الفصل الثامن عشر
و منها و فرض عليكم حجّ بيته الحرام الّذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، و يألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، و إذعانهم لعزّته، و اختار من خلقه سمّاعا أجابوا له دعوته و صدّقوا له كلمته، و وقفوا مواقف أنبيائه، و تشبّهوا ملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، و يتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه للإسلام علما، و للعائذين حرما، فرض حجّه، و أوجب حقّه، و كتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
اللغة
(الحجّ) بالفتح و الكسر هو القصد و في لسان الشرع أو المتشرعة قصد بيت اللّه الحرام تقرّبا إليه سبحانه بأفعال مخصوصة في زمان مخصوص في مواطن مخصوصة، و في المصباح حجّ حجّا من باب قتل قصد و الاسم الحجّ بالكسر و (الورود) هو الدّخول في الماء للشّرب منه (يألهون) إليه من وله«» يوله من باب ضرب و منع و حسب اذا ذهب عقله من فرح أو حزن، و معنى يألهون إليه يشتدّ شوقهم إليه حتّى يكاد يذهب عقولهم من شدّة الاشتياق و (الولوه) بالضمّ مصدر وله يوله من الباب الرّابع مثل الولوغ من ولغ يولغ، أو مصدر وله يوله من الباب السّادس مثل الولوغ أيضا من ولغ يولغ أو مصدر و له يوله من الباب الثّانى مثل الرجوع من رجع يرجع أو بالفتح مصدر وله يوله«» من الباب الرّابع أيضا مثل الولوع من ولع يولع، و على جميع الاحتمالات فالهمزة في يألهون مقلوبة من الواو.
و بما ذكرنا ظهر فساد ما توهّمه الشّارح المعتزلي حيث إنّه بعد ضبطه في المتن يولهون إليه و له الحمام اه قال: الوله شدّة الوجد حتّى يكاد العقل يذهب، و له الرّجل يوله ولها، و من روى يألهون إليه ولوه الحمام فسّره بشي ء آخر، و هو يعكفون عليه عكوف الحمام، و أصل أله عبد، و منه الاله أى المعبود، و لما كان العكوف على الشّي ء كالعبادة الملازمة له و الانقطاع إليه، يقال: أله فلان إلى كذا أى عكف عليه كأنّه يعبده.
ثمّ قال: و لا يجوز أن يقال: يألهون إليه في هذا الموضع بمعنى يولهون، و أن أصل الهمزة الواو كما فسّره الراوندي لأنّ فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر و لو كان يألهون هو يولهون كان أصله أله بالكسر فلم يجز أن يقول: ولوه الحمام، و أمّا على ما فسّرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا، لأنّ الأله مفتوح، فصار كقولك: دخل دخولا، انتهى.
وجه ظهور الفساد أوّلا أنّ المضبوط من كلامه عليه السّلام في النّسخ المتعدّدة يألهون إليه ولوه الحمام و لم نعثر بعد على ما ضبطه الشّارح أعني يولهون إليه وله الحمام في شي ء من النّسخ، و لعله غير كلامه لما زعم من عدم مطابقته للقواعد الصّرفيّة مع أنّ ذلك الزّعم فاسد حسبما تعرفه بعيد هذا.
و ثانيا أنّ ما ذكره من عدم مجي ء فعول مصدرا من فعل بالكسر لا يعرف وجه له بل اللغة يشهد بخلافه على ما يظهر من الكتب المدوّنة فيها، حيث إنّ المتحصّل منها أنّ فعولا بضمّ الفاء قد يجي ء مصدرا من فعل مفتوح العين، سواء كان مضارعه يفعل بالفتح أيضا كالرّكوع و الرّنوع«» و الولوغ«» و الهبوغ«» بالغين المعجمة في الأخيرين، أو يفعل بالضمّ كالسّجود و البلوغ و القعود و الدّخول، أو يفعل بالكسر كالرّجوع، و قد يكون مصدرا من فعل مكسور العين سواء كان مضارعه يفعل بالكسر كالولوع أيضا أو بالفتح كالولوغ أيضا، و قد ذكروا أنّ الفعول أيضا بفتح الفاء قد يكون مصدرا من فعل بكسر العين كالولوع«» بالعين المهملة.
و ثالثا أن ما ذكره أخيرا من قوله: و أمّا على ما فسّرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا لأنّ أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا.
فيه أوّلا أنّه لم يسبق منه تفسير في ذلك، و إنّما روى تفسيرا من غيره بقوله و من روى يألهون اه فسّره هكذا، فقوله: و أمّا على ما فسّرناه نحن غير خال عن السّماجة.
و ثانيا بعد الاغماض و الحمل على التّسامح اللّفظي أنّ التّفسير المذكور لا يصحّح ما ذكره، إذ الهمزة في أله بمعنى عبد أصليّة و ليست مقلوبة من الواو، فكيف يكون الولوه مصدرا له، و إنّما مصدره إلاهة«» و الوهة حسبما مرّ في تفسير لفظ الجلالة في صدر الخطبة.
و ثالثا أنّ ظاهر تمثيله بقوله: دخل دخولا، يشعر بكون أله من هذا الباب أيضا أى من باب فعل يفعل بفتح عين الماضي حسبما صرّح به نفسه أيضا و ضمّ عين المضارع مع أنّ اللّغويّين صرّحوا بأنّ أله بمعنى عبد من باب فعل يفعل كفرح يفرح و (السّماع) لم أجده في كتب اللّغة و لعلّه بضمّ السّين و تشديد الميم جمع سامع كسّمار«» جمع سامر و هكذا ضبطه الشّارح البحراني و (يحرزون الأرباح) من قولهم أحرزت الشّي ء إحرازا ضممته، و منه قولهم: أحرز قصب السّبق إذا سبق إليها فضمّها دون غيره و (التّبادر) هو التّسارع، و يتعدّى بإلى كما أنّ التّسارع كذلك يقال: سارعوا إليه و تسارعوا و (العائذين) جمع عائذ بالياء المثنّاه و الذّال المعجمة و هو المستجير المعتصم الملتجي، و في بعض النّسخ: العابدين بالباء الموحّدة و الدّال المهملة و الأوّل أقرب و (الوفادة) كالافادة بقلب الواو همزة و الوفد و الوفود مصدر وفد كضرب يقال: وفد إلى الأمير و عليه وفدا و وفودا و وفادة و إفادة إذا قدم و ورد، و في الحديث حقّ الصّلاة أن تعلم أنّها وفادة إلى اللّه، أى قدوم إليه طلبا لفضله.
الاعراب
جملة يردونه في محلّ النّصب على الحاليّة، و الورود و الولوه منتصبان على المصدريّة مجازا، اى ورودا مثل ورود الأنعام، و ولوها مثل ورود «ولوه ظ» الحمام، و مواقف مفعول فيه، و موعد منصوب بنزع الخافض أى إلى موعد مغفرته و يحتمل الانتصاب على المفعول فيكون المعنى أنّهم يتسارعون عند الحجّ لوعد المغفرة، و من استطاع في محلّ الجرّ بدل من النّاس بدل بعض من الكلّ و الربط في الجملة الخبريّة أعني قوله: فانّ اللّه غني عن العالمين، العموم فيها الشّامل للمبتدأ إذا العالمين شامل لمن كفر و غيره و مثله قوله:«وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ»
المعنى
قال الرّضي (ره) (و منها ذكر الحجّ) اعلم أنّ فاتحة كلامه عليه السّلام في هذا الفصل كخاتمته مشتملة على ذكر وجوب الحجّ و فرضه، و تالي الفاتحه و متلوّ الخاتمة متطابقان في وصف البيت الحرام و الواسطة بينهما واردة في أوصاف الحاج الكرام و مدايحهم و الثّناء لهم، فهو من أبلغ الكلام على أحسن نظام.
قال عليه السّلام: (و فرض عليكم حجّ بيته الحرام) أمّا فرض الحجّ و وجوبه فقد ثبت بالكتاب و السنّة و إجماع المسلمين بل الضّرورة من دين الاسلام حسبما يأتي في آخر الفصل إنشاء اللّه.
و أمّا البيت الحرام فهو أوّل بيت وضع للنّاس مباركا و هدى للعالمين، و موضعه أوّل بقعة خلقت من الأرض خلقها اللّه سبحانه من زبد الماء و دحى الأرض من تحتها و اختارها على أجزائها و جعلها مطاف الملائكة المقرّبين و الأنبياء المرسلين و العباد الصّالحين، كيف لا و قد بناه الخليل بأمر الجليل و المهندس جبرائيل و التلميذ اسماعيل كما قال:«وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» و ينبغي التّعرض فى المقام لأصل بناء البيت و مبناه و لبعض المشاعر و المناسك و الاشارة إلى جهة توصيف البيت بالحرام فالبحث فى مقاصد ثلاثة.
