و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثامنة من المختار في باب الخطب
و شرحها فى ضمن فصول:
الفصل الاول
كلّ شي ء خاضع له، و كلّ شي ء قائم به، غنى كلّ فقير، و عزّ كلّ ذليل، و قوّة كلّ ضعيف، و مفزع كلّ ملهوف، من تكلّم سمع نطقه، و من سكت علم سرّه، و من عاش فعليه رزقه، و من مات فإليه منقلبه، لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك، لم تخلق الخلق لوحشة، و لا استعملتهم لمنفعة، و لا يسبقك من طلبت، و لا يفلتك من أخذت، و لا ينقص سلطانك من عصاك، و لا يزيد في ملكك من أطاعك، و لا يردّ أمرك من سخط قضاءك، و لا تستغنى عنك من توّلى عن أمرك، كلّ سرّ عندك علانية و كلّ غيب عندك شهادة، أنت الأبد لا أمد لك، و أنت المنتهى لا محيص عنك، و أنت الموعد لا منجا منك إلّا إليك، بيدك ناصية كلّ دآبّة، و إليك مصير كلّ نسمة، سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، و ما أصغر عظمه في جنب قدرتك، و ما أهول ما نرى من ملكوتك، و ما أحقر ذلك فى ما غاب عنّا من سلطانك، و ما أسبغ نعمك في الدّنيا، و ما أصغرها في نعم الآخرة.
اللغة
(لهف) لهفا من باب فرح حزن و تحسّر، و اللّهوف و اللّهيف و اللّهفان و اللّاهف المظلوم المضطرّ يستغيث و يتحسّر و (أفلت) الطائر و غيره إفلاتا تخلّص و أفلتّه اذا أطلقته و خلّصته يستعمل لازما و متعدّيا، و فلت فلتا من باب ضرب لغة و فلته أنا يستعمل أيضا لازما و متعدّيا.
و (الناصية) الشعر المسترسل في مقدّم الراس أى شعر الجبهة و قال الأزهريّ منبت الشعر و اطلاقها على الشعر مجاز من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ
الاعراب
قوله: لم ترك العيون فتخبر عنك، في بعض النسخ تخبر بالنصب و هو الأظهر و في بعضها بالجزم، و الأوّل مبنىّ على كونه منصوبا بان مضمرة وجوبا بعد الفاء السببيّة المسبوقة بالنفى، و الثاني مبنىّ على جعل الفاء لمجرّد عطف ما بعدها على ما قبلها، فيكون ما بعدها شريكا لما قبلها في الاعراب.
قال في التصريح: و لك في نحو ما تأتيني فاكرمك أن تقدّر الفاء لمجرّد عطف لفظ الفعل على لفظ ما قبلها فيكون شريكه في اعرابه فيجب هنا الرّفع لأنّ الفعل الذي قبلها مرفوع و المعطوف شريك المعطوف عليه و كأنّك قلت ما تأتيني فما اكرمك فهو شريكه فى النفى الداخل عليه.
و إن تقدّر الفاء أيضا لعطف مصدر الفعل الذى بعدها على المصدر المؤل ممّا قبلها، و لكن يقدّر النفى منصبّا على المعطوف عليه و ينتفي المعطوف لأنه مسبّب عنه و قد انتفى، و المعنى ما يكون منك اتيان فكيف يكون منّى إكرام.
و قوله عليه السّلام: لا يفلتك، من باب الحذف و الايصال أى لا يفلت منك على حدّ قوله:
- استغفر اللّه ذنبا لست محصيهربّ العباد اليه الوجه و العمل
أى من ذنب، و قوله: سبحانك ما اعظم ما نرى، سبحانك منصوب على المصدر و عامله محذوف وجوبا، أى أسبّح سبحانا فحذف الفعل لسدّ المصدر مسدّه و تبعه اللّام أيضا في الحذف تخفيفا فاضيف المصدر إلى كاف الخطاب، و هذه اللفظة واردة في هذا المقام للتعجّب كما في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رواية أبي هريرة: سبحان اللّه إنّ المؤمن لا ينجس، صرّح به في التوضيح، و معنى التعجّب انفعال يعرض للنّفس عند الشعور بأمر يخفى سببه، و لهذا قيل: إذا ظهر السّبب بطل العجب، و يشترط أن يكون المتعجّب منه عادم النظير أو قليل النّظاير، فما يكثر نظائره في الوجود لا يستعظم فلا يتعجّب منه.
