العرب تقول لله بلاد فلان- و لله در فلان و لله نادي فلان- و لله نائح فلان- و المراد بالأول لله البلاد التي أنشأته و أنبتته- و بالثاني لله الثدي الذي أرضعه- و بالثالث لله المجلس الذي ربي فيه- و بالرابع لله النائحة التي تنوح عليه و تندبه- ما ذا تعهد من محاسنه- . و يروى لله بلاء فلان أي لله ما صنع- و فلان المكنى عنه عمر بن الخطاب- و قد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن- جامع نهج البلاغة- و تحت فلان عمر-
حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر- و سألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي- فقال لي هو عمر- فقلت له أ يثني عليه أمير المؤمنين ع هذا الثناء- فقال نعم- أما الإمامية فيقولون إن ذلك من التقية- و استصلاح أصحابه- و أما الصالحيون من الزيدية فيقولون- إنه أثنى عليه حق الثناء- و لم يضع المدح إلا في موضعه و نصابه- و أما الجارودية من الزيدية فيقولون- إنه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له- و التنقص لأعماله- كما يمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده- فيكون ذلك تعريضا به- . فقلت له إلا أنه لا يجوز التعريض- و الاستزادة للحاضر بمدح الماضي- إلا إذا كان ذلك المدح صدقا- لا يخالطه ريب و لا شبهة- فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة- و ذهب نقي الثوب قليل العيب- و أنه أدى إلى الله طاعته و اتقاه بحقه- فهذا غاية ما يكون من المدح- و فيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان- . فلم يجبني بشي ء و قال هو ما قلت لك- . فأما الراوندي فإنه قال في الشرح- إنه ع مدح بعض أصحابه بحسن السيرة- و إن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله ص- من الاختيار و الأثرة- . و هذا بعيد لأن لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعارا ظاهرا- بأنه يمدح واليا ذا رعية و سيرة- أ لا تراه كيف يقول- فلقد قوم الأود و داوى العمد- و أقام السنة و خلف الفتنة- و كيف يقول أصاب خيرها و سبق شرها- و كيف يقول أدى إلى الله طاعته- و كيف يقول رحل و تركهم في طرق متشعبة- .
و هذا الضمير و هو الهاء و الميم في قوله ع و تركهم- هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا- و هل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس- و كل من مات قبل وفاة النبي ص كان سوقة لا سلطان له- فلا يصح أن يحمل هذا الكلام- على إرادة أحد من الذين قتلوا- أو ماتوا قبل وفاة النبي ص- كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير- أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث- و غيرهم من الناس- و التأويلات الباردة الغثة لا تعجبني- على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح- بأن المعني بهذا الكلام عمر- قال الطبري لما مات عمر بكته النساء- فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر- حزنا انتشر حتى ملأ البشر- و قالت ابنة أبي حثمة وا عمراه أقام الأود و أبرأ العمد- و أمات الفتن و أحيا السنن- خرج نقي الثوب بريئا من العيب- .
قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال لما دفن عمر أتيت عليا ع- و أنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا- فخرج ينفض رأسه و لحيته و قد اغتسل- و هو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه- فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حثمة- ذهب بخيرها و نجا من شرها- أما و الله ما قالت و لكن قولت
- . و هذا كما ترى يقوي الظن- أن المراد و المعني بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب- .
قوله فلقد قوم الأود أي العوج- أود الشي ء بالكسر يأود أودا أي أعوج- و تأود العود يتأود- . و العمد انفضاخ سنام البعير- و منه يقال للعاشق عميد القلب و معموده- . قوله أصاب خيرها أي خير الولاية- و جاء بضميرها و لم يجر ذكرها- لعادة العرب في أمثال ذلك- كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ- . و سبق شرها أي مات أو قتل قبل الأحداث- و الاختلاط الذي جرى بين المسلمين- . قوله و اتقاه بحقه أي بأداء حقه و القيام به- . فإن قلت و أي معنى في قوله و اتقاه بأداء حقه- و هل يتقى الإنسان الله بأداء الحق- إنما قد تكون التقوى علة في أداء الحق- فأما أن يتقي بأدائه فهو غير معقول- . قلت أراد ع أنه اتقى الله- و دلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه- فأداء الحق علة في علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه- . ثم ذكر أنه رحل و ترك الناس في طرق متشعبة متفرقة- فالضال لا يهتدي فيها- و المهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم- و هذه الصفات إذا تأملها المنصف- و أماط عن نفسه الهوى- علم أن أمير المؤمنين ع لم يعن بها إلا عمر- لو لم يكن قد روي لنا توقيفا و نقلا أن المعني بها عمر- فكيف و قد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب
نكت من كلام عمر و سيرته و أخلاقه
و نحن نذكر في هذا الموضع- نكتا من كلام عمر و سيرته و أخلاقه- .
أتي عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف- يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال- لنائبة تكون أو أمر يحدث- فقال كلمة ما عرض بها إلا شيطان- كفاني حجتها و وقاني فتنتها- أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله- قال الله سبحانه- وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ- . استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا- فكتب إليه عمر اعزله و استعمل بدله حنيفيا- فكتب له أبو موسى- إن من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت- فكتب له عمر ليس لنا أن نأتمنهم و قد خونهم الله- و لا أن نرفعهم و قد وضعهم الله- و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام- و لا أن نعزهم- و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون- . فكتب أبو موسى أن البلد لا يصلح إلا به- فكتب إليه عمر مات النصراني و السلام- . و كتب إلى معاوية إياك و الاحتجاب دون الناس- و ائذن للضعيف و أدنه حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه- و تعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه و دام إذنه- ضعف قلبه و ترك حقه عزل عمر زيادا عن كتابة أبي موسى الأشعري- في بعض قدماته عليه- فقال له عن عجز أم عن خيانة- فقال لا عن واحدة منهما- و لكني أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك- .
و قال إني و الله لا أدع حقا لله لشكاية تظهر- و لا لضب يحتمل و لا محاباة لبشر- و إنك و الله ما عاقبت من عصى الله فيك- بمثل أن تطيع الله فيه- .
و كتب إلى سعد بن أبي وقاص- يا سعد سعد بني أهيب- إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه- فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس- و اعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك- . و سأل رجلا عن شي ء فقال الله أعلم- فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم- إذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أدري- . و قال عبد الملك على المنبر- أنصفونا يا معشر الرعية- تريدون منا سيرة أبي بكر و عمر- و لم تسيروا في أنفسكم و لا فينا سيرة أبي بكر و عمر- نسأل الله أن يعين كلا على كل- . و دخل عمر على ابنه عبد الله- فوجد عنده لحما عبيطا معلقا- فقال ما هذا اللحم قال اشتهيت فاشتريت- فقال أ و كلما اشتهيت شيئا أكلته- كفى بالمرء سرفا أن أكل كل ما اشتهاه- . مر عمر على مزبلة فتأذى بريحها أصحابه- فقال هذه دنياكم التي تحرصون عليها- .
و من كلامه للأحنف- يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته- و من مزح استخف به- و من أكثر من شي ء عرف به- و من كثر كلامه كثر سقطه- و من كثر سقطه قل حياؤه- و من قل حياؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه- . و قال لابنه عبد الله يا بني اتق الله يقك- و أقرض الله يجزك و اشكره يزدك- و اعلم أنه لا مال لمن لا رفق له- و لا جديد لمن لا خلق له و لا عمل لمن لا نية له- . و خطب يوم استخلف- فقال أيها الناس- إنه ليس فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف- حتى آخذ الحق له- و لا أضعف من القوي حتى آخذ الحق منه- .
و قال لابن عباس يا عبد الله- أنتم أهل رسول الله و آله و بنو عمه- فما تقول منع قومكم منكم- قال لا أدري علتها و الله ما أضمرنا لهم إلا خيرا- قال اللهم غفرا- إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة و الخلافة- فتذهبوا في السماء شمخا و بذخا- و لعلكم تقولون إن أبا بكر أول من أخركم- أما إنه لم يقصد ذلك- و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل- و لو لا رأي أبي بكر في لجعل لكم من الأمر نصيبا- و لو فعل ما هنأكم مع قومكم- إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره- . و كان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي- أ حين أقدر فيقال لي لو عفوت- أم حين أعجل فيقال لو صبرت- . و رأى أعرابيا يصلي صلاة خفيفة- فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين- فقال له لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة- . و قيل له كان الناس في الجاهلية- يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم- و لسنا نرى ذلك الآن- قال لأن ذلك كان الحاجز بينهم و بين الظلم- و أما الآن فالساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر- . و من كلامه- من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن- و من كتم سره كانت الخيرة بيده- . ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك- و لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا- و أنت تجد لها في الخير محملا- أو عليك بإخوان الصدق و كيس أكياسهم- فإنهم زينة في الرخاء و عدة عند البلاء- و لا تتهاونن بالخلق فيهينك الله- و لا تعترض بما لا يعنيك- و اعتزل عدوك و تحفظ من خليلك إلا الأمين- فإن الأمين من الناس لا يعادله شي ء- و لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره و لا تفش إليه سرك- و استشر في أمرك أهل التقوى- و كفى بك عيبا أن يبدو لك من أخيك- ما يخفى عليك من نفسك- و أن تؤذي جليسك بما تأتي مثله- .
و قال ثلاث يصفين لك الود في قلب أخيك- أن تبدأه بالسلام إذا لقيته- و أن تدعوه بأحب أسمائه إليه- و أن توسع له في المجلس- . و قال أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي- و إذا أصيخ إليه كان رجلا- . بينا عمر ذات يوم إذا رأى شابا يخطر بيديه- فيقول أنا ابن بطحاء مكة كديها و كداها- فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم- و إن يكن لك عقل فلك مروءة- و إن يكن لك مال فلك شرف- و إلا فأنت و الحمار سواء- .
و قال يا معشر المهاجرين- لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا- و أرباب الإمرة و الولاية- فإنه مسخطة للرب- و إياكم و البطنة فإنها مكسلة عن الصلاة- و مفسدة للجسد مورثة للسقم- و إن الله يبغض الحبر السمين- و لكن عليكم بالقصد في قوتكم- فإنه أدنى من الإصلاح و أبعد من السرف- و أقوى على عبادة الله- و لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه- . و قال تعلموا أن الطمع فقر و أن اليأس غنى- و من يئس من شي ء استغنى عنه- و التؤدة في كل شي ء خير إلا ما كان من أمر الآخرة- . و قال من اتقى الله لم يشف الله غيظه- و من خاف الله لم يفعل ما يريد- و لو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون- . و قال إني لأعلم أجود الناس و أحلم الناس- أجودهم من أعطى من حرمه- و أحلمهم من عفا عمن ظلمه- . و كتب إلى ساكني الأمصار- أما بعد فعلموا أولادكم العوم و الفروسية- رووهم ما سار من المثل و حسن من الشعر- .
و قال لا تزال العرب أعزة ما نزعت في القوس- و نزت في ظهور الخيل- و قال و هو يذكر النساء- أكثروا لهن من قول لا- فإن نعم مفسدة تغريهن على المسألة- . و قال ما بال أحدكم يثني الوسادة عند امرأة معزبة- إن المرأة لحم على وضم إلا ما ذب عنه- .
و كتب إلى أبي موسى أما بعد- فإن للناس نفرة عن سلطانهم- فأعوذ بالله أن يدركني و إياك عمياء مجهولة- و ضغائن محمولة و أهواء متبعة و دنيا مؤثرة- أقم الحدود و اجلس للمظالم و لو ساعة من نهار- و إذا عرض لك أمران أحدهما لله و الآخر للدنيا- فابدأ بعمل الآخرة فإن الدنيا تفنى و الآخرة تبقى- و كن من مال الله عز و جل على حذر- و اجف الفساق و اجعلهم يدا و يدا و رجلا و رجلا- و إذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان- فإنما تلك نجوى الشيطان- فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله- و تكون دعواهم إلى الله و إلى الإسلام- و قد بلغني أن ضبة تدعو يا لضبة- و إني و الله أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط- و لا منع بها من سوء قط- فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم ضربا و عقوبة- حتى يفرقوا إن لم يفقهوا- و الصق بغيلان بن خرشة من بينهم- و عد مرضى المسلمين و اشهد جنائزهم- و افتح لهم بابك و باشر أمورهم بنفسك- فإنما أنت رجل منهم غير إن الله قد جعلك أثقلهم حملا- و قد بلغني أنه فشا لك و لأهل بيتك هيئة في لباسك و مطعمك- و مركبك ليس للمسلمين مثلها- فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة- التي مرت بواد خصيب- فلم يكن لها همة إلا السمن- و إنما حظها من السمن لغيرها- و اعلم أن للعامل مردا إلى الله- فإذا زاغ العامل زاغت رعيته- و إن أشقى الناس من شقيت به نفسه و رعيته و السلام و خطب عمر فقال أما بعد- فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى و يفنى ما سواه- و الذي بطاعته ينفع أولياءه و بمعصيته يضر أعداءه- إنه ليس لهالك هلك عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى- و لا ترك حق حسبه ضلالة- قد ثبتت الحجة و وضحت الطرق- و انقطع العذر و لا حجة لأحد على الله عز و جل- ألا إن أحق ما تعاهد به الراعي رعيته- أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف دينهم- الذي هداهم به- و إنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته- و ننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته- و أن نقيم أمر الله في قريب الناس و بعيدهم- و لا نبالى على من قال الحق- ليتعلم الجاهل و يتعظ المفرط و يقتدي المقتدي- و قد علمت أن أقواما يتمنون في أنفسهم- و يقولون نحن نصلي مع المصلين- و نجاهد مع المجاهدين- إلا أن الإيمان ليس بالتمني و لكنه بالحقائق- إلا من قام على الفرائض و سدد نيته و اتقى الله- فذلكم الناجي- و من زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا- . و إنما المجاهدون الذين جاهدوا أهواءهم- و الجهاد اجتناب المحارم- ألا إن الأمر جد- و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الذكر- و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الأجر- و إن الله يرضى منكم باليسير- و أثابكم على اليسير الكثير- . الوظائف الوظائف أدوها تؤدكم إلى الجنة- و السنة السنة الزموها تنجكم من البدعة- . تعلموا و لا تعجزوا فإن من عجز تكلف- و إن شرار الأمور محدثاتها- و إن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة- فافهموا ما توعظون به- فإن الحريب من حرب دينه- و إن السعيد من وعظ بغيره- . و قال و عليكم بالسمع و الطاعة فإن الله قضى لهما بالعزة- و إياكم و التفرق و المعصية فإن الله قضى لهما بالذلة- . أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم- . بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر- قباء كسرى و سيفه و منطقته-
و سراويله و تاجه و قميصه و خفيه- فنظر عمر في وجوه القوم عنده- فكان أجسمهم و أمدهم قامة- سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي- فقال يا سراق قم فالبس- قال سراقة طمعت فيه فقمت فلبست- فقال أدبر فأدبرت و قال أقبل فأقبلت- فقال بخ بخ أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى- و سراويله و سيفه و منطقته و تاجه و خفاه- رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا- من متاع كسرى و آل كسرى- لكان شرفا لك و لقومك- انزع فنزعت- فقال اللهم إنك منعت هذا نبيك و رسولك- و كان أحب إليك مني و أكرم- و منعته أبا بكر و كان أحب إليك مني و أكرم- ثم أعطيتنيه- فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي- ثم بكى حتى رحمه من كان عنده- .