المقصد الاول
اعلم أنّ موضع البيت حسبما اشير إليه هو أوّل جزء من أجزاء الأرض في عالم الخلق كما روي في الفقيه عن أبي جعفر عليه السّلام لما أراد اللّه أن يخلق الأرض أمر الرّياح الأربع فضربن بهن الماء حتّى صار موجا، ثمّ أزبد فصار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلا من زبد، ثمّ دحى الأرض«» من تحته، و هو قول اللّه:«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» فأوّل بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثمّ بدت الأرض منها.
و أمّا البناء الأصلى ففى رواية الفقيه عن عليّ بن موسى بن جعفر عليهم السلام انّه قال في خمسة و عشرين من ذى القعدة أنزل اللّه عزّ و جلّ الكعبة البيت الحرام، فمن صام ذلك اليوم كان كفّارة سبعين سنة، و هو أوّل يوم انزل فيه الرّحمة من السّماء على آدم عليه السّلام.
و في رواية اخرى فيه أيضا عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ اللّه عزّ و جلّ أنزلة لآدم من الجنّة و كان درّة بيضاء فرفعه اللّه عزّ و جلّ إلى السّماء و بقي اسه«» و هو بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك و لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه عزّ و جلّ إبراهيم و اسماعيل عليهما السّلام ببنيان البيت على القواعد.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم عن الصّادق عليه السّلام في رواية طويلة، قال عليه السّلام: فلمّا بلغ يعني اسماعيل مبلغ الرّجال أمر اللّه تعالى إبراهيم عليه السّلام أن يبني البيت، فقال: يا ربّ في أيّ بقعة فقال: في البقعة التي انزلت على آدم القبة، فأضاء لها الحرم، فلم تزل القبة التي أنزلها اللّه على آدم قائمة حتّى كان أيّام الطوفان أيام نوح عليه السّلام فلمّا غرقت الدّنيا رفع اللّه تلك القبّة و غرقت الدّنيا إلّا موضع البيت فسمّيت البيت العتيق لأنّه اعتق من الغرق، فلما أمر اللّه إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أيّ مكان يبنيه، بعث اللّه جبرئيل فخطّ له موضع البيت فأنزل اللّه عليها القواعد من الجنّة، و لما كان الحجر الذي أنزله اللّه على آدم أشدّ بياضا من الثّلج، فلما مسّته أيدي الكفّار اسودّ فبنى ابراهيم البيت و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه الى السّماء تسعة أذرع ثمّ دلّه على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم و وضعه في موضعه الحديث.
اقول: المستفاد من هاتين الرّوايتين و من بعض الرّوايات«» الآتية في المقصد الثّاني أنّ أصل البناء كان في زمن آدم، و يطابقهما بعض الرّوايات الدّالة على أنّ أوّل البناء كان من آدم، ثمّ انطمس في زمان نوح فبناه إبراهيم، ثمّ بناه العمالقة، ثمّ قريش، ثمّ الحجّاج اللّعين.
و في رواية أبي بصير المرويّة في الفقيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إن آدم هو الذي بنى البنية و وضع أساسه و أوّل من كساه الشّعر و أوّل من حجّ إليه الحديث.
إلّا أنّ المستفاد من بعض الرّوايات الأخر أنّه كان قبل آدم هناك بيت يسمّى بيت الضّراح كان يطوف به الملائكة، فلمّا هبط آدم إلى الأرض أمر بطوافه.
و يؤيده ما رواه الصّدوق عن بكير بن أعين عن أخيه زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلنى اللّه فداك أسألك في الحجّ منذ أربعين عاما فتفتيني فقال: يا زرارة بيت يحجّ قبل آدم بألفي عام تريد أن يفتى مسائله في أربعين عاما، و سيأتي إنشاء اللّه عند شرح قوله: و وقفوا مواقف أنبيائه في حديث حجّ آدم«» ما يفيد ذلك أيضا.
و وجه الجمع بين هذه الرّوايات و الرّوايات الاولة غير خفيّ على أهل المعرفة.
المقصد الثاني
في الاشارة إلى بعض المشاعر العظام كالحجر و المقام، و هما من الآيات التي اشير إليها في قوله تعالى: فيه آيات بيّنات.
اما الحجر فقد أودع اللّه فيه مواثيق الخلق، قال الصّدوق في الفقيه: و إنّما يقبّل الحجر و يستلم ليؤدّي إلى اللّه العهد الذي أخذ عليهم في الميثاق، و إنّما وضع الحجر في الركن الذي هو فيه و لم يضعه في غيره، لأنّه تعالى حين أخذ الميثاق أخذه في ذلك المكان، و جرت السّنة بالتكبير و استقبال الرّكن الذي فيه الحجر من الصّفا، لأنّه لمّا نظر آدم و قد وضع الحجر في الرّكن كبّر اللّه و هلّله و مجدّه، و إنّما جعل الميثاق في الحجر لأنّ اللّه لمّا أخذ الميثاق له بالرّبوبية و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله بالنّبوة و لعليّ عليه السّلام بالوصيّة، اصطكّت فرايص الملائكة، و أوّل من أسرع إلى الاقرار بذلك الحجر، فلذلك اختار اللّه و ألقمه الميثاق و هو يجي ء يوم القيامة و له لسان ناطق و عين ناظرة يشهد لكلّ من وافاه إلى ذلك المكان و حفظ الميثاق، و إنّما اخرج الحجر من الجنة ليذكر آدم ما نسى من العهد و الميثاق انتهى.
و تفصيل ما ذكره هنا و سنده ما رواه في علل الشّرايع باسناده عن بكير بن أعين، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: هل تدري ما كان الحجر قال: قلت: لا قال: كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند اللّه عزّ و جلّ، فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق، كان أوّل من آمن به و أقرّ لذلك ذلك الملك فاتخذه اللّه أمينا على جميع خلقه فألقمه الميثاق و أودعه عنده و استعبد الخلق أن يجدّدوا عنده في كلّ سنة الاقرار بالميثاق و العهد الذي أخذه اللّه عليهم، ثمّ جعله اللّه مع آدم في الجنّة يذكر الميثاق و يجدّد عند الاقرار في كلّ سنة.
فلما عصى آدم فاخرج من الجنّة أنساه اللّه العهد و الميثاق الذي أخذ اللّه عليه و على ولده لمحمّد و وصيه صلوات اللّه و سلامه عليهما و جعله باهتا حيرانا، فلما تاب على آدم حوّل ذلك الملك في صورة ذرّة بيضاء، فرماه من الجنّة إلى آدم و هو بأرض الهند، فلمّا رآه آنس إليه و هو لا يعرفه بأكثر من أنّه جوهرة، فأنطقه اللّه عزّ و جلّ، فقال: يا آدم أ تعرفنى قال: لا قال: أجل استحوذ عليك الشّيطان فأنساك ذكر ربّك، و تحوّل إلى الصّورة التي كان بها في الجنّة مع آدم.
فقال لآدم: أين العهد و الميثاق فوثب إليه آدم و بكى ذكر الميثاق و بكى و خضع له و قبّله و جدّد الاقرار بالعهد و الميثاق، ثم حوّل اللّه عزّ و جلّ جوهر الحجر درّة بيضاء يضي ء، فحمله آدم على عاتقه إجلالا له و تعظيما، فكان إذا اعيا حمله جبرئيل عليه السّلام حتى وافى به مكّة، فما زال يأنس به بمكة و يجدّد الاقرار له كلّ يوم و ليلة، ثمّ إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا أهبط جبرئيل إلى أرضه و بنى الكعبة هبط إلى ذلك المكان بين الرّكن و المقام و الباب، و في ذلك المكان ترأى لآدم حين أخذ الميثاق، و في ذلك الموضع القم الملك الميثاق، فبتلك العلّة وضع في ذلك الرّكن و نحى آدم من مكان البيت إلى الصّفا و حوّا إلى المروة، و جعل الحجر في الرّكن فكبّر اللّه و هلّله و مجّده، فلذلك جرت السّنة بالتكبير في استقبال الرّكن الذي فيه الحجر من الصّفا.
و انّ اللّه عزّ و جلّ أودعه العهد و الميثاق و ألقمه إيّاه دون غيره من الملائكة لأنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا أخذ الميثاق له بالرّبوبية و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بالنبوة و لعليّ عليه السّلام بالوصية اصطكت فرايص الملائكة، و أوّل من أسرع إلى الاقرار بذلك ذلك الملك، و لم يكن فيهم أشدّ حبّا لمحمّد و آل محمّد عليهم السّلام منه، فلذلك اختاره اللّه عزّ و جل من بينهم و ألقمه الميثاق فهو يجي ء يوم القيامة و له لسان ناطق و عين ناظرة يشهد لكل من وافاه الى ذلك المكان و حفظ الميثاق.
أقول: من كان علمه مقتبسا من نور النّبوة و الوحى الالهي يعلم سرّ استلام الحجر و تقبيله و أنّ أداء الامانة عنده من جهة اختصاصه بالتّقدم إلى الولاية من بين الملائكة، و يعرف أنّه يؤدّي الموافاة يوم القيامة و أمّا من أضلّ اللّه و أعمى قلبه فلا يظنه إلّا حجرا لا يضرّ و لا ينفع.