قوله عليه السّلام ما اعظم ما نرى، تأكيد للتعجّب، فانّ ما في ما أعظم تعجّبة أيضا و ماء الثانية موصولة، و قد طال التشاجر بين علماء الأدبيّة في ماء التّعجب و صيغة أفعل بعدها بعد اتفاقهم على اسميتها و كونها مبتدأ، فالمحكىّ عن سيبويه و جمهور البصرييّن أنّها نكرة تامّة بمعنى شي ء و ابتدء بها على نكارتها لتضمّنها معنى التّعجب.
قال الرّضيّ (ره): فانّ التعجّب كما ذكرنا إنّما يكون فيما يجهل سببه فالتنكير يناسب معنى التعجّب، فكان معنى ما أحسن زيدا، في الأصل شي ء من الأشياء لا أعرفه جعل زيدا حسنا، ثمّ انتقل إلى إنشاء التعجّب و انمحى عنه معنى الجعل فجاز استعماله في التعجّب عن شي ء يستحيل كونه جعل جاعل، نحو ما أقدر اللّه و ما أعلمه، و ذلك لأنه اقتصر من اللفظ على ثمرته و هى التعجّب من الشي ء سواء كان مجعولا و له سبب أولا، فما مبتداء و افعل فعل ماض خبره و فيه ضمير راجع إلى ما هو فاعله و المنصوب بعده مفعوله، فعلى ذلك يكون فتحة أفعل فتحة بناء فاعراب ما أحسن زيدا مثل اعراب زيد ضرب عمرا حرفا بحرف.«» و قال الأخفش في أحد قوله إنّ ما موصولة بمعنى الذي و ما بعدها من الجملة الفعلية صلة لها لا محلّ لها من الاعراب، أو نكرة موصوفة بمعنى شي ء و ما بعدها صفة لها، فمحلّها رفع تبعا لمحلّ ما، و على التقديرين فالخبر محذوف وجوبا أى الذي أحسن زيدا أو شي ء أحسن زيدا موجود أو شي ء عظيم.
و استبعدوه بأنّ فيه التزام وجوب حذف الخبر مع عدم ما يسدّ مسدّه، و بأنه ليس فيه معنى الابهام اللّايق بالتعجّب، و أيضا إذا تضمّن الكلام افهاما و ابهاما فالمعتاد تقدّم الابهام، و فيما ذكره يكون الأمر بخلاف ذلك إذ فيه تقديم الافهام بالصّلة أو الصفة و تأخير الابهام بالتزام حذف الخبر. و ذهب الفرّاء و ابن درستويه و ربما عزّى إلى الكوفيّين إلى أنّ ما استفهامية ما بعدها خبرها.
قال نجم الأئمة و هو قوىّ من حيث المعنى، لأنّه كان جهل سبب حسنه فاستفهم عنه، و قد يستفاد من الاستفهام معنى التعجّب نحو: ما أدراك ما يوم الدّين و أتدرى من هو، وللّه درّه أىّ رجل كان قال و للّه غنيّا خيرا أيّما فتى.
و ربما يضعف بأنّ فيه نقل من الاستفهام إلى التعجّب و النقل من انشاء إلى انشاء مما لم يثبت، هذا.