و قال لعبد الرحمن بن عوف- أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي- فما أدركه المساء إلا و قد بيع و قسم ثمنه على المسلمين- . جي ء بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته- للجواهر التي كانت عليه- فقال إن قوما أدوا هذا لأمناء- فقال علي ع إنك عففت فعفوا و لو رتعت لرتعوا- . كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقة من التجار بالمصلى- فقال لعبد الرحمن بن عوف- هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق- فباتا يحرسانهم و يصليان ما كتب الله لهما- فسمع عمر بكاء صبي فأصغى نحوه- فطال بكاؤه فتوجه إليه- فقال لأمه اتقي الله و أحسني إلى صبيك- ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه- فقال لها مثل ذلك ثم عاد إلى مكانه- فسمع بكاءه فأتى أمه فقال ويحك إني لأراك أم سوء- لا أرى ابنك يقر منذ الليلة- فقالت يا عبد الله لقد آذيتني منذ الليلة- إني أريغه على الفطام فيأبى- قال و لم قالت لأن عمر لا يفرض لرضيع- و إنما يفرض للفطيم- قال و كم له قالت اثنا عشر شهرا- قال ويحك لا تعجليه- فصلى الفجر و ما يستبين الناس قراءته- من غلبة البكاء عليه- فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم- كم قتل من أولاد المسلمين- فطلب مناديا فنادى ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع- و لا تفطموا قبل أوان الفطام- فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام- . و كتب بذلك إلى سائر الآفاق- . مر عمر بشاب من الأنصار و هو ظمآن- فاستسقاه فخاض له عسلا- فرده و لم يشرب و قال إني سمعت الله سبحانه يقول- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها- فقال الفتى إنها و الله ليست لك- فاقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها- وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- أ فنحن منهم فشرب و قال كل الناس أفقه من عمر- .
و أوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة- من يستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى- فقال أوصيك بتقوى الله لا شريك له- و أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا- أن تعرف لهم سابقتهم و أوصيك بالأنصار خيرا- أقبل من محسنهم و تجاوز عن مسيئهم- و أوصيك بأهل الأمصار خيرا- فإنهم ردء العدو و جباة الفي ء- لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن فضل منهم- و أوصيك بأهل البادية خيرا- فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام- أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم- و أوصيك بأهل الذمة خيرا- أن تقاتل من ورائهم و لا تكلفهم فوق طاقتهم- إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد و هم صاغرون- . و أوصيك بتقوى الله- و شدة الحذر منه و مخافة مقته- أن يطلع منك على ريبة- و أوصيك أن تخشى الله في الناس- و لا تخشى الناس في الله- و أوصيك بالعدل في الرعية- و التفرغ لحوائجهم و ثغورهم- و ألا تعين غنيهم على فقيرهم- فإن في ذلك بإذن الله سلامة لقلبك- و حطا لذنوبك و خيرا في عاقبة أمرك- و أوصيك أن تشتد في أمر الله و في حدوده- و الزجر عن معاصيه على قريب الناس و بعيدهم- و لا تأخذك الرأفة و الرحمة في أحد منهم- حتى تنتهك منه مثل جرمه- و اجعل الناس عندك سواء- لا تبال على من وجب الحق- لا تأخذك في الله لومة لائم- و إياك و الأثرة و المحاباة فيما ولاك الله- مما أفاء الله على المسلمين- فتجور و تظلم- و تحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك- فإنك في منزلة من منازل الدنيا- و أنت إلى الآخرة جد قريب- فإن صدقت في دنياك عفة و عدلا فيما بسط لك- اقترفت رضوانا و إيمانا- و إن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله و مقته- .
و أوصيك ألا ترخص لنفسك و لا لغيرك في ظلم أهل الذمة- . و اعلم أني قد أوصيتك و خصصتك و نصحت لك- أبتغي بذلك وجه الله و الدار الآخرة- و دللتك على ما كنت دالا عليه نفسي- فإن عملت بالذي وعظتك و انتهيت إلى الذي أمرتك- أخذت منه نصيبا وافرا و حظا وافيا- و إن لم تقبل ذلك و لم تعمل- و لم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضي الله به سبحانه عنك- يكن ذاك بك انتقاصا و يكن رأيك فيه مدخولا- فالأهواء مشتركة- و رأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة- قد أضل القرون السالفة قبلك و أوردهم النار- و لبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه- موالاة عدو الله الداعي إلى معاصيه اركب الحق و خض إليه الغمرات- و كن واعظا لنفسك- .
و أنشدك لما ترحمت إلى جماعة المسلمين- و أجللت كبيرهم و رحمت صغيرهم- و قربت عالمهم- لا تضربهم فيذلوا و لا تستأثر عليهم بالفي ء فتغضبهم- و لا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم- و لا تجمرهم في البعوث فتقطع نسلهم- و لا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم- و لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم- . هذه وصيتي إياك و أشهد الله عليك- و أقرأ عليك السلام و الله على كل شي ء شهيد- . و خطب عمر فقال- لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها- صداق زوجات رسول الله ص- إلا ارتجعت ذلك منها- فقامت إليه امرأة- فقالت و الله ما جعل الله ذلك لك إنه تعالى يقول- وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً- فقال عمر أ لا تعجبون من إمام أخطأ- و امرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته- .
و كان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا- فارتاب و تسور فرأى رجلا عند امرأة و زق خمر- فقال يا عدو الله- أ ظننت أن الله يسترك و أنت على معصيته- فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين- إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث- قال الله تعالى- وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست- و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و قد تسورت- و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت- فقال هل عندك من خير إن عفوت عنك- قال نعم و الله لا أعود- فقال اذهب فقد عفوت عنك- . و خطب يوما- فقال أيها الناس ما الجزع مما لا بد منه- و ما الطمع فيما لا يرجى و ما الحيلة فيما سيزول- و إنما الشي ء من أصله- و قد مضت قبلكم الأصول و نحن فروعها- فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله- . إنما الناس في هذه الدنيا أغراض- تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب- في كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص- لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى- و لا يستقبل معمر من عمره يوما- إلا بهدم آخر من أجله- و هم أعوان الحتوف على أنفسهم- فأين المهرب مما هو كائن- ما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غدا- و ما أعظم خيبة الخائب و خسران الخاسر- يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ- . و أكثر الناس روى هذا الكلام لعلي ع- و قد ذكره صاحب نهج البلاغة و شرحناه فيما سبق- . حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو و مولى له- فنظر إلى الإبل فاستكثرها- فجعل يقول الحمد لله يكررها و يرددها- و جعل مولاه يقول هذا من فضل الله و رحمته- و يكررها و يرددها- .
فقال عمر كذبت لا أم لك- أظنك ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه-
بقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا- و إنما ذلك الهدى- أ ما تسمعه يقول هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ- و هذا مما يجمعون- . و روى الأحنف بن قيس- قال قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به- فقال أين نزلتم قلنا في مكان كذا- فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ ركابنا- و قد أضعفها الكلال و جهدها السير- فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه- أ ما علمتم أن لها عليكم حقا هلا احترموها- هلا حللتم بها فأكلت من نبات الأرض- فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم- فأحببنا التسرع إليك و إلى المسلمين بما يسرهم- . فانصرف راجعا و نحن معه- فأتى رجل فقال يا أمير المؤمنين إن فلانا ظلمني- فأعدني عليه فرفع في السماء درته- و ضرب بها رأسه- و قال تدعون عمر و هو معرض لكم- حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني- فانصرف الرجل يتذمر- فقال عمر علي بالرجل فجي ء به فألقى إليه المخفقة- فقال اقتص قال بل أدعه لله و لك- قال ليس كذلك بل تدعه إما لله و إرادة ما عنده- و إما تدعه لي- قال أدعه لله قال انصرف- ثم جاء حتى دخل منزله و نحن معه- فصلى ركعتين خفيفتين- ثم جلس فقال يا ابن الخطاب- كنت وضيعا فرفعك الله- و كنت ضالا فهداك الله- و كنت ذليلا فأعزك الله- ثم حملك على رقاب الناس- فجاء رجل يستعديك على من ظلمه فضربته- ما ذا تقول لربك غدا- فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض- .
و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث- أن رجلا أتى عمر يسأله و يشكو إليه الفقر- فقال هلكت يا أمير المؤمنين- فقال أ هلكت و أنت تنث نثيث الحميت أعطوه- فأعطوه ربعة من مال الصدقة تبعها ظئراها- ثم أنشأ يحدث عن نفسه- فقال لقد رأيتني و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا- قد ألبستنا أمنا نقبتها- و زودتنا يمنتيها هبيدا فنخرج بناضحنا- فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي- و خرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا- و قد جعلت لنا لفيته من ذلك الهبيد فيا خصباه- . و روى ابن عباس رضي الله عنه- قال دخلت على عمر في أول خلافته- و قد ألقي له صاع من تمر على خصفة- فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة- و أقبل يأكل حتى أتى عليه- ثم شرب من جر كان عنده- و استلقى على مرفقه له و طفق يحمد الله يكرر ذلك- ثم قال من أين جئت يا عبد الله قلت من المسجد- قال كيف خلفت ابن عمك- فظننته يعنى عبد الله بن جعفر- قلت خلفته يلعب مع أترابه- قال لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت- قلت خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان- و هو يقرأ القرآن- قال يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها- هل بقي في نفسه شي ء من أمر الخلافة قلت نعم- قال أ يزعم أن رسول الله ص نص عليه قلت نعم- و أزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال صدق- فقال عمر لقد كان من رسول الله ص في أمره ذرو من قول- لا يثبت حجة و لا يقطع عذرا- و لقد كان يربع في أمره وقتا ما- و لقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه- فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام- لا و رب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا- و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها- فعلم رسول الله ص أني علمت ما في نفسه- فأمسك و أبى الله إلا إمضاء ما حتم- .
ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر- صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا- . ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فأتى أهلها عمر- فقالوا إنه قد ضيق علينا الوادي و أسال علينا الماء- فأتاه عمر فقال خذ هذا الحجر فضعه هناك- و ارفع هذا و اخفض هذا ففعل- فقال الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح مكة- . و قال عمر- و الله لقد لان قلبي في الله حتى لهو ألين من الزبد- و لقد اشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر- . كان عمر إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه- و قال اللهم أعني عليهما- فإن كلا منهما يريدني عن ديني- .
و خطب عمر فقال أيها الناس- إنما كنا نعرفكم و النبي ص بين أظهرنا- إذ ينزل الوحي و إذ ينبئنا الله من أخباركم- ألا و إن النبي ص قد انطلق و الوحي قد انقطع- و إنما نعرفكم بما يبدو منكم- من أظهر خيرا ظننا به خيرا و أحببناه عليه- و من أظهر شرا ظننا به شرا و أبغضناه عليه- سرائركم بينكم و بين ربكم- ألا إنه قد أتى علي حين- و أنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد- إلا يريد به وجه الله و ما عند الله- و قد خيل إلي بأخرة- أن رجالا قد قرءوه يريدون به ما عند الناس- فأريدوا الله بقراءتكم و أريدوا الله بأعمالكم- . ألا و إني لا أرسل عمالي إليكم أيها الناس- ليضربوا أبشاركم- و لا ليأخذوا أموالكم- و لكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم و سنتكم- فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي لأقتص له- فقد رأيت رسول الله ص يقتص من نفسه- . ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم- و لا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم- و لا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم- .
و قال مرة قد أعياني أهل الكوفة- إن استعملت عليهم لينا استضعفوه- و إن استعملت عليهم شديدا شكوه- و لوددت أني وجدت رجلا قويا أمينا استعمله عليهم- فقال له رجل- أنا أدلك يا أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين- قال من هو قال عبد الله بن عمر- قال قاتلك الله و الله ما أردت الله بها- لاها الله لا أستعمله عليها و لا على غيرها- و أنت فقم فاخرج فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق- فقام الرجل و خرج- . و كتب إلى سعد بن أبي وقاص- أن شاور طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب- فإن كل صانع أعلم بصنعته- و لا تولهما من أمر المسلمين شيئاو غضب عمر على بعض عماله- فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له- فكلمته فيه فغضب- و قال و فيم أنت من هذا يا عدوة الله- إنما أنت لعبة نلعب بك و تفركين- . و من كلامه أشكو إلى الله جلد الخائن و عجز الثقة- . قال عمرو بن ميمون- لقد رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام- واقفا على حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف- و هو يقول لهما- أ تخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه- فقالا لا إنما حملناها أمرا هي له مطيقة- فأعاد عليهما القول- انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه- فقالا لا فقال عمر- إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبدا- فما أتت عليه رابعة حتى أصيب- . كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا- و أشهد عليه رهطا من المسلمين- ألا يركب برذونا و لا يأكل نقيا- و لا يلبس رقيقا و لا يغلق بابه دون حاجات المسلمين- ثم يقول اللهم اشهد- . و استعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان- فبلغه عنه الشعر الذي قاله و هو-
- و من مبلغ الحسناء أن حليلهابميسان يسقى من زجاج و حنتم
- إذا شئت غنتني دهاقين قريةو صناجة تحدو على كل منسم
- فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقنيو لا تسقني بالأصغر المتثلم
- لعل أمير المؤمنين يسوءهتنادمنا بالجوسق المتهدم
فكتب إليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ- غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ- ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ- أما بعد فقد بلغني قولك-
لعل أمير المؤمنين يسوءه
- البيت و ايم الله إنه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك- . فلما قدم عليه- قال يا أمير المؤمنين و الله ما شربتها قط- و إنما هو شعر طفح على لساني و إني لشاعر- . فقال عمر أظن ذاك و لكن لا تعمل لي على عمل أبدا- . استعمل عمر رجلا من قريش على عمل- فبلغه عنه أنه قال-
- اسقني شربة تروي عظاميو اسق بالله مثلها ابن هشام
- فأشخصه إليه و فطن القرشي فضم إليه بيتا آخر- فلما مثل بين يديه قال له أنت القائل-
اسقني شربة تروي عظامي
قال نعم يا أمير المؤمنين فهلا أبلغك الواشي ما بعده- قال ما الذي بعده قال-
- عسلا باردا بماء غمامإنني لا أحب شرب المدام
- قال آلله آلله ثم قال ارجع إلى عملك- .
