الفصل الرابع عشر
فأهبطه إلى دار البليّة و تناسل الذّرّيّة، و اصطفى من ولده أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم، و على تبلغ الرّسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم، فجهلوا حقّه، و اتّخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشّياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجّوا عليهم بالتّبلغ، و يثيروا لهم دفاين العقول، و يروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع، و معايش تحييهم، و اجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم، و أحداث تتتابع عليهم.
اللغة
(هبط) الماء و غيره هبطا من باب ضرب نزل و في لغة قليلة يهبط هبوطا من باب قعد و هبطته أنزلته يتعدى و لا يتعدى و (البليّة) كالبلاء و البلوى اسم من الابتلاء بمعنى الامتحان و (التّناسل) التّوالد و (الذّريّة) و النّسل و الولد نظائر و تكون الذّرية واحدا و جمعا و فيها ثلاث لغات أفصحها ضمّ الذّال و بها قرء السّبعة في الآيات القرآنية، و الثّانية كسرها، و يروى عن زيد بن ثابت، و الثّالثة فتح الذّال مع تخفيف الرّاء وزان كريمة و بها قرء أبان بن عثمان و تجمع على ذرّيات و الذّراري و في أصلها أربعة مذاهب: من الذّرء بالهمز من ذرء اللّه الخلق، و من الذّر و الذّرو و الذّري، فعلى الأوّل وزنها فعيلة أبدلت الهمزة ياء كبريّة، و على الثّاني وزنها فعلية كقمريّة أو فعّيلة نحو ذرّيرة، فلمّا كثرت الرّاآت أبدلت الأخيرة ياء و ادغم الياء الاولى فيها، نحو سريّة فيمن أخذها من السرّ، و هو النّكاح، أو فعّولة نحو ذرورة فابدلوا الرّاء الأخيرة لما ذكرناه فصار ذروية ثمّ ادغمت الواو في الياء فصار ذريّة، و على الثالث فوزنها فعولة، و على الرّابع فعيلة و (الأنداد) جمع النّد و هو المثل و (اجتالتهم) من الجولان أى ادارتهم و (الشّياطين) جمع الشّيطان من الشّطن و هو البعد، قال الزمخشري في محكى كلامه: قد جعل سيبويه نون الشّيطان في موضع من كتابه أصليّة و في آخر زائدة، و الدّليل على أصالتها قولهم: تشيطن، و اشتقاقه من شطن اذا بعد لبعده عن الصّلاح و الخير، و من شاط إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة و (واتر) من المواترة و هي المتابعة، قيل: و لا يكون المواترة بين الأشياء إلّا إذا وقعت بينها فترة، و إلّا فهي مداركة و مواصلة و (أثار) الغبار يثيره هيجه و أثاروا الأرض في الاية الشريفة أى قلّبوها للزّراعة و (المقدرة) بفتح الميم و حركات الدّال كالقدرة مصدر من قدر عليه إذا قوى و (المهاد) الفراش و البساط و (الأوصاب) جمع الوصب و هو المرض و الوجع و (أهرمه) إذا أضعفه من هرم هرما من باب تعب كبر و ضعف و رجل هرم ككتف و امراة هرمة و (الاحداث) جمع الحدث بفتحتين و هو الامور الحادثة، و خصّت في العرف بالنّوايب المتجددة و المصايب الحادثة
الاعراب
و تناسل الذّريّة بالجرّ عطف على البليّة، و جملة أخذ على الوحى اه في محلّ النّصب على الحاليّة من فاعل أخذ أو مفعوله، و لما في قوله عليه السّلام: لمّا بدّل، ظرفيّة بمعنى حين أو بمعنى إذ و تختصّ بالماضي و بالاضافة إلى الجملة فتقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود اوليهما و تقدير الكلام: لمّا بدل أكثر خلقه عهد اللّه اصطفى من ولده أنبياء، و العامل فيها الجواب المقدّم، و آيات المقدرة بالاضافة و في بعض النّسخ الايات المقدرة بالتّوصيف، و من سقف بيان للايات
المعنى
ثمّ انّ آدم لمّا أكل من الشّجرة أخرجه اللّه سبحانه من الجنّة (فاهبطه) أى أنزله (إلى دار البليّة) و المراد بالاهباط على تقدير كون آدم عليه السّلام في جنّة السّماء واضح، و أمّا على تقدير كونه في جنّة الدّنيا كما هو الأظهر لما قد مرّ، فالمراد بالاهباط هو الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: اهبطوا مصرا، و المراد بدار البليّة هو دار الدّنيا، لأنّ اللّه سبحانه قد جعل فيه البلاء أدبا للظالم و امتحانا للمؤمن و درجة للأنبياء و كرامة للأولياء على ما ورد في الخبر ثمّ إنّ أوّل بقعة هبط إليها آدم هي الصّفا على ما مرّ فى الأخبار، و في بعض الأخبار هي جبل سرانديب كما مرّ أيضا و هو جبل بأعلى الصّين في أرض الهند يراه البحريّون من مسافة أيّام، و فيه على ما نقل أثر قدم آدم مغموسة، و نقل أنّ الياقوت الأحمر موجود في هذا الجبل تحدرها السيول و الأمطار من ذروته الى الحضيض و به يوجد الماس أيضا و يوجد العود.
و قد كان هبوط آدم بعد غروب الشّمس على ما رواه عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: كان عمر آدم عليه السّلام من يوم خلقه اللّه إلى يوم قبضه تسعمائة و ثلاثين سنة، و دفن بمكة و نفخ فيه يوم الجمعة بعد الزّوال، ثم برء زوجه من أسفل أضلاعه«» و أسكنه جنّته من يومه ذلك، فما استقرّ فيها إلّا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى اللّه و أخرجهما من الجنّة بعد غروب الشّمس و ما بات فيها.
و في الفقيه عن الحسين بن العلاء عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّه لمّا اهبط آدم من الجنّة ظهرت به شامة سوداء«» من قرنه إلى قدمه فطال حزنه و بكاؤه لما ظهر به فأتاه جبرئيل فقال: له ما يبكيك يا آدم فقال: لهذه الشّامة التي ظهرت بي قال: قم يا آدم فصل فهذا وقت الصّلاة الاولى، فقام فصلى فانحطت الشّامة إلى عنقه، فجائه في الصّلاة الثّانية فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصّلاة الثّانية، فقام فصلى فانحطت الشّامة إلى سرّته، فجائه في الصّلاة الثّالثة فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصّلاة الثّالثة، فقام فصلى فانحطت الشّامة إلى ركبتيه، فجائه في الصّلاة الرّابعة فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصّلاة الرّابعة، فقام فصلى فانحطت الشّامة إلى قدميه، فجائه في الصّلاة الخامسة فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصّلاة الخامسة، فقام فصلى فخرج منها، فحمد اللّه و أثنى عليه فقال جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصّلاة كمثلك في هذه الشّامة، من صلّى من ولدك في كلّ يوم و ليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشّامة.
و في الوسائل في باب تحريم العصير العنبي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه لما أهبط آدم أمره بالحرث و الزّرع و طرح غرسا عليه من غرس الجنّة فأعطاه النّخل و العنب و الزّيتون و الرّمان فغرسها لعقبه و ذرّيته، فأكل هو من ثمارها فقال إبليس: ائذن لي ان آكل منه شيئا فأبى أن يطعمه فجاء عند آخر عمر آدم، فقال لحوّاء: قد أجهدني الجوع و العطش اريدان تذيقني من هذه الثّمار، فقالت له: إنّ آدم عهد إلىّ أن لا أطعمك شيئا من هذا الغرس و أنّه من الجنّة و لا ينبغي لك أن تأكل منه، فقال لها: فاعصري منه في كفي شيئا، فأبت عليه، فقال: ذريني أمصّه و لا آكله، فأخذت عنقودا من عنب فأعطته فمصّه و لم يأكل منه لما كانت حوّاء قد اكدت عليه، فلمّا ذهب يعض عليه اجتذبته حوّاء من فيه، فأوحى اللّه إلى آدم إنّ العنب قد مصّه عدوّي و عدوّك إبليس و قد حرّمت عليك من عصيره الخمر ما خالطه نفس ابليس فحرمت الخمر، لأنّ عدوّ اللّه إبليس مكر بحواء حتّى أمصّته العنبة، و لو أكلها لحرّمت الكرمة من أوّلها إلى آخرها و جميع ثمارها و ما يخرج منه، ثم إنّه قال لحوّاء: لو أمصصتني شيئا من التمر كما أمصصتني من العنب، فأعطته تمرة فمصّها إلى أن قال«» ثم إن ابليس ذهب بعد وفاة آدم فبال في أصل الكرمة و النّخلة، فجرى الماء في عودهما ببول عدوّ اللّه، فمن ثم يختمر العنب و الكرم، فحرّم اللّه على ذرّية آدم كل مسكر، لأنّ الماء جرى ببول عدوّ اللّه في النّخلة و العنب و صار كلّ مختمر خمرا لأنّ الماء اختمرت في النّخلة و الكرمة من رائحة بول عدوّ اللّه هذا.