كما روى الفخر الرّازي عن عمر بن الخطاب انّه انتهى إلى الحجر الأسود فقال إنّي لأقبّلك و إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع و أنّ اللّه ربّي و لولا أنّي رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقبّلك ما قبّلتك.
و زاد الغزالي قال: ثمّ بكى حتّى على نشيجه فالتفت إلى ورائه فرأى عليّا كرم اللّه وجهه و رضي عنه، فقال: يا أبا الحسن هاهنا تسكب العبرات و تستجاب الدّعوات، فقال عليّ: بل هو يضرّ و ينفع، قال: و كيف قال إنّ اللّه تعالى لمّا أخذ الميثاق على الذّريّة كتب عليهم كتابا ثمّ ألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفا و يشهد على الكافر بالجحود انتهى.
أقول: كما يمكن أن يكون قوله: إنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع، من باب الجهالة و لا غرو فيها، لما ستطلع عليه إنشاء اللّه في تضاعيف ذلك الكتاب بجهالاته التي أعظم من هذه، كذلك يمكن أن يكون من باب التّجاهل باقتضاء خبثه الباطني و نفاقه الغريزي هذا.
و في بعض الأخبار أنّ الحجر لا يستقر مكانه إلّا أن يضعه نبيّ أو إمام كما مرّ أنّ أوّل وضعه في موضعه كان من آدم، ثمّ من إبراهيم، حيث إنّه لما بنى البيت و انتهى إلى موضع الحجر ناداه أبو قبيس يا إبراهيم إنّ لك عندى وديعة، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه، رواه في الفقيه.
و عند ما هدمت قريش الكعبة من جهة السّيل الذي كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها و انصدعت، وضعه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله موضعه.
و عند ما هدمها الحجّاج على ابن الزبير ثمّ بناها و فرغ من بناها سأل عليّ ابن الحسين عليهما السّلام أن يضعها في موضعه فأخذه و وضعه موضعه.
و في زمن القرامطة الاسماعيليّة خذ لهم اللّه و لعنهم حيثما نقلوا الحجر الى مسجد الكوفة ثمّ ردّ إلى مكة فوضعه الامام صاحب العصر عجل اللّه فرجه موضعه، و كان ذلك في الغيبة الكبرى، كلّ ذلك رويناه عن الأخبار الصحيحة.
و في الفقيه و كان أشد بياضا من اللّبن فاسود من خطا يا بني آدم، و لولا ما مسّه من أرجاس الجاهليّة ما مسّه ذو عاهة إلا برء، و في رواية عليّ بن إبراهيم القميّ و كان الحجر الذي أنزله اللّه على آدم أشدّ بياضا من الثّلج فلمّا مسّته أيدى الكفّار اسود.
و أما المقام فهو من أعظم الأعلام، قال في الفقيه: قال زرارة بن أعين لأبي جعفر عليه السّلام: قد أدركت الحسين عليه السّلام قال: نعم، أذكر و أنا معه في المسجد الحرام و قد دخل فيه السّيل و النّاس يقومون على المقام يخرج الخارج و يقول: قد ذهب به السّيل و يدخل الدّاخل و يقول: مكانه، قال: فقال يا فلان ما يصنع هؤلاء فقلت أصلحك اللّه يخافون أن يكون قد ذهب بالمقام، قال: انّ اللّه عزّ و جلّ جعله علما لم يكن ليذهب به فاستقرّوا و كان موضع المقام«» الذي وضعه إبراهيم عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلما فتح النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السّلام فلم يزل هناك إلى أن ولى عمر، قال للنّاس: من فيكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام فقال له رجل: أنا كنت قد أخذت مقداره بنسع«» فهو عندي قال: ايتني به، فأتاه فقاسه ثمّ ردّه إلى ذلك المكان هذا.
و لكون المقام من المشاعر العظام و أعظم البيّنات و الأعلام خصّ بالذكر في القرآن و طوى ذكر غيره، قال تعالى:«فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ» و فيه أثر قدم إبراهيم، و سبب هذا الأثر أنّه لمّا ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة، فغاصت فيه قدماه.
و قيل: إنّه لمّا جاء زائرا من الشّام إلى مكّة و كان قد عهد لامرأته أن لا ينزل بمكّة حتّى يرجع، فلمّا وصل إلى مكّة قالت له امّ إسماعيل أو امرأة إسماعيل: انزل حتّى نغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن فوضع قدمه عليه حتّى غسلت أحد جانبى رأسه، ثمّ حوّلته إلى الجانب الأيسر حتّى غسلت الجانب الآخر.
و غير خفيّ أنّ تأثّر الصّخرة الصّماء و غوص قدمه فيها إلى الكعبين و بقائها في الوف من السّنين مع كثرة الأعداء من اليهود و النّصارى و الملحدين، من أعظم آيات التّوحيد و أظهر براهين التّفريد.
المقصد الثالث في علّة وصف البيت بالحرام و الاشارة إلى بعض أسمائه:
أمّا الأوّل فلما قال في الفقيه من أنّه حرم على المشركين ان يدخلوه، و يحتمل أن يكون ذلك من جهة أنّه حرام فيه ما هو حلال في غيره من البيوت كالجماع و الملابسة لشي ء من الأقذار، أو أنّه حرام دخوله من غير احرام قال في الفقيه: و حرم المسجد لعلّة الكعبة، و حرم الحرام لعلّة المسجد، و وجب الاحرام لعلّة الحرم، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة: إنّ اللّه حرم مكّة يوم خلق السّماوات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم السّاعة لم تحلّ لأحد قبلي و لا تحلّ لأحد من بعدي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من النّهار.
و أمّا وصفه بالعتيق في قوله:«وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» فإمّا من جهة أنّه عتيق من النّاس لم يملكه أحد غيره تعالى، و إمّا أنّه عتيق و قديم و قد بيّنا في المقصد الأوّل أنّه كان قبل آدم، و إمّا أنّه عتيق من الغرق و الطوفان حيث رفع إلى السّماء في طوفان نوح، و إمّا أنّه من عتق الطائر إذا قوى في و كره فلما بلغ في القوّة الى حيث ان قصد قاصد تخريبه أهلكه اللّه سمّى عتيقا.
و أمّا الثّاني ففي الصافي عن الخصال عن الصّادق عليه السّلام أسماء مكّة خمسة: أمّ القرى، و مكّة، و بكّة، و البساسة«» إذا ظلموا بها بستهم اى أخرجتهم و اهلكتهم و امّ رحم كانوا إذا الزموها رحموا.
ثمّ إنّه عليه السّلام بعد وصفه البيت بالحرام وصفه بأنّه (الذي جعله قبلة للأنام) و هذة العبارة صريحة في أنّ القبلة هي نفس البيت لجميع الخلق، و لما لم يتمكن النّائي من تحصيل التّوجه إلى العين اكتفى في حقّه بمراعاة الجهة، و هو مذهب المتأخرين من أصحابنا، خلافا للمتقدّمين حيث ذهبوا إلى أنّ البيت قبلة للمسجد و المسجد لأهل الحرم و الحرم لمن في الدنيا، و التّفصيل في الفقه و كونه قبلة للأنام صريح الكتاب مضافا إلى السّنة و الاجماع، قال تعالى:«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»
قال الصّدوق في الفقيه: و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدّس بعد النّبوة ثلاث عشرة سنة، و تسعة عشر شهرا بالمدينة ثمّ عيرته اليهود، فقالوا له: إنّك تابع لقبلتنا، فاغتمّ لذلك غمّا شديدا فلما كان في بعض الليل خرج صلّى اللّه عليه و آله يقلّب وجهه في آفاق السّماء فلما أصبح صلّى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل فقال له: قد نرى تقلّب وجهك في السّماء الآية، ثمّ أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فحوّل وجهه إلى الكعبة و حوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النساء و النّساء مقام الرّجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدّس و آخرها إلى الكعبة و بلغ الخبر مسجدا بالمدينة و قد صلّى أهله من العصر ركعتين، فحوّلوا نحو الكعبة فكان أول صلاتهم إلى بيت المقدّس و آخرها إلى الكعبة، فسمّى ذلك المسجد مسجد القبلتين، فقال المسلمون صلاتنا إلى بيت المقدّس أتضيع يا رسول اللّه فأنزل اللّه تعالى:«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» أى صلاتكم الى بيت المقدّس، قال الصّدوق و قد اخرجت الخبر في ذلك على وجهه في كتاب النّبوة.
