود في شطر من الزّمان، غير موجود فيه سابقا و لا لاحقا، فاذا قيل لشي ء متى كان
فمعناه السّؤال عن خصوصيّة الوقت الذي اتّفق وجوده فيه، دون ساير الأوقات، كما إذا
قيل أين كان، فمعناه السّؤال عن خصوصية مكانه الذي وجد فيه دون ساير الأمكنة.
و بالجملة الزّمان لكونه مقدار الحركة علة تغيّر الأشياء الزّمانيّة و لا علّة لتغيره
لأنّه بنفسه متغير غير قارّ الذّات، و لمّا لم يكن وجوده سبحانه زمانيّا، لأنّه غير
متغيّر أصلا و لا بمتحرّك، و لا علاقة له بمتحرّك، لا يكون واقعا في الزّمان فلا يصحّ
السّؤال عنه بمتى و لذلك نبّه على فساد السّؤال عنه بمتى بقوله: و متى لم يكن حتّى
يقال متى كان، فانّ من خاصيّة المنسوب إلى الزّمان أنّه ما لم ينقطع نسبته عن بعض أجزاء
الزّمان، لم ينسب إلى بعض آخر فالموجود في هذا اليوم غير الموجود في الغد، و لا في
الأمس، و لكن الباري جل جلاله لكونه محيطا بجميع الموجودات إحاطة قيوميّة، فنسبته إلى
الثّابت و المتغيّر و المجرّد و المكان نسبة واحدة، و لم يزل و لا يزال من غير أن يتصوّر
في حقّه تغيّر، و تجدّد بوجه من الوجوه، لا في ذاته و لا في صفته و لا في إضافته و
نسبته، فصحّ القول بأنّه لا يخلو منه زمان.
و قوله عليه السلام: قبل القبل بلا قبل، أى هو قبل كلّ من يفرض له القبليّة، و مثله
بعد البعد بلا بعد و لا غاية أى و لا نهاية لوجوده في جهة القبليّة و البعديّة، لكونه
أزليّا أبديّا، و لا منتهى لغاية أى ليس نهاية لامتداد إذ ليس له كميّة مقتضية لاتّصافة
بالأطراف و النّهايات و اقترانه بالامتداد و الغايات، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى
كلّ غاية، لأنّه منتهى غرض الخلايق و مفزعهم في المهمّات و المقاصد، فهو منتهى سير
السّايرين، و غاية شوق المسافرين، و نهاية قصد الطالبين.
الترجمة
يعنى همچنان خداوندى كه نمى تواند درك كند كنه ذات شريف او را بلندى همتهاى صاحبان
فكر و نظر اگر چه تعمّق نمايند و امعان نظر بكنند، و نمى تواند برسد بر حقيقت او غوطه
خوردن حذاقتها و فهمها در درياى معرفت ذات او اگر چه سعى و كوشش ورزند.
بعقل نازى حكيم تا كىبفكرت اين ره نمى شود طى
بكنه ذاتش خرد برد پى
اگر رسد خس بقعر دريا
و آن خدائى كه نيست أوصاف جماليّة و صفات كماليّه او را غايت و نهايتى معيّن كه از
آنجا تجاوز ننمايد، يا اين كه نيست صفات ذاتيّه او را معرّفى كه بكنهه او را تعريف
و تحديد نمايد و نه معرّفى كه بعوارض و اوصاف شرح ماهيت آنرا دارد، و نيست اوصاف او
را وقتى شمرده شده، و نه مدّتى كشيده گرديده.
الفصل الثالث
فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرّياح برحمته، و وتد بالصّخور ميدان أرضه.
اللغة
(فطر) اللّه الخلق فطرا من باب نصر خلقهم و الاسم الفطرة، كالخلقة لفظا و معنى و (النّشر)
البسط، يقال: نشر المتاع ينشره نشرا إذا بسط، و منه ريح نشور و رياح نشر، (و الرّياح)
جمع الرّيح، و الياء فيها منقلبة عن الواو لانكسار ما قبلها، و جمع القلة أرواح بالواو
إذ لم يوجد فيه ما يوجب الاعلال، و ربّما يفرق بين الرّيح و الرّياح بأنّ الثّانية
من أسباب الرّحمة و آثارها، و الاولى ليست كذلك و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه
و آله أنّه كان يقول اذا هبّت ريح: اللّهمّ اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا. و يشهد
به الاستقراء أيضا قال سبحانه: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ
وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ و قال: وَ أَمَّا
عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ وَ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ.