و قد استطرفت هذه الأخبار لكونها غير خالية عن المناسبة للمقام مع ما فيها من الاشارة إلى بعض ما ابتلى به آدم عليه السّلام بعد إهباطه إلى دار البلية.
و من أعظم ما ابتلي به قتل هابيل و لقد رثى له بما رواه في العيون باسناده عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام في حديث الشّامي مع أمير المؤمنين عليه السّلام و سأله عن أوّل من قال الشّعر: فقال عليه السّلام: آدم عليه السّلام، فقال: و ما كان شعره قال عليه السّلام:
لمّا انزل من السّماء إلى الأرض فرأى تربتها و سعتها و هواها، و قتل قابيل هابيل قال آدم عليه السّلام:
تغيّرت البلاد و من عليهافوجه الارض مغبّر قبيح
تغيّر كل ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه المليح
و ما لي لا اجود بسكب دمعو هابيل تضمّنه الضّريح
ارى طول الحياة علىّ غماو هل انا من حياتي مستريح
قتل قابيل هابيل أخاهفوا حزنا لقد فقد المليح
فأجابه ابليس لعنه اللّه
تنحّ عن البلاد و ساكنيهافبي في الخلد ضاق بك الفسيح
و كنت بها و زوجك في قرارو قلبك من أذى الدّنيا مريح
فلم تنفكّ من كيدي و مكريالى ان فاتك الثّمن الربيح
و بدّل أهلها أثلا و خمطابجنّات و أبواب متيح
«» فلو لا رحمة الجبار أضحىبكفّك من جنان الخلد ريح
هذا و قوله عليه السّلام (و تناسل الذرّية) أى أهبطه إلى دار توالد الاولاد من البنات و البنين.
و قد اختلف في ابتداء التّناسل فذهب المجوس المجوّزون لنكاح المحارم إلى أنّ آدم زوّج البنات للبنين فحصل التّناسل و كثر الخلق.
و في الآثار أنّهم كان لهم ملك فسكر ليلة فوقع على اخته و امّه فلما أفاق ندم و شقّ ذلك عليه و أراد رفع التّعيير عنه، فقال للنّاس: هذا حلال، فامتنعوا عليه فجعل يقتلهم و حفر لهم الاخدود.
الاخدود.
و في خبر آخر عن امير المؤمنين عليه السّلام يأتي في شرح الخطبة الثّانية و التّسعين أنه احتجّ لهم على جوازه بتزويج أولاد آدم و أنّهم قد كانوا ينكحون أخواتهم فقبله جماعة و بقوا عليه إلى الآن.
و وافقهم على ذلك الاعتقاد الفاسد جمهور المخالفين، فانّهم قالوا: إنّ حواء امرأة آدم كانت تلد في كلّ بطن غلاما و جارية، فولدت أوّل بطن قابيل و توأمته اقليميا، و البطن الثّاني هابيل و توأمته ليوذا، فلما أدركوا جميعا أمر اللّه تعالى أن ينكح قابيل اخت هابيل و هابيل اخت قابيل، فرضي هابيل و أبى قابيل، لأنّ اخته كانت حسناء، و قال: ما أمر اللّه سبحانه بهذا و لكن هذا من رأيك فأمرهما آدم أن يقربا قربانا فرضيا بذلك، فانطلق هابيل إلى أفضل كبش من غنمه و قربه التماسا لوجه اللّه تعالى و مرضاة أبيه، و أمّا قابيل فانّه قرّب الزّوان الذي يبقى في البيدر الذي لا يستطيع أن يدسه، فقرّب ضغثا منه لا يريد به وجه اللّه و لا مرضاة أبيه، فقبل اللّه قربان هابيل و أتت نار بيضاء من السّماء فأخذته، ورد على قابيل قربانه، فقال ابليس لعنه اللّه لقابيل: إنّه يكون لهابيل عقب يفتخرون على عقبك، بأن قبل قربان أبيهم فاقتله حتّى لا يكون له عقب، فقتله، و هذا مقالة المخالفين الموافقة لمذهب المجوس لعنهم اللّه.
و أمّا الحقّ الحقيق الذي ينبغي أن يدان به فهو ما ذهب إليه أصحابنا أخذا عن الأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة و الطهارة سلام اللّه عليهم.
منها ما رواه الصّدوق في الفقيه عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ آدم ولد له شيث و أنّ اسمه هبة اللّه، و هو أوّل وصي اللّه من الادميين في الأرض، ثم ولد له بعد شيث يافث، فلمّا أدركا أراد اللّه أن يبدء بالنّسل ما ترون و أن يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرّم اللّه عزّ و جلّ من الاخوات على الاخوة، أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزلة، فأمر اللّه عزّ و جلّ أن يزوجها من شيث، فزوجها منه، ثم أنزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنّة اسمها منزلة فأمر اللّه عزّ و جلّ أن يزوجها من يافث، فزوّجها منه، فولد لشيث غلام، و ولد ليافث جارية، فأمر اللّه عزّ و جلّ آدم عليه السّلام حين أدركا أن يزوّج ابنة يافث من ابن شيث، ففعل، فولد الصّفوة من النّبيين و المرسلين من نسلهما، و معاذ اللّه أن يكون ذلك على ما قالوا من أمر الاخوة و الأخوات.
و منها ما فيه عن القاسم بن عروة عن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى انزل على آدم حوراء من الجنّة فزوّجها أحد ابنيه و زوّج الأخر ابنة الجان، فما كان في النّاس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء، و ما كان فيهم من سوء الخلق فهو من ابنة الجانّ و منها ما رواه ابو بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: لى ما يقول الناس في تزويج آدم ولده قال: قلت يقولون: إنّ حوّاء كانت تلد لآدم في كلّ بطن غلاما و جارية، فتزوّج الغلام الجارية التي من البطن الآخر الثّاني و تزوّج الجارية الغلام الذي من البطن الاخر الثّاني حتى توالدوا، فقال أبو جعفر عليه السّلام: و ليس هذا كذاك، أيحجّكم المجوس، و لكنّه لمّا ولد آدم هبة اللّه و كبر سأل اللّه أن يزوّجه، فأنزل اللّه حوراء من الجنّة فزوّجها إيّاه فولدت له أربعة بنين، ثم ولد آدم ابنا آخر فلما كبر أمره فتزوّج إلى الجان فولد أربع بنات فتزوّج بنو هذا بنات هذا، فما كان من جمال فمن قبل الحور، و ما كان من حلم فمن قبل آدم، و ما كان من حقد فمن قبل الجان، فلما توالدوا صعد الحوراء إلى السّماء.
و منها ما رواه الصّدوق أيضا باسناده عن مسمع عن زرارة قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن بدء النّسل من آدم كيف كان هو و عن بدء النّسل من ذرّية آدم فانّ أناسا عندنا يقولون: إنّ اللّه تبارك و تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج بناته بنيه و انّ هذا كلّه أصله من الاخوة و الأخوات، فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام: تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، يقول من قال هذا: بأنّ اللّه عزّ و جلّ خلق صفوة خلقه و أحبّائه و أنبيائه و رسله و المؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات من حرام، و لم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال، و قد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب، فو اللّه لقد نبئت (بينت خ) أن بعض البهائم تنكرت له اخته، فلما نزا عليها و نزل كشف له عنها، فعلم أنّها اخته أخرج عزموله ثمّ قبض عليه بأسنانه حتّى قطعه فخر ميّتا، و آخر تنكرت له امّه ففعل هذا بعينه، فكيف الانسان في فضله و علمه، غير أنّ جيلا من هذا الخلق الذي ترون رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم و أخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه فصاروا إلى ما ترون من الضّلال و الجهل إلى أن قال عليه السّلام: و حقّا أقول: ما أراد من يقول هذا و شبهه إلّا تقوية حجج المجوس، فما لهم قاتلهم اللّه.
ثمّ أنشأ عليه السّلام يحدّثنا كيف بدء النسل من آدم و كيف كان بدء النّسل من ذريته، فقال: إنّ آدم صلوات اللّه عليه ولد له سبعون بطنا في كلّ بطن غلام و جارية إلى أن قتل هابيل، فلما قتل هابيل جزع آدم جزعا شديدا قطعه عن إتيان النّساء فبقى لا يستطيع أن يغشي حوّاء خمسمائة عام، ثم تجلى ما به من الجزع عليه فغشى حوّاء، فوهب اللّه شيثا وحده ليس معه ثان، و اسم شيث هبة اللّه، و هو أوّل ما أوصى إليه من الآدميّين في الأرض، ثمّ ولد له من بعد شيث يافث ليس معه ثان، فلمّا أدركا و أراد اللّه أن يبلغ النّسل ما ترون و أن يكون ما جرى به القلم من تحريم ما حرم اللّه عزّ و جلّ من الاخوات على الاخوة، أنزل اللّه بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزلة فأمر اللّه أن يزوّجها من شيث إلى آخر ما مرّ في الحديث الأوّل.