و بقى الكلام في أفعل و قد ظهر من كلام البصريّين أنه فعل ماض و فتحته فتحة بناء للزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية نحو ما أفقرنى إلى رحمة اللّه و ما أحوجنى اليها، و قال الكوفيّون غير الكسائي«» إنه اسم و فتحته فتحة اعراب كفتحة عندك في زيد عندك، و يؤيد قولهم تصغيرهم اياه«» في نحو ما احيسنه و ما اميلحه قال الشاعر:
يا ما اميلح غزلانا شددن لنا
و اعتذروا عن فتحة الخبر بأنّ مخالفة الخبر للمبتدأ تقتضى نصبه و أحسن إنّما هو في المعنى وصف لزيد لا لضمير ما، فلذلك كان منصوبا، بيان ذلك. أنّ الخبر إذا كان فى المعنى هو المبتدأ كاللّه ربّنا أو مشبه به نحو: أزواجه امّهاتهم، ارتفع ارتفاعه، و إذا كان مخالفا له بحيث لا يحمل عليه حقيقة أو حكما خالفه في الاعراب كما في زيد عندك، و الناصب له عندهم معنوىّ و هو معنى المخالفة التي اتّصف بها، و لا حاجة على قولهم إلى شي ء يتعلّق به الخبر، و امّا انتصاب زيدا فلمشابهة المفعول به، لأنّ ناصبه وصف قاصر فأشبه نصب الوجه في قولك زيد حسن الوجه هكذا قال في التوضيح و شرحه.
و قال نجم الأئمة بعد حكاية هذا المذهب أعنى مذهب الكوفيّة في أفعل و كونه اسما كأفعل التفضيل: و لو لا انفتاح أفعل التعجّب و انتصاب ما بعده انتصاب المفعول به لكان مذهبهم جديرا بأن ينصر.
و قد اعتذروا لفتح آخره بكونه متضمنّا لمعنى التعجّب الذى كان حقيقا بأن يوضع له حرف كما مرّ في بناء اسم الاشارة، فبنى لتضمنه معنى الحرف و بنى على الفتح لكونه أخفّ.
و اعتذروا لنصب المتعجّب منه بعد افعل بكونه مشابها للمفعول لمجيئه بعد افعل المشابه لفعل مضمر فاعله فموقعه موقع المفعول به فانتصب انتصابه فهو نحو قوله:
- و لدنا بعده بذناب«» عيشاجبّ الظّهر ليس له سنام
بنصب الظهر، و هو ضعيف، لأنّ النّصب في مثل أجبّ الظهر و حسن الوجه توطئة لصحة الاضافة إلى ذلك المنصوب و لا يضاف أفعل إلى المتعجّب منه هذا.
المعنى
قال الشارح المعتزلي: من أراد أن يتعلّم الفصاحة و البلاغة و يعرف فضل الكلام بعضهم على بعض فليتأمّل هذه الخطبة، فانّ نسبتها إلى كلّ فصيح من الكلام عدا كلام اللّه و رسوله نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، ثمّ لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء و الجلالة و الرواء و الدّيباجة و ما يحدثه من الروعة و الرهبة و المخافة و الخشية، حتى لو تليت على زنديق ملحد و مصمم على اعتقاد نفى البعث و النشور، لهدت قواه و رعبت قلبه، و أصعقت على نفسه و زلزلت اعتقاده.
فجزى اللّه قائلها عن الاسلام أفضل ما جزى به وليا من أوليائه، فما أبلغ نصرته له تارة بيده و سيفه، و تارة بلسانه و نطقه، و تارة بقلبه و فكره.
إن قيل جهاد و حرب فهو سيّد المجاهدين و المحاربين، و إن قيل وعظ و تذكير فهو أبلغ الواعظين و المذكرين، و إن قيل فقه و تفسير فهو رئيس الفقهاء و المفسرين و إن قيل عدل و توحيد فهو إمام أهل العدل و الموحّدين، و ليس للّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد.
ثمّ نعود إلى الشرح فنقول: افتتح عليه السّلام كلامه بالتوحيد و التنزيه و الاجلال و ذكر نعوت الجمال و الجلال، و عقّبه بالموعظة و التذكير و الانذار و التحذير فقال (كلّ شي ء خاشع له) أو خاضع له كما في بعض النسخ، أى متذلّل معترف بالفاقة إليه سبحانه و الحاجة الى تخليقه و تكوينه، و إن من شي ء إلّا يسبّح بحمده.
فالمراد بالخشوع الخضوع التكويني و الافتقار الذاتي اللّازم المهية الممكن مثل نفس الامكان، هذا.