إلى غير هذه من الآيات و (وتد) كوعد يتد وتدا و تدة يقال: وتد الوتد إذا ثبّته و قد
يستعمل لازما يقال: وتد الوتد إذا ثبت و (ميدان) بفتح الميم و الياء مصدر يقال: مادا
الشّي ء يميد ميدا، من باب ضرب و ميدانا، مثل نزعان إذا تحرّك.
الاعراب
الجملات الثّلاث لا محل لها من الأعراب و إضافة ميدان إلى الأرض بمعنى اللّام، و قيل
انّها من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف بتاويل أرضه المائدة و الأوّل أولى.
المعنى
قوله: (فطر الخلائق) أى خلقهم (بقدرته) و هذه اللفظة مأخوذة من الكتاب العزيز، قال
سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ
و في سورة إبراهيم: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ
وَ الْأَرْضِ و في الانعام: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ
وَلِيًّا، فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.
أى خالقهما، و في بعض التّفاسير أى مبتدئهما و مبتدعهما، استشهادا بما عن ابن عباس
قال: ما كنت أدري ما فاطر السّماوات و الأرض حتّى اختصم إلى أعرابيّان في بئر فقال
أحدهما: أنا فطرتها، أى ابتدأتها انتهى.
و قيل إن فاطر من الفطر بمعنى الشّق، كما في قوله سبحانه: إِذَا
السَّماءُ انْفَطَرَتْ اي انشقّت.
أقول: و يشهد به ما في حديث الخلقة في بيان الاشباح لآدم عليه السلام: و هذه فاطمة،
و أنا فاطر السّماوات و الأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، و فاطم أوليائي
عمّا يعرهم و يشينهم، فشققت لها اسما من اسمي، و سيأتي الحديث بتمامه عند شرح خلقة
آدم في التّنبيه الثّاني من تنبيهات الفصل العاشر هذا، و في قوله عليه السلام بقدرته
اشارة إلى ان خلق الأشياء بنفس القدرة التي هي عين ذاته، لا بشي ء آخر، و أما ساير
الصّناع و الفواعل فليسوا كذلك، فان صنعهم، و فعلهم بشي ء غير ذواتهم كآلة أو ملكة
نفسانية، أو مادة أو معاون، مثلا إذا أنشأ إنسان كتابا فانّه يحتاج إلى آلة كاليد و
القلم، و إلى ملكة الكتابة، و إلى مادة كالمداد و القرطاس و إلى معاون يتّخذ له الآلة
الخارجة و يصلح مادّة الكتابة، و أمّا صنعه سبحانه، فلا يحتاج إلى شي ء من ذلك، و إنّما
هو بنفس ذاته الواجب، و نفس قدرته الكاملة.
و القدرة في الأصل القوة و عند المتكلّمين هي الصّفة التي يتمكن معها الحيّ من الفعل
و تركه بالارادة، و أمّا عند الحكماء عبارة عن كون الفاعل بحيث إن شاء فعل، و إن لم
يشأ لم يفعل، و قدرته تعالى قيل: هو كون ذاته بذاته في الأزل بحيث يصحّ منه خلق الاشياء
فيما لا يزال على وفق علمه بها، و هي عين ذاته، و قيل هي علمه بالنّظام الأكمل من حيث
إنه يصحّ صدور الفعل عنه، و قيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه، و قيل: هي فيض الأشياء
عنه بمشيّته التي لا تزيد على ذاته، و هي العناية الأزليّة، و سيأتي تحقيق الكلام فيها
و في غيرها من الصّفات الثّبوتيّة، عند شرح قوله عليه السلام: و كمال الاخلاص له نفي
الصّفات عنه، فانتظر.
و (نشر الرّياح برحمته) أى بسطها و فرقها على الأطراف و الأكناف برحمته الواسعة، و
نعمته السّابغة، لما فيها من المصالح و المنافع التي لا تعدّ و لا تحصى، منها ما اشير
اليه في الآية الشّريفة، قال سبحانه في سورة الأعراف: وَ هُوَ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ
سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا
بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.
أى يرسل الرّياح و يطلقها منتشرة في الأرض على قراءة نشرا بالنّون، أو مبشّرة بالغيث
على قراءة عاصم بالباء، بين يدي رحمته، و هو المطر، حتّى اذا حملت سحابا ثقالا بالماء،
سقنا السّحاب إلى بلد ميّت، خال من الماء و الكلاء، فأنزلنا به أى بالسّحاب الماء،
فأخرجنا بالماء من كلّ الثّمرات، و إلى هذا المضمون أيضا اشير في سورة الفرقان و النّمل
و الرّوم.