و يمكن الجمع بين هذه الأخبار المختلفة ظاهرا بأن يكون ليافث زوجتان: إحداهما حوراء، و الاخرى جنيّة، أو يكون الولد المتزوّج بالجنّية غير شيث و يافث هذا.
و لم يستفد من الرّوايات أحوال بنات آدم فلا بدّ إمّا من بقائهن بلا زوج، و إمّا من جواز تزويج العمات دون الأخوات، و هو بعيد أيضا و اللّه العالم (و) كيف كان فانّ اللّه سبحانه لمّا أهبط آدم إلى دار الدّنيا و بدء بالنّسل و الأولاد (اصطفى من ولده أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم و على تبليغ الرّسالة أمانتهم) أى أخذ منهم العهد و الميثاق على أداء الوحى اليهم من الاصول و الفروع، و أخذ الأمانة منهم على تبليغ الرّسالة و نشر الشّرايع و الأحكام و ابلاغها إلى امتهم كما قال سبحانه:«وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- الآية».
و توضيح هذا الأخذ ما رواه في الكافي كالبحار من تفسير العياشي باسنادهما عن أبي حمزة الثّمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال لمّا أكل آدم من الشّجرة اهبط إلى الأرض فولد له هابيل و اخته توام، ثمّ إنّ آدم أمر هابيل و قابيل أن يقرّبا قربانا، و كان هابيل صاحب غنم و كان قابيل صاحب زرع، فقرّب هابيل كبشا من أفاضل غنمه، و قرّب قابيل من زرعه ما لم ينق، فتقبل قربان هابيل و لم يتقبل قربان قابيل و هو قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ- الآية».
و كان القربان تأكله النّار، فعمد قابيل إلى النّار فبنى لها بيتا و هو أوّل من بنى بيوت النّار، فقال: لأعبدنّ هذه النّار حتّى يتقبل منّي قرباني، ثمّ إنّ ابليس لعنه اللّه أتاه و هو يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فقال له: يا قابيل قد تقبل قربان هابيل و لم يتقبل قربانك، و إنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك و يقولون نحن أبناء الذي تقبل قربانه، و أنتم أبناء الذي ترك قربانه، فاقتله كيلا يكون له عقب يفتخرون على عقبك، فقتله، فلما رجع قابيل إلى آدم عليه السّلام قال له: يا قابيل أين هابيل قال: اطلب (اطلبوه خ ل) حيث قرّبنا القربان، فانطلق آدم فوجد هابيل مقتولا، فقال آدم: لعنت من أرض«» كما قبلت دم هابيل و بكى آدم صلى اللّه عليه على هابيل أربعين ليلة، ثمّ إنّ آدم سأل ربّه ولدا فولد له غلام فسمّاه هبة اللّه لأنّ اللّه عزّ و جلّ وهبه له، و اخته«» توأم فلما انقضت نبوة آدم و استكمل أيّامه أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه يا آدم قد قضيت نبوتك و استكملت أيّامك فاجعل العلم الذي عندك و الايمان و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار علم النبوة في العقب من ذرّيتك عند هبة اللّه ابنك، فاني لم أقطع العلم و الايمان و الاسم الأكبر و آثار علم النّبوة من العقب من ذرّيتك إلى يوم القيامة و لن أدع الأرض إلّا و فيها عالم يعرف به ديني و يعرف به طاعتي، و يكون نجاة لما يولد فيما بينك و بين نوح.
و بشر آدم بنوح، و قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى باعث نبيّا اسمه نوح و أنّه يدعو إلى اللّه عزّ ذكره، و يكذبه قومه، فيهلكهم اللّه بالطوفان، و كان بين آدم و بين نوح عشرة آباء أنبياء و أوصياء كلهم، و أوصى آدم إلى هبة اللّه أن من أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه و ليصدق به فانّه ينجو من الغرق.
ثمّ إنّ آدم مرض المرضة التي مات فيها فأرسل هبة اللّه، و قال له إن لقيت جبرئيل أو من لقيت من الملائكة فاقرأه مني السّلام و قل له: يا جبرئيل إنّ أبي يستهديك من ثمار الجنّة، فقال له جبرئيل: يا هبة اللّه إن أباك قد قبض و إنا نزلنا للصلاة عليه «و ما نزلنا الا للصّلاة عليه خ»، فارجع، فرجع فوجد آدم قد قبض فأراه جبرئيل كيف يغسله حتّى إذا بلغ للصّلاة قال هبة اللّه: يا جبرئيل تقدّم فصل على آدم، فقال له جبرئيل: إن اللّه عزّ و جلّ أمرنا أن نسجد لابيك آدم و هو في الجنّة فليس لنا أن نؤمّ شيئا من ولده فتقدم هبة اللّه و صلى على أبيه و جبرئيل خلفه و جنود الملائكة، و كبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأمره جبرئيل فرفع من ذلك خمسا و عشرين تكبيرة و السنة اليوم فينا خمس تكبيرات، و قد كان يكبر على أهل بدر تسعا و سبعا.
ثمّ إن هبة اللّه لمّا دفن آدم أتاه قابيل فقال: يا هبة اللّه إنّي قد رأيت أبي آدم قد خصّك من العلم بما لم اخصّ به أنا، و هو العلم الذي دعا به أخوك هابيل فتقبل به قربانه، و إنّما قتلته لكيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي فيقولون نحن أبناء الذي تقبّل منه قربانه و أنتم أبناء الذي ترك قربانه، و إنّك إن أظهرت من العلم الذي اختصك به أبوك شيئا قتلتك كما قتلت أخاك هابيل.
فلبث هبة اللّه و العقب من بعده مستخفين بما عندهم من العلم و الايمان و الاسم الاكبر و ميراث النّبوة و آثار علم النّبوة حتّى بعث اللّه نوحا، و ظهرت وصية هبة اللّه حين نظروا في وصيّة آدم، فوجدوا نوحا نبيّا قد بشّر به أبوهم آدم، فآمنوا به و اتّبعوه و صدّقوه، و قد كان آدم أوصى إلى هبة اللّه أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة فيكون يوم عيدهم فيتعاهدون بعث نوح و زمانه الذي يخرج فيه، و كذلك في وصية كلّ نبيّ حتّى بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما عرفوا نوحا بالعلم الذي عندهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ- الآية» و كان من بين آدم و نوح من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين، و هو قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» يعنى لم اسم المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء عليهم السّلام، فمكث نوح صلّى اللّه عليه في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما لم يشاركه في نبوّته أحد، و لكنه قدم على قوم مكذّبين للأنبياء عليهم السّلام الذين كانوا بينه و بين آدم صلى اللّه عليه و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:«كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» يعنى من كان بينه و بين آدم إلى أن انتهى إلى قوله عزّ و جل:«وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ثمّ إنّ نوحا لما انقضت نبوّته و استكمل أيّامه، أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن يا نوح قد قضيت نبوّتك و استكملت أيّامك فاجعل العلم الذي عندك و الايمان و الاسم الاكبر و ميراث العلم و آثار علم النبوّة في العقب من ذريتك، فانّي لن أقطعها كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء صلوات اللّه عليهم التي بينك و بين آدم عليه السّلام و لن أدع الأرض إلّا و فيها عالم يعرف به ديني و يعرف به طاعتي و يكون نجاة لمن يولد فيها بين قبض النّبيّ إلى خروج النبيّ الآخر.
و بشّر نوح ساما بهود، فكان فيما بين نوح و هود من الأنبياء عليهم السّلام و قال نوح: إنّ اللّه باعث نبيا يقال له: هود و انّه يدعو قومه الى اللّه عزّ و جل فيكذّبونه و اللّه عزّ و جلّ مهلكهم بالرّيح، فمن أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه فان اللّه عزّ و جلّ ينجيه من عذاب الرّيح. و أمر نوح عليه السّلام ابنه ساما أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة، فيكون يومئذ عيدا لهم فيتعاهدون و فيه ما عندهم من العلم و الايمان و الاسم الأكبر و مواريث العلم و آثار علم النّبوة، فوجدوا هودا نبيا و قد بشّر به أبوهم نوح عليه السّلام فآمنوا به و اتّبعوه و صدّقوه فنجوا من عذاب الرّيح، و هو قول اللّه عزّ و جلّ.
«وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً» و قوله عزّ و جلّ:«كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ» و قال تبارك و تعالى:«وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ» و قوله:«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا» لنجعلها في أهل بيته«وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» لنجعلها في أهل بيته.
و أمر العقب من ذرّيته الأنبياء عليهم السّلام من كان قبل ابراهيم لابراهيم عليه السّلام، فكان بين إبراهيم و هود من الأنبياء صلوات اللّه عليهم و هو قول اللّه عزّ و جلّ.
«وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» و قوله عز ذكره:«فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» و قوله عزّ و جلّ:«وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» فجرى بين كلّ نبيّين عشرة أنبياء و تسعة و ثمانية أنبياء كلهم أنبياء، و جرى لكل نبيّ كما جرى لنوح عليه السّلام، و كما جرى لآدم و هود و صالح و شعيب و ابراهيم صلوات اللّه عليهم.
حتّى انتهت إلى يوسف بن يعقوب عليه السّلام، ثم صارت من بعد يوسف في أسباط اخوته.
حتّى انتهت إلى موسى عليه السّلام فكان بين يوسف و بين موسى من الأنبياء، فأرسل اللّه موسى و هارون الى فرعون و هامان و قارون، ثم ارسل الرّسل:«تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» و كانت بنو إسرائيل يقتل نبيّ... اثنان قائمان و يقتلون اثنين و أربعة قيام، حتّى أنّه كان ربّما قتلوا في اليوم الواحد سبعين نبيّا، و يقوم سوق قتلهم آخر النهار، فلمّا نزلت التّوراة على موسى عليه السّلام، بشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، و كان بين يوسف و موسى من الأنبياء، و كان وصيّ موسى يوشع بن نون عليهما السّلام، و هو فتاه الذي ذكره اللّه في كتابه.
فلم تزل الأنبياء تبشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، حتّى بعث اللّه تبارك و تعالى المسيح عيسى بن مريم فبشر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك قوله تعالى «يجدونه» يعني اليهود و النّصارى «مكتوبا» يعني صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله «عندهم» يعني في التّوراة و الإنجيل «يأمرهم بالمعروف و ينهيهم عن المنكر» و هو قول اللّه عزّ و جلّ يخبر عن عيسى عليه السّلام:«وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» و بشّر موسى و عيسى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما بشّر الأنبياء بعضهم ببعض، حتّى بلغت محمّدا.
فلما قضى محمّد صلّى اللّه عليه و آله نبوّته و استكمل أيامه أوحى اللّه تبارك و تعالى إليه أن يا محمّد قد قضيت نبوتك و استكملت أيّامك، فاجعل العلم الذي عندك و الايمان و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار علم النّبوة في أهل بيتك، عند عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فانّي لم أقطع العلم و الايمان و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار علم النّبوة من العقب من ذريّتك، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك و بين أبيك آدم، و ذلك قول اللّه تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) و انّ اللّه تبارك و تعالى لم يجعل العلم جهلا، و لم يكل أمره إلى أحد من خلقه، لا إلى ملك مقرّب و لا إلى نبيّ مرسل، و لكنّه أرسل رسولا من ملائكته، فقال له: قل كذا و كذا، فأمرهم بما يحبّ و نهيهم عمّا يكره، فقص عليهم امر خلقه بعلم، فعلم ذلك العلم و علم أنبيائه و أصفيائه من الأنبياء و الأخوان و الذّرية التي بعضها من بعض، فذلك قوله عزّ و جل:(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) فأمّا الكتاب فهو النّبوة، و أمّا الحكمة فهم الحكماء من الأنبياء من الصفوة و أمّا الملك العظيم فهم الأئمة من الصّفوة، و كلّ هؤلاء من الذرية التي بعضها من بعض، و العلماء الذين جعل فيهم البقية و فيهم الباقية و حفظ الميثاق حتّى تنقضي الدّنيا، و العلماء و لولاة الامر استنباط العلم و للهداة فهذا شأن الفضل من الصفوة و الرسل و الأنبياء و الحكماء و أئمه الهدى و الخلفاء الذين هم ولاة أمر اللّه عز و جل، و استنباط علم اللّه و أهل آثار علم اللّه من الذّريّة التي بعضها من بعض من الصّفوة بعد الأنبياء عليهم السّلام من الآباء و الاخوان و الذّريّة من الأنبياء.
فمن اعتصم بالفضل انتهى بعلمهم و نجا بنصرتهم، و من وضع ولاة أمر اللّه تبارك و تعالى في غير الصّفوة من بيوتات الأنبياء صلوات اللّه عليهم، فقد خالف أمر اللّه جلّ و عزّ و جعل الجهّال ولاة أمر اللّه و المتكلّفين بغير هدى من اللّه عزّ و جلّ، و زعموا أنّهم أهل استنباط علم اللّه، فقد كذّبوا على اللّه تبارك و تعالى و رسوله، و رغبوا عن وصيّته و طاعته، و لم يضعوا فضل اللّه حيث وضعه اللّه تبارك و تعالى، فضلّوا و أضلّوا أتباعهم و لم يكن لهم حجّة يوم القيامة إنّما الحجّة في آل إبراهيم عليه السّلام، لقول اللّه عزّ ذكره:(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) فالحجّة الأنبياء صلوات اللّه عليهم و أهل بيوتات الأنبياء عليهم السّلام حتّى يقوم السّاعة، لأنّ كتاب اللّه ينطق بذلك وصيّة اللّه بعضها من بعض الذي وضعها على النّاس، فقال جلّ و عزّ:(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) و هي بيوت الأنبياء و الرّسل و الحكماء و أئمة الهدى، فهذا بيان عروة الايمان التي نجا بها من نجا قبلكم و بها ينجو من يتبع الأئمة، و قال اللّه عزّ و جلّ في كتابه:(وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ...،أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)
فانّه و كل بالفضل من أهل بيته و الأخوان و الذّرية، و هو قول اللّه تبارك و تعالى: إن يكفر به امّتك فقد وكلنا أهل بيتك بالايمان الذي أرسلتك به، فلا يكفرون به أبدا و لا اضيع الايمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء امّتك و ولاة امرى بعدك و أهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب و لا إثم و لا زور و لا بطر و لا رياء، فهذا بيان ما ينتهى إليه أمر هذه الامة إنّ اللّه عزّ و جلّ طهر أهل بيت نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سألهم أجر المودة و أجرى لهم الولاية و جعلهم أوصيائه و أحبائه ثانية بعده في امّته، فاعتبروا أيّها النّاس فيما قلت: حيث وضع اللّه عزّ و جل ولايته و طاعته و مودته و استنباط علمه و حججه، فايّاه فتقبلوا به، و به فاستمسكوا تنجوا به، و يكون لهم الحجّة يوم القيامة و طريق ربّكم جلّ و عز، لا يصل ولاية إلى اللّه عزّ و جلّ إلا بهم، فمن فعل ذلك كان حقا على اللّه أن يكرمه و لا يعذّبه، و من يأت اللّه عزّ و جلّ بغير ما أمره كان حقّا على اللّه عزّ و جلّ أن يذله و أن يعذّبه.
أقول: لا يخفى على الفطن العارف ما في هذه الرّواية الشريفة من النّكات الرّايقة و الأسرار الفايقة و المطالب المهمة و المسائل المعظمة، و بالغور فيها يمكن استخراج بعض ما تضمنته من كنوز الاسرار، و بالتّوسل بها يمكن الوصول إلى رموز المعارف و حقائق الأنوار، و إنّما ذلك في حقّ من امتحن قلبه بنور العرفان و الايمان، و صفى ذهنه من كدورات الشبهات و ظلمات الأوهام، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم و قوله عليه السّلام (لما بدّل أكثر خلقه عهد اللّه اليهم) يعني إذ بدّل أكثر الخلق عهد اللّه و ميثاقه الماخوذ عليهم في باب التوحيد و المعرفة و النّبوة و الولاية حسبما اشير إليه في الاية الشريفة و الأخبار المتواترة قال سبحانه:«وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ».
قال أكثر المفسّرين و أهل الأثر: إنّ اللّه أخرج ذريّة آدم من صلبه كهيئة الذّر«» فعرضهم على آدم و قال: إنّي آخذ على ذريّتك ميثاقهم أن يعبدوني و لا يشركوا بي شيئا و علىّ أرزاقهم، ثمّ قال: أ لست بربّكم قالوا: بلى شهدنا أنّك ربّنا، فقال للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا.
و قيل: إنّ اللّه جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه و يفهمونه، ثمّ ردّهم إلى صلب آدم و النّاس محبوسون بأجمعهم حتّى يخرج كلّ من أخرجه في ذلك الوقت و كلّ من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى، و من كفر و جحد فقد تغيّر على الفطرة الأولى.