و في الاحتجاج للطبرسي قال أبو محمّد الحسن العسكرى صلوات اللّه عليه: لما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أمره اللّه عزّ و جلّ أن يتوجّه نحو البيت المقدّس في صلاته و يجعل الكعبة بينه و بينها إذا أمكن و إذا لم يمكن استقبل بيت المقدّس كيف كان، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلما كان بالمدينة و كان متعبّدا باستقبال بيت المقدس استقبله و انحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا«» او ستة عشر شهرا و جعل قوم من مردة اليهود يقولون: و اللّه ما يدري كيف محمّد يصلي حتّى صار يتوجه إلى قبلتنا و يأخذ في صلاته بهدينا«»، فاشتدّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما اتّصل به عنهم و كره قبلتهم و أحبّ الكعبة، فجائه جبرئيل فقال له رسول اللّه: يا جبرئيل لوددت لو صرفني اللّه عن بيت المقدّس إلى الكعبة، فقد تأذّيت بما اتّصل إلىّ من قبل اليهود من قبلتهم فقال جبرئيل: فاسأل ربّك أن يحوّلك إليها فإنّه لا يردّك عن طلبتك و لا يخيبك عن بغيتك«»، فلما استتم«» دعائه صعد جبرئيل ثمّ عاد من ساعته فقال اقرء يا محمّد:«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» الآية، فقال اليهود عند ذلك:«ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها»«» فأجابهم اللّه بأحسن جواب، فقال يا محمّد:«قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ» و هو يملكها و تكليفه التّحول إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر:«يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» و هو أعلم بمصلحتهم و تؤدّيهم طاعتهم إلى جنّات النّعيم «و هو مصلحهم و مؤدّيهم الى جنات النعيم، هكذا في تفسير الامام عليه السّلام» و قال أبو محمّد عليه السّلام: و جاء قوم من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا يا محمّد، هذه القبلة بيت المقدّس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركته الآن أمحقّا كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل، فان ما يخالف الحقّ باطل، أو كان باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدّة فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل ذلك كان حقّا و هذا حقّ يقول اللّه عزّ و جلّ:«قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» إذا عرف صلاحكم يا أيّها العباد في استقبال المشرق أمركم به، و إذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، و إذا عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير اللّه في عباده و قصده إلى مصالحهم.
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد تركتم العمل يوم السّبت ثمّ عملتم بعده ساير الأيام ثمّ تركتموه في السّبت ثمّ عملتم بعده أ فتركتم الحقّ إلى الباطل أو الباطل إلى حقّ أو الباطل إلى الباطل أو الحقّ إلى الحقّ قولوا كيف شئتم فهو قول محمّد و جوابه لكم، قالوا بل ترك العمل يوم السّبت حقّ و العمل بعده حقّ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حقّ ثمّ قبلة الكعبة في وقته حقّ، فقالوا له يا محمّد: أفبدا لربّك فيما أمرك به بزعمك من الصّلاة إلى بيت المقدس حتّى نقلك إلى الكعبة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما بدا له عن ذلك، فانّه العالم بالعواقب و القادر على المصالح، لا يستدرك على نفسه غلطا و لا يستحدث رأيا يخالف المقدم جلّ عن ذلك، و لا يقع عليه أيضا مانع يمنعه من مراده و ليس يبدو «إلاخ» لمن كان هذا وصفه، و هو جلّ و عزّ متعال عن هذه الصّفات علوّا كبيرا ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيّها اليهود أخبروني عن اللّه عزّ و جلّ أليس يمرض«» ثمّ يصحّ و يصحّ ثمّ يمرض أبدا له في ذلك شي ء ليس يحيى و يميت أبدا له فيكل واحد من ذلك قالوا: لا، قال: كذلك عزّ و جلّ تعبّد نبيه محمّدا بالصّلاة إلى الكعبة بعد أن كان تعبّده بالصّلاة إلى بيت المقدس، و ما بدا له «للّه خ» في الأوّل.
ثمّ قال: أليس اللّه عزّ و جلّ تأتي بالشّتاء في أثر الصّيف و الصّيف في أثر الشّتاء أبدا له في كلّ واحد من ذلك قالوا: لا، قال: فكذلك لم يبدو له في القبلة.
قال: ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: أليس قد ألزمكم في الشّتاء أن تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة و ألزمكم في الصّيف أن تحترزوا من الحرّ فبداله في الصّيف حين أمركم بخلاف ما كان أمركم به في الشّتاء قالوا: لا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فكذلكم اللّه تعبّدكم في وقت لصلاح يعلمه بشي ء ثمّ بعده في وقت آخر لصلاح يعلمه بشي ء آخر، فاذا أطعتم اللّه عزّ و جل في الحالتين استحققتم ثوابه، فأنزل اللّه تعالى:«وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» يعنى إذا توجهتم بأمره فثمّ الوجه الذي تقصدون منه اللّه و تأملون ثوابه.
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عباد اللّه أنتم كالمرضى و اللّه عزّ و جلّ كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلمه «يعمله خ» الطبيب و يدبّره به، لا فيما يشتهيه المريض و يقترحه الا فسلّموا للّه أمره تكونوا من الفائزين، فقيل يا رسول اللّه: فلم أمر بالقبلة الأولى قال: لما قال اللّه عزّ و جلّ:«وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» و هي بيت المقدّس«إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» الّا لنعلم ذلك وجودا بعد أن علمناه سيوجد و ذلك انّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة فأراد اللّه أن يبين متبع محمّد صلّى اللّه عليه و آله ممّن خالف «متّبعي محمّد من مخالفيه خ» باتباع القبلة التي كرهها، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله يأمر بها، و لما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التّوجه إلى الكعبة ليبيّن من يوافق محمّدا فيما يكرهه فهو مصدّقه و موافقه ثم قال:«وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» و إن كان التّوجه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت كبيرة إلّا على من يهدي اللّه، فعرف أنّ للّه عزّ و جلّ أن يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة هواه.
قوله عليه السّلام (يردونه ورود الأنعام) شبّه عليه السّلام ورود الحاج على البيت الحرام بورود الأنعام على الماء للشّرب و وجه الشّبه الاجتماع و التزاحم، و من ذلك سمّي ببكة لأنّه من البكّ الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضا، يقال: بكه يبكه بكا إذا دفعه و زاحمه.
كما قال الصّادق عليه السّلام في رواية العلل: إنّما سمّيت بكّة بكّة، لأنّ النّاس يباكون فيها أى يزدحمون.
و روى عطا قال: صلّى رجل في المسجد الحرام فمرّت به امرأة بين يديه فزجرها و كان الباقر عليه السّلام حاضرا، فمنع الرّجل و قال: لا تزجرها هذه بكة يبكّ بعضه بعضا أى يدقّ.
و في الفقيه روى أنّ الكعبة شكت إلى اللّه عزّ و جلّ في الفترة بين عيسى و محمّد عليهما السّلام فقالت يا ربّ مالي قلّ زوّاري مالي قلّ عوّادي، فأوحى اللّه إليها أنّي منزل نورا جديدا على قوم يحنّون إليك كما تحنّ الأنعام إلى أولادها، و يزّفون إليك كما تزفّ النسوان إلى أزواجها، يعنى أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أى يشتاقون إليك كما تشتاق الأنعام، و يسرعون إليك كما تسرع النّسوان و هو معنى قوله عليه السّلام (يألهون) أى يسرعون (إليه ولوه الحمام) و كلّ ذلك كناية عن شدّة اشتياق الحجاج و فرط ميلهم إلى البيت الحرام (جعله سبحانه) أى الحجّ (علامة لتواضعهم لعظمته و) امارة (إذعانهم لعزته) إذ به يعرف المتواضع من المتكبر و يتميز المذعن من المتجبر، لما فيه من التواضع و الخضوع ما ليس في ساير العبادات، و من هجر البلدان و قطع العلاقات، و تعب الأبدان و ترك الشّهوات، و تحمل الأخطار بقطع الأسفار و ركوب الضّوامر في الجبال و القفار، و كشف الرأس و نزع اللباس و عدم التمكن من البلوغ إلا بشقّ الأنفس، و غير ذلك من النّسك العظام التي حارت الأفهام عن إدراك أسرارها، و قصرت الأوهام عن اقتباس أنوارها، إلا من أتى اللّه بقلب سليم، فهداه إلى صراط مستقيم، و أمّا من لم يجعل اللّه له نورا فماله من نور، و من لم يعط هدى و دليلا فأولئك هم كالأنعام بل أضل سبيلا.