قال عمر أيما عامل من عمالي ظلم أحدا- ثم بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته- . و قال للأحنف بن قيس- و قد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا- يا أحنف إني قد خبرتك و بلوتك فرأيت علانيتك حسنة- و أنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك- و إن كنا لنحدث أنه إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم- . و كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص- أن مترس بالفارسية هو الأمان- فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد أمنتموه- . و قال لأمير من أمراء الشام- كيف سيرتك كيف تصنع في القرآن و الأحكام- فأخبره فقال أحسنت اذهب فقد أقررتك على عملك- فلما ولي رجع فقال يا أمير المؤمنين- إني رأيت البارحة رؤيا أقصها عليك- رأيت الشمس و القمر يقتتلان- و مع كل واحد منهما جنود من الكواكب- فقال فمع أيهما كنت قال مع القمر- فقال قد عزلتك قال الله تعالى- وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ- وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- . كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل- فقال ويل لك يا عمر من النار- فقال قربوه إلي فدنا منه فقال لم قلت لي ما قلت- قال تستعمل عمالك و تشترط عليهم- ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا- قال و ما ذاك قال عاملك على مصر اشترطت عليه- فترك ما أمرته به و ارتكب ما نهيته عنه- ثم شرح له كثيرا من أمره- فأرسل عمر رجلين من الأنصار- فقال لهما انتهيا إليه فاسألا عنه- فإن كان كذب عليه فأعلماني- و إن رأيتما ما يسوءكما- فلا تملكاه من أمره شيئا حتى تأتيا به- فذهبا فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه- فجاءا إلى بابه فاستأذنا عليه- فقال حاجبه إنه ليس عليه اليوم إذن- قالا ليخرجن إلينا أو لنحرقن عليه بابه- و جاء أحدهما بشعلة من نار- فدخل الآذن فأخبره فخرج إليهما- قالا إنا رسولا عمر إليك لتأتيه- قال إن لنا حاجة تمهلانني لأتزود- قالا إنه عزم علينا ألا نمهلك فاحتملاه فأتيا به عمر- فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه- و قال من أنت و كان رجلا أسمر- فلما أصاب من ريف مصر ابيض و سمن- فقال أنا عاملك على مصر أنا فلان- قال ويحك ركبت ما نهيت عنه و تركت ما أمرت به- و الله لأعاقبنك عقوبة أبلغ إليك فيها- ائتوني بكساء من صوف و عصا- و ثلاثمائة شاة من غنم الصدقة- فقال البس هذه الدراعة- فقد رأيت أباك و هذه خير من دراعته- و خذ هذه العصا فهي خير من عصا أبيك- و اذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا- و ذلك في يوم صائف- و لا تمنع السابلة من ألبانها شيئا إلا آل عمر- فإني لا أعلم أحدا من آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة- و لحومها شيئا- . فلما ذهب رده- و قال أ فهمت ما قلت فضرب بنفسه الأرض- و قال يا أمير المؤمنين لا أستطيع هذا- فإن شئت فاضرب عنقي- قال فإن رددتك فأي رجل تكون- قال و الله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب- فرده فكان نعم الرجل- و قال عمر و الله لا أنزعن فلانا من القضاء- حتى أستعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق- . و روى عبد الله بن بريدة- قال بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب متجاف- و امرأة تغني نسوة-
- هل من سبيل إلى خمر فأشربهاأم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فقال عمر أما ما عشت فلا- . فلما أصبح دعا نصر بن حجاج- و هو نصر بن الحجاج بن علابط البهزي السلمي- فأبصره و هو من أحسن الناس وجها- و أصبحهم و أملحهم حسنا فأمر أن يطم شعره- فخرجت جبهته فازداد حسنا- فقال له عمر اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته- فأمر بحلقها فازداد حسنا- فقال له فتنت نساء المدينة يا ابن حجاج- لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها- ثم سيره إلى البصرة- . فروى الأصمعي- قال أبرد عمر بريدا إلى عتبة بن أبي سفيان بالبصرة- فأقام بها أياما ثم نادى منادي عتبة- من أراد أن يكتب إلى أهله بالمدينة- أو إلى أمير المؤمنين شيئا- فليكتب فإن بريد المسلمين خارج- . فكتب الناس و دس نصر بن حجاج كتابا فيه- لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجاج- سلام عليك أما بعد يا أمير المؤمنين-
- لعمري لئن سيرتني أو حرمتنيلما نلت من عرضي عليك حرام
- أ إن غنت الذلفاء يوما بمنيةو بعض أماني النساء غرام
- ظننت بي الظن الذي ليس بعدهبقاء فما لي في الندي كلام
- و أصبحت منفيا في غير ريبةو قد كان لي بالمكتين مقام
- سيمنعني مما تظن تكرميو آباء صدق سالفون كرام
- و يمنعها مما تمنت صلاتهاو حال لها في دينها و صيام
- فهاتان حالانا فهل أنت راجعفقد جب مني كاهل و سنام
- فقال عمر أما ولي ولاية فلا- و أقطعه أرضا بالبصرة و دارا- . فلما قتل عمر ركب راحلته و لحق بالمدينة- . و ذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالي- قال كان عمر أصلع- فلما حلق وفرة نصر بن حجاج قال نصر و كان شاعرا-
- تضن ابن خطاب علي بجمةإذا رجلت تهتز هز السلاسل
- فصلع رأسا لم يصلعه ربهيرف رفيفا بعد أسود جائل
- لقد حسد الفرعان أصلع لم يكنإذا ما مشى بالفرع بالمتخايل
- . محمد بن سعيد- قال بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة- إذ سمع امرأة تهتف من خدرها-
- هل من سبيل إلى خمر فأشربهاأم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
- إلى فتى ماجد الأعراق مقتبلسهل المحيا كريم غير ملجاج
- تنميه أعراق صدق حين تنسبهأخي قداح عن المكروب فراج
- سامي النواظر من بهز له قدمتضي ء صورته في الحالك الداجي
فقال عمر- ألا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن- علي بنصر بن حجاج فأتي به- فإذا هو أحسن الناس وجها و عينا و شعرا- فأمر بشعره فجز- فخرجت له وجنتان كأنه قمر- فأمره أن يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه- فقال عمر لا و الله لا تساكنني بأرض أنا بها- قال و لم يا أمير المؤمنين قال هو ما أقول لك- فسيره إلى البصرة- . و خافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع- أن يبدر إليها منه شي ء فدست إليه أبياتا-
- قل للأمير الذي تخشى بوادرهما لي و للخمر أو نصر بن حجاج
- إني بليت أبا حفص بغيرهماشرب الحليب و طرف فاتر ساج
- لا تجعل الظن حقا أو تبينهإن السبيل سبيل الخائف الراجي
- ما منية قلتها عرضا بضائرةو الناس من هالك قدما و من ناج
- إن الهوى رعية التقوى تقيدهحتى أقر بإلجام و إسراج
- فبكى عمر- و قال الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى- . و أتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها- فتعرضت لعمر بين الأذان و الإقامة- فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به- و قالت يا أمير المؤمنين لأجاثينك غدا بين يدي الله عز و جل- و لأخاصمنك إليه- يبيت عاصم و عبد الله إلى جانبيك- و بيني و بين ابني الفيافي و القفار و المفاوز و الجبال- قال من هذه قيل أم نصر بن حجاج- فقال يا أم نصر- إن عاصما و عبد الله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور- . و يروى أن نصر بن الحجاج- لما سيره عمر إلى البصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمي- و كان خليفة أبي موسى عليها- و كانت له امرأة شابة جميلة فهويت نصرا و هويها- فبينا الشيخ جالس و نصر عنده إذ كتب في الأرض شيئا- فقرأته المرأة فقالت أنا و الله- فقال مجاشع ما قال لك- قالت إنه قال ما أصفى لقحتكم هذه- فقال مجاشع إن الكلمة التي قلت ليست أختا لهذا الكلام- عزمت عليك لما أخبرتني- قالت إنه قال ما أحسن سوار ابنتكم هذه- قال و لا هذه فإنه كتب في الأرض- فرأى الخط فدعا بإناء فوضعه عليه- ثم أحضر غلاما من غلمانه- فقال اقرأ فقرأه و إذا هو أنا و الله أحبك- فقال هذه لهذه- اعتدي أيتها المرأة و تزوجها يا ابن أخي إن أردت- . ثم غدا على أبي موسى فأخبره- فقال أبو موسى أقسم ما أخرجه عمر عن المدينة من خير- ثم طرده إلى فارس و عليها عثمان بن أبي العاص الثقفي- فنزل على دهقانة فأعجبها فأرسلت إليه- فبلغ خبرها عثمان- فبعث إليه أن اخرج عن أرض فارس- فإنك لم تخرج عن المدينة و البصرة من خير- فقال و الله لئن أخرجتموني لألحقن ببلاد الشرك- فكتب بذلك إلى عمر- فكتب أن جزوا شعره و شمروا قميصه و ألزموه المساجد- .
و روى عبد الله بن بريدة أن عمر خرج ليلا يعس- فإذا نسوة يتحدثن- و إذا هن يقلن أي فتيان المدينة أصبح- فقالت امرأة منهن أبو ذؤيب و الله- فلما أصبح عمر سأل عنه فإذا هو من بني سليم- و إذا هو ابن عم نصر بن حجاج- فأرسل إليه فحضر فإذا هو أجمل الناس و أملحهم- فلما نظر إليه قال أنت و الله ذئبها- يكررها و يرددها- لا و الذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا- . فقال يا أمير المؤمنين إن كنت لا بد مسيري- فسيرني حيث سيرت ابن عمي نصر بن حجاج- فأمر بتسييره إلى البصرة فأشخص إليها- . خطب عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر- فقال إن الله تعالى نهج سبيله و كفانا برسوله- فلم يبق إلا الدعاء و الاقتداء- الحمد لله الذي ابتلاني بكم و ابتلاكم بي- و أبقاني فيكم بعد صاحبي- و أعوذ بالله أن أزل أو أضل- فأعادي له وليا أو أوالي له عدوا- ألا إني و صاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة- فأخذ أحدهم مهلة إلى داره و قراره- فسلك أرضا مضيئة متشابهة الأعلام- فلم يزل عن الطريق و لم يحرم السبيل- حتى أسلمه إلى أهله- ثم تلاه الآخر فسلك سبيله و اتبع أثره- فأفضى إليه و لقي صاحبه ثم تلاهما الثالث- فإن سلك سبيلهما و اتبع أثرهما أفضى إليهما و لاقاهما- و إن زل يمينا أو شمالا لم يجامعهما أبدا- . ألا و إن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه- ألا و إني حامله على المحجة و مستعين بالله عليه- . ألا و إني داع فأمنوا اللهم إني شحيح فسخني- اللهم إني غليظ فليني اللهم إني ضعيف فقوني- اللهم أوجب لي بموالاتك- و موالاة أوليائك ولايتك و معونتك- و أبرئني
من الآفات بمعاداة أعدائك- و توفني مع الأبرار و لا تحشرني في زمرة الأشقياء- اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى- و لا تقلل لي فأشقى- فإن ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى- . وفد على عمر قوم من أهل العراق- منهم جرير بن عبد الله فأتاهم بجفنة قد صبغت بخل و زيت- و قال خذوا فأخذوا أخذا ضفيفا- فقال ما بالكم تقرمون قرم الشاة الكسيرة- أظنكم تريدون حلوا و حامضا و حارا و باردا- ثم قذفا في البطون- لو شئت أن أدهمق لكم لفعلت- و لكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا- و لو شئنا أن نأمر بصغار الضأن فتسمط- و لبأت الخبز فيخبز- و نأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان- حتى إذا صار مثل عين اليعقوب- أكلنا هذا و شربنا هذا لفعلت- و الله إني ما أعجز عن كراكر- و أسنمة و صلائق و صناب- لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم أمرا فعلوه- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- و إني نظرت في هذا الأمر-
فجعلت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة- و إن أردت الآخرة أضررت بالدنيا- و إذا كان الأمر هكذا فأضروا بالفانية- . خرج عمر يوما إلى المسجد- و عليه قميص في ظهره أربع رقاع- فقرأ حتى انتهى إلى قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا- فقال ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف- و ما عليك يا ابن الخطاب ألا تدري ما الأب- . و جاء قوم من الصحابة إلى حفصة- فقالوا لو كلمت أباك في أن يلين من عيشه- لعله أقوى له على النظر في أمور المسلمين- فجاءته فقالت- إن ناسا من قومك كلموني- في أن أكلمك في أن تلين من عيشك- فقال يا بنية غششت أباك و نصحت لقومك- .
و روى سالم بن عبد الله بن عمر- قال لما ولي عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كان فرضه لنفسه- فاشتدت حاجته فاجتمع نفر من المهاجرين- منهم علي و عثمان و طلحة و الزبير- و قالوا لو قلنا لعمر يزيد في رزقه- فقال عثمان إنه عمر- فهلموا فلنستبن ما عنده من وراء وراء- نأتي حفصة فنكلمها و نستكتمها أسماءنا- فدخلوا عليها و سألوها أن تكلمه- و لا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل- فلقيت عمر في ذلك فرأت الغضب في وجهه- و قال من أتاك قالت لا سبيل إلى ذلك- فقال لو علمت من هم لسؤت أوجههم- أنت بيني و بينهم- نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله ص- في بيتك من الملبس- قالت ثوبان ممشقان كان يلبسهما للوفد- و يخطب فيهما في الجمع- قال فأي طعام ناله عندك أرفع- قالت خبزنا مرة خبزة شعير- فصببت عليها و هي حارة أسفلها عكة لنا- كان فيها سمن و عسل- فجعلتها هشة حلوة دسمة- فأكل منها فاستطابها- قال فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ- قالت كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخينا- فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه و تدثرنا بنصفه- قال فأبلغيهم أن رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها- و تبلغ ما أبر- و إني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها- و لأتبلغن ما أبر حبة وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق- فوضع لهم بسطا من عباء- و قدم إليهم طعاما غليظا- فقالت له ابنته حفصة أم المؤمنين- إنهم وجوه الناس و كرام العرب- فأحسن كرامتهم- فقال يا حفصة أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله ص- و أطيب طعام أكله عندك- قالت أصبنا كساء ملبدا عام خيبر- فكنت أفرشه له فينام عليه- و إني رفعته ليلة- فلما أصبح قال ما كان فراشي الليلة- قلت فراشك كل ليلة- إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ- فقال أعيديه لحالته الأولى فإن وطاءته منعتني الليلة من الصلاة- .
