«الفصل التاسع»
«ثمّ فتق سبحانه ما بين السّموات العلى، فملأهنّ أطوارا من ملائكته، فمنهم سجود لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون، و صافّون لا يتزايلون، و مسبّحون لا يسأمون، لا يغشيهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النّسيان، و منهم أمناء على وحيه، و ألسنة إلى رسله، و مختلفون بقضائه و أمره، و منهم الحفظة لعباده، و السّدنة لأبواب جنانه، و منهم الثّابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، و المارقة من السّماء العليا أعناقهم، و الخارجة من الأقطار أركانهم، و المناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفّعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة و أستار القدرة، لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين، و لا يحدّونه بالأماكن، و لا يشيرون إليه بالنّظاير.»
اللغة
(أطوار) جمع طور كثوب و أثواب، و هو في الأصل التّارة يقال: أتيته طورا بعد طور، أى تارة بعد تارة، و يجي ء بمعنى الحالة، و المراد به هنا الأصناف المختلفة كما فسّر به قوله تعالى: «و قد خلقكم أطوارا».
أى مختلفين في الصّفات، أغنياء و فقراء، و زمناء و أصحاء، (و الملائكة) مأخوذة من الالوك و هو الرّسالة، يقال: ألك بين القوم ألكا من باب ضرب، و الألوك الرّسول، و واحدها ملك، و أصله على ما قاله الفيومي ملأك، و وزنه معفل، فنقلت حركة الهمزة إلى اللّام و سقطت لكثرة الاستعمال فوزنه معفل فانّ الفاء هى الهمزة و قد سقطت، و قيل: مأخوذ من لاك إذا ارسل، فملاءك مفعل فنقل الحركة و سقطت الهمزة و هى عين، فوزنه مفل و على كل تقدير فملك إمّا اسم مكان بمعنى محلّ الرّسالة، أو مصدر ميميّ بمعنى المفعول (و السّجود) و (الرّكوع) هنا جمع ساجد و راكع، و فاعل الصّفة يجمع على فعول إذا جاء مصدره عليه أيضا (و الانتصاب) القيام (و الصّف) من صففت الشي ء من باب نصر إذا نظمته طولا مستويا و منه صفّ الجماعة (و التزايل) التّفارق (و السّامة) الملالة و الضّجر (و يغشيهم) مضارع غشيته أى أتيته (و الفترة) الانكسار و الضّعف (و السّدنة) جمع سادن كخدمة و خادم لفظا و معنى (و المارقة) أى الخارجة يقال: مرق السّهم من الرّمية إذا خرج من الجانب الآخر (و الاقطار) الأطراف (و الأركان) جمع الرّكن كأقفال و قفل و هو جانب الشّي، و المراد هنا الأجزاء و الجوارح (و النّاكس) المتاطي ء رأسه (و تلفّع) بالثّوب تلحف و اشتمل به (و النظائر) جمع نظيرة و هي المثل و الشّبه في الأشكال و الأفعال و الأخلاق، و النّظير المثل في كلّ شي ء قيل«»: و في بعض النّسخ بالنّواظر، أى بالابصار، و في بعضها بالمواطن أى بالأمكنة.
الاعراب
كلمة ثمّ هنا للتّرتيب الحقيقي فيكون فتق السّماوات بعد خلق الشّمس و القمر بل بعد جعلها سبعا و خلق الكواكب فيها، و يحتمل أن يكون للتّرتيب الذكري، و ناكسة و تالياها مرفوعات على أنّها أوصاف للمناسبة المرفوعة بالابتداء أو معطوفات عليها أو على الثّابتة بحذف العاطف، و مسوغ الابتداء في المعطوفات مع نكارتها إمّا عطفها على ما يصح الابتداء، أو كون الخبر مجرورا، مثل و لكلّ أجل كتاب، أو كون الصفة عاملة عمل الرّفع، و هذه قواعد ثلاث من القواعد المصحّحة للابتداء بالنكرات، صرّح به ابن هشام في المغني، أو لقيام الصّفة مقام الموصوف و هو رابع القواعد المسوّغة للابتداء بالنكرة كما قرّر في الأدبيّة، مثل مؤمن خير من مشرك، أى رجل مؤمن خير، و يحتمل أن يكون ناكسة و المرفوعان بعدها خبرا لمبتدأ محذوف، و الجملة استينافا بيانيّا كأنّه سئل عن حال الملائكة المتّصفة بالأوصاف السّالفة و عن شأنهم، فقال عليه السّلام: هم ناكسة الأبصار دون العرش هذا و عن بعض النّسخ ناكسة و متلفعين و مضروبة بالنّصب على الحالية، و مثلها محلّ الجملات بعدها، أعني قوله لا يتوهّمون اه.
المعنى
لما ذكر عليه السّلام كيفيّة خلق السّماوات السّبع و تزيينها بزينة الشّمس و القمر و الكواكب، أشار بعد ذلك إلى سكّانها و حالات السّاكنين فيها و صفاتهم و أصنافهم المختلفة باختلاف الصّفات، و أقسامهم الكثيرة بكثرة الشّئون و الحالات فقال عليه السّلام: (ثم فتق ما بين السّماوات العلى) المستفاد من كلام الشّارح البحراني أن كلمة ثمّ هنا للتّرتيب الذّكري حيث قال: فان قلت: لم أخر ذكر فتق السّماوات و إسكان الملائكة لها عن ذكر إجراء الشّمس و القمر و تزيينها بالكواكب و معلوم أنّ فتقها متقدّم على اختصاص بعضها ببعض الكواكب قلت: إنّ إشارته إلى تسوية السماوات إشارة جمليّة، فكأنّه قدّر أوّلا أن خلق السّماوات كرة واحدة كما عليه بعض المفسرين، ثم ذكر علياهنّ و سفلاهن لجريانهما مجرى السّطحين الدّاخل و الخارج لتلك الكرة، ثم أشار إلى بعض كمالاتها و هي الكواكب و الشّمس و القمر جملة، ثم بعد ذلك أراد التّفصيل فأشار إلى تفصيلها و تمييز بعضها عن بعض بالفتق و إسكان كلّ واحدة منهنّ ملاء معيّنا من الملائكة، ثم عقب ذلك بتفصيل الملائكة، و لا شك أن تقديم الاجمال و تعقيبه بالتفصيل أولى في الفصاحة انتهى.
أقول: ظاهر كلمة ثمّ و ظاهر سياق كلامه عليه السّلام أنّها هنا للتّرتيب الحقيقي فيستفاد منهما أن خلق السّماوات بعد خلق الشّمس و القمر و الكواكب، و بعد جعلها سببا، و دعوى معلوميّة تقدّم الفتق على اختصاص بعضها ببعض الكواكب ممنوعة إذ لم يقم دليل على التقدّم، بل يمكن أن يكون السّماوات السّبع مرتتقة مطبقة مخلوقة فيها الكواكب، ثم فصّل بينها بالهواء و نحوه، كما روي نظيره في مجمع البيان عن ابن عبّاس في تفسير الآية الشّريفة:«أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما».
حيث قال: المعنى كما كانتا ملتزقتين منسدّتين ففصّلنا بينهما بالهواء، عن ابن عبّاس و غيره انتهى.
فان قيل: قد مضى في ثالث تنبيهات الفصل السّابق في حديث أبي جعفر عليه السّلام ما يدل على بطلان هذا التّفسير، حيث أمر الشامي بالاستغفار عن زعم كون المراد بالرّتق و الفتق الالتصاق و الانفصال إلى آخر ما مضى.
قلت: ما ذكرناه هنا من مجمع البيان إنّما هو على سبيل التّنظير، ضرورة أنّ كلامنا في فتق السّماوات، و تفسير ابن عبّاس كالحديث السّابق ناظران إلى فتق السّماء و الأرض، و أحدهما غير الآخر، و بطلان احتمال الالتصاق بين السّماء و الأرض بدليل خاص لا يوجب بطلان احتمال الالتصاق في السّماوات السّبع.
و الحاصل أنّه لا دليل على كون ثمّ في كلامه عليه السّلام للترتيب الذكري بخصوصه بل يحتمل ذلك و كونها للترتيب المعنوي، و على أى تقدير ففي كلامه عليه السّلام دلالة على بطلان مذهب الفلاسفة من تماس الأفلاك و عدم الفصل بينهما بهواء و نحوه.
و كيف كان فلما خلق اللّه سبحانه السّماوات و فصّل بعضها عن بعض (ملأهنّ أطوارا من ملائكته) و أسكنهم فيها على وفق ما يقتضيه تدبيره و حكمته، و للنّاس في ماهية الملائكة آراء متشتّة و أهواء مختلفة.
فمنهم من قال: إنّها أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة كاملة في العلم و القدرة على الأفعال الشّاقة، مسكنها السّماوات، رسل اللّه إلى أنبيائه و امناءه على وحيه يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون، و لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، نسبه في شرح المقاصد إلى أكثر الامة و الفخر الرّازي إلى أكثر المسلمين.
و منهم من قال: إنّها هي هذه الكواكب الموصوفة بالاسعاد و الانحاس، المسعدات ملائكة الرّحمة، و المنحسات ملائكة العذاب، و هو مذهب عبدة الأوثان.