و الجملة فالرّياح من أعظم النّعماء، و أسبغ الآلاء، لما فيها من إنبات النّبات و الأزهار،
و إلقاح الأشجار و ايناع الثمار و رفع كثافات الهواء، و تطيب الماء و الكلاء، إلى غير
ذلك من الثّمرات التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه و تعالى هذا و بقي الكلام في مهبّ الرّياح
و أقسامها.
فنقول: روى الصدوق في العلل باسناده عن العرزمي قال: كنت مع أبي عبد اللّه عليه السلام
جالسا في الحجر«» تحت الميزاب، و رجل يخاصم رجلا و أحدهما يقول لصاحبه
و اللّه ما تدري من أين تهب الرّيح، فلما أكثر عليه قال له أبو عبد اللّه عليه السلام:
هل تدري أنت من أين تهب الرّيح قال: لا و لكنّي أسمع النّاس يقولون، فقلت لأبي عبد
اللّه عليه السلام من أين تهب الرّيح فقال: إنّ الرّيح مسجونة تحت هذا الرّكن الشّامي
فاذا أراد اللّه عزّ و جل أن يرسل منها شيئا أخرجه إمّا جنوبا فجنوب، و إمّا شمالا
فشمال، و إما صبا فصبا، و إمّا دبورا فدبور، ثم قال: و آية ذلك أنّك ترى هذا الرّكن
متحرّكا أبدا في الصّيف و الشّتاء و اللّيل و النّهار.
قال المحدث العلّامة المجلسي: و لعلّ المراد بحركة الرّكن حركة الثّوب المعلق عليه.
و في الفقيه و الكافي عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرّياح الأربع:
الشّمال، و الجنوب، و الصبا، و الدبور، و قلت له: إنّ النّاس يقولون إنّ الشّمال من
الجنّة، و الجنوب من النّار، فقال: إن للّه جنودا من رياح، يعذب بها من يشاء ممّن عصاه،
فلكلّ ريح منها ملك موكل بها، فاذا أراد اللّه عزّ ذكره أن يعذب قوما بنوع من العذاب،
أوحى إلى الملك الموكل بذلك النّوع من الرّيح التي يريد أن يعذبهم بها، قال: فيأمرها
الملك فتهيج كما يهيج الأسد المغضب، و قال: و لكلّ ريح منهنّ اسم: أما تسمع قوله عزّ
و جلّ: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ، إِنَّا
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ و قال الرِّيحَ
الْعَقِيمَ و قال: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ و
قال: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
و ما ذكر من الرّياح التي يعذب اللّه بها من عصاه، و قال عليه السلام و للّه عزّ ذكره
رياح رحمة لواقح، و غير ذلك ينشرها بين يدي رحمته، منها ما يهيّج السّحاب للمطر، و
منها رياح تحبس السّحاب بين السّماء و الأرض، و رياح تعصر السّحاب فتمطر باذن اللّه،
و منها رياح تفرّق السّحاب، و منها رياح ممّا عدّ اللّه في الكتاب.
فأمّا الرّياح الأربع: الشّمال، و الجنوب، و الصبا، و الدّبور، فانّما هي أسماء الملائكة
الموكلين بها، فاذا أراد اللّه أن يهب شمالا، أمر الملك الذي اسمه الشّمال، فيهبط على
البيت الحرام، فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه، فتفرّقت ريح الشّمال«»
حيث يريد اللّه من البرّ و البحر.
و إذا أراد اللّه أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب، فيهبط على البيت الحرام،
فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه فتفرّقت ريح الجنوب في البرّ و البحر حيث يريد
اللّه.
و إذا أراد اللّه أن يبعث الصّبا أمر الملك الذي اسمه الصّبا فهبط على البيت الحرام،
فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه، فتفرّقت ريح الصّبا حيث يريد اللّه عزّ و جلّ
في البرّ و البحر.
و إذا أراد اللّه أن يبعث دبورا، أمر الملك الذي اسمه الدّبور فهبط على البيت فقام
على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه، فتفرّقت ريح الدّبور حيث يريد اللّه من البرّ و البحر.
ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما تسمع لقوله«»: ريح الشمال، و ريح الجنوب،
و ريح الدّبور، و ريح الصّبا، إنّما تضاف إلى الملائكة الموكلين بها.
أقول: يعني إضافة بمعنى اللّام لا إضافة بيانيّة هذا.
و عن الشّهيد في الذكرى أنّ الجنوب محلّها ما بين مطلع سهيل إلى مطلع الشّمس في الاعتدالين،
و الصّبا محلّها ما بين الشّمس إلى الجدى، و الشّمال محلها من الجدى إلى مغرب الشّمس
في الاعتدالين، و الدّبور من مغرب الشّمس إلى مطلع سهيل انتهى.