و قال الشارح البحراني (ره): الخشوع هنا مراد بحسب الاشتراك اللفظى إذ الخشوع من الناس يعود إلى تطامنهم و خضوعهم للّه، و من الملائكة دؤبهم في عبادتهم ملاحظة لعظمته سبحانه و من ساير الممكنات انفعالها عن قدرته و خضوعها في رقّ الامكان و الحاجة اليه، و المشترك و إن كان لا يستعمل في جميع مفهوماته حقيقة فقد بينّا أنّه يجوز استعماله مجازا فيها بحسب القرينة، و هى هنا اضافته لكلّ شي ء، أو لأنه في قوّة المتعدّد كقوله تعالي: إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النبيّ فكانه قال: الملك خاشع له و البشر خاشع له، انتهى.
أقول: و أنت خبير بما فيه أمّا أوّلا فلأنّ كونه من المشتركات اللّفظية ممنوع، بل المستفاد من كلام أكثر اللّغويين أنّه موضوع خطبه 109 نهج البلاغه بخش 1 لمطلق الخضوع أعني الذلّ و الاستكانة، و ربما يفرّق بينه و بين الخضوع كما في مجمع البحرين و غيره بأنّ الأوّل في البدن و البصر و القلوب و الثاني في البدن، و قال الفيومى خشع خشوعا خضع و خشع في صلاته و دعائه أقبل بقلبه، و هو مأخوذ من خشعت الأرض إذا سكنت و اطمأنّت، و قال خضع خضوعا ذلّ و استكان، و الخضوع قريب من الخشوع إلّا أنّ الخضوع أكثر ما يستعمل في الاعناق و الخشوع في الصوت، و قال الفيروز آبادى الخشوع الخضوع أو قريب منه أو هو في البدن و الخشوع في الصوت و البصر، و قال خضع خضوعا تطامن و تواضع و قريب من ذلك كلام ساير أهل اللّغة.
و على قولهم فهو إما من باب الاشتراك المعنوي فيكون استعماله في الانسان و الملك و غيرها من باب استعمال العامّ في افراده.
و إما من باب الحقيقة و المجاز إن خصّصناه بذوات الأبدان و الابصار، فيكون اطلاقه على غيرها مجازا و استعماله في الجميع بعنوان خطبه 109 نهج البلاغه بخش 1 عموم المجاز، و على أيّ تقدير فالقول بكونه مشتركا لفظيا و توهّم تعدّد الوضع فيه باطل.
و أمّا ثانيا فلأنّ تجويز استعمال اللّفظ المشترك في معانيه المتعدّدة و لو بالمجاز و القرينة خلاف ما عليه المحقّقون من الاصوليّين، و قد حقّقناه في ديباجة هذا الشرح و في حواشينا على قوانين الاصول بما لا مزيد عليه.
نعم لا بأس بجواز استعماله في معنى عام شامل للمعاني المتعدّدة بعنوان خطبه 109 نهج البلاغه بخش 1 عموم الاشتراك كاستعمال لفظ الأمر في مطلق الطلب الشامل للوجوب و الندب على القول بكونه حقيقة فيهما، كما لا ريب في جواز استعمال اللّفظ في معنى عام شامل لمعناه الحقيقي و المجازي و يسمّى بعموم المجاز كالمثال الذى ذكرناه على القول بكون الأمر حقيقة في الوجوب مجازا في الندب، و لا يمكن حمل مراد الشّارح على ذلك، لمنافاته بقوله: و الخشوع هنا مراد بحسب الاشتراك اللّفظي فافهم.
و أمّا ثالثا فلأنّ جعل خاشع بمنزلة المتعدّد بالعطف قياسا بقوله يصلّون في الآية الشريفة فاسد، فانّ يصلّون في الآية لفظ جمع و خاشع لفظ مفرد و كون الأوّل في قوّة المتعدّد لا يدلّ على كون الثّاني كذلك مع امكان منع أصل الدّعوى في الآية أيضا لاحتمال حذف الخبر فيها أى إنّ اللّه يصلّى و ملائكته يصلّون على حدّ قوله: نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض و الرّأى مختلف أو كونها من باب عموم الاشتراك بأن يكون معنى يصلّون يعتنون باظهار شرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعظيمه كما فسّرها به الطبرسيّ و البيضاوى و غيرهما على ما مرّ تفصيلا و توضيحا في ديباجة الشرح.