و منهم من قال: إنّهم متولّدون من جوهر النّور لا على سبيل التناكح، بل على سبيل تولد الضوء من المضي ء، و الحكمة من الحكيم، كما أنّ الشّياطين متولدون من جوهر الظلمة حسب تولد السّفه من السّفيه، و هو رأى معظم المجوس و الثّنويّة المثبتين للأصلين حسب ما مر تفصيله في شرح الفصل السّابع من فصول الخطبة، و هذه الأقوال متّفقة في كون الملائكة أشياء متحيزة جسمانية.
و منهم من قال: إنّهم في الحقيقة هي الأنفس النّاطقة بذاتها المفارقة للأبدان على نعت الصّفا و الخيريّة، كما أنّ الشّياطين هي الأنفس النّاطقة على وصف الخباثة و الكدرة، و هو قول طائفة من النّصارى.
و منهم من ذهب إلى أنّها جواهر قائمة بأنفسها و مخالفة بنوع النّفوس النّاطقة البشريّة من حيث الماهيّة و أكمل منها قوة، و أكثر علما، و إنّما النفوس البشريّة جارية منها مجرى الأضواء بالنسبة إلى الشّمس، ثمّ إنّ هذه الجواهر على قسمين منها ما هي بالنّسبة إلى أجرام الأفلاك و الكواكب كنفوسنا النّاطقة بالنسبة إلى أبداننا و منها ما هي أعلى شأنا من تدبير أجرام الأفلاك، بل هي مستغرقة في معرفة اللّه و محبّته، و مشتغلة بطاعته، و هذا القسم هم الملائكة المقرّبون، و نسبتهم إلى الملائكة الذين يدبّرون السّماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة، و هذان القسمان اتّفقت الفلاسفة على إثباتهما.
و منهم من أثبت نوعا آخر و هي الملائكة المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي ثم قالوا: إنّ المدبرات إن كانت خيرات فهم الملائكة، و إن كانت شريرة فهم الشّياطين، و هذه الأقوال الأخيرة متّفقة في نفي التّحيز و الجسمية عنها هذا.
و قال المحدّث المجلسي طاب ثراه في البحار: اعلم أنه اجتمعت الاماميّة بل جميع المسلمين إلّا من شذّ منهم من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب اصولهم و تضييع عقايدهم: على وجود الملائكة، و أنّهم أجسام لطيفة نورانية اولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع و أكثر قادرون على التّشكل بالاشكال المختلفة، و أنّه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما شاء من الأشكال و الصّور على حسب الحكم و المصالح، و لهم حركات صعودا و هبوطا، و كانوا يراهم الأنبياء و الاوصياء عليهم السّلام، و القول بتجرّدهم و تأويلهم بالعقول و النّفوس الفلكية و القوى و الطبايع و تأويل الآيات المتظافرة و الأخبار المتواترة تعويلا على شبهات واهية و استبعادات وهميّة، زيغ عن سبيل الهدى، و اتّباع لأهل الهوى و العمى انتهى.
ثمّ إنّ للملائكة أقساما لا تحصى حاصلة من اختلافهم في النّعوت و الصّفات، و تفاوتهم في المراتب و الدّرجات، فمنهم الكرّوبيون و منهم الرّوحانيون و منهم المدبّرون و منهم الحافظون و منهم المسبحون و منهم الصّافون و منهم أمناء الوحى و سفراء الرسل و منهم الخزنة للجنان و منهم الزّبانية للنيران إلى غير ذلك، و قد أشار إلى جملة منها الامام سيّد السّاجدين و زين العابدين عليه السّلام في دعاء الصّحيفة في الصلاة على حملة العرش و كل ملك مقرّب، و أمّا الامام عليه السّلام فقد قسمهم هنا إلى أقسام أربعة و فصّلهم بكلمة من، و الظاهر أنّ القسمة ليست حقيقية، بأن يكون بين الأقسام تباينا و انفصالا حقيقيا، ضرورة جواز اتّصاف بعض هذا الأقسام بالأوصاف الثّابتة لغيره، و جواز اجتماع اثنين منها، أو ثلاثة أو جميع الأربعة في نوع واحد أو فرد واحد كما قال عليه السّلام في الصّحيفة السّجادية: «أللّهم و حملة عرشك الّذين لا يفترون من تسبيحك، و لا يسأمون من تقديسك».
حيث أثبت لحملة العرش كونهم مسبحين و قد فصل«» هنا حيث قال عليه السّلام: و مسبّحون لا يسأمون، و منهم الثّابتة اه و قد علم ممّا ذكرنا أنّ هذه القسمة ليست أيضا بعنوان منع الجمع، فبقي كونها بعنوان منع الخلوّ، أو جميع أصناف الملائكة من المذكورين هنا و غيرهم يمكن دخوله في قوله عليه السّلام: و مسبّحون لا يسأمون، إذ ما من ملك إلّا و هو مسبّح له سبحانه كما قال سبحانه حكاية عنهم: و نحن نسبح بحمدك، غاية الأمر أنّ بعضا منهم متّصف مع ذلك بصفة اخرى أوجبت جعله قسما برأسه فافهم.
و ممّا ذكرنا يظهر ما في كلام القطب الرّاوندي على ما حكى عنه الشّارح المعتزلي من جعله حفظة العباد و السّدنة لأبواب الجنان مع امناء الوحى قسما واحدا و ارجاعه الأقسام الأربعة إلى الثلاثة، كما يظهر منه أيضا ما في كلام الشّارح البحراني من جعله امناء الوحى و ألسنة الرّسل و المختلفين بالقضاء و الأمر، داخلين في الأقسام السّابقة على هذا القسم في كلامه عليه السّلام، لما عرفت من أنّ تفصيله في الأقسام باعتبار اختلاف الصّفات، لا باعتبار القسمة الحقيقية، و معه لا داعى إلى تقليل الأقسام و إرجاع بعضها إلى بعض و إدخالها فيه، و إن كان المقصود بيان أن حفظة العباد و السدنة للأبواب كما أنّ فيهم وصف الحافظة و السدانة كذلك فيهم وصف الامانة.
فنقول: إنّ فيهم وصف المسبحية أيضا فما الدّاعى إلى جعلهم مع الامناء بخصوصهم قسما واحدا، و كذلك نقول: إنّ اتّصاف امناء الوحى و ألسنة الرّسل و المختلفين بالقضاء و الأمر، بكونهم مع ذلك أيضا سجودا لا يركعون مثلا لا يوجب إدخالهم في هذا القسم، لانّا نقول: إنّهم متّصفون مع ذلك بكونهم حفظة العباد أيضا فانّ جبرئيل مثلا مع كونه أمين الوحى كان حافظا لابراهيم عليه السّلام مثلا عند إلقاء النّار، و ليوسف عليه السّلام في غيابة الجبّ و نحو ذلك.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى شرح الكلام و توضيح الأقسام التي أشار إليها بقوله: (فمنهم) أى القسم الأوّل منهم (سجود لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون، و صافّون لا يتزايلون، و مسبحون لا يسأمون) يعني أنّ بعضا منهم ساجد لا يرفع رأسه من السجود ليركع، و منهم من هو راكع لا يقوم من ركوعه، و منهم صافّون للعبادة لا يتفارقون من مكانهم، و منهم مسبحون لا يملّون من تسبيحهم، كما قال سبحانه حكاية عنهم:«وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ».
إشارة إلى تفاوت مراتبهم و درجاتهم في العبادة، أى ما منّا أحد الّا له مقام معلوم في العبادة و المعرفة و الانتهاء إلى أمر اللّه في تدبير العالم، و إنّا لنحن الصافّون في اداء الطاعة و منازل الخدمة، و إنّا لنحن المسبحون المنزّهون اللّه عمّا لا يليق به.
و قيل: إنّ المراد بالصّافين القائمون صفوفا في الصلاة، و عن الكلبي صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدّنيا في الأرض، و عن الجبائي المعنى صافون بأجنحتنا في الهواء للعبادة و التّسبيح، و المراد بالمسبحين القائلون سبحان اللّه على وجه التعظيم للّه هذا.
و ينبغي أن يعلم أنّ المراد بالسجود و الرّكوع و الصّف و التسبيح في كلامه عليه السّلام ما هو المتبادر منها، أعني وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه في الأوّل، و الانحناء في الثّاني، و القيام في خط مستطيل في الثّالث، و قول سبحان اللّه و نحوه في الرابع، و أنكر الشّارح البحراني ذلك و لا بأس بنقل عبارته لتوضيح ما رامه.
قال: ثمّ إنّ السّجود و الرّكوع و الصّف و التسبيح عبادات متعارفة من الحقّ و متفاوتة في استلزام كمال الخشوع و الخضوع، و لا يمكن حملها على ظواهرها المفهومة منها، لأنّ وضع الجبهة على الأرض و انحناء الظهر و الوقوف في خط واحد و حركة اللّسان بالتسبيح امور مبنيّة على وجود هذه الآلات التي هي خاصة ببعض الحيوانات، و بالحري أن يحمل تفاوت المراتب المذكورة لهم على تفاوت كمالاتهم في الخضوع و الخشوع لكبرياء اللّه و عظمته، إطلاقا للفظ الملزوم على لازمه على أنّ السجود في اللّغة هو الانقياد و الخضوع كما مر.
إذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يكون قوله منهم سجود إشارة إلى مرتبة الملائكة المقربين، لأن درجتهم أكمل درجات الملائكة، فكانت نسبة عبادتهم و خضوعهم إلى خضوع من دونهم كنسبة خضوع السجود إلى خضوع الرّكوع.