و ردّ المحقّقون هذا التّفسير بوجوه«» كثيرة تنيف على عشرة.
و منهم المرتضى رضي اللّه عنه، و قد شدد النكير على ذلك في كتاب الغرر و الدّرر، قال بعد ذكر الآية: و قد ظن بعض من لا بصيرة له و لا فطنة عنده أنّ تأويل هذه الآية أن اللّه استخرج من ظهر آدم عليه السّلام جميع ذريته و هم في خلق الذّر، فقرّرهم بمعرفته و أشهدهم على أنفسهم، و هذا التّأويل مع أنّ العقل يبطله و يحيله، ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأنّ اللّه قال:«وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ».
و لم يقل من آدم، و قال«مِنْ ظُهُورِهِمْ» و لم يقل من ظهره و قال:«ذُرِّيَّتَهُمْ» و لم يقل ذريّته، ثمّ أخبر تعالى بأنّه فعل ذلك لئلّا يقولوا يوم القيامة إنّهم كانوا عن هذا غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم و أنّهم نشأوا على دينهم و سنّتهم و هذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدم لصلبه و أنّها تناولت من كان له آباء مشركون، و هذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذريّة آدم، فهذا شهادة الظاهر ببطلان تأويلهم.
فأمّا شهادة العقل فمن حيث لا تخلو هذه الذريّة التّي استخرجت من ظهر آدم فخوطبت و قرّرت من أن تكون كاملة العقل مستوفية الشروط أو لا تكون كذلك.
فان كانت بالصّفة الاولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم و إنشائهم و إكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال و ما قرّروا به و استشهدوا عليه لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى و إن بعد العهد و طال الزّمان، و لهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان و هو عاقل كامل، فينسى مع بعد العهد جميع تصرّفه المتقدم و ساير أحواله، و ليس أيضا لتخلّل الموت بين الحالين تأثير لأنّه لو كان تخلّل الموت يزيل الذكر لكان تخلّل النّوم و السّكر و الجنون و الاغماء بين أحوال العقلاء يزيل الذكر، لما مضى من أحوالهم، لأن ساير ما عددناه ممّا ينفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا الباب، و ليس لهم أن يقولوا إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسي ما كان عليه في حال الطفوليّة جاز ما ذكرناه، و ذلك انّا إنّما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى عليهم و هم كاملوا العقل، و لو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه، على أنّ تجويز النّسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، و ذلك إنّ اللّه تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم و أشهدهم لئلّا يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك، و سقوط الحجّة عنهم فيه، فاذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجّة عنهم و زوالها.
و إن كانوا على الصّفة الثّانية من فقد العلم «العقل خ» و شرايط التّكليف قبح خطابهم و تقريرهم و إشهادهم و صار ذلك عبثا قبيحا تعالى اللّه عنه.
ثمّ قال: فان قيل: قد أبطلتم تأويل مخالفيكم فما تأويلها الصّحيح عندكم قلنا في الاية وجهان أحدهما أن يكون تعالى إنّما عنى بها جماعة من ذريّة بني آدم خلقهم و بلغهم و أكمل عقولهم و قرّرهم على ألسن رسله بمعرفته و ما يجب من طاعته، فأقرّوا بذلك و أشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم إلى أن قال: و الجواب الثّاني و هو أحسن أنّه تعالى لما خلقهم و ركبهم تركيبا يدلّ على معرفته و يشهد بقدرته و وجوب عبادته، و أراهم العبر و الايات و الدلايل في غيرهم و في أنفسهم، كان بمنزلة المستشهد لهم على أنفسهم و كانوا في مشاهدة ذلك و معرفته و ظهوره على الوجه الذي أراد اللّه تعالى و تعذّر امتناعهم منه و انفكاكهم من دلالته بمنزلة المقرّ المعترف، و إن لم يكن هناك شهادة و لا اعتراف على الحقيقة إلى آخر ما ذكره، و قد وافقه على الجواب الأخير الزّمخشري في الكشّاف و غيره من المفسّرين.
و اقول: أمّا ما ذكره السّيد (ره) من عدم انطباق ظاهر الاية بما حملوها عليه من وجود عالم أخذ الميثاق و إخراج ذريّة آدم من صلبه كالذر فمسلّم، لكن يتوجّه عليه أنّ ما ذكره من الوجهين في تأويل الاية أيضا كذلك، بل مخالفة الظاهر فيهما أزيد منها في الوجه الذي ذكروه مع عدم شاهد على واحد منهما في شي ء من الأخبار.
و أمّا إنكار أصل هذه القضيّة و الحكم باستحالته بما ذكره من دليل العقل، فلا وجه له و لا يعبأ بالدّليل المذكور قبال الأخبار المتواترة المفيدة لوجود ذلك العالم، بل قد وقع في الأخبار الكثيرة تفسير الاية به أيضا، و الاستقصاء فيها موجب للاطناب الممل إلّا أنّا نذكر شطرا منها تبركا و توضيحا و استشهادا.
منها ما رواه عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: و إذ أخذ ربّك، إلى قوله: قالوا بلى، قلت: معاينة كان هذا قال: نعم، فثبتت المعرفة و نسوا الموقف و سيذكرونه فلولا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذّرّ و لم يؤمن بقلبه، فقال اللّه:
«فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» و منها ما رواه أيضا عنه عليه السّلام، قال: كان الميثاق مأخوذا عليهم للّه بالرّبوبية و لرسوله بالنّبوة و لامير المؤمنين و الأئمة عليهم السّلام بالامامة، فقال: أ لست بربّكم، و محمّد نبيّكم، و عليّ امامكم، و الائمة الهادون أئمتكم فقالوا: بلى.
و منها ما في البحار عن أمالي الشّيخ عن المفيد باسناده عن جابر عن أبي جعفر عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: أنت الذي احتجّ اللّه بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحا، فقال لهم: أ لست بربّكم قالوا: بلى، قال: و محمّد رسول اللّه قالوا: بلى، قال: و عليّ أمير المؤمنين فأبى الخلق جميعا استكبارا و عتوّا عن ولايتك إلّا نفر قليل، و هم أقلّ القليل و هم أصحاب اليمين.
و منها ما فيه أيضا من بصائر الدّرجات باسناده عن عبد الرّحمان بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: و إذ اخذ ربك من بني آدم الاية، قال: أخرج اللّه من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة كالذّر فعرفهم نفسه، و لولا ذلك لم يعرف أحد ربّه و قال: أ لست بربّكم قالوا: بلى و أنّ محمّدا رسول اللّه و عليا أمير المؤمنين و منها ما فيه أيضا من كشف الغمة من كتاب الامامة عن الحسن بن الحسين الأنصاري عن يحيى بن العلا عن معروف بن خربوز المكي عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لو يعلم النّاس متى سمّي عليّ أمير المؤمنين لم ينكروا حقّه، فقيل له: متى سمّي فقرأ: و إذ أخذ ربّك إلى قوله أ لست بربّكم قالوا: بلى قال: محمّد رسول اللّه و عليّ أمير المؤمنين.
و منها ما فيه أيضا من تفسير فرات بن إبراهيم عن ابن القاسم معنعنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: و إذ اخذ ربّك من بني آدم إلى آخر الآية، قال: أخرج اللّه من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذّر و عرّفهم نفسه و أراهم نفسه، و لولا ذلك لم يعرف أحد ربّه، قال: أ لست بربكم قالوا: بلى، قال: فانّ محمّدا عبدي و رسولي و أنّ عليّا أمير المؤمنين خليفتي و أميني، و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: كل مولود يولد على المعرفة بأنّ اللّه تعالى خالقه، و ذلك قوله تعالى:«وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» إلى غير هذه من الأخبار الكثيرة، و قد عقد المجلسي طاب ثراه بابا فيها في مجلّد الامامة من البحار.