كما روى في الفقيه أنّ ابن أبي العوجاء دخل تمرّدا و انكارا على من يحجّ و كان يكره العلماء مسائلته إيّاهم و مجالسته لهم، لخبث لسانه و فساد ضميره، فأتى جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السلام، فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثمّ قال له: إنّ المجالس أمانات و لا بدّ لمن به سؤال أن يسأل أ فتأذن لي في الكلام فقال تكلّم، فقال: الى كم تدوسون«» هذا البيدر، و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب و المدر، و تهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكر هذا أو قدر علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم و لا ذي نظر، فقل فانّك رأس هذا الأمر و سنامه، و اسّه و نظامه.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ من أضلّه اللّه و أعمى قلبه استوخم«» الحقّ فلم يستعذبه«» و صار الشّيطان وليّه يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره، و هذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه و زيارته، و جعله محل أنبياءه و قبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه، و طريق يؤدّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، و مجتمع العظمة و الجلال، خلقه اللّه تعالى قبل دحو الأرض بألفي عام، و أحق«» من اطيع فيما امر و انتهى عمّا نهى عنه و زجر اللّه المنشي ء للأرواح و الصّور الحديث.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى وصف الحجّاج بقوله: (و اختار من خلقه سمّاعا) أى السّامعين الذين (أجابوا للّه دعوته) لهم إلى الحجّ (و صدّقوا كلمته) الجارية عن لسان ابراهيم عليه السّلام و هو الأذان به و الأمر باتيانه، و المراد بتصديقهم كلمته إتيانهم ما امروا به و قد اشير إلى ذلك في قوله سبحانه مخاطبا لابراهيم عليه السّلام:«وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» قال: عليّ بن إبراهيم: و لمّا فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره اللّه أن يؤذّن في النّاس بالحجّ، فقال: يا ربّ و ما يبلغ صوتي، فقال: أذّن عليك الأذان و علىّ البلاغ، و ارتفع على المقام و هو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتّى كان أطول من الجبال، فنادى و أدخل اصبعيه في اذنيه و أقبل بوجهه شرقا و غربا يقول: أيّها النّاس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم، فأجابوه من تحت البحور السّبعة و من بين المشرق و المغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها من أصلاب الرّجال و من أرحام النّساء بالتّلبية: لبّيك اللهم لبّيك، أ و لا ترونهم يأتون يلبّون، فمن حجّ يومئذ إلى يوم القيامة فهم ممّن استجاب اللّه و ذلك قوله:«فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ» يعنى بذلك نداء إبراهيم على المقام بالحجّ.
و عن الكافي و العلل عن الصّادق عليه السّلام قال: لمّا امر إبراهيم و إسماعيل ببناء البيت و تمّ بناؤه قعد إبراهيم على كلّ ركن ثمّ نادى هلمّ الحجّ، فلو«» نادى هلمّوا إلى الحجّ لم يحجّ إلّا من كان يومئذ إنسيا مخلوقا، و لكن نادى هلمّ هلمّ الحج الحج، فلبّى النّاس في أصلاب الرّجال، لبّيك داعي اللّه، لبيك داعي اللّه، فمن لبّى عشرا حجّ عشرا، و من لبّى خمسا حجّ خمسا، و من لبّى أكثر فبعدد ذلك، و من لبّى واحدة حجّ واحدة، و من لم يلبّ لم يحجّ، و نحو ذلك في الفقيه (و وقفوا مواقف أنبيائه) هذه الفقرة كالتّالية لها تحريص و ترغيب للحجاج على إتيان المناسك و تحملهم الأذى عند ذلك، لأنّهم لو تفكروا و تدبّروا فيما هم عليه من متابعة الأنبياء و تشبّههم بملائكة السّماء، لاستسهلوا احتمال الأذى في تحمل الضّيم القماء«»، بل يجدون الأذى لذّة و الذلّ عزّة.
و أما الأنبياء الواقفون في تلك المواقف.
فأوّلهم آدم عليه السّلام، و يدل عليه ما رواه عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إنّ آدم بقى على الصّفا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة و على خروجه منها من جوار اللّه عزّ و جلّ، فنزل جبرئيل فقال يا آدم مالك تبكي فقال: يا جبرئيل مالي لا أبكي و قد أخرجني اللّه من جواره و أهبطني إلى الدّنيا، فقال يا آدم: تب إليه قال: كيف أتوب فأنزل اللّه تعالى عليه قبّة من نور فيه موضع البيت فسطع نورها في حيال مكة فهو الحرم، فأمر اللّه جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، قال: ثمّ يا آدم، فخرج به يوم التّروية و أمره أن يغتسل و يحرم و اخرج من الجنّة أول يوم من ذي القعدة فلما كان يوم الثّامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل إلى منى فبات بها فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات، و قد كان علّمه حين أخرجه من مكة: الاحرام، و علّمه التّلبية، فلما زالت الشّمس يوم عرفة فقطع التّلبية و أمره أن يغتسل، فلما صلّى العصر أوقفه بعرفات و علّمه الكلمات التي تلقّى بها ربّه و هي: «سبحانك اللّهمّ و بحمدك لا إله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي إنّك أنت خير الغافرين، سبحانك اللّهمّ و بحمدك لا إله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي إنّك أنت التّوّاب الرّحيم» فبقي إلى أن غابت الشّمس، ردّه إلى المشعر فبات بها، فلما أصبح قام على المشعر الحرام فدعا اللّه بكلمات و تاب إليه ثمّ أفاض إلى منى و أمره جبرئيل أن يحلق الشعر الذي عليه، فحلقه«» ثمّ ردّه إلى مكة فأتى به إلى عند الجمرة الاولى فعرض إبليس عندها فقال يا آدم أين تريد فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصيات و أن يكبر مع كلّ حصاة تكبيرة، ففعل، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثّانية فأمره أن يرميه بسبع حصيات، فرمى و كبر مع كل حصاة تكبيرة ثمّ مضى به، فعرض له إبليس عند الجمرة الثّالثة، فأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى و كبّر مع كلّ حصاة تكبيرة، ثمّ مضى به فذهب إبليس لعنه اللّه فقال له جبرئيل: انّك لن تراه بعد هذا اليوم أبدا، فانطلق به إلى البيت الحرام و أمره أن يطوف به سبع مرّات، ففعل فقال له: إنّ اللّه قد قبل توبتك و حلل لك زوجتك، قال: فلما قضى آدم عليه السّلام حجته لقته الملائكة بالأبطح، فقالوا: يا آدم برّ حجك، أمّا انّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام.
و في الفقيه قال أبو جعفر عليه السّلام أتى آدم هذا البيت ألف آتية«» على قدميه منها سبعمائة حجّة و ثلاثمأة عمرة و كان يأتيه من ناحية الشّام، و كان يحجّ على ثور«» و المكان الذي بنيت فيه الحطيم و هو ما بين باب البيت و الحجر الأسود و طاف آدم قبل أن ينظر إلى حواء مأئة عام، و قال له جبرئيل حيّاك اللّه و بيّاك«» يعنى أصلحك اللّه.
و فيه أيضا باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: موضع الكعبة ربوة«» من الأرض بيضاء تضي ء كضوء الشّمس و القمر حتّى قتل ابنا آدم أحدهما صاحبه فاسودّت فلمّا نزل آدم رفع اللّه تعالى له الأرض كلّها حتّى رآها، ثمّ قال هذه لك كلها، قال يا ربّ ما هذه الأرض البيضاء المنيرة قال: هي حرمي في أرضي و قد جعلت عليك أن تطوف بها كلّ يوم سبعمائة طواف.
و منهم نوح النبي عليه السّلام قال الصّدوق في الفقيه: و روي انّه كان طول سفينة نوح ألفا و مأتي ذراع، و عرضها مأئة ذراع، و طولها في السّماء ثمانين ذراعا، فركب فيها فطافت بالبيت سبعة أشواط، وسعت بين الصّفا و المروة سبعا ثمّ استوت على الجودي و منهم إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام و اختصاص البيت بهما كاختصاصهما به من جهة تجديد البناء و وقوفهما فيها غني عن البيان.
و منهم موسى عليه السّلام قال الصّدوق و روى أنّ موسى عليه السّلام أحرم من زملة«» و انه مرّ فى سبعين نبيّا على صفايح«» الرّوحاء عليهم العباء القطوانية«»، يقول لبّيك عبدك و ابن عبديك لبّيك و روى في خبر آخر أنّ موسى عليه السّلام مرّ بصفايح الرّوحاء على جمل أحمر خطامه من ليف عليه عبائتان قطوانيّتان، و هو يقول: لبّيك يا كريم لبيك.
و قال الصّادق عليه السّلام: لما حجّ موسى عليه السّلام نزل جبرئيل عليه السّلام فقال له موسى: يا جبرئيل ما لمن حجّ هذا البيت بلانيّة صادقة و لا نفقة طيّبة قال لا أدري حتّى أرجع إلى ربّي، فلما رجع قال اللّه يا جبرئيل ما قال لك موسى و هو أعلم بما قال قال يا ربّ قال لي ما لمن حجّ هذا البيت بلانيّة صادقة و نفقة طيبة قال اللّه: ارجع إليه و قل عليه أهب له حقّي و أرضى عنه خلقي، قال فقال يا جبرئيل: ما لمن حجّ هذا البيت بنيّة صادقة و نفقة طيبة قال: فرجع إلى اللّه فأوحى اللّه إليه، قل له اجعله في الرفيق«» الأعلى مع النّبيين و الصّديقين و الشّهداء و الصّالحين و حسن اولئك رفيقا.