فان قلت: إنّه قد تقدّم أنّ الملائكة المقرّبين مبرءون عن تدبير الأجسام و التعلّق بها، فكيف يستقيم أن يكونوا من سكّان السّماوات و من الأطوار الذين ملئت بهم.
قلت: إنّ علاقة الشّي ء بالشّي ء و إضافته إليه يكفي فيها أدنى مناسبة بينهما، و المناسبة هنا حاصلة بين الأجرام السّماويّة و بين هذا الطور من الملائكة، و هي مناسبة العلّة للمعلول، و الشّرط للمشروط انتهى، و أشار بقوله: فان قلت: إنه قد تقدّم اه، إلى ما ذكره سابقا من أن المقرّبين هم الذّوات المقدّسة عن الجسمية و الجهة، و عن حاجتها إلى القيام بها و عن تدبيرها اه.
أقول: و أنت خبير بما فيه.
أما اولا فلأنّ صرف الألفاظ المذكورة عن معانيها الظاهرة فيها حسب ما اعترف به«» لا وجه له، بل قد قام الأخبار المتواترة على المعنى الظاهر، مثل ما رواه في البحار عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أرى ما لا ترون، و أسمع ما لا تسمعون إنّ السّماء أطت«» و حقّ لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلّا و ملك واضع جبهته ساجد اللّه.
و عن ابن جبير أنّ عمر سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن صلاة الملائكة فلم يرد عليه شي ء فأتاه جبرئيل فقال إنّ أهل سماء الدّنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك و الملكوت، و أهل السّماء الثّانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة و الجبروت، و أهل السّماء الثّالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحيّ الذى لا يموت.
و في الأنوار عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مررنا ليلة المعراج بملائكة من ملائكة اللّه عزّ و جل، خلقهم اللّه كيف شاء، و وضع وجوههم كيف شاء ليس شي ء من أطباق وجوههم إلّا و هو يسبح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتّسبيح و البكاء من خشية اللّه، فسألت جبرئيل عنهم، فقال: كما ترى خلقوا إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قط: و لا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقهم، و لا خفضوا رؤوسهم إلى ما تحتهم، خوفا من اللّه و خشوعا، فسلّمت عليهم فردّوا علىّ ايماء برءوسهم، و لا ينظرون إلىّ من الخشوع، فقال لهم جبرئيل: هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله اللّه إلى العباد رسولا و نبيّا، و هو خاتم الأنبياء و سيّدهم، قال: فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا علىّ بالسّلام، و بشّروني و أكرموني بالخير لي و لامّتي.
قال الشّارح: إنّه جاء في الخبر أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتّهليل و التكبير، و من ورائهم مأئة ألف صفّ قد وضعوا الايمان على الشّمائل ما منهم أحد إلّا و هو يسبّح إلى غير ذلك، ممّا يقف عليه المتتبّع، فانّ نصّ الرّواية الأولى أنّ سجود الملائكة إنّما هو بوضع الجبهة، و المستفاد من تخصيص السّاجدين بالسّماء الدّنيا و الرّاكعين بالثّانية، و القائمين بالثّالثة، في الرّواية الثّانية أنّ المراد من كلّ من الألفاظ المذكورة معانيها المتعارفة، إذ لو اريد المعنى الذي ذكره الشّارح لزم أن يكون السّاجدون الذين هم أكمل خشوعا، أدنى درجة و أسفل مكانا من الرّاكعين الذين هم أدنى خشوعا منهم، و هكذا و هو كما ترى.
و منه يظهر أيضا فساد ما ذكره الشّارح في شرحه من جعل السّاجدين عبارة عن المقرّبين، و الراكعين عبارة عن حملة العرش، و الصّافين عبارة عن الحافّين حول العرش، بملاحظة أنّ زيادة الخشوع يوجب ارتفاع الدّرجة، و السّاجد أعلى خشية من الرّاكع فيكون أعلى درجة منه، و الرّاكع أكمل خشوعا من الصّافين فيكون أعلى مقاما منهم.
وجه ظهور الفساد أنّ ما ذكره من قبيل الاستدلال بالعقل، و لا عبرة به في مقابل النصّ الدّال على الخلاف، و أمّا الرّواية الثّالثة فقد استفيد منها أنّ تسبيح الملائكة إنّما هو برفع الأصوات و تكلّمهم بحركة اللّسان، حيث إنّهم ردّوا السّلام أوّلا على النّبي بالايماء، ثم تعرض عليهم جبرئيل بالتكلّم فسلّموا عليه صلّى اللّه عليه و آله و بشروه، و أمّا الرّواية الرّابعة فقد دلت على أنّ صفّ الملائكة إنّما هو بالقيام، كما دلّت على تسبيحهم برفع الأصوات هذا.
و ممّا ذكرناه عرفت أيضا ما في تخصيص الجوارح و الآلات ببعض الحيوات، و إنكار ثبوتها في حقّ الملائكة على ما هو المستفاد من ظاهر كلامه، فانّ هذا عجب غاية العجب، ضرورة أنّ الملائكة لهم أيد و أرجل و عواتق و أبصار و وجوه و أجنحة إلى غير ذلك من الجوارح المثبتة لهم في الآيات و الأخبار و الآثار، بل كان أن يكون ضروريا، غاية الأمر أنّ جوارحهم ليس من قبيل جوارحنا كثيفة، بل نورانية لطيفة، و الظاهر أنّ ما ذكره من فروعات مذهب الفلاسفة المستندة إلى الأوهام السخيفة و العقول النّاقصة و الاستبعادات الوهميّة حسبما عرفت سابقا، و لا يعبأ بها قبال الأدلّة القاطعة و البراهين السّاطعة.
و أما ثانيا فلأنّه لقائل أن يقول: إنّه إذا لم يكن خضوع الملائكة و خشوعهم بعنوان السّجدة و الرّكوع و القيام و التّسبيح و نحو ذلك من العناوين المتصوّرة في عبادات البشر ففي ضمن أىّ عنوان يخضعون و يخشعون و إن كان المراد بالخضوع التكويني، ففيه أنّ الخضوع التكويني عامّ لجميع الموجودات، و لا اختصاص له بالملائكة، إذ كلّ شي ء خاضع له و مقهور تحت قدرته، قال: «و إن من شي ء إلّا يسبّح بحمده» و إن اريد الخضوع التكليفي كما هو الظاهر فلا بدّ و أن يكون التكليف في ضمن عنوان من العناوين، و الثّابت في الأخبار أنّ عبادتهم إنّما هو في ضمن واحد من العناوين المذكورة، و لم يثبت عنوان آخر وراء تلك العناوين من الأدلّة النّقلية و العقل لا مسرح له فيها.
هذا كلّه مضافا إلى قوله سبحانه:«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ».
فانّ ذلك مقيد للعموم من جهات عديدة، فيدلّ على سجود جميع أصناف الملائكة و آحادهم و حينئذ نقول: إنّ سجدتهم لآدم إمّا أن يكون بالعنوان المتعارف الذي هو وضع الجبهة كما هو الظاهر، ففيه دلالة على هدم جميع ما قاله الشّارح، و إمّا أن يكون عبارة عن مجرّد إظهار التّواضع فهو خلاف الظاهر أولا من حيث إنّهم أظهروا التّواضع لآدم، و اعترفوا بفضيلته حين أنبأهم بالأسماء و ثانيا من حيث إن حكاية حال قوم لقوم بألفاظ مخصوصة يوجب إرادة المعاني المتعارفة عند المحكيّ لهم من هذه الألفاظ، و لا ريب أنّ المتبادر من السّجدة هو المعنى الشرعي، هذا كلّه مضافا إلى إفادة بعض الأخبار«» كون سجودهم بالعنوان المتعارف، و بعد التّنزل نقول: إنّ أكثر المفسرين احتملوا إرادة كلّ من المعنيين، فلو لم يتصوّر في حقهم وضع الجبهة لما احتملوا ذلك بل جعلوا الآية نصّا في المعنى الآخر.
و أما ثالثا فانّ احتماله كون المراد بالسّجود الملائكة المقرّبون نظرا إلى كون درجتهم أكمل الدّرجات كما أنّ خضوع السّجودي أفضل الخضوعات ممنوع، لما قد مرّ في الرّواية السّابقة من أنّ أهل السّماء الدّنيا هم السّاجدون، و أنّه ليس في السّماء موضع أربع أصابع إلّا و فيها ملك ساجد، مع أنّ المقرّبين عنده أرفع درجة من حملة العرش الذين هم أعلى درجة من أهل السّماء الدّنيا بمراتب، و من أهل ساير السّماوات أيضا.
و أما رابعا فانّ المستفاد من الايراد الذي أورده على نفسه من كون المقرّبين منزّهين عن تدبير الأجسام اه، و تقريره في الجواب ذلك حيث لم يتعرّض لردّه مضافا إلى تصريحه سابقا بما ذكره في الايراد حسب ما حكيناه عنه: انّ المقربين عنده منزّهون عن الجهة و الجسميّة و تدبير الأجسام و التعلّق بها كما هو رأى الفلاسفة الذي بيّناه سابقا، و على ذلك فنقول إنّ جبرئيل هل هو ملك مقرّب أم لا فان قال: لا، و لا أظنّه قائلا به، فقد ردّ قوله سبحانه في وصفه:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ».
فانّ المكانة هو القرب كما صرّح به المفسّرون، و قوله عليه السّلام في الصحيفة السجادية: و جبرئيل الأمين على وحيك، المطاع في أهل سمواتك، المكين لديك المقرّب عندك».