و كان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما و طبخته له- و كان لنا قعب من سمن فصببته عليه- فبينا هو ع يأكل إذ دخل أبو الدرداء- فقال أرى سمنكم قليلا و إن لنا لقعبا من سمن- قال ع فأرسل فأت به- فجاء به فصبه عليه فأكل- فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله ص- . فأرسل عمر عينيه بالبكاء- و قال لها و الله لا أزيدهم على ذلك العباء- و ذلك الطعام
شيئا- و هذا فراش رسول الله ص و هذا طعامه- . لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان أتي بالخبيص- فلما أكله وجد شيئا حلوا طيبا- فقال لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين- فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين- و حملهما على بعيرين إلى المدينة- فقال عمر ما هذا قالوا الخبيص فذاقه فوجده حلوا- فقال للرسول ويحك أ كل المسلمين عندكم يشبع من هذا- قال لا قال فارددهما- ثم كتب إلى عتبة أما بعد- فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك و لا من كد أمك- أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك- و لا تستأثر فإن الأثرة شر و السلام- . و روى عتبة بن مرثد أيضا- قال قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال عظام- فقال ما هذه قلت طعام طيب أتيتك به- قال ويحك و لم خصصتني به- قلت أنت رجل تقضي حاجات الناس أول النهار- فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيب- فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك- فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب- فقال عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت- إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله- قلت و الذي يصلحك يا أمير المؤمنين- لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك- قال فلا حاجة لي فيه إذا- ثم دعا بقصعة من ثريد و لحم غليظ و خبز خشن- فقال كل ثم جعل يأكل أكلا شهيا- و جعلت أهوى إلى البضعة البيضاء- أحسبها سناما و إذا هي عصبة- و أهوى إلى البضعة من اللحم أمضغها
فلا أسيغها- و إذا هي من علباء العنق- فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان و القصعة- فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلا- فقال اشرب فلم أستطعه و لم أسغه أن أشرب- فشرب ثم نظر إلي- و قال ويحك إنه ليس بدرمك العراق و ودكه- و لكن ما تأكله أنت و أصحابك- . ثم قال اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا- فأما أوراكها و ودكها و أطائبها- فلمن حضرنا من المهاجرين و الأنصار- و أما عنقها فلآل عمر- و أما عظامها و أضلاعها فلفقراء المدينة- نأكل من هذا اللحم الغث- و نشرب من هذا النبيذ الخاثر- و ندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت- و تضع كل ذات حمل حملها- . حضر عند عمر قوم من الصحابة فأثنوا عليه- و قالوا و الله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط- و لا أقول بالحق و لا أشد على المنافقين منك- إنك لخير الناس بعد رسول الله ص- . فقال عوف بن مالك كذبتم و الله- أبو بكر بعد رسول الله خير أمته رأينا أبا بكر- . فقال عمر صدق عوف و الله و كذبتم- لقد كان أبو بكر و الله أطيب من ريح المسك- و أنا أضل من بعير أهلي- . لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية- كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية- من حين يصبح إلى انتصاف النهار- ثم يرجع إلى أهله فلما جاء البشير بالفتح-
لقيه كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره- فجعل يقول يا عبد الله إيه حدثني- فيقول له هزم الله العدو- و عمر يحث معه و يسأله و هو راجل- و البشير يسير على ناقته و لا يعرفه- فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه- بإمرة المؤمنين و يهنئونه- فنزل الرجل و قال هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله- و جعل عمر يقول لا عليك يا ابن أخي لا عليك يا ابن أخي- .
و روى أبو العالية الشامي- قال قدم عمر الجابية على جمل أورق- تلوح صلعته ليس عليه قلنسوة- تصل رجلاه بين شعبتي رحله بغير ركاب- وطاؤه كساء أنبجاني كثير الصوف- و هو وطاؤه إذا ركب و فراشه إذا نزل- و حقيبته نمرة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب- و وسادته إذا نزل- و عليه قميص من كرابيس قد دسم و تخرق جيبه- فقال ادعوا إلي رأس القرية- فدعوه له فقال اغسلوا قميصي هذا و خيطوه- و أعيروني قميصا ريثما يجف قميصي- فأتوه بقميص كتان فعجب منه- فقال ما هذا قالوا كتان- قال و ما الكتان فأخبروه فلبسه ثم غسل قميصه- و أتي به فنزع قميصهم و لبس قميصه- فقال له رأس القرية أنت ملك العرب- و هذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل- فأتي ببرذون- فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه- فهملج تحته فقال للناس احبسوا فحبسوه- فقال ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا- قدموا لي جملي فجي ء به فنزل عن البرذون و ركبه- .
قدم عمر الشام- فلقيه أمراء الأجناد و عظماء تلك الأرض- فقال و أين أخي قالوا من هو- قال أبو عبيدة قالوا سيأتيك الآن- فجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبل- فسلم عليه و رد له ثم قال للناس انصرفوا عنا- فسار معه حتى أتى منزله فنزل عليه- فلم ير فيه إلا سيفا و ترسا- فقال له لو اتخذت متاع البيت- قال حسبي هذا يبلغني المقيل- . و روى طارق بن شهاب- أن عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضة- فنزل عن بعيره و نزع جرموقيه فأمسكهما بيده- و خاض الماء و زمام بعيره في يده الأخرى- فقال له أبو عبيدة- لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الأرض- فصك في صدره و قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- إنكم كنتم أذل الناس و أحقر الناس و أقل الناس- فأعزكم الله بالإسلام- فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم إلى الذل- .
و روى محمد بن سعد صاحب الواقدي- أن عمر قال يوما على المنبر- لقد رأيتني و ما لي من أكال يأكله الناس- إلا أن لي خالات من بني مخزوم- فكنت أستعذب لهن الماء- فيقبضن لي القبضات من الزبيب- فلما نزل قيل له ما أردت بهذا- قال وجدت في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها- .
و من كلام عمر رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي- . قدم عمرو بن العاص على عمر و كان واليا لمصر- فقال له في كم سرت قال في عشرين- قال عمر لقد سرت سير عاشق- فقال عمرو إني و الله ما تأبطتنى الإماء- و لا حملتني في غبرات المآلي- فقال عمر و الله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه- و أن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل- و إنما تنسب البيضة إلى طرقها- فقام عمرو مربد الوجه- . قلت المآلي خرق سود يحملها النوائح- و يسرن بها بأيديهن عند اللطم- و أراد خرق الحيص هاهنا و شبهها بتلك- و أنكر عمر فخره بالأمهات- و قال إن الفخر للأب الذي إليه النسب- و سألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر- فقال إن عمرا فخر على عمر لأن أم الخطاب زنجية- و تعرف بباطحلي تسمى صهاك- فقلت له و أم عمرو النابغة أمه من سبايا العرب- فقال أمه عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات- فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات- فقلت له أ كان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت- قال قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له- و نفث بما في صدره منه- و إن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال و قد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا- فقد جبهه الزبير مرة و جعل يحكي كلامه يمططه- و جبهه سعد بن أبي وقاص أيضا فأغضى عنه- و مر يوما في السوق على ناقة له- فوثب غلام من بني ضبة فإذا هو خلفه- فالتفت إليه فقال فممن أنت قال ضبي- قال جسور و الله فقال الغلام على العدو- قال عمر و على الصديق أيضا- ما حاجتك فقضى حاجته- ثم قال دع الآن لنا ظهر راحلتنا- .
و من كلام عمر اخشع عند القبور إذا نظرت إليها- و استعص عند المعصية و ذل عند الطاعة- و لا تبذلن كلامك إلا عند من يشتهيه و يتخذه غنما- و لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك- و آخ الإخوان على التقوى- و شاور في أمرك كله- و إذا اشترى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما- فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق- . أوفد بشر بن مروان و هو على العراق رجلا إلى عبد الملك- فسأله عن بشر- فقال يا أمير المؤمنين هو اللين في غير ضعف- الشديد في غير عنف- فقال عبد الملك ذاك الأحوذي ابن حنتمة- الذي كان يأمن عنده البري ء و يخافه السقيم- و يعاقب على الذنب و يعرف موضع العقوبة- لا بشر بن مروان- . أذن عمر يوما للناس- فدخل شيخ كبير يعرج- و هو يقود ناقة رجيعا يجاذبها- حتى وقف بين ظهراني الناس ثم قال-
- و إنك مسترعى و إنا رعيةو إنك مدعو بسيماك يا عمر
- لدى يوم شر شره لشرارهو خير لمن كانت مؤانسه الخير
- . فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله من أنت- قال عمرو بن براقة قال ويحك- فما منعك أن تقول- وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ- ثم قرأها إلى آخرها و أمر بناقته فقبضت- و حمله على غيرها و كساه و زوده- .
بينا عمر يسير في طريق مكة يوما- إذا بالشيخ بين يديه يرتجز و يقول-
- ما إن رأيت كفتى الخطابأبر بالدين و بالأحساب
بعد النبي صاحب الكتاب
- . فطعنه عمر بالسوط في ظهره- فقال ويلك و أين الصديق- قال ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين- قال أما إنك لو كنت عالما ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك- . قال زيد بن أسلم كنت عند عمر- و قد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة و كان محبوسا- فأخرجه من السجن ثم أنشده-
- ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخزغب الحواصل لا ماء و لا شجر
- ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةفاغفر عليك سلام الله يا عمر
- أنت الإمام الذي من بعد صاحبهألقت إليه مقاليد النهى البشر
- ما آثروك بها إذ قدموك لهالكن لأنفسهم كانت بك الأثر
- . فبكى عمر لما قال له ما ذا تقول لأفراخ- فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول- ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء أتقي من رجل- يبكي خوفا من حبس الحطيئة- ثم قال عمر لغلامه يرفأ علي بالكرسي فجلس عليه- ثم قال علي بالطست فأتي بها- ثم قال علي بالمخصف لا بل علي بالسكين- فأتي بها فقال لا بل علي بالموسى- فإنها أوجي فأتي بموسى- ثم قال أشيروا علي في الشاعر- فإنه يقول الهجر و ينسب بالحرم- و يمدح الناس و يذمهم بغير ما فيهم- و ما أراني إلا قاطعا لسانه فجعل الحطيئة يزيد خوفا- فقال من حضر أنه لا يعود يا أمير المؤمنين- و أشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين- فقال النجاء النجاء- فلما ولى ناداه يا حطيئة فرجع مرعوبا- فقال كأني بك يا حطيئةعند فتى من قريش- قد بسط لك نمرقة و كسر لك أخرى- ثم قال غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس- قال يا أمير المؤمنين لا أعود و لا يكون ذلك- . قال زيد بن أسلم- ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر- قد بسط له نمرقة و كسر له أخرى- ثم قال تغنينا يا حطيئة و هو يغنيه- فقلت يا حطيئة أ ما تذكر قول عمر لك- ففزع و قال رحم الله ذلك المرء- أما لو كان حيا ما فعلنا هذا- قال فقلت لعبيد الله بن عمر سمعت أباك يذكر كذا- فكنت أنت ذلك الفتى- . كان عمر يصادر خونة العمال- فصادر أبا موسى الأشعري و كان عامله على البصرة- و قال له بلغني أن لك جاريتين- و أنك تطعم الناس من جفنتين- و أعاده بعد المصادرة إلى عمله- .
و صادر أبا هريرة و أغلظ عليه- و كان عامله على البحرين- فقال له أ لا تعلم أني استعملتك على البحرين- و أنت حاف لا نعل في رجلك- و قد بلغني أنك بعت أفراسا بألف و ستمائة دينار- قال أبو هريرة كانت لنا أفراس فتناتجت- فقال قد حبست لك رزقك و مئونتك و هذا فضل- قال أبو هريرة ليس ذلك لك قال بلى و الله و أوجع ظهرك- ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه- ثم قال ائت بها فلما أحضرها- قال أبو هريرة سوف أحتسبها عند الله- قال عمر ذاك لو أخذتها من حل و أديتها طائعا- أما و الله ما رجت فيك أميمة- أن تجبي أموال هجر و اليمامة و أقصى البحرين لنفسك- لا لله و لا للمسلمين- و لم ترج فيك أكثر من رعية الحمر و عزله- . و صادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة- و قال له ما قلاص و أعبد بعتها بمائه دينار- قال خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها- قال و إنا و الله ما بعثناك للتجارة
أدها- قال أما و الله لا أعمل لك بعدها- قال إنا و الله لا أستعملك بعدها- ثم صعد المنبر فقال يا معشر الأمراء- إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم- فأما إذ لم نره يحل لنا و ظلفنا أنفسنا عنه- فاظلفوا عنه أنفسكم- فإني و الله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة- و لم ينظر الماتح فلما روي غرق- . و كتب عمر إلى عمرو بن العاص و هو عامله في مصر- أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال- من إبل و غنم و خدم و غلمان- و لم يكن لك قبله مال و لا ذلك من رزقك- فإني لك هذا- و لقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك- و لكني استعملتك لغنائك- فإذا كان عملك لك و علينا- بم نؤثرك على أنفسنا- فاكتب إلي من أين مالك و عجل و السلام- .
فكتب إليه عمرو بن العاص- قرأت كتاب أمير المؤمنين و لقد صدق- فأما ما ذكره من مالي فإني قدمت بلدة- الأسعار فيها رخيصه و الغزو فيها كثير- فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين- و الله يا أمير المؤمنين- لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا- فأقصر عنا عناك- فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك- و أما من كان لك من السابقين الأولين- فهلا استعملتهم فو الله ما دققت لك بابا- . فكتب إليه عمر أما بعد- فإني لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام في شي ء- إنكم معشر الأمراء أكلتم الأموال- و أخلدتم إلى الأعذار- فإنما تأكلون النار و تورثون العار- و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة- ليشاطرك على ما في يديك و السلام- .
فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما و قدمه إليه- فأبى أن يأكل فقال ما لك لا تأكل طعامنا- قال إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر- و لو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته- فأبعد عني طعامك و أحضر لي مالك- فلما كان الغد و أحضر ماله- جعل محمد يأخذ شطرا و يعطي عمرا شطرا- فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال- قال يا محمد أقول قال قل ما تشاء- قال لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب- و الله لقد رأيته و رأيت أباه- و إن على كل واحد منهما عباءة قطوانية- مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه- و على عنق كل واحد منهما حزمة من حطب- و إن العاص بن وائل لفي مزررات الديباج- فقال محمد إيها يا عمرو فعمر و الله خير منك- و أما أبوك و أبوه ففي النار- و و الله لو لا ما دخلت فيه من الإسلام- لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها و يسوءك بكؤها- قال صدقت فاكتم علي قال أفعل- .
جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه- فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى- قال و من أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله- قال ويحك و قد تكني بأبي عيسى و دعاه- و قال إيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر و فزع- فأخذ يده فعضها حتى صاح- ثم ضربه و قال ويلك هل لعيسى أب- أ ما تدري ما كنى العرب- أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة- . كان عمر إذا غضب على بعض أهله- لم يشتف حتى يعض يده- و كان عبد الله بن الزبير كذلك- يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل و قال مالك بن أنس- إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده- فلم يعدل بعده أحد منهم في ولاية وليها- . كان عمر و من بعده من الولاة- إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم و أقاموهم للناس- حتى جاء زياد فضربهم بالسياط- فجاء مصعب فحلق مع الضرب- فجاء بشر بن مروان فكان يصلب تحت الإبطين- و يضرب الأكف بالمسامير- فكتب إلى بعض الجند- قوم من أهله يستزيرونه و يتشوقونه- و قد أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم-
- لو لا مخافة بشر أو عقوبتهأو أن يرى شأني كفي بمسمار
- إذا لعطلت ثغري ثم زرتكمإن المحب المعنى جد زوار
- . فلما جاء الحجاج قال- كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف- . زيد بن أسلم عن أبيه- قال خلا عمر لبعض شأنه و قال أمسك علي الباب- فطلع الزبير فكرهته حين رأيته- فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة- فلم يلتفت إلي و أهوى ليدخل- فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه- ثم رجع فدخلت على عمر فقال ما بك قلت الزبير- . فأرسل إلى الزبير- فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له- فقال ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس- فقال الزبير يحكيه و يمطط في كلامه أدميتني- أ تحتجب عنا يا ابن الخطاب- فو الله ما احتجب مني رسول الله و لا أبو بكر- فقال عمر كالمعتذر إني كنت في بعض شأني- . قال أسلم فلما سمعته يعتذر إليه- يئست من أن يأخذ لي بحقي منه- .
فخرج الزبير فقال عمر- إنه الزبير و آثاره ما تعلم فقلت حقي حقك- . و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات- عن عبد الله بن عباس قال- إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة- إذ قال لي يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما- فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها- فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته- فانتزع يده من يدي- و مضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته- فقال يا ابن عباس- ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه- فقلت في نفسي هذه شر من الأولى- فقلت و الله ما استصغره الله و رسوله- حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك- . فأعرض عني و أسرع فرجعت عنه- . و قال ابن عباس- قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت- حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه- فما ذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا- . قال يا ابن عباس إني قائل قولا فخذه إليك- كيف لا أحب فراقهم- و فيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا- إما لحق لا ينوء به و إما لباطل لا يناله- و الله لو لا أن أسأل عنكم لبرئت منكم- فأصبحت الأرض مني بلاقع- و لم أقل ما فعل فلان و فلان- . جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب- فقالت يا أمير المؤمنين- إن زوجي يصوم النهار و يقوم الليل- و إني أكره أن أشكوه و هو يعمل بطاعة الله- فقال نعم الزوج زوجك- فجعلت تكرر عليه القول و هو يكرر عليها الجواب- . فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين- إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه- ففطن عمر حينئذ- و قال له قد وليتك الحكم بينهما- . فقال كعب علي بزوجها فأتي به- فقال إن زوجتك هذه تشكوك- قال في طعام أو شراب قال لا- قالت المرأة-
- أيها القاضي الحكيم رشدهألهى خليلي عن فراشي مسجده
- زهده في مضجعي تعبدهنهاره و ليله ما يرقده
فلست في أمر النساء أحمده
- . فقال زوجها-
- زهدني في فرشها و في الحجلأني امرؤ أذهلني ما قد نزل
- في سورة النمل و في السبع الطولو في كتاب الله تخويف جلل
- . قال كعب-
- إن لها حقا عليك يا رجلتصيبها من أربع لمن عقل
فأعطها ذاك و دع عنك العلل
- . فقال لعمر يا أمير المؤمنين- إن الله أحل له من النساء مثنى و ثلاث و رباع- فله ثلاثة أيام و لياليهن- يعبد فيها ربه و لها يوم و ليلة- . فقال عمر و الله ما أعلم من أي أمريك أعجب- أ من فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما- اذهب فقد وليتك قضاء البصرة- . و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال- خرجت مع عمر بن الخطاب و هو يطوف بالليل- فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة- فقال إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا الليلة- ثم أهوى لهم فخرجت معه حتى دنونا- فسمعنا تضاغي الصبيان و بكاءهم- . فقال السلام عليكم يا أصحاب الضوء هل ندنو منكم- و احتبسنا قليلا فقالت امرأة منهم ادنوا بسلام- فأقبلنا حتى وقفنا عليها فقال ما يبكي هؤلاء الصبيان- قالت الجوع قال فما هذا القدر على النار- قالت ماء أعللهم به- قال انتظريني فإني بالغك إن شاء الله- ثم خرج يهرول و أنا معه حتى جئنا دار الدقيق- و كانت دارا يطرح فيها ما يجي ء من دقيق العراق و مصر- و قد كان كتب إلى عمرو بن العاص و أبي موسى- حين أمحلت السنة الغوث الغوث- احملوا إلى أحمال الدقيق و اجعلوا فيها جمائد الشحم- فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره- ثم قال احمله على ظهري يا أسلم فقلت أنا أحمله عنك- فنظر إلي و قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة- لا أبا لك قلت لا قال فاحمله على ظهري إذا- ففعلت و خرج به يدلج و أنا معه- حتى ألقاه عند المرأة- . ثم قال لي ذر علي ذرور الدقيق- لا يتعرد و أنا أخزر- ثم أخذ المسواط يخزر- ثم جعل ينفخ تحت البرمة- و أنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته- و يقول لا تعجل حتى ينضج- ثم قال ألق علي من الشحم- فإن القفار يوجع البطن- .
ثم أنزل القدر و قال للمرأة لا تعجلي- لا تعطيهم حارا و أنا أسطح لك- فجعل يسطح بالمسواط و يبرد طعامهم- حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل- ثم قال لها ائتي أمير المؤمنين غدا- فإنك عسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير- و هي تقول من أنت يرحمك الله- و تدعو له و تقول أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين- فيقول قولي خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا- . ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى- و جعل يسمع طويلا- حتى سمع التضاحك منها و من الصبيان- و أنا أقول يا أمير المؤمنين قد فرغت من هذه- و لك شغل في غيرها و يقول لا تكلمني- حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى و قال- ويحك إني سمعت الجوع أسهرهم- فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم- . و من كلامه- الرجال ثلاثة الكامل و دون الكامل و لا شي ء- فالكامل ذو الرأي يستشير الناس- فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه- و دون الكامل من يستبد به و لا يستشير- و لا شي ء من لا رأى له و لا يستشير- . و النساء ثلاث- تعين أهلها على الدهر و لا تعين الدهر على أهلها- و قلما تجدها- و امرأة وعاء للولد ليس فيها غيره- و الثالثة غل قمل- يجعله الله في رقبة من يشاء و يفكه إذا شاء- . لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك و الشعر- قال لا أقدر على تركه يا أمير المؤمنين- مأكلة عيالي و نملة تدب على لساني- قال فشبب بأهلك و إياك و كل مدحة مجحفه- قال و ما المجحفة- قال تقول إن بني فلان خير من بني فلان- امدح و لا تفضل أحدا- قال أنت و الله يا أمير المؤمنين أشعر مني- .
و روى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس- قال خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا- و قد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان- و عليه إزار و قميص صغير- و قد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه- فمشيت إلى جانبه و جعلت أجذب الإزار و أسويه عليه- كلما سترت جانبا انكشف جانب- فيضحك و يقول إنه لا يطيعك- حتى جئنا العالية فصلينا- ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من خبز و لحم- و إذا عمر صائم فجعل ينبذ إلي طيب اللحم- و يقول كل لي و لك- ثم دخلنا حائطا فألقى إلي رداءه و قال اكفنيه- و ألقى قميصه بين يديه و جلس يغسله و أنا أغسل رداءه- ثم جففناهما و صلينا العصر- فركب و مشيت إلى جانبه و لا ثالث لنا- . فقلت يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر علي- قال و من خطبت قلت فلانة ابنة فلان- قال النسب كما تحب و كما قد علمت- و لكن في أخلاق أهلها دقة- لا تعدمك أن تجدها في ولدك- قلت فلا حاجة لي إذا فيها- قال فلم لا تخطب إلى ابن عمك يعني عليا- قلت أ لم تسبقني إليه- قال فالأخرى قلت هي لابن أخيه- قال يا ابن عباس إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر- أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به- فليتني أراكم بعدي قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت- أنه ما غير و لا بدل و لا أسخط رسول الله ص أيام صحبته له- .
قال فقطع علي الكلام- فقال و لا في ابنة أبي جهل- لما أراد أن يخطبها على فاطمة- . قلت قال الله تعالى وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً- و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله ص- و لكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه- و ربما كان من الفقيه في دين الله- العالم العامل بأمر الله- . فقال يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم- فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها- فقد ظن عجزا- أستغفر الله لي و لك خذ في غيرها- . ثم أنشأ يسألني عن شي ء من أمور الفتيا و أجيبه- فيقول أصبت أصاب الله بك- أنت و الله أحق أن تتبع- . أشرف عبد الملك على أصحابه و هم يتذاكرون سيرة عمر- فغاظه ذلك و قال إيها عن ذكر سيرة عمر- فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية- . قال ابن عباس كنت عند عمر- فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت- فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين- إلا هم شديد- قال إي و الله يا ابن عباس- إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي- ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا- قلت و ما يمنعه من ذلك- مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه- قال صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة- قلت فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو- و بإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن- قال رجل ضعيف- لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته- قلت فالزبير قال شكس لقس- يلاطم في النقيع في صاع من بر- قلت فسعد بن أبي وقاص- قال صاحب سلاح و مقنب- قلت فعثمان قال أوه ثلاثا- و الله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس- ثم لتنهض العرب إليه- . ثم قال يا ابن عباس- إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا خصيف العقدة- قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم- ثم يكون شديدا من غير عنف- لينا من غير ضعف سخيا من غير سرف- ممسكا من غير وكف- قال ابن عباس و كانت و الله هي صفات عمر- . قال ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيهة- و قال أجرؤهم و الله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم- و سنة نبيهم لصاحبك- أما إن ولى أمرهم- حملهم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم- . و روى عبد الله بن عمر قال كنت عند أبي يوما- و عنده نفر من الناس- فجرى ذكر الشعر فقال من أشعر العرب- فقالوا فلان و فلان- فطلع عبد الله بن عباس فسلم و جلس- فقال عمر قد جاءكم الخبير- من أشعر الناس يا عبد الله- قال زهير بن أبي سلمى- قال فأنشدني مما تستجيده له- فقال يا أمير المؤمنين إنه مدح قوما من غطفان- يقال لهم بنو سنان فقال-
- لو كان يقعد فوق الشمس من كرمقوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
- قوم أبوهم سنان حين تنسبهمطابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا
- أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوامرزءون بها ليل إذا جهدوا
- محسدون على ما كان من نعملا بنزع الله منهم ماله حسدوا
- . فقال عمر و الله لقد أحسن- و ما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم- لقرابتهم من رسول الله ص- فقال ابن عباس وفقك الله يا أمير المؤمنين- فلم تزل موفقا- فقال يا ابن عباس أ تدري ما منع الناس منكم- قال لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري- قال ما هو يا أمير المؤمنين- قال كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة- فيجخفوا جخفا- فنظرت قريش لنفسها فاختارت و وفقت فأصابت- . فقال ابن عباس- أ يميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع- قال قل ما تشاء- قال أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت- فإن الله تعالى قال لقوم- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ- . و أما قولك إنا كنا نجخف- فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة- و لكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ص- الذي قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ- و قال له وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- . و أما قولك فإن قريشا اختارت- فإن الله تعالى يقول- وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ- و قد علمت يا أمير المؤمنين- أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار- فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها- لوفقت و أصابت قريش- . فقال عمر على رسلك يا ابن عباس- أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول- و حقدا عليها لا يحول- فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين- لا تنسب هاشما إلى الغش- فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله و زكاه- و هم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ- وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- و أما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه- و يراه في يد غيره- . فقال عمر أما أنت يا ابن عباس- فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به- فتزول منزلتك عندي- قال و ما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به- فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه- و إن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به- . قال بلغني أنك لا تزال تقول- أخذ هذا الأمر منك حسدا و ظلما- قال أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا- فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة- فنحن بنو آدم المحسود- . و أما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو- . ثم قال يا أمير المؤمنين- أ لم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله- و احتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ص- فنحن أحق برسول الله من سائر قريش- . فقال له عمر قم الآن فارجع إلى منزلك فقام- فلما ولى هتف به عمر أيها المنصرف- إني على ما كان منك لراع حقك- . فالتفت ابن عباس فقال- إن لي عليك يا أمير المؤمنين- و على كل المسلمين حقا برسول الله ص- فمن حفظه فحق نفسه حفظ- و من أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى- .
فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس- ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه- . لما توفي عبد الله بن أبي- رأس المنافقين في حياة رسول الله ص- جاء ابنه و أهله- فسألوا رسول الله ص أن يصلي عليه- فقام بين يدي الصف يريد ذلك- فجاء عمر فجذبه من خلفه- و قال أ لم ينهك الله أن تصلي على المنافقين- فقال إني خيرت فاخترت- فقيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ- إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ- و لو أني أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت- ثم صلى رسول الله عليه و مشى معه و قام على قبره- . فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله ص- فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى- وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ- فلم يصل ع بعدها على أحد من المنافقين- . و
روى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله ص في نفر- فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا و خشينا أن يقطع دوننا فقمنا و كنت أول من فزع- فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار- لقوم من بني النجار- فلم أجد له بابا إلا ربيعا- فدخلت في جوف الحائط و الربيع الجدول- فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله ص- فقال أبو هريرة قلت نعم- قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا- فقمت فأبطأت عنا فخشينا أن تقتطع دوننا- ففزعنا و كنت أول من فزع- فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب- و الناس من ورائي- .
فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين- فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله- مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة- فخرجت فكان أول من لقيت عمر- فقال ما هذان النعلان- قلت نعلا رسول الله ص بعثني بهما- و قال من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه- فبشره بالجنة- . فضرب عمر في صدري فخررت لاستي- و قال ارجع إلى رسول الله ص- . فأجهشت بالبكاء راجعا- فقال رسول الله ما بالك- قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به- فضرب صدري ضربة خررت لاستي- و قال ارجع إلى رسول الله- . فخرج رسول الله فإذا عمر- فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت- فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا- قال نعم قال فلا تفعل- فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله ص خلهم يعملون
و
روى أبو سعيد الخدري قال أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك- فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا- و أكلنا شحمها و لحمها فقال افعلوا- فجاء عمر فقال يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر- و لكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها- ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا-
ففعل رسول الله ص ذلك- فأكل الخلق الكثير من طعام قليل- و لم تذبح النواضح
و
روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله ص يذكر له ذنبا أذنبه- فانزل الله تعالى في أمره- وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ- إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ- فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة- . فضرب عمر صدره بيده و قال- لا و لا نعمى عين بل للناس عامة- فقال رسول الله ص بل للناس عامة
- . و كان عمر يقول وافقني ربي في ثلاث- قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى- فنزلت وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى- . و قلت يا رسول الله- إن نساءك يدخل عليهن البر و الفاجر- فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب- . و تمالأ عليه نساؤه غيرة فقلت له- عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن- فنزلت بهذا اللفظ- . و قال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع- برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته- ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- و برأيه في حجاب نساء النبي ص- فنزل قوله تعالى- وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ- و بدعوة النبي ص- اللهم أيد الإسلام بأحد الرجلين- و برأيه في أبي بكر كان أول من بايعه- . و روت عائشة قالت- كنت آكل مع رسول الله ص حيسا- قبل أن تنزل آية الحجاب- و مر عمر فدعاه فأكل- فأصابت يده إصبعي فقال حس- لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب- . جاء عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس إلى أبي بكر- فقالا يا خليفة رسول الله- إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة- فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها- و لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم- فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين- ما ترون قالوا لا بأس- فكتب لهما بها كتابا و أشهد فيه شهودا- و عمر ما كان حاضرا- فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب- فوجداه قائما يهنأ بعيرا- فقالا إن خليفة رسول الله ص كتب لنا هذا الكتاب- و جئناك لتشهد على ما فيه- أ فتقرؤه أم نقرؤه عليك- قال أ على الحال التي تريان إن شئتما فاقرآه- و إن شئتما فانتظرا حتى أفرغ- .