و منهم يونس بن متى كما في الفقيه فقد مرّ بصفايح الرّوحاء و هو يقول: لبيك كشاف الكرب العظام لبّيك.
و منهم عيسى بن مريم فقد مرّ بصفايح الرّوحاء و هو يقول: لبّيك ابن امتك لبّيك كما رواه الصّدوق أيضا.
و منهم سليمان بن داود، فقد روى الصّدوق أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ سليمان بن داود عليهما السّلام قد حجّ البيت في الجنّ و الانس و الطير و الرّياح، و كسا البيت القباطي«» و روى عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إنّ آدم هو الذي بنى البنية و وضع أساسه و أول من كساه الشّعر و أوّل من حجّ إليه، ثمّ كساه تبع بعد آدم الانطاع«»، ثمّ كساه إبراهيم الخصف، و أوّل من كساه الثياب سليمان كساه القباطي.
و منهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقد حجّ عشرين حجّة، و كذلك أولاده المعصومون سلام اللّه عليهم أجمعين فهنيئا للحجّاج الواقفين مواقف الأنبياء و المرسلين، و السّالكين مسالك الأولياء المرضيّين، و طوبى لهم و حسن مآب و أنا أسأل اللّه سبحانه أن يوفقني ثانيا للعكوف عليه بعد ما منحني في غابر الزمان الوقوف عليه بحقّ محمّد نبي الرحمة و آله أهل الصّلاة و الطهارة.
(و تشبّهوا ملائكته المطيفين بعرشه) قد عرفت في الفصل التّاسع عند شرح قوله عليه السّلام: و منهم الثّابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم اه، عدد الملائكة المطيفين بالعرش، و أما صفوفهم فقد قال الشّارح البحراني: جاء في الخبر أن حول العرش سبعين ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عوانقهم رافعين أصواتهم بالتّهليل و التكبير، و من ورائهم مأئة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا و هو يسبّح.
و في رواية طويلة لعليّ بن إبراهيم باسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام المسوقة لابتداء خلق آدم عليه السّلام بعد ما ذكر عليه السّلام قوله سبحانه للملائكة: إنّى جاعل في الأرض خليفة، و قولهم له أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء، و قوله لهم: إنّي أعلم ما لا تعلمون قال عليه السّلام فقالت يا ربّنا افعل ما شئت لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، قال عليه السّلام: فباعدهم اللّه من العرش مسيرة خمسمائة عام، قال عليه السّلام: فلا ذوا بالعرش و أشاروا بالأصابع، فنظر الرّبّ جلّ جلاله إليهم و نزلت الرحمة، فوضع لهم بيت المعمور، فقال طوفوا به و دعوا العرش، فانّه لي رضىّ فطافوا به و هو البيت الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، فوضع اللّه البيت المعمور توبة لأهل السّماء و وضع الكعبة توبة لأهل الأرض الحديث.
قال الغزالي في إحياء العلوم: و أمّا الطواف بالبيت فاعلم أنه صلاة فاحضر في قلبك فيه من التعظيم و الخوف و الرّجاء و المحبة و اعلم أنّك بالطواف متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافين حول العرش الطائفين حوله، و لا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت بل طواف قلبك ربّ البيت حتّى لا تبتدء بالذكر إلّا منه، و لا تختم إلّا به كما تبدء بالبيت و تختم به.
قال: و اعلم أنّ الطواف الشّريف هو طواف القلب بحضرة الرّبوبيّة، و انّ البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر و هي عالم الملكوت كما أنّ البدن مثال ظاهر في عالم الشّهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر و هو في عالم الغيب و أن عالم الملك و الشّهادة مدرجة إلى عالم الغيب و الملكوت لمن فتح اللّه له الباب، و إلى هذه الموازنة وقعت الاشارة بأن البيت المعمور في السّماوات بازاء الكعبة، فانّ طواف الملائكة به كطواف الانس بهذا البيت، و لما قصرت رتبة اكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف امروا بالتشبّه بهم بحسب الامكان، و وعدوا بأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم، و الذي يقدر على مثل ذلك الطواف يقال: إنّ الكعبة تزوره و تطوف به انتهى.
أقول: هذا الطواف الحقيقي مختصّ بأولياء اللّه سلام اللّه عليهم، و في عالم المعنى الكعبة طائفة بهم و كاسبة من فيوضاتهم، و إلى هذا المعنى أشار الفرزدق في قصيدته الميميّة التي قالها في مدح عليّ بن الحسين عليهما السّلام على رغم هشام بن عبد الملك ابن مروان عليهم اللعنة و النيران، بقوله:
هذا الذي يعرف البطحاء وطأتهو البيت يعرفه و الحلّ و الحرم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمهلخرّ يلثم منه ما وطى القدم
ثمّ لما كان طباع الخلق مايلة إلى حبّ الأرباح و طلب المنافع في المكاسب شوّقهم بقوله عليه السّلام: (يحرزون الأرباح في متجر عبادته) تنبيها على أنّ قيامهم بالعبادة في هذه المواقف الشّريفة تجارة للآخرة و لا محالة مشتملة على الرّبح و المنفعة، فلا ينبغي للعاقل أن يفوتها على نفسه.
قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام في مرويّ الفقيه: الحجّ و العمرة سوقان من أسواق الآخرة اللّازم لهما من أضياف اللّه إن أبقاه ابقاه و لا ذنب له و إن اماته ادخله الجنّة، و لا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الاستعارة، حيث شبّه الحجاج بالتّجار و شبّه عبادتهم ببضاعة التّجارة، و ذكر المتجر استعارة تخييلية، و ذكر الأرباح ترشيح، و المراد بالأرباح هو الثواب الجميل و الأجر الجزيل المبذول للحجاج و المعتمرين و الوفاد و الطائفين.
قال الصّادق عليه السّلام إنّ للّه تعالى حول الكعبة عشرين و مأئة رحمة منها ستون للطائفين و أربعون للمصلين و عشرون للنّاظرين.
و قال عليه السّلام أيضا من نظر إلى الكعبة و عرف من حقّنا و حرمتنا مثل الذي عرف من حقّها و حرمتها غفر اللّه له ذنوبه كلها و كفاه همّ الدّنيا و الآخرة.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما من مهلّ يهلّ في التّلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شي ء إلى مقطع التراب و من عن يساره إلى مقطع التراب و قال له الملكان: ابشر يا عبد اللّه و ما يبشّر اللّه عبدا إلّا بالجنّة، و من لبى في إحرامه سبعين مرّة ايمانا و احتسابا اشهد اللّه له الف ملائكة ببراءة من النّار و برائة من النّفاق، و من انتهى إلى الحرم فنزل و اغتسل و اخذ نعليه بيده ثم دخل الحرم حافيا تواضعا للّه محا اللّه عنه مأئة الف سيّئة و كتب اللّه له مأئة الف حسنة و بنى له مأئة الف درجة و قضى له مأئة الف حاجة، و من دخل مكة بسكينة غفر اللّه له ذنبه، و هو ان يدخلها غير متكبّر و لا متجبّر، و من دخل المسجد حافيا بسكينة و وقار و خشوع غفر اللّه له، و من نظر الكعبة عارفا بحقها غفر اللّه له ذنوبه و كفى ما أهمّه.
و روى الحسن بن محبوب عن عليّ بن رئاب عن محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يحدّث النّاس بمكة، قال عليه السّلام: صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه الفجر، ثمّ جلس معهم يحدّثهم حتّى طلعت الشّمس فجعل يقوم الرّجل بعد الرّجل حتى لم يبق معه إلّا رجلان: أنصاريّ و ثقيف، فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قد علمت أنّ لكما حاجة تريدان أن تسألاني عنها، فان شئتما أخبرتكما بحاجتكما قبل أن تسألاني، و إن شئتما فاسألاني، فقالا، بل تخبرنا أنت يا رسول اللّه فانّ ذلك أجلى للعمى و أبعد من الارتياب و أثبت للايمان فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أما أنت يا أخا الانصار فانك من قوم يؤثرون على انفسهم و انت قرويّ و هذا الثقفيّ بدويّ أ فتؤثره بالمسألة قال: نعم قال صلّى اللّه عليه و آله: أما أنت يا أخا ثقيف جئتني تسألني عن وضوئك و صلاتك و مالك فيهما، فاعلم انك إذا ضربت يدك في الماء و قلت: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، تناثرت الذّنوب التي اكتسبتها يداك.
فاذا غسلت وجهك تناثرت الذّنوب التي اكتسبتها عيناك بنظرهما و فوك بلفظه فاذا غسلت ذراعيك تناثرت الذّنوب عن يمينك و شمالك فاذا مسحت رأسك و قدميك تناثرت الذّنوب التي مشيت إليها على قدميك، فهذا لك في وضوئك.