و الأخبار الكثيرة الدالة على ذلك، مثل ما راه عليّ بن ابراهيم في حديث المعراج قال جبرئيل: أقرب الخلق إلى اللّه أنا و إسرافيل إلى غير ذلك ممّا لا حاجة إلى ذكره.
و إن قال نعم و هو الظاهر من كلامه بل صريحه في ذيل قوله: و منهم امناء على وحيه، فنقول: إنّه كيف لا يكون في جهة و مكان و لقد قال سبحانه:«وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ».
و قال:«وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ».
و كيف يمكن انكار جسميّته و قد ملاء ما بين الخافقين بأجنحته، و كيف ينكر تدبيره الأجسام مع أنّه كان ناصرا للنبي صلّى اللّه عليه و آله في غزواته، و مصاحبا معه في خلواته، و قالعا لبلاد قوم لوط، و مهلكا بصيحته لثمود، و قد وصفه اللّه بكونه مطاعا في السّماوات و معناه أن يطاع له في الأمر و النّهى، و معلوم أن الأمر و النّهي إنّما يكونان لتدبير الامور.
و أما خامسا فانّ ما ذكره من كفاية أدنى الملابسة في صحّة الاضافة مسلّم، إلّا أنّ هذا الجواب يدفعه ما مرّ في الرواية، من أنّه ليس في السّماء موضع أربع أصابع إلّا و فيها ملك ساجد، و مثله، الرّواية الاخرى، فانّهما صريحتان في سكون الملائكة السّاجدين في السّماء بعنوان الحقيقة لا بعنوان المجاز.
و أما سادسا فانّ قوله: و المناسبة حاصلة بين الأجرام السّماوية و بين هذا الطور من الملائكة، و هي مناسبة العلّة للمعلول، و الشرط للمشروط، ممّا لا يفهم معناه. إذ العلّة الفاعلي للسّماوات هو اللّه سبحانه، و العلة المادّي هو الماء أو الدّخان أو الزّبد أو نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله على ما مرّ، و لا عليّة للملائكة في شي ء منها، و القول بأنّه سبحانه علّة العلل و إنّ العلّة للسّماوات العقول المجرّدة، هو مذهب الفلاسفة الباطل عند الاماميّة.
و كيف كان فقد وضح و ظهر أنّ الملائكة المشغولين بطاعة اللّه على أصناف أربعة: منهم سجود، و منهم ركوع، و منهم صفوف لا يتفارقون عن صفّهم و منهم مسبحون لا يملّون من تسبيحهم بل يتقوّون به، كما قال سبحانه:«فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ».
(لا يغشيهم نوم العيون) الظاهر رجوع الضمير إلى الصّنف السّابق، و الظاهر اطراد الأوصاف في الجميع.
ثمّ مفاد كلامه عليه السّلام عدم غشيان النّوم للملائكة و علّله الشّارح البحراني (ره) بأنّ غشيان النّوم لهم مستلزم لصحة النّوم عليهم، و اللازم باطل في حقهم، فالملزوم مثله، أمّا الملازمة فظاهرة، و أمّا بطلان اللازم فلأنّ النّوم عبارة عن تعطيل الحواسّ الظاهرة عن أفعالها، لعدم انصباب الرّوح النّفساني اليها، أو رجوعها بعد الكلال و الضعف، و الملائكة السّماويّة منزّهون عن هذه الأسباب و الآلات، فوجب أن يكون النّوم غير صحيح في حقهم فوجب أن لا يغشيهم.
و عن القطب الرّاوندي أنّ معنى قولهم لا يغشيهم نوم العيون يقتضي أنّ لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر اللّه، فامّا الباري سبحانه فانّه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا مع أنّه حيّ، و هذه هي المدحة العظمى.
و أورد عليه الشّارح المعتزلي بقوله: و لقائل أن يقول: لو ناموا قليلا لكانوا زمان النّوم و إن قلّ غافلين عن ذكر اللّه، لأنّ الجمع بين النّوم و بين الذّكر «ج 1» يستحيل، ثمّ قال، و الصّحيح أنّ الملك لا يجوز عليه النّوم كما لا يجوز عليه الأكل و الشّرب، لأنّ النّوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له، و أمّا مدح الباري بأنّه لا تأخذه سنة و لا نوم فخارج عن هذا الباب، لأنّه يستحيل عليه النّوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدّلها، و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسميّة رطوبة و يبوسة و حرارة و برودة يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النّوم، فاستحالة النّوم عليه إنّما هي ما دام ملكا، فهو كقولك: الماء بارد، أى ما دام ماء لأنّه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنّه ليس حينئذ ماء، و الباري جلّت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير، فاستحال عليه النّوم استحالة مطلقة مع أنّه حيّ، و من هذا نشأ التمدّح انتهى.
و ظاهره كما ترى إنكار صحة النّوم عليه مطلقا و استحالته في حقّه، لأنّ تجويزه له مع الخروج عن حقيقته الملكية ممّا لا يقابل بالانكار و خارج عن محلّ الكلام، و أمّا المستفاد من الكلام المحكي عن الرّاوندي فهو أنّه يعرضهم حالة السنة و هو أوّل النّعاس و لا يعرضهم النوم الموجب للغفلة.
و يمكن الاستشهاد عليه بما رواه الصدوق باسناده عن داود العطار، قال: قال لي بعض أصحابي: أخبرني عن الملائكة أ ينامون فقلت: لا أدري، فقال: يقول اللّه عزّ و جلّ:«يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ».
ثم قال: ألا اطرقك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيه بشي ء قلت: بلى، فقال: سئل عن ذلك فقال: ما من حيّ إلّا و هو ينام ما خلا اللّه وحده عزّ و جلّ: فقلت: يقول اللّه عزّ و جل يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون، فقال: أنفاسهم تسبيح هذا.
و به ظهر الجواب عمّا أورده الشّارح المعتزلي بأنّهم لو ناموا قليلا لكانوا زمان النّوم غافلين، كما ظهر به وجه الجمع بين قوله عليه السّلام: لا يغشيهم نوم العيون، و بين الرّواية المرويّة في العلل لمحمد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الملائكة يأكلون و يشربون و ينكحون، فقال: لا، إنهم يعيشون بنسيم العرش، فقيل له: ما العلّة في نومهم فقال: فرقا بينهم و بين اللّه عزّ و جلّ، لأنّ الذي لا تأخذه سنة و لا نوم هو اللّه.
و حاصل الجمع أن يحمل النوم في هذه الرّواية و ما شابهها من الأخبار المثبتة له، على النوم القليل المعبر عنه بالسنة الغير المانعة عن الذكر و التسبيح.
و في قوله لا يغشيهم نوم العيون على النوم الغالب الموجب للغفلة، و لا يبعد استفادة هذا المعنى من قوله: لا يغشيهم، كما ذكره الرّاوندي بأخذه من الغشي الموجب لتعطيل القوى المحركة، إلّا أنه خلاف الظاهر، و الظاهر أنه مأخوذ من غشيته إذا أتيته، فلا دلالة فيه من حيث الوضع، و إنما الدّلالة باقتضاء الجمع الذي ذكرناه، و عليه فالمعنى أنه لا يأتيهم نوم العيون الموجب للغفلة، كما يأتي غيرهم.
و هذا نظير ما روي في خواص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، من أنه كان ينام عينه و لا ينام قلبه انتظار اللوحى الالهي، فالنوم و إن اعتراه، لكنه لا يعطله عن مراقبة ربه سبحانه كما يعطل غيره و اللّه العالم (و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان) الفرق بين السهو و النسيان و الغفلة: أن السهو هو عزوب الشي ء و انمحاؤه عن القوّة الذاكرة مع ثبوته في الحافظة بحيث يلحظ الذّهن عند الالتفات إليه، و النسيان هو ذهابه عنهما معا بحيث يحتاج في تحصيله إلى كسب جديد، و الغفلة أعمّ منهما، و لما كان هذه الامور الثلاثة من عوارض القوى الانسانية صحّ سلبها عن الملائكة، لعدم وجود تلك المعروضات فيهم كما في الانسان، و سلب الأعمّ و إن كان مستلزما لسلب الأخص إلّا أنّه عليه السّلام جمع فيهما لزيادة التّوكيد.
و أمّا سلب فتور الأبدان فلأنّ الفتور هو وقوف الأعضاء البدنية عن العمل بسبب تحلّل الأرواح البدنية و ضعفها و رجوعها للاستراحة، و كلّ ذلك من توابع المزاج الحيواني، فلا جرم صحّ سلبه عنهم، وفاقا لقوله سبحانه: يسبّحون الليل و النّهار لا يفترون.
(و) القسم الثّاني (منهم امناء على وحيه) الحافظون له مؤدّين إيّاه إلى رسله جمع الأمين و هو الحافظ لما كلّف بحفظه على ما هو عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه، قال سبحانه:«ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل: ما أحسن ما أثنى عليك ربّك: ذي قوّة عند ذي العرش اه فما كانت قوّتك و ما كانت أمانتك فقال: و أمّا قوّتي فانّي بعثت إلى مداين لوط و هي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذّراري، فحملتهم من الأرض السّفلى حتّى سمع أهل السّماوات أصوات الدّجاج و نباح الكلاب، ثمّ هويت بهنّ. و أمّا أمانتي فانّي لم اومر بشي ء فعدلت إلى غيره، و في رواية اخرى فعدوته إلى غيره.
و امّا امناء الوحى فقد اشير إليهم في جملة من الأخبار.