و بالجملة فقد تلخص ممّا ذكرنا أنّ المراد من العهد المأخوذ عن الخلق الذي بدّلوه هو الميثاق المأخوذ عليهم للّه بالرّبوبية و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله بالنبوة و للائمة عليهم السّلام بالولاية، و كذلك المراد بالحق في قوله عليه السّلام (فجهلوا حقّه) هو الحق اللازم على العباد من المعرفة و التّوحيد كما يشهد به رواية معاذ بن جبل التي مضت في ثاني التّذنيبات من رابع فصول الخطبة، قال كنت رفقت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال يا معاذ هل تدري ما حق اللّه على العباد يقولها ثلاثا، قلت: اللّه و رسوله أعلم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حق اللّه عزّ و جل على العباد أن لا يشركوا به شيئا إلى آخر ما مرّ هناك، و يحتمل أن يكون المراد به«» الاعمّ ممّا ذكرنا و من الفروعات، و يشعر به ثالث الجملات المعطوفة«» من قوله: (و اتخذوا الانداد) أى الأمثال (معه و اجتالتهم) أى أدارتهم و صرفتهم (الشّياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته) أى أقطعتهم كما في بعض النّسخ كذلك، فهم قطاع طريق العباد عن عبادة اللّه سبحانه و تعالى (ف) لمّا كان الحال بهذا المنوال (بعث فيهم) أى أرسل إليهم (رسله، و واتر اليهم أنبيائه) أى أرسلهم متواترا و بين كلّ نبيّين فترة، قال سبحانه:«ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً«»وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ»
قال الطبرسي في تفسير الاية أى متواترة تتبع بعضهم بعضا، عن ابن عبّاس و مجاهد، و قيل متقاربة الأوقات، و أصله الاتّصال و منه الوتر لاتّصاله بمكانه من القوس و منه الوتر، و هو الفرد عن الجمع المتّصل، قال الأصمعي يقال: و اترت الخبر أتبعت بعضه بعضا و بين الخبرين هنيهة انتهى، و قوله: (ليستأدوهم ميثاق فطرته) إلى قوله: و يروهم آيات المقدرة إشارة إلى الغاية من بعث الرّسل و الثمرة المترتبة على ذلك، و هي على ما ذكره عليه السّلام خمس، و المراد من ميثاق الفطرة هو ميثاق التّوحيد و النّبوة و الولاية.
كما يشهد به ما رواه الصّدوق في التّوحيد باسناده عن عبد الرّحمان بن كثير مولى أبي جعفر عليه السّلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:«فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» قال: التّوحيد و محمّد رسول اللّه و عليّ أمير المؤمنين.
و عن ابن مسكان عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام أصلحك اللّه، قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه:«فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» قال: فطرهم على التّوحيد عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم، قلت: و خاطبوه قال: فطأطأ رأسه ثم قال: لو لا ذلك لم يعلموا من ربّهم و لا من رازقهم.
و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها، ما تلك الفطرة قال: هي الاسلام، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التّوحيد فقال: أ لست بربّكم و فيهم المؤمن و الكافر، و المراد بالنّعمة في قوله عليه السّلام: (و يذكروهم منسيّ نعمته) إمّا النّعمة التي من بها على العباد في عالم الذّرّ و الميثاق حسبما مرّ، أو جميع النّعم المغفول عنها، و الأوّل هو الظاهر نظرا إلى ظاهر لفظ النّسيان (و يحتجّوا عليهم) أى في يوم القيامة (بالتّبليغ) أى تبليغ الأحكام و نشر الشّرايع و الأديان:
«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (و يثيروا) أى يهيجوا (لهم دفائن العقول) من شواهد التّوحيد و أدلة الرّبوبيّة كما قال سبحانه:«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (و يروهم آيات المقدرة) أى علامات القدرة و شواهدها حتّى ينظروا إليها بنظر الدّقة و الاعتبار و إلّا فالامارات المذكورة ممّا هي بمرئى و مسمع من كلّ أحد لا حاجة فيها إلى الارائة كما هو ظاهر.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى ستّ آيات من تلك الآيات و بيّنها بقوله: (من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع) كما قال سبحانه:«وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» و قال:«أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَ الْجِبالَ أَوْتاداً» إلى أن قال:«وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» و قد مضى في التّذييل الثّاني من تذييلات الفصل الثّامن من فصول هذه الخطبة ما يوجب زيادة البصيرة في المقام فتذكر (و معايش تحييهم، و آجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم) نسبة الاحياء إلى المعايش أى المطعومات و المشروبات التي بها قوام الحياة، و الافناء إلى الآجال، و الاهرام إلى الأوصاب و الامراض من قبيل الاسناد إلى السبب مجازا على حدّ أنبت الرّبيع البقل (و أحداث) أى نوائب حادثة و مصائب متجدّدة (تتتابع عليهم) و في كلّ واحدة من الآيات المذكورة دلالة على أنّ للعالم صانعا قادرا يفعل فيه ما يشاء و يحكم ما يريد، لا رادّ لقضائه و لا دافع عن بلائه.
الترجمة
پس فرو فرستاد او را بسراى محنت و امتحان و بخانه تناسل نسل و زائيدن اولاد، و برگزيد او سبحانه از اولاد او پيغمبران را در حالتى كه اخذ فرمود بر ابلاغ وحى عهد و پيمان ايشان را، و بر رساندن رسالت أمانت آنها را در حينى كه تبديل كردند بيشتر خلايق پيمان خدا را كه بسوى ايشان است، پس جاهل و نادان شدند حقّ او را و فرا گرفتند شريكان و أمثال مر او را، و برگردانيدند ايشان را شياطين از شناخت او، و بريدند ايشان را از پرستش او، پس مبعوث و برانگيخته فرمود در ميان ايشان فرستادگان خود را، و پى در پى فرستاد بسوى ايشان پيغمبران خود را، تا طلب أدا كنند از ايشان عهد فطرت و پيمان خلقت خود را كه مخلوق شده بودند بر آن كه عبارتست از توحيد و معرفت، و تا اين كه ياد آورى نمايند ايشان را نعمتهاى فراموش شده او را و اتمام حجت بكنند بر ايشان با تبليغ و رساندن أحكام، و برانگيزانند از براى ايشان دفينه هاى عقلها و خزاين فهمها، و بنمايند ايشان را علامات قدرت خداوندى را كه آن امارات قدرت عبارتست از آسمانى كه در بالاى ايشان برافراشته و فراشي است كه در زير آنها نگاهداشته، و معيشتهائى است كه زنده مى دارد ايشان را، و اجلهائى كه فانى مى سازد ايشان را، و بيماريهائى كه پير فانى مى گرداند ايشان را، و مصيبتهائيكه پى در پى مى آيد بر ايشان.
الفصل الخامس عشر
و لم يخل اللّه سبحانه خلقه من نبيّ مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة، أو محجّة قائمة، رسل لا يقصّر بهم قلّة عددهم، و لا كثرة المكذّبين لهم من سابق سمّي له من بعده، أو غابر عرّفه من قبله.
اللغة
(النّبيّ) فعيل بمعنى الفاعل و هو مشتقّ من النّبأ و هو الخبر و نبأ و نبّأ و أنبأ كلّها بمعنى أخبر، و النّبيّ مخبر عن اللّه تعالى، و قلبوا فيه الهمزة كما في الذريّة حسبما مرّ في الفصل السّابق.
و عن شارح المقاصد النّبوة هو كون الانسان مبعوثا من الحقّ إلى الخلق، فان كان النّبيّ مأخوذا من النّباوة و هو الارتفاع لعلوّ شأنه و ارتفاع مكانه، أو من النبيّ بمعنى الطريق لكونه وسيلة إلى الحقّ، فالنبوّة على الأصل كالابوّة، و إن كان من النّبأ بمعنى الخبر لانبائه عن اللّه تعالى فعلى قلب الهمزة واوا ثمّ الادغام كالمروّة.
و قال في المحكيّ عنه: النّبيّ هو إنسان بعثه اللّه لتبليغ ما أوحى إليه، و كذا الرّسول، و قد يخصّ بمن له شريعة و كتاب فيكون أخصّ من النّبيّ، و اعترض عليه بزيادة عدد الرّسل على الكتب، و ربّما يفرق بأنّ الرّسول من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشّريعة السّابقة، و النّبي قد يخلو عن ذلك كيوشع عليه السّلام.
و في كلام بعض المعتزلة أنّ الرّسول صاحب الوحى بواسطة الملك، و النّبي هو المخبر عن اللّه بكتاب أو الهام أو تنبيه في منام، و التّفصيل في ذلك المقام موكول إلى الكتب الكلاميّة، و من أراد اقتباس النّور في هذا الباب من كلام الأئمة فعليه بالرّجوع إلى باب الفرق بين الرّسول و النّبي و المحدّث، و هو ثالث أبواب كتاب الحجّة من الكافي و (الحجّة) بالضمّ ما يحجّ به الانسان غيره أى يغلب به و (المحجة) بفتح الميم جادّة الطريق و (الغابر) هو الباقي و قد يطلق على الماضي فهو من الأضداد.