لا يقال: إن المستفاد من الرّواية السّابقة، كون مهبّ جميع الرّياح جهة القبلة، و هو
مناف لما ذكره الشّهيد.
لانّا نقول: إن ظاهره و إن كان ذلك إلّا أنّه يمكن تأويلها بأنّ الملك لعظمه و عظم
جناحه يمكن أن يحرّك رأس جناحه بأىّ موضع أراد و يرسلها إلى أىّ جهة امر بالارسال إليها،
و إنّما امر بالقيام على الكعبة لشرافتها، و قيل: ضرب الجناح علامة أمر الملك الرّيح
للهبوب، و إنّما احتجنا إلى التأويل، لأنّ كون جميع الرّياح من طرف القبله خلاف ما
يشهد به الوجدان (و وتد بالصّخور ميدان أرضه) يعني ثبّت بالجبال حركة أرضه و اضطرابها،
فهي كالوتد لها مانعة عن اضطرابها. قال سبحانه في سورة النّحل:
وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أى كراهة أن تميد،
و مثلها في سورة لقمان، و في الانبياء: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ
رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ و الرّواسي جمع الراسية أى الجبال العالية
الثّابتة، و في سورة النّبأ: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً،
وَ الْجِبالَ أَوْتاداً روى عن ابن عبّاس أنّ الأرض بسطت على الماء فكانت
تكفأ«» بأهلها كما تكفأ السّفينة، فأرساها اللّه بالجبال.
و عن الخصال عن الصّادق عن أبيه عن جدّه، عليهم السّلام، أنّ النّبي صلّى اللّه عليه
و آله و سلم قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا خلق البحار فخرت و زخرت و قالت: أىّ
شي ء يغلبني فخلق اللّه الفلك، فأدارها به و ذللها، ثمّ إنّ الأرض فخرت و قالت: أيّ
شي ء يغلبني فخلق اللّه الجبال فأثبتها في ظهرها أوتادا من أن تميد بما عليها، فذلت
الأرض و استقرت، و يأتي فيه طائفة من الأخبار في شرح الفصل الثّامن من فصول الخطبة
هذا، و الاشكال بعد في كيفيّة كون الجبال سببا لسكون الأرض، و قد ذكروا فيها وجوها:
منها ما ذكره الفخر الرّازي في التّفسير الكبير، و هو أنّ السّفينة اذا القيت على وجه
الماء، فانّها تميل من جانب إلى جانب و تضطرب، فاذا وقعت الأجرام الثّقيلة فيها، استقرّت
على وجه الماء، فكذلك لمّا خلق اللّه الأرض على وجه الماء اضطربت، و مادت، فخلق اللّه
عليها هذه الجبال و وتدها بها، فاستقرّت على وجه الماء بسبب ثقل الجبال.
ثم قال: لقائل أن يقول: هذا يشكل من وجوه الأوّل أنّ هذا المعلّل إمّا أن يقول بأن
حركات الأجسام بطباعها، أو يقول ليست بطباعها بل هي واقعة بايجاد الفاعل المختار.
الأجسام بطباعها، أو يقول ليست بطباعها بل هي واقعة بايجاد الفاعل المختار.
فعلى التّقدير الأوّل نقول لا شكّ إنّ الأرض أثقل من الماء، و الأثقل يغوص في الماء
و لا يبقى طافيا عليه، فامتنع أن يقال: إنّها كانت تميد و تضطرب، بخلاف السّفينة، فانّها
متّخذة من الخشب، و في داخل الخشب تجويفات، غير مملوة، فلذلك تميد و تضطرب على وجه
الماء، فاذا ارسيت بالأجسام الثقيلة استقرت و سكنت، فظهر الفرق.
و أمّا على التّقدير الثّاني و هو أن يقال: ليس للأرض و الماء طبايع يوجب الثّقل و
الرّسوب، و الأرض إنّما تنزل لأن اللّه تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك، و إنّما صار
الماء محيطا بالأرض، لمجرّد إجراء العادة، و ليس هاهنا طبيعة للأرض و لا للماء توجب
حالة مخصوصة، فنقول: على هذا التّقدير علّة سكون الأرض هي انّ اللّه يخلق فيها السّكون،
و علّة كونها مائدة مضطربة، هو أنّ اللّه يخلق فيها الحركة فيفسد القول بأنّ اللّه
خلق الجبال لتبقى الأرض ساكنة، فثبت أنّ التّعليل مشكل على كلا التّقديرين انتهى.
ثم ذكر ساير الاشكالات الواردة على المعلّل، تركنا التعرّض لها مخافة الاطناب.