و هذا كلّه مبنيّ على التنزّل و المماشاة و إلّا فنقول: إنّ كون الآية بمنزلة المفرد المتكرّر المتعدّد لا يوجب الحاقها به في جميع الأحكام، فانّ المفرد المتكرّر شي ء، و ما بمنزلته شي ء آخر، فاطلاق المكرّرات و إرادة المعاني المتعدّدة منها لا يوجب جواز إرادة المعاني المتعدّدة مما هو بمنزلتها كما لا يخفى.
فقد وضح و اتّضح بما ذكرنا كلّه أنّ الآية الشريفة لا دلالة فيها على جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى، و أنّ كلام الامام عليه السّلام ليس من هذا القبيل فافهم ذلك و اغتنم.
(و كلّ شي ء قائم به) لأنّ جميع الممكنات إمّا جواهر أو أعراض، و ليس شي ء منها يقوم بذاته في الوجود أمّا الأعراض فظاهر، لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهرى، و أما الجواهر فلأنّ قوامها في الوجود انما هو بعللها، و تنتهى إلى المبدأ الأوّل و علّة العلل جلّت عظمته فهو إذا الفاعل المطلق الذي به قوام وجود كلّ موجود، هكذا قال الشارح البحراني، ثمّ قال: و اذ ثبت أنّه تعالى غنّى عن كلّ شي ء في كلّ شي ء ثبت أنّ به قوام كلّ شي ء فثبت أنّه القيّوم المطلق اذ مفهوم القيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره، فكان هذا الاعتبار مستلزما لهذا الوصف.
(غنى كلّ فقير) قال الشارح: و يجب أن يحمل الفقير على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف و هو مطلق الحاجة ليعمّ التمجيد كما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجة و إذ ثبت أنّ كلّ ممكن فهو مفتقر في طرفيه منته في سلسلة الحاجة إليه و أنّه تعالى المقيم له في الوجود ثبت أنه تعالى رافع حاجة كلّ موجود بل كلّ ممكن، و هو المراد بكونه غنى له و اطلق عليه تعالى لفظ الغنى و إن كان الغنى به مجازا إطلاقا لاسم السّبب على المسبّب.
(و عزّ كلّ ذليل) يعني أنه سبحانه سبب عزّة كلّ من كان به ذلّة، لأنّه العزيز المطلق الذي لا يعادله شي ء و لا يغلبه شي ء، فكلّ عزّة لكلّ موجود منتهية إليه سبحانه، و قد سبق تفسير العزيز في شرح الخطبة الرّابعة و السّتين.
(و قوّة كلّ ضعيف) معنى هذه الفقرة كسابقتها، و قد مرّ تفسير القوى من أسمائه سبحانه في شرح الخطبة الرابعة و السّتين أيضا، و روى أنّ الحسن عليه السّلام قال: واعجبا لنبيّ اللّه لوط إذ قال لقومه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ.
أ تراه أراد ركنا أشدّ من اللّه، و في المجمع عن الصادق عليه السّلام لو يعلم أىّ قوّة له، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحم اللّه أخى لوطا لو يدرى من معه في الحجرة لعلم أنّه منصور حيث (حين خ ل) يقول، لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى الى ركن شديد، أىّ ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة و رواه في عقاب الأعمال عن أبي جعفر عليه السّلام مثله.
(و مفزع كلّ ملهوف) يعني أنه تعالى ملجأ كلّ مضطرّ محزون حال حزنه و اضطراره فيفرّج همّه و يكشف ضرّه و يرفع اضطراره كما قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ و قال: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ.
و هذا العطف يستلزم عموم قدرته و شمول علمه تعالى بشهادة فطرة المضطرّ بنسبة جميع أحوال وجوده إلى جوده و شهادة فطرته أيضا بعلمه بحاله و اطلاعه على ضرورته و وجوه اللهف و الاضطرار غير معدودة، و جهات الحاجة و الافتقار غير محصورة، و لا يقدر الاجابة لها على كثرتها إلّا الحقّ و القادر المطلق، و أما غيره سبحانه فانما يكون مفزعا و ملجئا لمضطرّ لا لكلّ مضطرّ فكونه مفزعا مجاز لا حقيقة و اتّصافه به اضافيّ لا حقيقيّ.