الاعراب
الظاهر أنّ كلمة أو في قوله عليه السّلام أو كتاب أو حجّة أو محجّة لمنع الخلوّ إذ الانفصال الحقيقي كمنع الجمع لا يمكن إرادته، و سياق الكلام هو منع الخلو كما يدلّ عليه قوله: و لم يخل اللّه صريحا، و يمكن جعلها بمعنى الواو نظرا إلى دلالة و لم يخل صراحة على منع الخلوّ، فلا حاجة إلى جعلها لذلك فافهم، و (رسل) مرفوع على الخبريّة، يعني أنّهم رسل، و الجملة هذه لا محلّ لها من الاعراب، لكونها مستأنفة فكأنّه قيل هؤلاء المرسلون الذين لم يخل الخلق منهم هل بلّغوا ما أرسلوا به أم قصّروا فيه لوجود التّقية، فقال عليه السّلام: إنّهم رسل لا يقصّر اه، فهي من قبيل الاستيناف البياني، و متعلق لا يقصّر محذوف، أى لا يقصّر بهم عن أداء الرّسالة و إبلاغ التكليف و كلمة (من) في قوله عليه السّلام من سابق بيان للرّسل و تفصيل لهم.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام بعد ما نبّه بخلقة آدم عليه السّلام و تفصيل ما جرى عليه من إسجاد الملائكة له و إسكانه في الجنّة و اجتنائه من الثمرة المنهيّة و إهباطه إلى الأرض و اصطفاء الأنبياء من ولده لارشاد الخلق و هداية الأنام، أشار عليه السّلام إلى العناية الكاملة للّه سبحانه بالخلق من عدم إخلائه أمّة منهم من نبيّ هاد لهم إلى المصالح و رادع لهم عن المفاسد، أو كتاب مرشد إلى الخيرات و الحسنات و مانع عن الشّرور و السّيئات، و ذلك كلّه لاكمال اللطف و إتمام العناية فقال عليه السّلام: (و لم يخل اللّه سبحانه خلقه من نبيّ مرسل أو كتاب منزل) و هذا ممّا لا ريب فيه، و لا بدّ من بيان الحاجة إلى بعث الرّسل و إقامة البرهان على اضطرار النّاس إليه و أنّه لا بدّ في كلّ زمان من حجة معصوم عالم بما يحتاج إليه الخلق، و قد دللوا على ذلك في الكتب الكلاميّة بالبراهين العقلية و النقلية و نحن نذكر منها هنا وجها واحدا لاقتضاء المقام، و ذلك موقوف على رسم مقدمات.
الاولى انّ لنا خالقا صانعا قادرا على كلّ شي ء.
الثانية أنّه سبحانه منزّه عن التجسّم و التعلّق بالموادّ و الأجسام و عن أن يكون مبصرا أو محسوسا باحدى الحواس.
الثّالثة أنّه تعالى حكيم عالم بوجوه الخير و المنفعة في النظام و سبيل المصلحة للخلايق في المعيشة و القوام و البقاء و الدّوام الرّابعة أنّ النّاس على كثرتهم محتاجون في معاشهم و معادهم إلى من يدبّر أمورهم و يعلمهم طريق المعيشة في الدّنيا و النّجاة من العذاب في العقبى، و ذلك لأنّ من المعلوم أنّ نوع الانسان مدني بالطبع، بمعنى أنّه لا بدّ في بقاء النوع إلى اجتماع كلّ واحد من الأفراد مع الآخر يستغني به فيما يحتاج إليه من المآكل و المشارب و الملابس و المساكن و نحوها، فيكون هذا يطحن لهذا، و ذلك يبني لذلك، و ذلك يخيط لآخر، و هكذا، فمن ذلك احتاجوا إلى بناء البلاد و اجتماع الآحاد، و اضطرّوا إلى عقد المعاملات.
و بالجملة لا بدّ في بقاء الانسان من الاجتماع و المعاونة، و التّعاون لا يتمّ إلّا بالمعاملة و لا بدّ في المعاملة من قانون عدل، إذ لو ترك النّاس و آراؤهم في ذلك لاختلفوا فيه، فيرى كلّ أحد منهم ماله عدلا ما عليه ظلما و جورا نظرا إلى أنّ كلّ أحد بالذّات و الطبع طالب لجلب المنفعة لنفسه و دفع المضرّة عن نفسه كما هو واضح، فعلم وجه الحاجة في المعاملات إلى القانون العدل.
و لا بدّ لذلك القانون من مقنّن و معدّل و لا يجوز أن يكون ذلك المعدّل ملكا، بل لا بدّ و أن يكون بشرا، ضرورة أنّ الملك لا يمكن رؤية اكثر النّاس له لأنّ قواهم لا يقوى على رؤية الملك على صورته الأصلية، و إنّما رآهم الأفراد من الانبياء بقوتهم القدسيّة، و لو فرض أن يتشكّل بحيث يراه جميع الخلق كان ملتبسا عليهم كالبشر كجبرئيل في صورة دحية، و لذلك قال سبحانه:
«وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» و لا بدّ أن يكون المعدّل له خصوصيّة ليست لساير النّاس حتّى يستشعر النّاس فيه أمرا لا يوجد لهم فيتميز به منهم، فيكون له المعجزات التي أخبرنا بها، و الحاجة إلى هذا الانسان في بقاء نوع البشر أشدّ من كثير من المنافع التي لا ضرورة فيها للبقاء، كانبات الشّعر على الحاجبين و تقعير الأخمص للقدمين و ما يجرى مجراهما من منافع الأعضاء التي بعضها للزّينة و بعضها للسّهولة في الأفعال و الحركات، و وجود هذا الانسان الصّالح لأن يشرع و يعدل ممكن، و تأييده بالمعجزات الموجبة لاذعان الخلق له أيضا ممكن، فلا يجوز أن تكون العناية الاولى تقتضي تلك المنافع و لا تقتضي هذه التي هي أصلها و عمدتها.
يكون بشرا، ضرورة أنّ الملك لا يمكن رؤية اكثر النّاس له لأنّ قواهم لا يقوى على رؤية الملك على صورته الأصلية، و إنّما رآهم الأفراد من الانبياء بقوتهم القدسيّة، و لو فرض أن يتشكّل بحيث يراه جميع الخلق كان ملتبسا عليهم كالبشر كجبرئيل في صورة دحية، و لذلك قال سبحانه:
«وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» و لا بدّ أن يكون المعدّل له خصوصيّة ليست لساير النّاس حتّى يستشعر النّاس فيه أمرا لا يوجد لهم فيتميز به منهم، فيكون له المعجزات التي أخبرنا بها، و الحاجة إلى هذا الانسان في بقاء نوع البشر أشدّ من كثير من المنافع التي لا ضرورة فيها للبقاء، كانبات الشّعر على الحاجبين و تقعير الأخمص للقدمين و ما يجرى مجراهما من منافع الأعضاء التي بعضها للزّينة و بعضها للسّهولة في الأفعال و الحركات، و وجود هذا الانسان الصّالح لأن يشرع و يعدل ممكن، و تأييده بالمعجزات الموجبة لاذعان الخلق له أيضا ممكن، فلا يجوز أن تكون العناية الاولى تقتضي تلك المنافع و لا تقتضي هذه التي هي أصلها و عمدتها.
فاذا تمهدت هذه المقدّمات فثبت و تبين أنّه واجب أن يوجد نبيّ و أن يكون إنسانا و أن يكون له خصوصية ليست لساير النّاس، و هي الامور الخارقة للعادات، و يجب أن يسنّ للناس سننا باذن اللّه و أمره و وحيه و إنزال الملك اليه، و يكون الأصل الأول فيما يسنّه تعريفه إيّاهم أنّ لهم صانعا قادرا واحدا لا شريك له، و أنّ النبيّ عبده و رسوله، و أنّه عالم بالسّر و العلانية، و أنّه من حقّه أن يطاع أمره، و أنّه قد أعدّ للمطيعين الجنّة و للعاصين النّار حتّى يتلقى الجمهور أحكامه المنزلة على لسانه من اللّه و الملائكة بالسّمع و الطاعة.
و الى هذا البرهان أشار الصّادق عليه السّلام فيما رواه في الكافي باسناده عن هشام بن الحكم عنه عليه السّلام أنّه قال للزّنديق الذي سأله من أين اثبت الأنبياء و الرّسل قال: إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصّانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه فيباشرهم و يباشرونه و يحاجوهم و يحاجونه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه و عباده، و يدلّونهم على مصالحهم و ما به بقاؤهم، و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و المعبّرون عنه جلّ و عزّهم الأنبياء و صفوته من خلقه حكماء مؤدّين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للنّاس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي ء«» من أحوالهم، مؤيّدين عند الحكيم العليم بالحكمة، ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر و زمان ممّا أتت به الرّسل و الأنبياء من الدّلائل و البراهين لكيلا يخلو أرض اللّه من حجة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته و جواز عدالته هذا.