مثل ما رواه في الاختصاص باسناده عن ابن عبّاس، قال عبد اللّه بن سلام للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما سأله: من أخبرك قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: جبرئيل، قال: عمّن قال: عن ميكائيل، قال: عمّن قال عن إسرافيل، قال: عمّن قال: عن اللّوح المحفوظ، قال: عمّن قال: عن القلم، قال: عمّن قال: عن ربّ العالمين، قال: صدقت.
و نظيره ما رواه الصّدوق في العيون باسناده عن علي بن هلال، عن عليّ بن موسى الرّضا، عن موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمّد، عن محمّد بن عليّ، عن عليّ بن الحسين، عن الحسين بن عليّ، عن عليّ بن أبي طالب، عن النّبي عليهم السّلام، عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن اللّوح، عن القلم، قال اللّه عزّ و جلّ: ولاية عليّ بن أبي طالب حصني، و من دخل حصني أمن من عذابي.
و في بعض الأخبار أنّ جبرئيل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وصف إسرافيل: هذا حاجب الرّبّ، و أقرب خلق اللّه منه، و اللّوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، فاذا تكلّم الرّبّ بالوحى ضرب اللّوح جبينه، فنظر فيه ثمّ ألقى إلينا نسعى به في السّماوات و الأرض.
و لعلّ الاختلاف فيها محمول على اختلاف الكيفيات، أو بحسب اختلاف المقامات، و المستفاد من الرّواية الأخيرة كظاهر الاولى كون اللوح ورقا، كما أنّ مفاد الثّانية كونه ملكا، و كلاهما ممّا ورد في الأخبار كالقلم، و قد ظهر من هذه الأخبار كيفيّة تلقّي الوحي.
و في رواية اخرى بنحو آخر، و هو ما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل: من أين تأخذ الوحى قال: آخذه من اسرافيل، قال: من أين يأخذه إسرافيل قال: يأخذه من ملك فوقه من الرّوحانيّين، قال: ممّن يأخذه ذلك الملك قال: يقذف في قلبه قذفا هذا.
و قال الشّارح البحراني: يشبه أن يكون هذا القسم«» داخلا في الأقسام السّابقة من الملائكة، و إنّما ذكره ثانيا باعتبار وصف الامانة على الوحى و الرسالة ثم أورد على نفسه بقوله فان قلت: كيف يصحّ أن يكون هذا القسم داخلا في السّجود، لأنّ من كان أبدا ساجدا كيف يتصوّر أن يكون مع ذلك متردّدا في الرّسالة و النّزول و الصّعود، مختلفا بالأوامر و النّواهي إلى الرّسل، و أجاب بقوله قلت: انّا بيّنا أنّه ليس المراد بسجود الملائكة هو وضع الجبهة على الأرض بالكيفيّة التي نحن عليها، و إنّما هو عبارة عن كمال عبوديتهم للّه و خضوعهم تحت قدر قدرته، و الامكان و الحاجة تحت ملك وجوب وجوده، و معلوم أنّه ليس بين السّجود بهذا المعنى و بين تردّدهم بأوامر اللّه و اختلافهم بقضائه على وفق مشيّته و أمره منافاة، بل كلّ ذلك من كمال عبوديتهم و خضوعهم لعزّته و اعترافهم بكمال عظمته انتهى.
أقول: و فيه بعد الغضّ عمّا أوردنا عليه سابقا في إدخال هذا القسم في القسم السّابق، مضافا إلى ما ذكرناه أيضا من منع كون السّجود بمعنى الخضوع المطلق حسبما مرّ تفصيلا بما لا مزيد عليه، أنّه جعل السّاجدين عبارة عن المقرّبين الذين حكم فيهم بكونهم منزّهين عن الجسميّة و الجهة و سكون السّماوات و تدبير الأجسام و على ذلك فنقول له: هب أنّ السّجود بالمعنى الذي ذكرت لا ينافي الرّسالة و التردّد صعودا و هبوطا، و الوساطة بين الحقّ و الرّسل و الاختلاف بالقضاء و الامور، إلّا أنّ تنزّههم عن الأصاف المذكورة ينافي هذه الأمور قطعا كما هو ظاهر لا يخفى.
(و) لما كان الملائكة وسايط بين الحقّ سبحانه و بين رسله في تأدية خطاباته إليهم مفصحين لهم عن مكنون علمه حسن التّعبير عنهم بأنّهم (ألسنة إلى رسله) تشبيها لهم باللّسان المفصح عمّا في الضّمير و إنّما احتيج الى الواسطة في تبليغ الخطابات و تأديتها، لأنّ التّخاطب يقتضي التّناسب بين المتخاطبين، فاقتضت الحكمة توسط الملك ليتلقّف الوحى بوجهه الذي في عالم الملكوت تلقّفا روحانيّا، و يبلغه بوجهه الذي في عالم الملك و الحكمة إلى النبي، لأن من خواص الملك أن يتمثل للبشر فيراه جسما، فربّما ينزل الملك إلى الصورة البشرية، و ربّما يترقى النّبيّ إلى رتبة الملكيّة و يتعرّى عن كثرة البشريّة فيأخذ عنه الوحى (و مختلفون لقضائه و أمره) من الاختلاف بمعنى التردّد، و في وصف الأئمة في بعض الخطب الآتية و في الزّيارة الجامعة: و مختلف الملائكة، اى محل تردّدهم و يأتي توضيح ذلك في الفصل الآخر من فصول الخطبة المأة و الثامنة إن شاء اللّه.
و المراد بالقضاء إمّا الحكم و هو أحد معانيه العشرة، فيكون عطف الأمر عليه من قبيل عطف الخاصّ على العامّ و إمّا بمعنى الأمر كما فسّر به قوله:«وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» و على ذلك فالعطف للتّفسير و التّبيين، و على التّقديرين فالمراد بالأمر الأمر التكليفي هذا.
و لكن الأظهر أنّ المراد بالقضاء هو ما يساوق القدر، و بالأمر الامورات المقدّرة الحادثة في العالم السّفلي، فيكون المعنى و مختلفون بمقتضياته و مقدراته، و إنّما جعلنا المصدر بمعنى المفعول، لأنّ القضاء بمعنى المصدري عبارة عن إبداع الحقّ سبحانه صور الموجودات و جميع الأشياء معقولة مفصّلة محفوظة عن التّغير في اللّوح المحفوظ، و هو امّ الكتاب و يسمّى بالعلم الملزم، و معلوم أنّ هذا المعنى ممّا قد فرغ عنه، و لا يتصوّر تردّد الملائكة و تدبيرهم فيه، و إنّما تدبيرهم في المقتضيات الموجودة على طبق ما في اللّوح المحفوظ.
توضيحه أنّ القضاء كما عرفت عبارة عن إبداعه سبحانه لصور الموجودات الكلّية و الجزئية التي لا نهاية لها من حيث هي معقولة في العالم العقلي و هو امّ الكتاب ثمّ لمّا كان ايجاد ما يتعلّق منها بموادّ الأجسام في موادها و إخراج المادّة من القوة إلى الفعل غير ممكن إلّا على سبيل التّعاقب و التدرّج، لامتناع قبولها لتلك الكثرة دفعة، و كان الجود الالهي مقتضيا لايجادها و لتكميل المادّة بابداعها فيها و إخراج ما فيها من قبول تلك الصّور من القوّة إلى الفعل، قدّر بلطيف حكمته وجوده زمانا لا ينقطع ليخرج فيه تلك الامور من القوّة إلى الفعل واحدا بعد واحد، فيصير في جميع ذلك موجودة في موادّها و المادّة كاملة بها، فالمقتضيات عبارة عن وجود هذه الأشياء مفصلة واحدا بعد واحد في موادها السّفلية الخارجية بعد أن كانت ثابتة في صحايفها العلوية بأيدي«» المدبّرات، و إلى هذا أشار سبحانه في قوله:«وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» و إلى هذا القسم من الملائكة أشار في قوله سبحانه:«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» روى في مجمع البيان عن عبد الرحمن بن سابط أنّ المراد بالمدبّرات جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت و إسرافيل يدبرون أمور الدّنيا فأما جبرئيل فموكل بالرّياح و الجنود و أما ميكائيل فموكل بالقطر و النّبات و أما ملك الموت بقبض الأنفس و أما اسرافيل فهو يتنزّل بالأمر عليهم، و التدبير ليس منحصر في الأربعة حسبما تعرفه في الأخبار الآتية، و إنّما ذكرناه لتوضيح معنى الآية، كما أنّ الامور الواقعة فيها التّدبير لا تنحصر فيما ذكر و ستعرفه أيضا و قد ظهر بما ذكرنا معنى القضاء و المقتضيات و الملائكة المختلفون بالقضاء.
و أما القدر فهو دون مرتبة القضاء، إذ هو عبارة عن صور جميع الموجودات في لوح المحو و الاثبات على الوجه القابل للتّغيير، و إلى ذلك الاشارة في قوله سبحانه:«يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» قال الصّادق عليه السّلام بعد ما سئل عنه عن هذه الآية: إن ذلك الكتاب كتاب يمحو اللّه فيه ما يشاء و يثبت فمن ذلك«» الذي يردّ الدّعاء القضاء، و ذلك الدّعاء مكتوب عليه الذي يردّ به القضاء حتّى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدّعاء فيه شيئا.