فاذا قمت إلى الصّلاة و توجّهت و قرأت أمّ الكتاب و ما تيسّر لك من السّور ثمّ ركعت فأتممت ركوعها و سجودها و تشهّدت و سلّمت غفر لك كلّ ذنب فيما بينك و بين الصّلاة قدّمتها إلى الصّلاة المؤخّرة، فهذا لك في صلاتك و وضوئك.
و أمّا أنت يا أخا الأنصار فانّك جئت تسألني عن حجّك و عمرتك و مالك فيهما من الثّواب، فاعلم أنّك إذا توجّهت إلى سبيل الحجّ ثمّ ركبت راحلتك لم تضع راحلتك خفّا و لم ترفع خفّا إلّا كتب اللّه لك حسنة و محا عنك سيّئة.
فاذا أحرمت و لبّيت كتب اللّه لك بكلّ تلبية عشر حسنات و محا عنك عشر سيئات.
فاذا طفت بالبيت اسبوعا كان لك بذلك عند اللّه عهد و ذكر يستحيي منك ربك أن يعذّبك بعده.
فاذا صلّيت عند المقام ركعتين كتب اللّه لك بهما ألفي ركعة مقبولة.
و إذا سعيت بين الصّفا و المروة سبعة أشواط كان لك بذلك عند اللّه مثل أجر من حجّ ماشيا من بلاده و مثل أجر من اعتق سبعين نسمة (رقبة خ).
و اذا وقفت بعرفات إلى غروب الشّمس فلو كان عليك من الذّنوب مثل رمل عالج و زبد البحر ليغفر اللّه لك.
فاذا رميت الجمار كتب اللّه لك لكلّ حصاة عشر حسنات فيما تستقبل من عمرك.
فاذا حلقت رأسك كان لك بكلّ شعرة حسنة يكتب لك فيما يستقبل من عمرك.
فاذا طفت بالبيت اسبوعا للزّيارة و صلّيت عند المقام ركعتين ضرب ملك كريم على كتفيك، فقال أمّا ما مضى فقد غفر لك فاستأنف العمل فيما بينك و بين عشرين و مأئة يوم«» هذا.
و الأخبار في فضائل الحجّ كثيرة و قد جمع الصّدوق فيها بابا في الفقيه و أخرجت هذه الأخبار منه و فيها كفاية للمهتدى إنشاء اللّه.
(و يتبادرون عنده موعد مغفرته) أى يتسارعون و يستبق كل منهم الآخر عند الحجّ إلى وعدة المغفرة من اللّه سبحانه لهم، و يحتمل أن يكون اسم مكان (جعله سبحانه للاسلام علما) أى جعل البيت علامة للدّين و الاسلام الذين هما طريقان إلى الرّضوان، كما أنّ السّالكين و المسافرين يهتدون إلى مطالبهم و مآربهم بالأعلام المنصوبة و المناور«» المرفوعة (و للعائذين حرما) يعني جعله حرما للمعتصمين به و الملتجئين إليه لا يجوز ايذاؤهم فيه و إخراجهم منه.
قال في الفقيه: و روي أنّ من جنى جناية ثمّ لجأ إلى الحرم لم يقم عليه الحدّ و لا يطعم و لا يسقى و لا يؤذى حتّى يخرج من الحرم فيقام عليه الحدّ، فان أتى ما يوجب الحدّ في الحرم أخذ به في الحرم لأنّه لم ير للحرم حرمة.
و فيه أيضا و سأل عبد اللّه بن سنان أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه:«وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» قال من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه و ما دخل من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم الحديث.
و مثله في الكافي عن العياشي عنه عليه السّلام و عنه عليه السّلام أيضا قال: إذا أحدث العبد في غير الحرم جناية ثمّ فرّ إلى الحرم لم يسع لأحد أن يأخذه في الحرم و لكن يمنع من السّوق و لا يبايع و لا يطعم و لا يسقى و لا يكلم فإنّه إذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ، و إذا جنى في الحرم جناية اقيم عليه الحدّ في الحرم، و زاد في الكافي أنّه لم يدع للحرم حرمة.
و في الكافي عنه عليه السّلام أيضا و قد سأله سماعة عن رجل لي عليه مال فغاب عنّي بزمان فرأيته يطوف حول الكعبة أ فأتقاضاه مالي قال: لا تسلم عليه، و لا تردعه حتّى يخرج من الحرم هذا.
و من أجل كونه حرم اللّه سبحانه لم يقصده جبّار بسوء إلّا ابتلاه اللّه بشاغل أو رماه بقاتل.
و قد قصده أصحاب الفيل فأرسل سبحانه إليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل فجعلهم كعصف مأكول على ما نطق به التّنزيل.
و قصده تبّع الملك«» و أراد قتل مقاتلته و سبي ذراريهم و هدمه بعد ذلك فسالت عيناه حتّى وقعتا على خدّيه فسأل عن ذلك، فقالوا: ما نرى الذي أصابك إلّا بما نويت في هذا البيت، لأنّ البلد حرم اللّه و البيت بيت اللّه و سكان مكة ذرّية إبراهيم خليل الرّحمن، فقال: صدقتم فما مخرجي ممّا وقعت فيه قالوا: تحدث نفسك بغير ذلك، فحدث نفسه بخير فرجعت حدقتاه حتّى ثبتتا في مكانهما، فدعا القوم الذين أشاروا اليه بهدمها، فقتلهم ثمّ أتى البيت فكساه الأنطاع و أطعم الطعام ثلاثين يوما كلّ يوم مأئة جزور، حتّى حملت الجفان إلى السّباع في رؤس الجبال، و نثرت الأعلاف للوحش، ثمّ انصرف من مكة إلى المدينة فأنزل بها قوما من أهل اليمن من غسان و هم الأنصار.
فان قيل: كيف لم يجر على الحجاج اللعين ما جرى على تبّع و أصحاب الفيل مع هدمه البيت قلنا: إنّ الحجاج لم يكن قصده إلى هدم البيت و إنّما كان قصده إلى ابن الزّبير و كان ضدّا للحقّ، فلما استجار بالكعبة أراد اللّه أن يبيّن للنّاس أنّه لم يجره، فأمهل من هدمها عليه و بذلك صرّح في الفقيه.
ثمّ أكد عليه السّلام وجوب الحجّ بقوله (فرض حجّه و أوجب) معرفة (حقه) و ملاحظة حرمته (و كتب عليكم) أى ألزم عليكم (وفادته) و القدوم إليه لكسب الفيوضات و تحصيل الكمالات.
روى الصّدوق بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: الحجاج و المعتمر وفد اللّه إن سألوه أعطاهم، و إن دعوه أجابهم و إن شفعوا شفعهم، و إن سكتوا ابتدئهم و يعوذون «يعوضون ظ» بالدّرهم ألف درهم (فقال و للّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا و من كفر فانّ اللّه غنيّ عن العالمين).
قال الطبرسي معناه و للّه على من استطاع إلى حجّ البيت سبيلا من النّاس حجّ البيت، أى من وجد إليه طريقا بنفسه و ماله.
و اختلف في الاستطاعة، قيل: هي الزّاد و الرّاحلة عن ابن عبّاس و ابن عمر، و قيل: ما يمكنه معه بلوغ مكة بأىّ وجه يمكن عن الحسن و معناه القدرة على الوصول إليه، و المرويّ عن أئمتنا عليهم السلام أنّه وجود الزّاد و الرّاحلة و نفقة من يلزمه نفقته و الرّجوع إلى كفاية إمّا من مال أو ضياع أو حرفة مع الصّحة في النّفس و تخلية السّرب من الموانع و إمكان السّير.
أقول: أمّا اشتراط الزّاد و الرّاحلة في تحقّق الاستطاعة للبعيد فممّا أجمع عليه الأصحاب.
و أمّا القريب الغير المحتاج إلى قطع المسافة كأهل مكة و ما قاربها ممّن يمكنه السّعى من غير راحلة بحيث لا يشقّ عليه عادة فانّ الرّاحلة حينئذ غير شرط.
و أمّا البعيد المتمكن من المشي فهل هي شرط للوجوب في حقّه أم لا الظاهر من المنتهى الأوّل حيث قال: اتفق علمائنا على أنّ الزّاد و الرّاحلة شرطان في الوجوب فمن فقدهما أو أحدهما مع بعد مسافته لم يجب عليه الحجّ و إن تمكن من المشي و استشكل فيه بعض متأخري المتأخّرين كصاحب المدارك و نحوه من أجل قيام بعض الأخبار على الثّاني.
و أمّا الرّجوع إلى الكفاية فقد اشترطه الشّيخان و أبو الصّلاح و ابن البراج و ابن حمزة، و رواه الصّدوق في الفقيه عن أبي الرّبيع الشّامي قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: و للّه على النّاس حج البيت من استطاع اليه سبيلا، فقال: ما يقول النّاس فيها فقيل له: الزّاد و الرّاحلة، فقال عليه السّلام: قد سئل أبو جعفر عليه السّلام عن هذا فقال: هلك النّاس إذا لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و استغنى به عن الناس ينطلق إليه فيسلبهم إياه لقد هلكوا إذا، فقيل له: فما السّبيل فقال: السّعة في المال إذا كان يحجّ ببعض و يبقى بعض لقوت عياله، أليس قد فرض اللّه عزّ و جلّ الزكاة فلم يجعلها إلّا على من يملك مأتي درهم.