فمفزع جميع العباد في الداهية و الناوية«» ليس إلّا اللّه الحىّ القيّوم السّميع البصير العالم القادر الخبير المجيب الدّعوات الكاشف للكربات المنجح للطّلبات المنفّس لكلّ حزن و همّ المفرّج من كلّ ألم و غمّ و قال تعالى: وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ.
يعني إذا كنتم في البحر و خفتم الغرق ذهب عن خواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلّا إيّاه وحده، فلا ترجون هناك النجاة إلّا من عنده.
روى في التّوحيد انه قال رجل للصّادق عليه السّلام يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر علىّ المجادلون و حيّروني، فقال عليه السّلام: يا عبد اللّه هل ركبت سفينة قطّ قال: بلى، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك قال: بلى، قال: فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك قال: بلى، قال الصادق عليه السّلام: فذلك الشي ء هو اللّه القادر على الانجاء حين لا منجى و على الاغاثة حيث لا مغيث.
و (من تكلّم سمع نطقه و من سكت علم سرّه) يعني أنه سبحانه سميع عليم محيط بما أظهره العبد و أبداه، خبير بما أسّره و أخفاه في حالتي نطقه و سكوته، و هو إشارة إلى عموم علمه و إحاطته سبحانه و عدم التفاوت فيه بين السرّ و الاعلان، و الاظهار و الكتمان و قد مضى تحقيق الكلام في هذا المعنى في شرح الفصل السادس و السّابع من الخطبة الاولى و في شرح الخطبة الرابعة و السّتين.
(و من عاش فعليه رزقه و من مات فاليه منقلبه) يعني أنه مرجع العباد الأحياء منهم و الأموات، و به قيام وجودهم حالتي الحياة و الممات، و تقدّم تحقيق الكلام في الرزق في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين.
(لم ترك العيون فيخبر عنك) التبقات من الغيبة إلى الخطاب، يعنى امتنع الرؤية من العيون لك فامتنع اخبارها عنك، و قد تقدّم بيان وجه امتناع الرؤية في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين، و في اسناد الاخبار إلى العيون توسّع، و المراد نفى امكان الاخبار المستند إلى المشاهدة الحسيّة عنه تعالى.
(بل كنت قبل الواصفين من خلقك) أى بالذات و العلية، و هو وارد في مقام التعليل لنفى الرؤية.
قال الشارح المعتزلي: فان قلت فأىّ منافاة بين هذين الأمرين أليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له، و مع ذلك يدرك بالابصار إذا خلق خلقه ثمّ يصفونه رأى عين قلت بل ههنا منافاة ظاهرة و ذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما و لا عرضا و ما ليس بجسم و لا عرض يستحيل رؤيته فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة (لم تخلق الخلق لوحشة) لاستحالة الاستيحاش كالاستيناس في حقّه سبحانه حسب ما عرفت تفصيلا في شرح الفصل السادس من فصول الخطبة الاولى (و لا استعملتهم لمنفعة) تعود اليك و إنما هى عايدة اليهم لنقصانهم في ذاتهم و لو كانت عايدة اليه سبحانه لزم نقصه في ذاته و استكماله بغيره و هو محال، و قد تقدّم توضيح ذلك في شرح الخطبة الرابعة و الستين و (لا يسبقك من طلبت) أى لا تطلب أحدا فيسبقك و يفوتك (و لا يفلتك من أخذت) أى من أخذته لا يفلت منك بعد أخذه، و الغرض بهذين الوصفين الاشارة إلى كمال قدرته و تمام ملكه، فانّ ملوك الدّنيا أيّهم فرضت ربما يفوت منهم هارب و ينجو من قيد اسرهم المأخوذ بحيلة و نحوها، و أما اللّه العزيز القادر القاهر فلا يمكن في حقّه ذلك.