قالا بل نقرؤه عليك- فلما سمع ما فيه أخذه منهما ثم تفل فيه- فمحاه فتذامرا و قالا مقالة سيئة- .
فقال إن رسول الله ص كان يتألفكما- و الإسلام يومئذ ذليل- و إن الله تعالى قد أعز الإسلام- فاذهبا فاجهدا جهدكما- لا رعى الله عليكما إن رعيتما- . فذهبا إلى أبي بكر و هما يتذمران- فقالا و الله ما ندري أنت أمير أم عمر- فقال بل هو لو شاء كان- . و جاء عمر و هو مغضب حتى وقف على أبي بكر- فقال أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين- أ هي لك خاصة أم بين المسلمين عامة- فقال بين المسلمين عامة- قال فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين- قال استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك- فقال أ فكل المسلمين أوسعتهم مشورة و رضا- فقال أبو بكر- فلقد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني- لكنك غلبتني- . لما كتب النبي ص كتاب الصلح- في الحديبية بينه و بين سهيل بن عمرو- كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد- و من خرج من المشركين إلى النبي ص يرد عليهم- فغضب عمر و قال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر- أ يرد المسلمون إلى المشركين- ثم جاء إلى رسول الله ص فجلس بين يديه- و قال يا رسول الله أ لست رسول الله حقا قال بلى- قال و نحن المسلمون حقا قال نعم- قال و هم الكافرون حقا قال نعم- قال فعلام نعطي الدنية في ديننا- فقال رسول الله أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به- و لن يضيعني- . فقام عمر مغضبا- و قال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا- و جاء إلى أبي بكر
فقال له يا أبا بكر- أ لم يكن وعدنا أننا سندخل مكة- فأين ما وعدنا به فقال أبو بكر- أ قال لك إنه العام يدخلها قال لا- قال فسيدخلها فقال فما هذه الصحيفة التي كتبت- و كيف نعطي الدنية من أنفسنا- فقال أبو بكر يا هذا الزم غرزه- فو الله إنه لرسول الله و إن الله لا يضيعه- . فلما كان يوم الفتح- و أخذ رسول الله ص مفتاح الكعبة- قال ادعوا لي عمر- فجاء فقال هذا الذي كنت وعدتكم به- . لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا- فاستشار رسول الله ص فيهم أبا بكر و عمر- فقال أبو بكر- يا رسول الله هؤلاء بنو العم و العشيرة و الإخوان- و أرى أن تأخذ منهم الفدية- فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين- و عسى أن يهديهم الله بعد اليوم- فيكونوا لنا عذرا- فقال رسول الله ص ما تقول أنت يا عمر- قال أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر- فأضرب عنقه- و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه- و تمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه- حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين- اقتلهم يا رسول الله فإنهم صناديدهم و قادتهم- فلم يهو رسول الله ما قاله عمر- . قال عمر فجئت رسول الله ص- فوجدته قاعدا و أبو بكر و هما يبكيان- فقلت ما يبكيكما حدثاني- فإن وجدت بكاء بكيت و إلا تباكيت- فقال رسول الله ص أبكي لأخذ الفداء- لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- .
قال عبد الله بن عمر- فكان رسول الله ص يقول- كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر- . و قال عمر في خلافته- لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا- فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني- أما عمالهم فلا يرفعونها إلي- و أما هم فلا يصلون إلي- أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين- ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين- و الله لنعم الحول هذا- . و قال أسلم- بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى- فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة- فلما أردت أن أصدرها قال أعرضها علي- فعرضتها عليه فرأى متاعي على ناقة حسناء- فقال لا أم لك- عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين- فهلا ابن لبون بوال أو ناقة شصوص- . و قيل لعمر إن هاهنا رجلا من الأحبار نصرانيا- له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا- فقال لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين- . قال و قد خطب الناس- و الذي بعث محمدا بالحق- لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات- خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب- .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- يعني بآل الخطاب نفسه ما يعني غيرها- . و كتب إلى أبي موسى- أنه لم يزل للناس وجوه من الأمر- فأكرم من قبلك من وجوه الناس- و بحسب المسلم الضعيف من بين القوم- أن ينصف في الحكم و في القسم- . أتى أعرابي عمر- فقال إن ناقتي بها نقبا و دبرا فاحملني- فقال له و الله ما ببعيرك من نقب و لا دبر فقال-
- أقسم بالله أبو حفص عمرما مسها من نقب و لا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
- فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله- . جاء رجل إلى عمر و كانت بينهما قرابة يسأله- فزبره و أخرجه فكلم فيه- و قيل يا أمير المؤمنين زبرته و أخرجته- قال إنه سألني من مال الله- فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا فلو سألني من مالي- ثم بعث إليه ألف درهم من ماله- .
و كان يقول في عماله- اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين- و لا ليضربوا أبشارهم- من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا عمر ذات ليلة يعس- سمع صوت امرأة من سطح و هي تنشد-
- تطاول هذا الليل و أزور جانبهو ليس إلى جنبي خليل ألاعبه
- فو الله لو لا الله تخشى عواقبهلزعزع من هذا السرير جوانبه
- مخافة ربي و الحياء يصدنيو أكرم بعلي أن تنال مراكبه
- و لكنني أخشى رقيبا موكلابأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
- فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله- ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينة- ثم جاء فضرب على حفصة ابنته- فقالت ما جاء بك في هذه الساعة- قال أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها- قالت أقصاه أربعة أشهر- . فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي- ألا تجمر البعوث- و ألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر- . و روى أسلم قال- كنت مع عمر و هو يعس بالمدينة- إذ سمع امرأة تقول لبنتها- قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه- قالت أ و ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين بالأمس- قالت و ما هو- قالت إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء- قالت فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين- و لا منادي أمير المؤمنين- قالت
و الله ما كنت لأطيعه في الملأ و أعصيه في الخلاء- و عمر يسمع ذلك- فقال يا أسلم اعرف الباب ثم مضى في عسه- فلما أصبح قال يا أسلم امض إلى الموضع- فانظر من القائلة و من المقول لها و هل لهما من بعل- قال أسلم- فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم- و إذا المتكلمة بنت لها ليس لهما رجل- . فجئت فأخبرته فجمع عمر ولده- و قال هل يريد أحد أن يتزوج- فأزوجه امرأة صالحة فتاة- و لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها- فقال عاصم ابنه أنا فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما- فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم- و هي أم عمر بن عبد العزيز بن مروان- . حج عمر فلما كان بضجنان- قال لا إله إلا الله العلي العظيم- المعطي ما يشاء لمن يشاء- أذكر و أنا أرعى إبل الخطاب- بهذا الوادي في مدرعة صوف- و كان فظا يتعبني إذا عملت- و يضربني إذا قصرت- و قد أمسيت اليوم و ليس بيني و بين الله أحد ثم تمثل-
- لا شي ء مما يرى تبقى بشاشتهيبقى الإله و يودي المال و الولد
- لم تغن عن هرمز يوما خزائنهو الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
- و لا سليمان إذ تجري الرياح لهو الإنس و الجن فيما بينها يرد
- أين الملوك التي كانت منازلهامن كل أوب إليها راكب يفد
- حوض هنالك مورود بلا كذبلا بد من ورده يوما كما وردوا
- .
و روى محمد بن سيرين- أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان- حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة- فجعل أمامه رجلا يلقنه- فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع فعل- . و سمع عمر منشدا ينشد قول طرفه-
- فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتىو جدك لم أحفل متى قام عودي
- فمنهن سبقي العاذلات بشربهكميت متى ما تعل بالماء تزبد
- و كري إذا نادى المضاف محنباكسيد الغضا نبهته المتوسد
- و تقصير يوم الدجن و الدجن معجبببهكنة تحت الطراف الممدد
- . فقال و أنا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى- لم أحفل متى قام عودي- أن أجاهد في سبيل الله- و أن أضع وجهي في التراب لله- و أن أجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر- . و روى عبد الله بن بريدة- قال كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي- فيقول ادع لي فإنك لم تذنب بعد- و كان عمر كثير المشاورة- كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة- . و روى يحيى بن سعيد قال- أمر عمر الحسين بن علي ع- أن يأتيه
في بعض الحاجة- فلقي الحسين ع عبد الله بن عمر- فسأله من أين جاء- قال استأذنت على أبي فلم يأذن لي- فرجع الحسين و لقيه عمر من الغد- فقال ما منعك يا حسين أن تأتيني قال قد أتيتك- و لكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك- فرجعت فقال عمر و أنت عندي مثله- و هل أنبت الشعر على الرأس غيركم- . قال عمر يوما و الناس حوله- و الله ما أدري أ خليفة أنا أم ملك- فإن كنت ملكا فقد ورطت في أمر عظيم- فقال له قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا- و إنك إن شاء الله لعلى خير قال كيف- قال إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا و لا يضعه إلا في حق- و أنت بحمد الله كذلك- و الملك يعسف الناس و يأخذ مال هذا فيعطيه هذا- فسكت عمر و قال أرجو أن أكونه- . و روى مالك عن نافع عن ابن عمر- أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة- فلما ختمها نحر جزورا- . و روى أنس- قال كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر- فيأكله حتى حشفه- . و روى يوسف بن يعقوب الماجشون- قال قال لي ابن شهاب و لأخ لي و ابن عم لنا- و نحن صبيان أحداث- لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم- فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل- دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم- .
و روى الحسن- قال كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا- فأخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشي ء- فقال إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة- . انقطع شسع نعل عمر فاسترجع- و قال كل ما ساءك فهو مصيبة- . وقف أعرابي على عمر فقال له-
- يا ابن خطاب جزيت الجنةاكس بنياتي و أمهنه
أقسم بالله لتفعلنه
- فقال عمر إن لم أفعل يكون ما ذا- قال
إذا أبا حفص لأمضينه
- فقال إذا مضيت يكون ما ذا- قال
- تكون عن حالي لتسألنهيوم تكون الأعطيات جنة
- و الواقف المسئول يبهتنهإما إلى نار و إما جنة
- فبكى عمر ثم قال لغلامه- أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره- و الله ما أملك ثوبا غيره- . و روى ابن عباس- قال قال لي عمر ليلة أنشدني لشاعر الشعراء- قلت و من هو قال زهير الذي يقول-
- إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةمن المجد من يسبق إليها يسود
- . فأنشدته حتى برق الفجر- فقال إيها الآن اقرأ يا عبد الله- قلت ما أقرأ قال سورة الواقعة- . سمع عمر صوت بكاء في بيت- فدخل و بيده الدرة- فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة- فضربها حتى سقط خمارها- ثم قال لغلامه اضرب النائحة- ويلك اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها- لأنها لا تبكي بشجوكم- إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم- إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم و أحياءكم في دورهم- إنها تنهى عن الصبر و قد أمر الله به- و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه- . و من كلامه- من اتجر في شي ء ثلاث مرات فلم يصب فيه- فليتحول عنه إلى غيره- . و من كلامه- لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا- إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه- . و من كلامه تفقهوا قبل أن تسودوا- . و من كلامه تعلموا المهنة- فإنه يوشك أحدكم أن يحتاج إلى مهنته- . و من كلامه مكسبة فيها بعض الدناءة- خير من مسألة الناس- . و من كلامه أعقل الناس أعذرهم لهم- . رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب- فرفع عليه الدرة- فقال يا أمير المؤمنين اتق الله- قال فما هذه الجموع خلفك يا ابن كعب- أ ما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع- . جاء رجل إلى عمر- فقال إن بنتا لي واريتها في الجاهلية- فاستخرجناها قبل أن
تموت- فأدركت معنا الإسلام فأسلمت- ثم قارفت حدا من حدود الله- فأخذت الشفرة لتذبح نفسها- فأدركناها و قد قطعت بعض أوداجها- فداويناها حتى برئت و تابت توبة حسنة- و قد خطبها قوم أ فأخبرهم بالذي كان من شأنها- فقال عمر أ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه- و الله لئن أخبرت بشأنها أحدا- لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار- أنكحها نكاح العفيفة السليمة- .
أسلم غيلان بن سلمة الثقفي من عشر نسوة- فقال له النبي ص- اختر منهن أربعا و طلق ستا
- فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع- و قسم ماله بين بنيه- فبلغ ذلك عمر فأحضره- فقال له إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع- سمع بموتك فقذفه في نفسك- و لعلك لا تمكث إلا قليلا- و ايم الله لتراجعن نساءك- و لترجعن في مالك- أو لأورثنهن منك- و لآمرن بقبرك فيرجم- كما رجم قبر أبي رغال و قال عمر- إن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال- أنه لا يبقى مع الفساد شي ء- و لا يقل مع الإصلاح شي ء- . و كان عمر يقول أدبوا الخيل- و انتضلوا و اقعدوا في الشمس- و لا يجاورنكم الخنازير- و لا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر- أو يرفع عليها الصليب- و إياكم و أخلاق العجم- و لا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا- و لا لامرأة أن تدخل الحمام إلا من سقم- فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها- فقد هتكت الستر بينها و بين الله تعالى- .
و كان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء- و ألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا- و أن يحف لحيته و شاربه كما تحف المرأة- . سمع عمر سائلا يقول من يعشي السائل- فقال عشوا سائلكم- ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها- فسمع صوته مرة أخرى- من يعشي السائل- فقال أ لم آمركم أن تعشوه فقالوا قد عشيناه- فأرسل إليه عمر و إذا معه جراب مملوء خبزا- فقال إنك لست سائلا إنما أنت تاجر تجمع لأهلك- فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل- . و قال عمر من مزح استخف به- و قال أ تدرون لم سمي المزاح مزاحا- لأنه أزاح الناس عن الحق- .