أقول: و يمكن الجواب عن الاشكال بأن يقال: إنّا نختار أنّ الأرض بطبيعتها طالبة للمركز،
لكن إذا كانت خفيفة كان الماء يحرّكها بأمواجه حركة قسريّة، و يزيلها عن مكانها الطبيعي
بسهولة، فكانت تميد و تضطرب بأهلها و تغوص قطعة منها، و تخرج قطعة منها، و لمّا أرساها
اللّه بالجبال، و أثقلها قاومت الماء و أمواجه بثقلها، فكانت كالأوتاد و مثبتة لها،
و منها ما ذكره أيضا و اختاره حيث قال: و الذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال:
إنّه ثبت بالدلائل اليقينيّة أنّ الأرض كرة و أنّ هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية
مجرى خشونات و تضريسات تحصل على وجه هذه الكرة، إذا ثبت هذا فنقول، لو فرضنا أنّ هذه
الخشونات كانت معدومة بل كانت الأرض كرة حقيقة خالية عن هذه الخشونات و التّضريسات،
لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأنّ الجرم البسيط المستدير و إن لم يجب كونه
متحرّكا بالاستدارة عقلا، إلّا أنّه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه، امّا إذا حصل على
سطح كرة الأرض هذه الجبال، و كانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة، فكلّ واحد من هذه
الجبال إنّما يتوجه بطبعه إلى مركز العالم، و توجه ذلك الجبل نحو مركز العالم، بثقله
العظيم و قوته الشّديدة، يكون جاريا مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة فكان
تخليق هذه الجبال على الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها من الحركة المستديرة،
و كانت مانعة للأرض عن الميد و الميل و الاضطراب بمعنى أنّها منعت الأرض عن الحركة
المستديرة، فهذا ما وصل إليه خاطري في هذا الباب و اللّه أعلم انتهى.
و اعترض عليه بأنّ كلامه لا يخلو عن تشويش و اضطراب، و الذي يظهر من أوائل كلامه، هو
أنّه جعل المناط في استقرار الأرض الخشونات و التّضريسات من حيث إنّها خشونات و تضريسات،
و ذلك إمّا لممانعة الأجزاء المائية الملاصقة لتلك التّضريسات، لاستلزام حركة الأرض
زوالها عن مواضعها و حينئذ يكون علّة السّكون هي الجبال الموجودة في الماء، لا ما خلقت
في الرّبع المكشوف من الأرض و هو خلاف الظاهر من قوله تعالى:
وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها.
و القول: بأنّ ما في الماء أيضا من فوقها، فلعلّ المراد تلك الجبال لا يخلو عن بعد
مع أنّها ربّما كانت معاونة لحركة الأرض، كما إذا تحركت كثرة الماء بتموّجها أو تموّج
أبعاضها المقارنة لتلك الخشونات، و إنّما تمانعها عن الحركة احيانا عند حركة بعضها،
و امّا لممانعة الأجزاء الهوائية المقاربة للجبال الكائنة على الرّبع الظاهر، فكانت
الأوتاد مثبتة لها في الهواء، مانعة عن تحريك الماء بتموّجه إيّاها كما يمانع الجبال
المخلوقة في الماء عن تحريك الرّياح إيّاها، و حينئذ يكون وجود الجبال في كلّ منهما
معاونا لحركة الأرض في بعض الصّور، معاوقا عنها في بعضها، و لا مدخل حينئذ لثقل الجبال
و تركبها في سكون الأرض و استقرارها.
و منها ما اختاره العلّامة المجلسي في البحار، و هو أن يكون مدخليّة الجبال لعدم اضطراب
الأرض بسبب اشتباكها و اتّصال بعضها ببعض في أعماق الأرض بحيث تمنعها عن تفتّت أجزائها
و تفرّقها، فهي بمنزلة الأوتاد المغروزة المثبتة في الأبواب المركبة عن قطع الخشب الكثيرة،
بحيث تصير سببا لالصاق بعضها ببعض و عدم تفرّقها، و هذا معلوم ظاهر لمن حفر الآبار
في الأرض، فانّها تنتهي عند المبالغة في حفرها إلى الأحجار الصّلبة، و أنت ترى أكثر
قطع الأرض واقعة بين جبال محيطة بها، فكأنّها مع ما يتّصل بها من القطعة الحجريّة المتّصلة
بها من تحت تلك القطعات، كالظرف لها، تمنعها عن التفتّت و التفرّق و الاضطراب عند عروض
الأسباب الداعية إلى ذلك، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها، و اللّه العالم بحقايق
الامور.
|