و ذهب الأكثر و منهم المرتضى و ابن ادريس و ابن أبي عقيل و ابن الجنيد إلى عدم الاشتراط، استدلالا بعموم الاية و الأخبار الصّحيحة، و استضعافا لسند رواية أبي الرّبيع، و طعنا فيه بجهالة الرّاوي و بأنّ من جملة رجاله خالد بن جرير و لم يرد فيه توثيق بل و لا مدح يعتد به هذا.
و أمّا قوله تعالى: و من كفر، فقد قال الطبرسي: معناه، و من جحد فرض الحج و لم يره واجبا، عن ابن عباس و الحسن:«فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» لم يتعبّدهم بالعبادة لحاجته إليها و إنّما تعبدهم بها لما علم فيها من مصالحهم.
و قيل: إنّ المعني به اليهود فانّه لما نزل قوله:«وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» قالوا نحن مسلمون، فامروا بالحجّ فلم يحجّوا، و على هذا يكون معنى من كفر من ترك الحج من هؤلاء فهو كافر انتهى.
اقول: إطلاق الكافر على تارك الحجّ كما في الآية قد وقع في الأخبار الكثيرة و تفسيره بالجاحد بوجوبه حسبما فعله الطبرسي و تبعه غيره لا داعي إليه، و إنّما هو ناش عن حسبان أنّ الكفر له معنى واحد و هو المعنى المعروف بين الفقهاء و هو ما يوجب نجاسة المتّصف به و خلوده في النّار، و ليس كذلك بل له معان متعددة.
بيان ذلك أنّ الكفر في اللّغة هو السّتر، و منه سمّي الليل كافرا لأنّه يستر ما أظهره نور النّهار، و اطلاقه على الكافر من جهة ستره ما أنعم اللّه به عليه من المعارف الحقّة و الأنوار الالهية و النعم الجليّة و الخفيّة، و في لسان الفقهاء يطلق الكافر على جاحد الرّب و منكره، و على منكر ما علم ثبوته ضرورة من دين الاسلام.
و امّا في القرآن و الأخبار، فربّما اطلق على تارك بعض الواجبات و لو لم يكن عن جحود كما يطلق على فاعل بعض المحرمات، و يدلّ على عدم انحصار معناه في المعروف ما رواه الكليني عن عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القاسم ابن يزيد عن أبي عمر و الزّبيري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود و الجحود على وجهين و الكفر بترك ما أمر اللّه و كفر البراءة و كفر النعم: فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالرّبوبيّة، و هو قول من يقول: لا ربّ و لا جنة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة لعنهم اللّه يقال لهم: الدّهريّة و هم الذين يقولون: و ما يهلكنا إلّا الدّهر الى أن قال و أمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفته فهو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنّه حقّ قد استيقن عنده، و قد قال اللّه عزّ و جلّ.
«وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا» و قال اللّه تعالى:«وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» فهذا تفسير وجهي الجحود، و الوجه الثّالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» و قال:«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» و قال:«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ» و الوجه الرّابع من الكفر ترك ما أمر اللّه به و هو قول اللّه تعالى:«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» فكفرهم بترك ما أمر اللّه به و نسبهم إلى الايمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال:«فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، و ذلك قوله تعالى يحكي قول ابراهيم:«كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» يعني تبرّأنا منكم الحديث، فقد ظهر منه أنّ إطلاق الكفر على ترك بعض الفرائض و إتيان بعض المناهي ليس من أجل اشتماله على الجحود و الانكار، حيث إنّه عليه السّلام جعل الكفر الجحودي قسيما للكفر بترك ما أمر اللّه به.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ تارك الحجّ مع وجود الاستطاعة كافر حقيقة و إن لم يحكم بنجاسته، لأنّ الحكم بالنجاسة من خواصّ الكفر على وجه الجحود، و يدل على ذلك مضافا إلى ظهور الآية الشّريفة، ما رواه الصّدوق في آخر الفقيه في باب النّوادر في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام يا علي، تارك الحجّ و هو مستطيع كافر قال اللّه تبارك و تعالى:«وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» الآية.
يا عليّ من سوّف الحج حتّى يموت بعثه اللّه يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا، و في ذلك الباب أيضا يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الامة عشرة: القتاة و السّاحر و الديوث و ناكح المرأة حراما في دبرها و ناكح البهيمة و من نكح ذات محرم و السّاعي في الفتنة و بايع السّلاح من أهل الحرب و مانع الزّكاة و من وجد سعة فمات و لم يحج هذا.
و الأخبار في عقوبة تارك الحجّ و مسوّفه و كونه كبيرة موبقة كثيرة، و من الآيات الدّالة على ذلك مضافة إلى الآية السّابقة قوله تعالى:«وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا» قال الصدوق روى محمّد بن الفضيل، قال سألت أبا الحسن عليه السّلام عن هذه الآية فقال: نزلت فيمن سوّف الحجّ حجة الاسلام و عنده ما يحجّ به فقال: العام أحجّ العام أحجّ حتى يموت قبل أن يحجّ و روى عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل لم يحجّ قط و له مال فقال هو ممّن قال اللّه عزّ و جلّ:«وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى » فقلت سبحان اللّه أعمى، فقال: أعماه اللّه عن طريق الخير.
تكميل
قد عرفت فضل البيت الحرام و فضائل المشاعر العظام و كونه حرم اللّه و أمنه و اختياره سبحانه على جميع أقطار أرضه من سهله و حزنه إلّا أنّه قد وردت أخبار مستفيضة دالة على تفضيل أرض كربلا عليه و كونه حرم اللّه سبحانه من قبله.
مثل ما رواه جعفر بن محمّد بن قولويه في المزار باسناده عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث ثواب زيارة الحسين عليه السّلام قال: و اللّه لو اني حدّثتكم في فضل زيارته لتركتم الحجّ رأسا و ما حجّ أحد ويحك أما علمت أنّ اللّه اتخذ كربلا حرما آمنا مباركا قبل أن يتخذ مكة حرما قال ابن أبي يعفور: قد فرض اللّه على النّاس حجّ البيت و لم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السّلام، قال: و إن كان كذلك فانّ هذا شي ء جعله اللّه هكذا أما سمعت قول أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهر القدم و لكن اللّه فرض هذا على العباد، أما علمت أنّ الاحرام لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم و لكنّ اللّه صنع ذلك في غير الحرم.
و روى أيضا باسناده عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أن أرض الكعبة قالت من مثلي و قد بني بيت اللّه على ظهري يأتيني النّاس من كلّ فجّ عميق، و جعلت حرم اللّه و أمنه، فأوحى اللّه إليها كفي و قري ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلا إلّا بمنزلة الابرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر و لو لا تربة كربلا ما فضلتك و لولا من ضمنه كربلا لما خلقتك و لا خلقت الذي افتخرت به، فقرّي و استقرّي و كوني ذنبا«» متواضعا ذليلا مهينا غير مستنكف و لا مستكبر لأرض كربلا و إلّا مسختك و هويت بك في نار جهنم.
الابرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر و لو لا تربة كربلا ما فضلتك و لولا من ضمنه كربلا لما خلقتك و لا خلقت الذي افتخرت به، فقرّي و استقرّي و كوني ذنبا«» متواضعا ذليلا مهينا غير مستنكف و لا مستكبر لأرض كربلا و إلّا مسختك و هويت بك في نار جهنم.
و باسناده عن أبي الجارود عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: اتخذ اللّه أرض كربلا حرما قبل أن يتخذ مكة حرما بأربعة و عشرين ألف عام.
و باسناده عن صفوان الجمال قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ اللّه فضل الأرضين و المياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت و منها ما بغت، فما من أرض و لا ماء إلا عوقبت لترك التّواضع للّه حتى سلّط اللّه على الكعبة المشركين و أرسل إلى زمزم ماء مالحا فأفسد طعمه، و ان كربلا و ماء الفرات أول أرض و أول ماء قدس اللّه و بارك عليه، فقال لها تكلّمي ما فضلك اللّه، فقالت: أنا أرض اللّه المقدسة المباركة، الشّفاء في تربتي و مائي و لا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك و لا فخر على من دونى بل شكر اللّه، فأكرمها و زادها بتواضعها و شكرها للّه بالحسين عليه السّلام و أصحابه، ثم قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من تواضع للّه رفعه اللّه و من تكبّر وضعه اللّه.
و الحمد للّه على حسن توفيقه لشرح الخطبة الاولى و منه أسأل التّوفيق لشرح الخطبة الآتية بحقّ محمّد و عترته الطاهرة.
|