(و لا ينقص من سلطانك من عصاك و لا يزيد في ملكك من أطاعك) و هو تزيد له سبحانه عن قياس سلطانه و ملكه بسلطنة ملوك الزّمان، فانّ كمال سلطان أحدهم إنما هو بزيادة جنوده و كثرة مطيعيه و قلّة مخالفيه و عصاته، و نقصان سلطانه إنما هو بعكس ذلك، فأما الحقّ تعالى فلمّا كان سلطانه بذاته لا لغيره مالك الملك يعطى الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء و يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء لم يتصوّر خروج العاصي بعصيانه عن كمال سلطانه حتّى يؤثر في نقصانه، و لا طاعة المطيع في ازدياد ملكه حتى تؤثر في زيادته.
و محصلّ ذلك كلّه أنه تعالى كامل من جميع الجهات في ذاته و صفاته بذاته و لذاته و لا حاجة له في عزّه و سلطانه إلى الغير، و لا تأثير للغير في ملكه و سلطنته بالنقصان و الزيادة، و إلّا لزم نقصه في ذاته استكماله بغيره، و هو باطل.
(و لا يردّ أمرك من سخط قضائك) المراد بالأمر هنا الأمر التّكويني المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
و اريد الأمر لكونه بارتفاع الوسايط لا بدّ فيه من وقوع المأمور به لا محالة من غير احتمال تمرّد و عصيان و أما الأمر التشريعي كما في قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ و قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ.
و نحوهما فهو لكونه بالواسطة و على ألسنة الرّسل و الملائكة، فيمكن فيه العصيان و عدم الطّاعة فمعنى قوله: انه لا يردّ أمرك الملزم أى المقدّرات الحادثة على طبق العلم الأزلى من سخط قضائك و كرهه، و قد مرّ في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الاولى ماله ربط بتوضيح المقام، و في هذه الفقرة أيضا دلالة على كمال قدرته و عموم سلطانه لافادته أنّ كلّ ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده، سواء كان محبوبا للعبد أو مبغوضا له كما قال تعالى: وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و قال إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ.
و تخصيص السّاخط للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر لأنّ من شأنه أن لو قدر على ردّ الأمر و القدر لفعل.
(و لا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك) أراد به الأمر التشريعى، و من المعلوم أنّ من تمرّد عن أمره و خالفه اشدّ افتقارا و حاجة إلى غفرانه و رحمته ممن قام بوظايف الطاعة و العبادة، و الأظهر أن يراد به الأعمّ من ذلك، و يكون المعنى أنّ من أدبر و تولّى عن حكمه و لم يرض بقضائه و قدره لا يمكن استغنائه عنه و انقطاع افتقاره منه.
و يوضح ذلك ما رواه الصّدوق في التّوحيد باسناده عن سعد الخفاف عن الأصبغ بن نباته قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام لرجل: ان كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه، و إن كنت و اليت عدوّه فاخرج من ملكه، و إن كنت غير قانع بقضائه و قدره فاطلب ربّا سواه.
(كلّ سرّ عندك علانية و كلّ غيب عندك شهادة) و هما إشارتان إلى عموم علمه و إحاطته، و قد مرّ ذلك في شرح الفصل السّابع من الخطبة الاولى و نقول هنا مضافا إلى ما مرّ: انّ واجب الوجود سبحانه مجرّد غاية التجرّد، و الغيبة و الخفاء إنّما يتصوّران بالنسبة إلى القلوب المحجوبة بحجب الطّبيعة و سترات الهيآت البدنية و الأرواح المستولى عليها نقصان الامكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، و الواجب تعالى لتجرّده و بساطته و منتهى كماله لا يحجبه شي ء عن شي ء و فوق كلّ شي ء ليس فوقه شي ء حتى يقصر عن إدراكه.
(أنت الأبد فلا أمد لك) أى أنت الدّائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك و ذلك لاستلزام وجوب الوجود امتناع العدم و الانتهاء إلى الغاية، و يمكن ان يكون إطلاق الأبد عليه سبحانه من باب المجاز مبالغة في الدّوام، و الأصل أنت ذو الأبد على حدّ قوله: فانما هى إقبال و إدبار، و قوله: فأنت طلاق، و هذا المجاز شايع في عرف العرب.