و قال بعض شرّاح الكافي في شرح قوله عليه السّلام: ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر و زمان ممّا أتت به الرّسل و الأنبياء من الدلائل و البراهين: يعني أنّه ثبت وجود النبيّ في كلّ وقت من جهة ما أتوابه من المعجزات و خوارق العادات، كأنّ قائلا يقول: إنّ الذي ذكرته من البرهان قد دلّ على حاجة النّاس في كلّ زمان بوجود النبيّ، و أنّه يجب من اللّه بعثه الرّسل و الأنبياء و إرسالهم، و لكن من أى سبيل تعلم النّاس النبي و يصدق بنبوّته و رسالته، فأجيب بأنّه ثبت ذلك عليهم بمشاهدة ما أتت به الرّسل و النّبيون من الدّلائل و البراهين، يعني المعجزات الظاهرة منهم، و هي المراد هاهنا بالدّلائل و البراهين إذ النّاس لا يذعنون إلّا بما يشاهدونه و قوله عليه السّلام: لكيلا يخلو أرض اللّه من حجة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته و جواز عدالته تعليل متعلق بقوله: ثمّ ثبت ذلك فيكلّ دهر، و وجه التعليل أنّ ما دامت الأرض باقية و النّاس موجودون فيها فلا بدّ لهم من حجّة للّه عليهم يقوم بأمرهم و يهديهم إلى سبيل الرّشاد و حسن المعاد، و هو الحجة الظاهرة و لا بدّ أن يكون معه علم باللّه و آياته يدل على صدق مقالته و دعوته للنّاس و على جريان حكمه عليهم و جواز عدالته فيهم، و هو الحجة الباطنة انتهى.
و به ظهر الوجه في عدم إخلائه سبحانه خلقه من نبيّ مرسل على ما صرّح به الامام عليه السّلام، كما ظهر وجه قوله عليه السّلام: (أو حجّة لازمة) أى لازمة على الخلق (أو محجّة قائمة) أى طريقة عدل يقفون عليها و لا يميلون عنها يمينا و يسارا، و المراد بها هنا هي الشريعة كما قال سبحانه:
«لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» و قال:«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» ثمّ إنّ الحجة قد تطلق و يراد بها الكتاب، و قد تطلق على الامام المعصوم الذي يكون مقتدى للخلائق يأتمّون به و يتعلّمون منه سبيل الهدى و طريق التقوى، نبيّا كان أو وصيّا، و هو المراد منها فيما رواه في الكافي باسناده عن أبي اسحاق عمّن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين، أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: اللّهمّ إنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك، يعني أنّك بلطفك و جودك على عبادك لا تخلي أرضك من حجّة لك عليهم ليهتدوا به سبيلك، و يسلكوا به سبيل قربك و رحمتك، و ينجو به عن معصيتك و عقابك.
و قد تطلق و يراد بها العقل، فانّه حجة للّه على النّاس في الباطن كما أن النبي و الامام حجة في الظاهر، و قد وردت به الأخبار المستفيضة عن أئمّتنا عليهم السلام.
إذا عرفت ذلك فنقول: الظاهر بل المتعين أنّ المراد بهاهنا هو الامام المعصوم أعني الوصيّ بخصوصه، لعدم إمكان إرادة النبيّ و الكتاب لسبق ذكرهما و عدم امكان إرادة العقل لأنّ حجّيته منحصرة في المستقلّات العقليّة لا مجال له في غيرها، فلا يعرف الحقّ من الباطل في الامور الّتي عجزت عن إدراكها عقول البشر بأفكارها، و إنّما يعرفها الامام بنور الالهام فلا يتمّ اللّطف منه تعالى على خلقه بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا بوجوده عليه السّلام فيهم.
و بذلك ظهر فساد ما توهّمه الشّارح المعتزلي من جعله الحجة في العبارة حجة العقل حيث قال: و منها أن يقال إلى ما ذا يشير عليه السّلام بقوله أو حجّة لازمة، هل هو إشارة إلى ما يقوله الاماميّة من أنّه لا بدّ في كلّ زمان من وجود إمام معصوم، الجواب أنهم يفسرون هذه اللّفظة بذلك، و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل انتهى.
وجه الفساد ما ذكرنا، و نزيد توضيحا و نقول: إنّ للّه سبحانه حجّتين:
داخليّة و خارجيّة، و النّاس إمّا أهل بصيرة عقلية أم أهل حجاب، فالحجّة على أهل البصيرة إنّما هي عقولهم الكلية العارفين بها بالمصالح و المفاسد الكامنة الواقعية، فلا حاجة لهم إلى اتباع الحجة الخارجية، بل حجّة اللّه عليهم بصيرتهم و نور عقلهم و هداهم، و أما أهل الحجاب و ذو العقول الناقصة فالحجّة عليهم إنّما هي الخارجيّة، لعدم إحاطة عقولهم بالجهات المحسّنة و المقبحة، فلا يكمل اللّطف في حقهم إلّا بقائد خارجيّ يتبعون به، إذ الأعمى يحتاج في قطع السّبيل إلى قائد خارجي يتبعه تقليدا في كل قدم و هو واضح.
فقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ المراد بالحجّة في كلامه عليه السّلام هو الامام المعصوم كما قد ظهر ممّا بيّناه هنا و فيما سبق في شرح قوله من نبيّ مرسل: لزوم وجود الحجّة في الخلق، لمكان الحاجة، و ملخّص ما ذكرناه هنا و سابقا أنّ نظام الدّنيا و الدّين لا يحصل إلّا بوجود إمام يقتدي به النّاس و يأتمّون به و يتعلّمون منه سبيل هداهم و تقواهم، و الحاجة إليه في كلّ عصر و زمان أعظم و أهمّ من الحاجة إلى غذاهم و كساهم و ما يجرى مجراهما من المنافع و الضرورات، فوجب في العناية الرّبانية أن لا يترك الأرض و لا يدع الخلق بغير إمام نبيّا كان أو وصيّا، و إلّا لزم أحد الامور الثّلاثة: إمّا الجهل و عدم العلم بتلك الحاجة، أو النّقص و عدم القدرة على خلقه، أو البخل و الضّنة بوجوده و الكلّ محال على اللّه سبحانه هذا، و يطابق كلام الامام عليه السّلام ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد ابن عيسى عن محمّد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: و اللّه ما ترك اللّه أرضا منذ قبض اللّه آدم إلا فيها إمام يهتدى به إلى اللّه، و هو حجّة على عباده و لا تبقى الأرض بغير امام حجّة للّه على عباده، و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إنّ اللّه أجلّ و أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل.
و أيضا عن أبي بصير عن أحدهما عليه السّلام، قال: قال: إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم، و لو لا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل، يعني في الامور التي تعجز عن إدراكها العقول حسبما مرّ سابقا.
و في الأخبار الكثيرة المستفيضة بل القريبة من التواتر المعنوي المرويّة في الكافي و علل الشّرايع و إكمال الدّين و رجال الكشي و غيرها أنّ الأرض لو بقيت بغير إمام لساخت، يقال: ساخت الأرض بهم انخسفت، و المراد به في الأخبار إمّا غوصها في الماء حقيقة أو كناية عن هلاك البشر و ذهاب نظامها كما نبّه عليه المحدّث المجلسى طاب ثراه في مرآة العقول ثمّ إنّه عليه السّلام وصف المرسلين بأنّهم رسل (لا يقصر«» بهم قلّة عددهم) أى عن نشر التكليف و حمل إعباء الرّسالة (و لا كثرة المكذّبين لهم) أى عن تبليغ الأحكام و اداء الامانة، و هذا الكلام صريح في عدم جواز التقيّة على الأنبياء.
و منه يظهر فساد ما نسبه الفخر الرّازي إلى الاماميّة من تجويزهم الكفر على الأنبياء تقية حسبما مرّ في تذييلات الفصل الثّاني عشر في باب عصمة الأنبياء عليهم السّلام، ضرورة أنّ اقتداء الاماميّة رضوان اللّه عليهم إنّما هو على إمامهم عليه السّلام، و مع تصريحه عليه السّلام بما ذكر كيف يمكن لهم المصير إلى خلاف قوله عليه السّلام هذا.
مضافا إلى ما أوردناه عليه سابقا بل و مع الغضّ عن تصريحه عليه السّلام، بذلك أيضا نقول: كيف يمكن أن يتفوّه ذو عقل بصدور كلمة الكفر عن نبيّ مع أنّ بعث النبي ليس إلّا لحسم مادة الكفر، نعوذ باللّه من هذه الفرية البيّنة و ذلك البهتان العظيم، ثم إنّه عليه السّلام بين الرّسل و ميّزهم بقوله: (من سابق سمّي له من بعده أو غابر) أى لاحق (عرفه من قبله) يعني أنّهم بين سابق سمى«» لنفسه من بعده، بمعنى أنّه عين من يقوم مقامه من بعده، أو أنّ السّابق«» سمّى اللّه له من يأتي بعده و اطلعه عليه، و بين لاحق عرّفه من قبله و بشّر به، كتعريف عيسى عليه السّلام و بشارته بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما قال سبحانه حكاية عنه:«وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».
و قد مرّ في حديث الكافي عند شرح قوله: و اصطفى من ولده أنبياء اه، تفصيل بشارة الأنبياء السّلف للخلف سلام اللّه عليهم أجمعين فتذكر.
|