و حاصل ما ذكرنا كله يرجع إلى جعل المراد بالقضاء في كلامه عليه السّلام الامور المحتومة، و بالأمر الأمور الموقوفة و نظيره ما روى عن الصادق عليه السّلام، قال: هما أمر ان موقوف و محتوم، فما كان من محتوم أمضاه، و ما كان من موقوف فله فيه المشيّة يقضي فيه ما يشاء هذا.
و يحتمل أن يكون المقصود من قوله عليه السّلام: بقضائه و أمره، أنّهم مختلفون باظهار قضائه و أمره إلى النّبي و الائمة عليهم السّلام، و إلى ذلك وقع الاشارة في وصف الأئمة عليه السّلام بأنّهم مختلف الملائكة، أى محلّ اختلافهم كما في الأخبار المتظافرة، و قد عقد في الكافي بابا في ذلك، و هو باب أن الأئمة معدن العلم و شجرة النّبوة و مختلف الملائكة، و إليه الاشارة في قوله سبحانه:«تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»
قال الصّادق عليه السّلام: إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الرّوح و الكتبة إلى السّماء الدّنيا فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه في تلك السّنة فاذا أراد اللّه أن يقدّم شيئا أو يؤخّره أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثمّ أثبت الذي أراد.
قال القمي تنزّل الملائكة و روح القدس على إمام الزّمان و يدفعون اليه ما قد كتبوه.
و يشهد به ما رواه في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: قال اللّه عزّ و جلّ في ليلة القدر:«فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، و المحكم ليس بشيئين إنّما هو شي ء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الامور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا، و في أمر النّاس بكذا و كذا، و أنّه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه عز ذكره الخاصّ و المكنون و العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك اللّيلة من الأمر ثم قرء.
«وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» و فيه أيضا عن حمران، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شي ء يكون في تلك السّنة إلى مثلها من قابل من خير و شرّ و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق، فما قدر في تلك السّنة و قضي فهو المحتوم، و للّه عزّ و جلّ فيه المشيّة.
و المراد حسبما ذكرنا إظهار تلك المقادير للملائكة، و إظهارهم لها إلى النّبي و الأئمة عليهم السلام في تلك الليلة، و إلّا فالمقادير كما عرفت من الأزل إلى الأبد ثابتة في أم الكتاب هذا و بقي الكلام في أنّ المختلفين بالقضاء و الأمرهم بعض الملائكة أو جميعهم، قال النّيسابوري: قوله تعالى: تنزّل الملائكة، يقتضي نزول كلّ الملائكة إما إلى السّماء الدّنيا و إمّا إلى الأرض، و هو قول الأكثرين، و على التّقديرين فانّ المكان لا يسعهم إلّا على سبيل التّفاوت و النّزول فوجا فوجا كأهل الحجّ، فانّهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجا انتهى كلامه على ما حكي عنه.
و لكن الظاهر من كلمة منهم في كلام الامام عليه السّلام هو أنّ المتّصفين بهذا الوصف بعض الملائكة، و هو الظاهر ممّا روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال: إذا أتت ليلة القدر فيهبط من الملائكة إلى وليّ الأمراه، و المستفاد من الأخبار الكثيرة أنّ جبرئيل من هذه الجملة، و نصّ الآية الشريفة كون روح القدس منها أيضا، و قد يفسّر بالرّوح الأمين و هو جبرئيل، و لكن الظاهر أنّه غيره كما يدلّ عليه ما روي عن الصّادق عليه السّلام، قال: إنّ الرّوح أعظم من جبرئيل إنّ جبرئيل من الملائكة و الرّوح هو خلق أعظم من الملائكة، أليس يقول اللّه تبارك و تعالى: تنزّل الملائكة و الروح.
و في شرح الصّحيفة قال: أتى رجل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يسأله عن الرّوح أليس هو جبرئيل فقال له: جبرئيل من الملائكة و الرّوح غير جبرئيل، فقال له: لقد قلت عظيما من القول، ما أحد يزعم أن الرّوح غير جبرئيل، فقال له علي عليه السّلام: إنك ضال تروي عن أهل الضّلال، يقول اللّه تبارك و تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله:«أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ» و الرّوح غير جبرئيل.
و عنه عليه السّلام أيضا انّ له سبعين ألف وجه، و لكلّ وجه سبعون ألف لسان، لكلّ لسان سبعون لغة يسبّح اللّه تعالى بتلك اللغات كلّها، و يخلق اللّه تعالى من تسبيحه ملكا يطير مع الملائكة، و لم يخلق اللّه أعظم من الرّوح غير العرش، و لو شاء أن يبلغ السّماوات السّبع و الأرضين السّبع بلقمة واحدة لفعل، فسبحان من هو على كلّ شي ء قدير، و مثلهما في البحار.
(و) القسم الثّالث (منهم الحفظة لعباده) ظاهر العبارة أنّ المراد بهم حفظة العباد من المعاطب و المهالك لا الحفظة عليهم يحفظون على العبد عمله، فهم من اشير اليهم في قوله:«لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» روى في المجمع عن علي عليه السّلام أنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا به إلى المقادير.
و في الصّافي عن عليّ بن إبراهيم، عن الصّادق عليه السّلام إنّ هذه الآية قرئت عنده، فقال لقاريها: ألستم عربا فكيف يكون المعقّبات من بين يديه و إنّما المعقّب من خلفه، فقال الرّجل جعلت فداك: كيف هذا فقال: إنّما نزلت له: معقّبات من خلفه، و رقيب من بين يديه يحفظونه بأمر اللّه، و من ذا الذي يقدر أن يحفظ لشي ء من أمر اللّه و هم الملائكة الموكلون بالنّاس، و مثله عن العيّاشي.
و عنه أيضا عن الباقر عليه السّلام من أمر اللّه يقول بأمر اللّه من أن يقع في ركي«»، أو يقع عليه حايط، أو يصيبه شي ء حتّى إذا نزل القدر خلوا بينه و بينه يدفعونه إلى المقادير و هما ملكان يحفظانه بالليل، و ملكان يحفظانه بالنّهار يتعاقبانه (و السّدنة لأبواب جنانه) أى المتولون لأبواب الجنان بفتحها و إغلاقها و إدخال من اذن لهم بالدّخول.
أقول: أمّا الجنان فعلى ما اشير إليه في القرآن ثمان: جنة النّعيم و جنة الفردوس و جنة الخلد و جنة الماوى و جنة عدن و دار السّلام و دار القرار و جنة عرضها السّماوات و الأرض، و في بعض كتب الأخبار تسمية الأخيرة بالوسيلة.
و أمّا أبوابها فثمانية أيضا على ما في بعض كتب الأخبار: الباب الاول اسمه التّوبة و الثاني الزكاة و الثالث الصّلاة و الرابع الأمر و النهى و الخامس الحجّ و السادس الورع و السابع الجهاد و الثامن الصّبر.
و في الصّافي عن الخصال، عن الصّادق عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليهم السّلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النّبيّون و الصّديقون، و باب يدخل منه الشّهداء و الصّالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا، فلا أزال واقفا على الصّراط أدعو و أقول ربّ سلّم شيعتي و محبّي و أنصاري و أوليائي و من تولّاني في دار الدّنيا، فاذا النداء من بطنان«» العرش قد اجيبت دعوتك، و شفعت في شيعتك و يشفع كلّ رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا اللّه و لم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت.
و عن الباقر عليه السّلام أحسنوا الظنّ باللّه و اعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب عرض كلّ باب منها مسيرة أربعمائة سنة.
و أمّا سدنتها و خزّانها فقد اشير إليه في سورة الزّمر، قال سبحانه:«وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» و في الأنوار في حديث المحشر فاذا أتوا إلى رضوان اللّه و هو جالس على باب الجنّة و معه سبعون ألف ملك، مع كلّ ملك سبعون ألف ملك فينظر إليهم و هم في أقبح صورة من سواد البدن و طول الشّعر و كونهم عزلا«» بلا ختان، فقال لهم: كيف تدخلون الجنّة و تعانقون الحور العين على هذه الهيئة فيأمر جماعة من الملائكة الواقفين أمامه فيذهبون بالمؤمنين إلى عين ماء عند جدار الجنّة، و هي عين الحياة فاذا اغتسلوا فيها صار وجه كلّ واحد منهم كالبدر في تمامه و تسقط شعورهم و غلفهم«» و تبيضّ قلوبهم من النّفاق و الحسد و الكذب و الرّذائل و الأوصاف الذّميمة حتّى لا يتحاسدوا في الجنّة بعلوّ الدّرجات و التّفاوت في المراتب، فيصير كلّ واحد منهم بصورة ابن أربعة عشر سنة، و يعطى حسن يوسف، و صوت داود، و صبر أيوب، فاذا أتوا إلى باب الجنّة وجدوا على بابها حلقة تطنّ«» عند كلّ من يدخلها و يقول في طنينها: يا علي، لكنها تطنّ عند كلّ داخل بطنين خاصّ ليس كالطنين الآخر، فيعرف بذلك الطنين أهل المؤمن في منازله و خدمه و حور العين إن هذا فلان فيأتون لاستقباله هذا.
و قد اشير إلى طايفة من السّدنة و الأبواب في حديث الجنان و النوق من روضة الكافي، و هو ما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب عن محمّد بن اسحاق المدني عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل عن قول اللّه:«يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» فقال: يا عليّ إنّ الوفد لا يكونون إلّا ركبانا، اولئك رجال اتّقوا اللّه فأحبّهم اللّه عزّ ذكره و اختصهم و رضي أعمالهم فسمّاهم المتّقين.