(و أنت المنتهى فلا محيص عنك) أى إليه مصير الخلائق و وقوفهم عنده و إليه انتهاؤهم و إيابهم فيجزى كلّ أحد ما يستحقّه من الثواب و العقاب، فلا محيد عن حكمه و لا مهرب عن أمره و لا معدل يلجئون إليه كما قال تعالى:
وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى و قال إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (و أنت الموعد فلا منجى منك إلّا إليك) و معناها قريب من سابقتها أى لا مخلص و لا ملجأ لأحد منه سبحانه إلّا إليه، و لا عاصم من عذابه إلّا هو عزّ و جلّ فيعصم منه و يرفعه عنه إما بالتوبة و الانابة، أو بالمنّ و الرّحمة.
(بيدك ناصية كلّ دابّة) أى أنت مالك لها قادر عليها تصرفها كيف تشاء غير مستعصية عليك، فانّ الأخذ بالناصية تمثيل لذلك قال المفسّرون في تفسير قوله سبحانه: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها.
هو تمثيل لغاية التسخير و نهاية التذليل، و كان العرب إذا اسر الأسير فأرادوا إطلاقه و المنّ عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره.
و قال الشارح البحراني: و انما خصت النّاصية لحكم الوهم بأنّه تعالى في جهة فوق فيكون أخذه بالناصية، و لأنها أشرف ما في الدابة فسلطانه تعالى على الأشرف يستلزم القهر و الغلبة و تمام القدرة.
أقول: و الأظهر أنّ تخصيصها من جهة جريان العادة بأنّ الممسك للدابة و المريد لتسخيرها إنّما يستمسك و يقبض ناصيتها بيدها، فأجرى كلامه تعالى و كلام وليّه عليه السّلام على ما هو المتعارف المعتاد.
(و اليك مصير كلّ نسمة) أى مرجع كلّ نفس ثمّ نزّهه سبحانه و قدّسه عن أحكام الأوهام بكونه تعالى مشابها لمدركاتها فقال: (سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك و ما أصغر عظمه في جنب قدرتك) و هو تعجّب في معرض التمجيد من عظم ما يشاهد من مخلوقاته تعالى من الأرض و السّماء و الجوّ و الهواء و النبات و الماء و الشجر و الحجر و الشّمس و القمر و الانسان و الحيوان و البرّ و البحر و اللّيل و النّهار و السّحاب و الغمام و الضّياء و الظّلام إلى غير هذه مما لا ينتهي إلى حدّ و لا يستقصى بعدّ ثمّ من حقارة هذه كلّها بالنسبة إلى ما تعتبره العقول من مقدوراته و ما يمكن في كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية و من البيّن أنّ قياس الموجود على الممكن و نسبته إليه في العظم و الكثرة يستلزم صغره و حقارته ثمّ قال (و ما أهول ما نرى من ملكوتك و ما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك) و هو تعجّب من هول ما وصلت إليه العقول من عظمة ملكوته ثمّ من حقارته بالنسبة إلى ما غاب عنها و خفى عليها مما هو محتجب تحت أستار القدرة و حجبّ العزّة من بدايع الملاء الأعلى و عجائب العالم العلوى و سكّان حظائر القدس.
ثمّ قال (و ما اسبغ نعمك في الدّنيا و ما أصغرها في نعم الآخرة) و هو تعجّب من سبوغ نعمه على عباده في الدّنيا بما لا تحصى ثمّ من حقارتها بالقياس إلى نعم الآخرة و ما أعدّه للمؤمنين فيها من الجزاء الأوفى، فانّ نسبتها إليها نسبة المتناهى إلى ما لا يتناهى كما هو ظاهر لا يخفى.
ثمّ إنّه سلام اللّه عليه و آله لما افتتح كلامه بذكر أوصاف العظمة و الكبرياء للرّب العزيز تبارك و تعالى عقّبه بذكر حالات ملائكة السماء و أنّهم على ما هم عليه من القدس و الطهارة و الفضايل الجمّة و الكمالات الدثرة الّتي فضّلوا بها على الاشباح و الأقران و تميزوا بها عن نوع الانسان، و من العلم و المعرفة التي لهم بخالقهم، و الخوف و الخشية التي لهم من بارئهم، و الخضوع و الخشوع الذى لهم لمعبودهم لم يعبدوه حقّ عبادته و لم يطيعوه حقّ طاعته.
|