ثم قال له: يا علي أما و الذي فلق الحبّة و برى ء النّسمة إنّهم ليخرجون من قبورهم، و إنّ الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق العزّ عليها رحائل الذّهب مكلّلة بالدّر و الياقوت و جلائلها«» الاستبرق و السّندس و خطمها«» جندل الأرجوان، تطير بهم إلى المحشر مع كلّ رجل منهم ألف ملك من قدامه و عن يمينه و عن شماله يزفونهم«» زفّا حتّى ينتهوا بهم الى باب الجنّة الأعظم و على باب الجنّة شجرة إنّ الورقة منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من النّاس، و عن يمين الشّجرة عين مطهرة مزكية، قال: فيسقون منها فيطهر اللّه بها قلوبهم من الحسد، و يسقط عن أبشارهم الشّعر و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» من تلك العين المطهرة.
قال: ثم يصرفون إلى عين أخرى عن يسار الشّجرة فيغتسلون فيها و هى عين الحياة فلا يموتون أبدا.
قال: ثمّ يوقف بهم قدام العرش و قد سلموا من الآفات و الأسقام و الحرّ و البرد أبدا، قال: فيقول الجبار جلّ ذكره للملائكة الذين معهم: احشروا أوليائي إلى الجنّة و لا توقفوهم مع الخلايق، فقد سبق رضائي عنهم و وجبت رحمتي لهم و كيف اريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات و السيّئات.
قال، فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة، فاذا انتهوا إلى باب الجنّة الأعظم ضرب الملائكة ضربة تصرّ صريرا يبلغ صوت صريرها كلّ حوراء أعدّها اللّه عزّ و جلّ لأوليائه في الجنان، فيتباشرون بهم إذا سمعوا صرير الحلقة، فيقول بعضهم لبعض: قد جاءنا أولياء اللّه، فيفتح لهم الباب فيدخلون الجنّة، و تشرف عليهم أزواجهم من الحور العين و الآدميّين، فيقلن: مرحبا بكم، فما كان أشدّ شوقنا إليكم و يقول لهنّ أولياء اللّه: مثل ذلك.
فقال علي عليه السّلام: يا رسول اللّه أخبرنا عن قول اللّه عزّ و جلّ:(غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) بماذا بنيت يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا علي تلك غرف بناها اللّه عزّ و جلّ لاوليائه بالدّر و الياقوت و الزّبرجد، سقوفها الذّهب، محبوكة بالفضة، لكلّ غرفة منها ألف باب من ذهب، على كلّ باب منها ملك موكل به، فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير و الدّيباج بألوان مختلفة، و حشوها المسك و الكافور و العنبر، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ.
(وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) إذا دخل المؤمن إلى منازله في الجنّة و وضع على رأسه تاج الملك و الكرامة البس حلل الذّهب و الفضة و الياقوت و الدّر المنظومة في الاكليل«» تحت التاج.
قال: و البس سبعين حلّة حريرا بألوان مختلفة و ضرب مختلفة منسوجة بالذّهب و الفضّة و اللّؤلؤ و الياقوت الأحمر، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ:(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) فاذا جلس المؤمن على سريره اهتزّ سريره فرحا، فاذا استقر لوليّ اللّه عزّ و جلّ منازل له في الجنان استاذن عليه الملك الموكل بجناته ليهنّيه بكرامة اللّه عزّ و جلّ اياه، فيقول له خدّام المؤمن من الوصفاء و الوصايف: مكانك«»، فانّ وليّ اللّه قد اتّكأ على أريكته«» و زوجته الحوراء تهيّأ له فاصبر لولي اللّه.
قال: فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمة لها تمشى مقبلة و حولها و صايفها و عليها سبعون حلة منسوجة بالياقوت و اللؤلؤ و الزّبرجد هي من مسك و عنبر و على رأسها تاج الكرامة، و عليها نعلان من ذهب مكلّلتان بالياقوت و اللؤلؤ، شراكهما ياقوت أحمر، فاذا دنت من وليّ اللّه فهمّ أن يقوم إليها شوقا، فتقول له: يا وليّ اللّه ليس هذا يوم تعب و لا نصب و أنت لي.
قال: فيعتنقان مقدار خمسمائة عام من أعوام الدّنيا لا يملّها و لا تملّه.
قال: فاذا فتر بعض الفتور من غير ملالة نظر إلى عنقها، فاذا عليها قلائد من قصب من ياقوت أحمر، وسطها لوح صفحته درّة مكتوب بها: أنت يا وليّ اللّه حبيبى و أنا الحوراء حبيبتك إليك تناهت نفسي و إلىّ تناهت نفسك، ثمّ يبعث اللّه إليه الف ملك يهنّونه بالجنّة و يزوّجونه بالحوراء.
قال: فينتهون إلى أوّل باب من جنانه «جناته خ ل»، فيقولون للملك الموكل بأبواب جنانه: استاذن لنا على وليّ اللّه فان اللّه بعثنا إليه تهنية، فيقول لهم الملك: حتّى أقول للحاجب فيعلّمه مكانكم.
قال: فيدخل الملك إلى الحاجب و بينه و بين الحاجب ثلاث جنان حتّى ينتهي إلى أوّل باب، فيقول للحاجب: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العالمين ليهنّئوا وليّ اللّه، و قد سألوني أن آذن لهم، فيقول الحاجب: إنّه ليعظم علىّ أن أستأذن لأحد على ولي اللّه و هو مع زوجته الحوراء.
قال: و بين الحاجب و بين وليّ اللّه جنّتان.
قال: فيدخل الحاجب إلى القيم، فيقول: له إنّ على باب العرصة ألف ملك، أرسلهم ربّ العزّة يهنّون وليّ اللّه فاستأذن لهم فيقدم القيم إلى الخدّام، فيقول لهم: إنّ رسل الجبار على باب العرصة، و هم ألف ملك، أرسلهم يهنّون وليّ اللّه فأعلموه بمكانهم، فيعلمونه فيؤذن للملائكة فيدخلون على ولي اللّه، و هو في الغرفة و لها ألف باب، و على كلّ باب من أبوابها ملك موكل به، فاذا أذن للملائكة بالدخول على ولي اللّه فتح كلّ ملك بابه الموكل به.
قال: فيدخل القيم كلّ ملك من باب من أبواب الغرفة، فيبلّغون رسالة الجبار جلّ و عزّ، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:(وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الغرفة،(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) قال: و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:(وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً) يعني بذلك ولي اللّه و ما هو فيه من الكرامة و النّعيم و الملك العظيم الكبير، إنّ الملائكة من رسل اللّه عزّ ذكره يستأذنون عليه فلا يدخلون إلّا باذنه فذلك الملك العظيم الكبير الحديث.
(و) القسم الرّابع (منهم الثابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم) و عن بعض النّسخ في الارض السّفلى اقدامهم قال في البحار: و هو أظهر، و الجمع على الأوّل إمّا باعتبار القطعات و البقاع، أو لأن كلّا من الأرضين السّبع موضع قدم بعضهم و الوصف على الأوّل بالقياس إلى ساير الطبقات، و على الثّاني بالقياس إلى السّماء (و المارقة) أى الخارجة (من السّماء العليا) و هي السّابعة (أعناقهم و الخارجة من الأقطار) اى من جوانب الأرض أو جوانب السّماء (أركانهم) و هذا إشارة إلى ضخامتهم و عرضهم (و المناسبة لقوايم العرش أكتافهم) و المراد بالتّناسب إمّا القرب أو الشّباهة في العظم، فان العرش على عظمه حسبما تعرفه في الأخبار الآتية و كفى بذلك كونه محيطا بجميع المخلوقات و كون الأرضين و السّماوات جميعا و ما فيها عنده كحلقة في فلاة، له أربع قوائم.
كما رواه في البحار، عن الدّرّ المنثور، عن حماد قال: خلق اللّه العرش من زمرّدة خضراء، و له أربع قوائم من ياقوتة حمراء، و خلق له ألف لسان، و خلق في الأرض ألف أمة يسبّح اللّه بلسان العرش.
«ج 2» و فيه أيضا من روضة الواعظين، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده عليهم السّلام أنّه قال: في العرش تمثال ما خلق اللّه من البرّ و البحر، و هذا تأويل قوله:(وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) و إنّ بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الثّانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، و العرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النّور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق اللّه، و الأشياء كلّها في العرش كحلقة في فلاة، و إنّ للّه تعالى ملكا يقال له: خرقائيل له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام، فخطر له خاطر هل فوق العرش شي ء، فزاده اللّه تعالى مثلها أجنحة اخرى، فكان له ستّ و ثلاثون ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام، ثمّ أوحى اللّه اليه أيّها الملك طر، فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش، ثم ضاعف اللّه له في الجناح و القوة و أمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا فاوحى اللّه إليه أيّها الملك لو طرت إلى نفخ الصّور مع أجنحتك و قوّتك لم تبلغ إلى ساق عرشي فقال الملك: سبحان ربّي الأعلى و بحمده، فأنزل اللّه عزّ و جلّ:(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: اجعلوها في سجودكم.
و من إكمال الدين باسناده عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: قال ابن عبّاس: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ للّه تبارك و تعالى ملكا يقال له: دردائيل، كان له ستّة عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح هواء، و الهواء كما بين السّماء و الأرض، فجعل يوما يقول في نفسه«»: أ فوق ربّنا جلّ جلاله شي ء فعلم اللّه تبارك و تعالى ما قال، فزاده أجنحة مثلها، فصار له اثنان و ثلاثون الف جناح، ثم أوحى اللّه عزّ و جل إليه، فطار مقدار خمسمائة عام فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش، فلما علم اللّه عزّ و جلّ اتعابه أوحى إليه أيّها الملك عد إلى مكانك، فأنا عظيم فوق كل عظيم، و ليس فوقي شي ء و لا أوصف بمكان، فسلبه اللّه عزّ و جلّ أجنحته و مقامه من صفوف الملائكة، فلمّا ولد الحسين عليه السّلام هبط جبرئيل في ألف قبيل من الملائكة لتهنية النبي صلّى اللّه عليه و آله فمرّ بدردائيل، فقال له: سل النبيّ بحق مولوده أن يشفع لي عند ربّي، فدعا له النّبي صلّى اللّه عليه و آله بحق الحسين عليه السّلام فاستجاب اللّه دعائه و ردّ عليه أجنحته و رده إلى مكانه هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بالمناسبة في كلامه عليه السّلام التّماسّ، فالمراد بهم حملة العرش، بل هذا هو الظاهر بملاحظة أنّ الأوصاف المذكورة في كلامه عليه السّلام قد اثبتت في الأخبار الكثيرة على هؤلاء الطائفة.
مثل ما روي عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى:(وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال: يقال: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدّتهم إلّا اللّه، و يقال ثمانية أملاك رؤسهم تحت العرش في السّماء السّابعة، و أقدامهم في الأرض السّفلى، و لهم قرون كقرون الوعلة، ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام.
و عن الخصال باسناده عن حفص بن غياث، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ حملة العرش ثمانية، لكل واحد منهم ثمانية أعين، كلّ عين طباق الدّنيا.
و عن تفسير الامام عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انّ اللّه لمّا خلق العرش خلق له ثلاثمأة و ستين ألف ركن، و خلق عند كلّ ركن ثلاثمأة الف و ستين الف ملك لو أذن اللّه لأصغرهم فالتقم السّماوات السبع و الأرضين السّبع ما كان بين لهواته إلّا كالرملة في المفازة الفصفاصة«»، فقال لهم اللّه: يا عبادي احملوا عرشي هذا فتعاطوه فلم يطيقوا حمله و لا تحريكه، فخلق اللّه عزّ و جلّ مع كلّ واحد منهم واحدا فلم يقدروا أن يزعزعوه، فخلق اللّه مع كلّ واحد منهم عشرة فلم يقدروا أن يحرّكوه، فخلق اللّه بعدد كلّ واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا أن يحرّكوه، فقال اللّه عزّ و جل لجميعهم: خلوه علىّ امسكه بقدرتي، فخلوه فأمسكه اللّه عزّ و جلّ بقدرته، ثم قال لثمانية منهم احملوه أنتم، فقالوا: يا ربّنا لم نطقه نحن و هذا الخلق الكثير و الجمّ الغفير فكيف نطيقه الآن دونهم فقال عزّ و جل: لانّي أنا اللّه المقرب للبعيد و المذلل للعبيد و المخفف للشّديد و المسهّل للعسير أفعل ما أشاء و أحكم ما أريد أعلمكم كلمات تقولونها يخف بها عليكم، قالوا و ما هي قال: تقولون: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم و صلى اللّه على محمّد و آله الطيبين فقالوها، فحملوه، فخفّ على كواهلهم كشعرة نابتة على كاهل رجل جلد قوي فقال اللّه عزّ و جلّ لساير تلك الأملاك: خلوا على هؤلاء الثمانية و طوفوا أنتم حوله و سبّحوني و مجدوني و قد سوني، فأنا اللّه القادر على ما رأيتم و على كلّ شي ء قدير و عن وهب قال حملة العرش اليوم أربعة فاذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في ارزاقهم و ملك في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم و ملك في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقها«» و ملك في صورة الأسد يشفع للسّباع في أرزاقها، فلمّا حملوا العرش وقعوا على ركبهم«» من عظمة اللّه، فلقّنوا لا حول و لا قوة إلّا باللّه، فاستووا قياما على أرجلهم.
و عن ابن زيد قال لم يسمّ من حملة العرش إلّا إسرافيل.
و عن هارون بن رئاب، قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت ضخيم، يقول أربعة منهم: سبحانك و بحمدك على حلمك بعد علمك، و أربعة منهم يقولون: سبحانك و بحمدك على عفوك بعد قدرتك. هذا و لا ينافي هذه الأخبار ما وردت في الأخبار الأخر من أنّ حملة العرش ثمانية أربعة من الأولين، و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام، و أربعة من الآخرين، و هم محمّد و عليّ و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم. لأنّ العرش في الأخبار الأولة الجسم المحيط بالمخلوقات، و في هذه الأخبار هو العلم لانّه أحد معانيه كما عرفته في شرح الفصل الخامس من فصول هذه الخطبة و صرّح بما ذكرناه الصّدوق في اعتقاداته حيث قال: و إنّما صارت هؤلاء حملة العرش الذي هو العلم، لأنّ الانبياء الذين كانوا قبل نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله على شرايع الاربعة من الاولين: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و من قبل هؤلاء الأربعة صارت العلوم إليهم، و كذلك صار العلم بعد محمّد و عليّ و الحسن و الحسين إلى من بعد الحسين من الأئمة عليهم السّلام.
(ناكسة دونه) أى دون العرش (أبصارهم) إما لكثرة نور العرش كما يدلّ عليه ما روي عن ميسرة، قال: ثمانية أرجلهم في التخوم«» و رؤوسهم عند العرش لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النّور، و إما لزيادة الخوف كما روي عنه أيضا قال: حملة العرش أرجلهم في الأرض السّفلى و رؤوسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم و هم أشدّ خوفا من أهل السّماء السّابعة و أهل السّماء السّابعة أشدّ خوفا من السّماء التي تليها و السّماء التي تليها أشدّ خوفا من التي تليها، و في دعاء الصحيفة السّجادية على داعيه أفضل السّلام و التحيّة في وصف الملائكة: «الخشّع الأبصار فلا يرومون النّظر إليك، النّواكس الأذقان الّذين قد طالت رغبتهم فيما لديك».
و في التّوحيد باسناده عن وهب عن ابن عباس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ للّه تبارك و تعالى ملائكة ليس شي ء من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح اللّه عزّ و جلّ و يحمده بأصوات مختلفة لا يرفعون رؤوسهم إلى السّماء و لا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء و الخشية (متلفعون تحته) أى تحت العرش (بأجنحتهم) روى الشّارح البحراني عن وهب قال: إنّ لكلّ ملك من حملة العرش و من حوله أربعة أجنحة امّا جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر الى العرش فيصعق و امّا جناحان فيلفون (فيهفون خ ل)«» بهما ليس لهم كلام إلّا التسبيح و التّحميد.
و في الأنوار روى أنّ صنفا من الملائكة لهم ستّة أجنحة فجناحان يلفّون بهما أجسادهم و جناحان يطيرون بهما في أمر من أمور اللّه و جناحان مرخيان على وجوههم حياء من اللّه و حينئذ فكلّ جناحين لغرض مخصوص، و به يظهر فائدة الجناح الثّالث المشار اليه في قوله سبحانه:«أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ».
ثمّ إن هذا في جانب القلّة، و أمّا في جانب الكثرة فيزيد اللّه سبحانه فيهم ما يشاء و هو على كلّ شي ء قدير (مضروبة بينهم و بين من دونهم) من الملائكة أو البشر أو الجنّ أو الأعمّ (حجب العزّة و أستار القدرة) المانعة عن إدراك ذواتهم و الاطلاع على شئوناتهم.
و توضيحه بالتّمثيل انّ ملوك الدّنيا إذا بلغوا في العزّ و العظمة مرتبة الغاية القصوى لا يصل إلى حضور خواصّه فضلا عن ذاته إلّا الأوحدي من النّاس، و لا يراهم إلّا من كان له معهم علقة شديدة و وسيلة قوية، و الحاجب عن ذلك ليس الا هيبة السّلطنة و قدرة الملك و عظمته و إذا كان هذا حال خواص السّلطنة العارية و الملوك الذين هم في الحقيقة مملوك، فشأن خواص الحضرة الرّبوبيّة و ملك الملوك أعلى و استناد الحايل عن إدراك مقاماتهم و درجاتهم إلى حجب العزّة و أستار القدرة أحرى (و لا يتوهمون ربّهم بالتّصوير) لكونهم منزّهين عن الادراكات الوهميّة و الخيالية فى حق مبدئهم و خالقهم جلّت عظمته، لأنّ عقولهم صافية غير مشوبة بالتّوهمات و التخيّلات (و لا يجرون عليه صفات المصنوعين، و لا يحدّونه بالاماكن، و لا يشيرون اليه بالنظاير) لأنّ إجراء الصّفات و التّحديد بالأماكن و الاشارة بالنّظاير إنما هو من مخترعات الواهمة و المتخيّلة المختصّتين بذوات الأمزجة العنصرية الغير الجائزتين في حقّ الملائكة السّماوية و مقرّبي الحضرة الرّبوبيّة، هذا تمام الكلام في شرح حال الملائكة حسبما اقتضاه المقام و يأتي شطر منه عند شرح بعض الخطب الآتية المقتضية لذلك كخطبة الأشباح و غيرها، و اللّه الموفّق و المعين.
|