و من كلامه لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا- من زوجة حديدة اللسان سيئة الخلق عقيم- و لن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيرا- من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق- . و كان يقول- إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان- فأقلوا ما استطعتم- . و نظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا- فقال يا هذا ارفع رأسك- فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب- فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه- فإنما أظهر نفاقا- . و من كلامه- إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء- فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا- فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانة- و أصدقكم حديثا- . و كان يقول- لا تنظروا إلى صلاة امرئ و لا صيامه- و لكن انظروا إلى عقله و صدقه- .
و من كلامه إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته- و قال له انتعش نعشك الله- فهو في نفسه صغير و في أعين الناس عظيم- و إذا تكبر و عتا وهضه الله إلى الأرض- و قال اخسأ خسأك الله- فهو في نفسه عظيم- و في أعين الناس حقير- حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير- . و قال الإنسان لا يتعلم العلم لثلاث و لا يتركه لثلاث- لا يتعلمه ليماري به و لا ليباهي به و لا ليرائي به- و لا يتركه حياء من طلبه- و لا زهادة فيه و لا رضا بالجهل بدلا منه- . و قال تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم- . و قال إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين- مؤمنا قد تبين إيمانه و كافرا قد تبين كفره- و لكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان و يعمل بغيره- . و من كلامه إن الرجف من كثرة الزناء- و إن قحوط المطر من قضاه السوء و أئمة الجور- .
و قال في النساء استعينوا عليهن بالعري- فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها- و حسنت زينتها أعجبها الخروج- . و من كلامه إن الجبت السحر و إن الطاغوت الشيطان- و إن الجبن و الشجاعة غرائز تكون في الرجال- يقاتل الشجاع عمن لا يعرف- و يفر الجبان عن أمه- و إن كرم الرجل دينه- و حسب الرجل خلقه- و إن كان فارسيا أو نبطيا- . و قال تفهموا العربية- فإنها تشحذ العقل و تزيد في المروءة- . و قال النساء ثلاث- امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود- تعين بعلها على الدهر- و لا تعين الدهر على بعلها و قلما تجدها- و أخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا- و الثالثة غل قمل- يجعله الله في عنق من يشاء- و ينزعه إذا شاء- .
و الرجال ثلاثة- رجل عاقل يورد الأمور و يصدرها- فيحسن إيرادا و إصدارا- و آخر يشاور الرجال و يقف عند آرائهم- و الثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا- و لا يطيع مرشدا- . و قال ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه- يخرق أعراض النساء أن تعربوا عليه- قالوا نخاف لسانه قال ذاك أدنى ألا تكونوا شهداء- . و رأى رجلا عظيم البطن- فقال ما هذا قال بركة من الله- . و قال إذا رزقت مودة من أخيك- فتشبث بها ما استطعت- . و قال لقوم يحصدون الزرع- إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم- فلا تعودوا فيه- . و قال ما ظهرت قط نعمه على أحد إلا وجدت له حاسدا- و لو أن أمرا كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا- . و قال إياكم و المدح فإنه الذبح- . و قال لقبيصه بن ذؤيب- أنت رجل حديث السن فصيح اللسان- و إنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة- و خلق واحد سيئ- فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات السيئات- .
و قال بحسب امرئ من الغي أن يؤذي جليسه- أو يتكلف ما لا يعنيه- أو يعيب الناس بما يأتي مثله- و يظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه- . و قال احترسوا من الناس بسوء الظن- . و قال في خطبة له لا يعجبنكم من الرجل طنطنته- و لكن من أدى الأمانة- و كف عن أعراض الناس فهو الرجل- . و قال الراحة في مهاجرة خلطاء السوء- .
و قال إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه- . و أثنى رجل على رجل عند عمر- فقال له أ عاملته قال لا- قال أ صحبته في السفر قال لا- قال فأنت إذا القائل ما لا يعلم- . و قال لأن أموت بين شعبتي رحلي أسعى في الأرض- أبتغي من فضل الله كفاف وجهي- أحب إلي من أن أموت غازيا- . و كان عمر قاعدا و الدرة معه و الناس حوله- إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل هذا سيد ربيعة- فسمعها عمر و من حوله و سمعها الجارود- فلما دنا منه خفقه بالدرة- فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين- قال ويلك سمعتها- قال و سمعتها فمه- قال خشيت أن تخالط القوم- و يقال هذا أمير فأحببت أن أطأطئ منك- . و قال من أحب أن يصل أباه في قبره- فليصل إخوان أبيه من بعده- . و قال إن أخوف ما أخاف أن يكون- إعجاب المرء برأيه- فمن قال إني عالم فهو جاهل- و من قال إني في الجنة فهو في النار- . و خرج للحج- فسمع غناء راكب يغني و هو محرم- فقيل يا أمير المؤمنين أ لا تنهاه عن الغناء و هو محرم- فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب- .
و قال يثغر الغلام لسبع و يحتلم لأربع عشرة- و ينتهي طوله لإحدى و عشرين- و يكمل عقله لثمان و عشرين- و يصير رجلا كاملا لأربعين- .
و روى سعيد بن المسيب- أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه- كوم كومة من بطحاء و ألقى عليها طرف ثوبه- ثم استلقى عليها و رفع يديه إلى السماء- و قال اللهم كبرت سني- و ضعفت قوتي و انتشرت رعيتي- فاقبضني إليك غير مضيع و لا مفرط- . ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال- أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض- و سننت لكم السنن و تركتكم على الواضحة- إلا أن تضلوا بالناس يمينا و شمالا- إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم- و أن يقول قائل لا نجد ذلك حدا في كتاب الله- فقد رأيت رسول الله رجم و رجمنا بعده- و لو لا أن يقول الناس- إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها- و لقد كنا نقرؤها- و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة- فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك محله في شعبان- فقال أي شعبان الذي مضى أم الذي نحن فيه- ثم جمع أصحاب رسول الله ص- و قال ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه- فقال قائل منهم اكتبوا على تاريخ الروم- فقيل إنه يطول و إنه مكتوب من عهد ذي القرنين- و قال قائل بل اكتبوا على تاريخ الفرس- فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله-
فقال علي ع اكتبوا تاريخكم- منذ خرج رسول الله ص من دار الشرك إلى دار النصرة- و هي دار الهجرة
- فقال عمر نعم ما أشرت به- فكتب للهجرة- بعد مضي سنتين و نصف من خلافة عمر- .
قال المؤرخون- إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة- و كتب به إلى البلدان و أقام الحد في الخمر ثمانين- و أحرق بيت رويشد الثقفي و كان نباذا- و أقام في عمله بنفسه- و أول من حمل الدرة و أدب بها- و قيل بعده كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج- . و هو أول من فتح الفتوح- فتح العراق كله السواد و الجبال و أذربيجان- و كور البصرة و كور الكوفة و الأهواز و فارس- و فتح الشام كلها ما خلا أجنادين- فإنها فتحت في خلافة أبي بكر- و فتح كور الجزيرة و الموصل و مصر و الإسكندرية- و قتله أبو لؤلؤة و خيله على الري- . و هو أول من مسح السواد و وضع الخراج على الأرض- و الجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان- و بلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم- و عشرين ألف ألف درهم بالوافية- و هي وزن الدينار من الذهب- و هو أول من مصر الأمصار- و كوف الكوفة و بصر البصرة و أنزلها العرب- و أول من استقضى القضاة في الأمصار- و أول من دون الدواوين- و كتب الناس على قبائلهم- و فرض لهم الأعطية- و هو أول من قاسم العمال و شاطرهم أموالهم- و كان يستعمل قوما و يدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل- و قال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل- و هو الذي هدم مسجد رسول الله ص- و زاد فيه و أدخل دار العباس فيما زاد- و هو الذي أخرج اليهود من الحجاز- و أجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام- و هو الذي فتح البيت المقدس و حضر الفتح بنفسه- و هو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم- و كان ملصقا بالبيت و حج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى- فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف- و هو
الذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة- و كان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم- . و روى أبو هريرة قال- قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم- فقال لي بما ذا قدمت قلت بثمانمائة ألف درهم- فقال أ لم أقل لك إنك يمان أحمق- ويحك إنما قدمت بثمانين ألف درهم- فقلت يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم- فجعل يعجب و يكررها- فقال ويحك و كم ثمانمائة ألف درهم- فعددت مائة ألف و مائة ألف حتى بلغت ثمانية- فاستعظم ذلك- و قال أ طيب هو ويحك- قلت نعم فبات عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح- قالت له امرأته ما نمت هذه الليلة- قال و كيف أنام و قد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الإسلام- فظنت المرأة أنها داهية- فسألته فقال مال جم حمله أبو موسى- قالت فما بالك- قال ما يؤمنني لو مت و هذا المال عندي لم أضعه في حقه- فخرج يصلي الصبح و اجتمع الناس إليه- فقال لهم قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا علي- رأيت أن أكيله للناس بالمكيال- قالوا لا يا أمير المؤمنين- قال لا بل أبدأ برسول الله ص و بأهله- ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني هاشم- ثم ببني المطلب ثم بعبد شمس و نوفل- ثم بسائر بطون قريش- . قسم عمر مروطا بين نساء المدينة- فبقي مرط جيد له فقال بعض من عنده- أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك- يعنون أم كلثوم ابنة علي ع-
فقال أم سليط أحق به- فإنها ممن بايع رسول الله ص- و كانت تزفر لنا القرب يوم أحد- . و روى زيد بن أسلم عن أبيه- قال خرجت مع عمر إلى السوق- فلحقته امرأة شابة- فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي- و ترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا- لا زرع لهم و لا ضرع- و قد خشيت عليهم الضيعة- و أنا ابنة خفاف بن أسماء الغفاري- و قد شهد أبي الحديبية فوقف عمر معها و لم يمض- و قال مرحبا بنسيب قريب- ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار- فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما- و جعل بينهما نفقة و ثيابا ثم ناولها خطامه- و قال اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير- فقال له رجل لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين- فقال ثكلتك أمك و الله لكأني أرى أبا هذه و أخاها- و قد حاصرا حصنا فافتتحاه فافترقنا- ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه- . و روى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة- فرآه دخل بيتا ثم خرج- فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت- فرأى امرأة عمياء مقعده- فقال لها ما بال رجل أتاك الليلة- قالت إنه رجل يتعاهدني منذ كذا و كذا- يأتيني بما يصلحني- فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة تريد تتبع عمر- . خرج عمر إلى الشام- حتى إذا كان ببعض الطريق- لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح و أصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام- فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين- فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه- فقال بعضهم خرجت لأمر و لا نرى أن
ترجع عنه- و قال بعضهم معك بقية الناس و أصحاب رسول الله ص- و لا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء- فقال ارتفعوا عني- ثم قال لابن عباس ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم- فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين- فقال لابن عباس- ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح- فدعاهم فقالوا بأجمعهم- نرى أن ترجع بالناس و لا تقدمهم على هذا الوباء- فنادى عمر في الناس- إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه- فقال له أبو عبيدة بن الجراح- أ فرارا من قدر الله تعالى- فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله- أ رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان- إحداهما خصبة و الأخرى جدبة- أ ليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله- و إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله- فجاء عبد الرحمن بن عوف و كان متغيبا في بعض حاجته- فقال إن عندي من هذا علما-
سمعت رسول الله ص يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه- و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
- فحمد عمر الله عز و جل و انصرف إلى المدينة- . و روى ابن عباس- قال خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته- فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته- فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك- سألته أن يخرج معي فلم يفعل- و لم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته- قلت يا أمير المؤمنين إنك لتعلم- قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة- قلت هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له- فقال يا ابن عباس و أراد رسول الله ص الأمر له- فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك- إن رسول الله ص أراد أمرا و أراد
الله غيره- فنفذ مراد الله تعالى و لم ينفذ مراد رسوله- أ و كلما أراد رسول الله ص كان- إنه أراد إسلام عمه و لم يرده الله فلم يسلم- . و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله- إن رسول الله ص أراد أن يذكره للأمر في مرضه- فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الإسلام- فعلم رسول الله ما في نفسي و أمسك- و أبى الله إلا إمضاء ما حتم و حدثني الحسين بن محمد السيني- قال قرأت على ظهر كتاب- أن عمر نزلت به نازلة- فقام لها و قعد و ترنح لها و تقطر- و قال لمن عنده معشر الحاضرين- ما تقولون في هذا الأمر- فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزع- فغضب و قال- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ- وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً- ثم قال أما و الله إني و إياكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها- قالوا كأنك أردت ابن أبي طالب- قال و أنى يعدل بي عنه و هل طفحت حرة مثله- قالوا فلو دعوت به يا أمير المؤمنين- قال هيهات إن هناك شمخا من هاشم و أثرة من علم- و لحمة من رسول الله ص يؤتى و لا يأتي- فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه و أفضوا إليه- فألفوه في حائط له عليه تبان- و هو يتركل على مسحاته و يقرأ- أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى آخر السورة- و دموعه تهمي على خديه- فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا- فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها- فقال عمر- أما
و الله لقد أرادك الحق و لكن أبى قومك- فقال يا أبا حفص خفض عليك من هنا و من هنا- إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً- فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى- و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد- . قلت أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوع خطبه 228 نهج البلاغها- و فيه ما يدل على ذلك- من كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة- و الأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله و إلى المسجد- و أيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولي الخلافة بالكنية- و إنما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين- هكذا تنطق كتب الحديث و كتب السير و التواريخ كلها- . و أيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين- و لا إلى راو معين- بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا- و الحديث المجهول غير الصحيح- . فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر- و في الروايات منه الكثير الواسع- و لكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة- و قد روي عن ابن عباس أيضا- قال دخلت على عمر يوما فقال يا ابن العباس- لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء- قلت من هو فقال هذا ابن عمك يعني عليا- قلت و ما يقصد بالرياء أمير المؤمنين- قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة- قلت و ما يصنع بالترشيح- قد رشحه لها رسول الله ص فصرفت عنه- قال إنه كان شابا حدثا- فاستصغرت العرب سنه و قد كمل الآن- أ لم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين- قلت يا أمير المؤمنين- أما أهل الحجى و النهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا- منذ رفع الله منار الإسلام- و لكنهم يعدونه محروما مجدودا- فقال أما إنه سيليها بعد هياط و مياط- ثم تزل فيها قدمه و لا يقضى منها أربه- و لتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله- ثم يتبين الصبح لذي عينين- و تعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين-
الذين صرفوها عنه بادئ بدء- فليتني أراكم بعدي يا عبد الله- إن الحرص محرمة و إن دنياك كظلك- كلما هممت به ازداد عنك بعدا- . نقلت هذا الخبر- من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله- . و نقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس- قال تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه- و خاف العجز و ضجر من سياسة الرعية- فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه- فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده- إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر- و أظن وفاتي قد دنت- فما تقول في علي- أشر علي في رأيك و أذكرني ما تجدونه عندكم- فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم- فقال أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح- إنه رجل متين الدين لا يغضي على عورة- و لا يحلم عن زلة و لا يعمل باجتهاد رأيه- و ليس هذا من سياسة الرعية في شي ء- و أما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر و لا ولده- و إن وليه كان هرج شديد- قال كيف ذاك قال لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك- إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس- أوحى الله إليه إنك لا تبنيه- لأنك أرقت الدماء و إنما يبنيه سليمان- فقال عمر أ ليس بحق أراقها- قال كعب و داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين- قال فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم قال- نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و الاثنين من أصحابه- إلى أعدائه الذين حاربهم و حاربوه و حاربهم على الدين- فاسترجع عمر مرارا- و قال أ تستمع يا ابن عباس- أما و الله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا
سمعته يقول ليصعدن بنو أمية على منبري- و لقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة
- و فيهم أنزل- وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ- وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ-
و قد روى الزبير بن بكار في الموفقيات- ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة- قال قال لي عمر يوما يا مغيرة- هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت- قلت لا قال أما و الله ليعورن بنو أمية الإسلام- كما أعورت عينك هذه- ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب و لا أين يجي ء- قلت ثم ما ذا يا أمير المؤمنين- قال ثم يبعث الله تعالى بعد مائة و أربعين- أو بعد مائة و ثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم- يعيدون إلى الإسلام بصره و شتاته- قلت من هم يا أمير المؤمنين- قال حجازي و عراقي و قليلا ما كان و قليلا ما دام- . و روى أبو بكر الأنباري في أماليه- أن عليا ع جلس إلى عمر في المسجد و عنده ناس- فلما قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى التيه و العجب- فقال عمر حق لمثله أن يتيه- و الله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام- و هو بعد أقضى الأمة و ذو سابقتها و ذو شرفها- فقال له ذلك القائل- فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه- قال كرهناه على حداثة السن و حبه بني عبد المطلب- . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد- و قد قرأت عليه هذه الأخبار- فقلت له ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص- و لكني أستبعد أن يجتمع الصحابة- على دفع نص رسول الله ص على شخص بعينه- كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة- و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين- فقال لي رحمه الله أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة- ثم قال إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة- إلى أنها من معالم الدين- و أنها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة و الصوم- و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية و يذهبون لهذا- مثل تأمير الأمراء و تدبير الحروب و سياسة الرعية- و ما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه ص- إذا رأوا المصلحة في
غيرها- أ لا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر و عمر في جيش أسامة- و لم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة و للملة- و حفظا للبيضة و دفعا للفتنة- و قد كان رسول الله ص يخالف- و هو حي في أمثال ذلك فلا ينكره- و لا يرى به بأسا- أ لست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا- على أن يحارب قريشا فيه- فخالفته الأنصار- و قالت له ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه- و انزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم- و هو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة- لا تؤبروا النخل- فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة و لم تثمر- حتى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم- و أنا أعرف بأمر دينكم- و هو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر- فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه- بعد أن فات الأمر و خلص الأسرى و رجعوا إلى مكة- و هو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه- فأتى سعد بن معاذ و سعد بن عبادة فخالفاه- فرجع إلى قولهما و قد كان قال لأبي هريرة- اخرج فناد في الناس- من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة- فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره- حتى وقع على الأرض فقال لا تقلها- فإنك إن تقلها يتكلوا عليها و يدعوا العمل- فأخبر أبو هريرة رسول الله ص بذلك- فقال لا تقلها و خلهم يعملون- فرجع إلى قول عمر و قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا- على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك- كإسقاطهم سهم ذوي القربى و إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم- و هذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا- و قد عملوا بآرائهم أمورا- لم يكن لها ذكر في الكتاب و السنة- كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا- و لم يحد رسول الله ص شاربي الخمر- و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم- و لقد كان أوصاهم في مرضه-أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم- حتى مضى صدر من خلافة عمر- و عملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم- و هم الذين هدموا المسجد بالمدينة و حولوا المقام بمكة- و عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة- و لم يقفوا مع موارد النصوص- حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد- فرجح كثير منهم القياس على النص- حتى استحالت الشريعة- و صار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة- . قال النقيب و أكثر ما يعملون بآرائهم- فيما يجري مجرى الولايات و التأمير و التدبير- و تقرير قواعد الدولة- و ما كانوا يقفون مع نصوص الرسول ص و تدبيراته- إذا رأوا المصلحة في خلافها- كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا- و كأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله- و تقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة- . قال و أما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع و الدين- و ليس بمتعلق بأمور الدنيا و تدبيراتها فإنه يقل جدا- نحو أن يقول الوضوء شرط في الصلاة- فيجمعوا على رد ذلك و يجيزوا الصلاة من غير وضوء- أو يقول صوم شهر رمضان واجب- فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوا شوالا عوضا عنه- فإنه بعيد إذ لا غرض لهم فيه- و لا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه ص- و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم- أن العرب لا تطيع عليا ع- فبعضها للحسد و بعضها للوتر و الثأر- و بعضها لاستحداثهم سنه- و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم- و بعضها كراهة اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد- و بعضها للخوف من شدة وطأته و شدته في دين الله- و بعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة- إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه- فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا- و بعضها ببغضه لبغضهم من قرابته
لرسول الله ص- و هم المنافقون من الناس- و من في قلبه زيغ من أمر النبوة- فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر عنه لغيره- و قال رؤساؤهم إنا خفنا الفتنة- و علمنا أن العرب لا تطيعه و لا تتركه- و تأولوا عند أنفسهم النص و لا ينكر النص- و قالوا إنه النص و لكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب- و الغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية- و أعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر- و إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض- لينصبوه خليفة فيما زعموا و اختلط الناس- و كثر الخبط و كادت الفتنة أن تشتعل نارها- فوثب رؤساء المهاجرين- فبايعوا أبا بكر و كانت فلتة كما قال قائلهم- و زعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار- فمن سكت من المسلمين و أغضى و لم يتعرض- فقد كفاهم أمر نفسه- و من قال سرا أو جهرا- إن فلانا قد كان رسول الله ص ذكره- أو نص عليه أو أشار إليه- أسكتوه في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة- و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم- إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب- لأنه وترها و سفك دماءها- أو لأنه صاحب زهو و تيه- أو كيف تجتمع النبوة و الخلافة في مغرس واحد- بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا و أوكد- قالوا أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه- لا سيما و عمر يعضده و يساعده- و العرب تحب أبا بكر و يعجبها لينه و رفقه- و هو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد- و لا يحقد عليه أحد و لا يبغضه أحد- و ليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه- و لا بذي قربى من الرسول ص فيدل بقربه- و دع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه- قالوا لو نصبنا عليا ع- ارتد الناس عن الإسلام و عادت الجاهلية كما كانت- فأيما أصلح في الدين- الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق- و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية- أم العمل بمقتضى الأصلح- و استبقاء الإسلام و استدامة العمل بالدين- و إن كان فيه مخالفة النص- .
قال رحمه الله و سكت الناس عن الإنكار- فإنهم كانوا متفرقين- فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي ع- فالذي تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه و برد فؤاده- و منهم ذو الدين و صحة اليقين- إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه- ظن أنهم إنما فعلوا ذلك- لنص سمعوه من رسول الله ص- ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين ع- لا سيما ما
رواه أبو بكر من قول النبي ص الأئمة من قريش
- فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص- و إن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش- من أي بطون قريش كان فإنه يكون إماما- . و أكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص- ما سمعوه
من قول رسول الله ص ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
و
قوله ع سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلال- فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة
- . و قالوا هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله ص من كل أحد- فأمسكوا و كفوا عن الإنكار- و منهم فرقة أخرى و هم الأكثرون- أعراب و جفاة و طغام أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح- فهؤلاء مقلدون لا يسألون و لا ينكرون و لا يبحثون- و هم مع أمرائهم و ولاتهم- لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها- فلذلك أمحق النص و خفي و درس- و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر- و قواها زيادة على ذلك- اشتغال علي و بني هاشم برسول الله ص- و إغلاق بابهم عليهم- و تخليتهم الناس يعملون ما شاءوا و أحبوا- من غير مشاركة لهم فيما هم فيه- لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات- و هيهات الفائت لا رجعة له- . و أراد علي ع بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك- و كانت العرب لا ترى
الغدر- و لا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ- و قد قالت له الأنصار و غيرها أيها الرجل- لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا- و لكنا قد بايعنا- فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها- . قال النقيب- و مما جرأ عمر على بيعة أبي بكر و العدول عن علي- مع ما كان يسمعه من الرسول ص في أمره- أنه أنكر مرارا على الرسول ص أمورا اعتمدها- فلم ينكر عليه رسول الله ص إنكاره- بل رجع في كثير منها إليه- و أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته- فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير- من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة- مما هي خلاف النص- و ذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق- و إنكاره فداء أسارى بدر- و إنكاره عليه تبرج نسائه للناس- و إنكاره قضية الحديبية- و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب- و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة- و إنكاره أمره بالنداء-
من قال لا إله إلا الله دخل الجنة
- و إنكاره أمره بذبح النواضح- و إنكاره على النساء بحضرة رسول الله ص هيبتهن له- دون رسول الله ص إلى غير ذلك- من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث- و لو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله ص في مرضه-
ائتوني بدواة و كتف- أكتب لكم ما لا تضلون بعدي
- و قوله ما قال و سكوت رسول الله ص عنه- و أعجب الأشياء أنه قال ذلك اليوم حسبنا كتاب الله- فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار- فبعضهم يقول القول ما قال رسول الله ص- و بعضهم يقول القول ما قال عمر- فقال رسول الله و قد كثر اللغط و علت الأصوات-
قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا التنازع
- فهل بقي للنبوة مزية أو فضل- إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين- و ميل
المسلمون بينهما- فرجح قوم هذا و قوم هذا- فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه و بين عمر- و جعلوا القولين مسألة خلاف- ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما- كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام- فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون- فمن بلغت قوته و همته إلى هذا- كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها- و يعدل عن النص- و من الذي كان ينكر عليه ذلك- و هو في القول الذي قاله للرسول ص في وجهه- غير خائف من الأنصار- و لا ينكر عليه أحد لا رسول الله ص و لا غيره- و هو أشد من مخالفة النص في الخلافة و أفظع و أشنع قال النقيب- على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه- بل أعد أعذارا و أجوبة- و ذلك لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث النص- أن رسول الله ص رجع عن ذلك- بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه- و أوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة- و قال يوم السقيفة- أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين- قدمهما رسول الله ص في الصلاة- ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر- و قد عرض عليه البيعة- أنت صاحب رسول الله ص في المواطن كلها- شدتها و رخائها رضيك لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا- . ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل- فأوهم أن رسول الله ص كرهه لذلك و وجد عليه- و أرضاه عمرو بن العاص- فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول الله-
قال سمعته يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنين
فجعلوا ذلك كالناسخ
لقوله ص من كنت مولاه فهذا مولاه
- . قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا- أ ليس هذا نسخا للشي ء قبل تقضي وقت فعله- فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا- و أنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه- فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة- فضلا عن حمقى العرب- هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة- و يستمالون بأضعف سبب- و تبنى الأمور معهم على ظواهر
النصوص و أوائل الأدلة- و هم أصحاب جهل و تقليد- لا أصحاب تفضيل و نظر- . قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم- أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال- و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها- و سلكوا مسلك الرفض لزينتها- و الرغبة عنها و القناعة بالطفيف النزر منها- و أكلوا الخشن و لبسوا الكرابيس- و لما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها- و فرقوا الأموال على الناس و قسموها بينهم- و لم يتدنسوا منها بقليل و لا كثير- فمالت إليهم القلوب و أحبتهم النفوس- و حسنت فيهم الظنون- و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم- لو كان هؤلاء قد خالفوا النص- لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا- و لظهر عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستئثار بها- و كيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص- و ترك لذات الدنيا و مآربها- فيخسروا الدنيا و الآخرة- و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو الباب و آراء صحيحة- فلم يبق عند أحد شك في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم- و ثبتت العقائد على ولايتهم و تصويب أفعالهم- و نسوا لذة الرئاسة- و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون- إلى المأكل و المشرب و المنكح- و إنما يريدون الرئاسة و نفوذ الأمر- كما قال الشاعر-
- و قد رغبت عن لذة المال أنفسو ما رغبت عن لذة النهي و الأمر
- . قال رحمه الله- و الفرق بين الرجلين و بين الثالث ما أصيب به الثالث- و قتل تلك القتلة و خلعه الناس و حصروه- و ضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله- و جبهوه في وجهه و فسقوه- و ذلك لأنه استأثر هو و أهله بالأموال- و انغمسوا فيها و استبدوا بها- فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأولين- فلم تصبر العرب على ذلك- و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد- و جمع الناس و ردع الأمراء و الولاة عن الأموال- و تجنب استعمال أهل بيته- و وفر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس- زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها- لما ضره شي ء قط و لا أنكر عليه أحد قط- و لو حول الصلاة من
الكعبة إلى بيت المقدس- بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس- و اقتنع منهم بأربع- و ذلك لأن همم الناس مصروفة إلى الدنيا و الأموال- فإذا وجدوها سكتوا و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا- أ لست ترى رسول الله ص- كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين- و على أعدائه الذين يتمنون قتله و موته و زوال دولته- فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم- و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه- و كف عن إظهار عداوته و الإجلاب عليه- و لو أن عليا صانع أصحابه بالمال- و أعطاه الوجوه و الرؤساء- لكان أمره إلى الانتظام و الاطراد أقرب- و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوي- و آثر لزوم الدين و تمسك بأحكام الشريعة- و الملك أمر آخر غير الدين- فاضطرب عليه أصحابه- و هرب كثير منهم إلى عدوه- . و قد ذكرت في هذا الفصل- خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر- و لم يكن إمامي المذهب و لا كان يبرأ من السلف- و لا يرتضي قول المسرفين من الشيعة- و لكنه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه- على أن العلوي لو كان كراميا- لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب- و ميل على الصحابة و إن قل- .
و لنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته و سيرته- . كتب عمر إلى أبي موسى- لما استعمله قاضيا و بعثه إلى العراق- من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس- سلام عليك أما بعد- فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة- فافهم إذا أدلي إليك- فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له- آس بين الناس في وجهك و عدلك و مجلسك- حتى لا يطمع شريف في
حيفك- و لا ييأس ضعيف من عدلك- البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر- و الصلح جائز بين المسلمين- إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا- لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك- و هديت فيه لرشدك- أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم- و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل- الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك- مما ليس في كتاب و لا سنة- ثم اعرف الأشباه و الأمثال- و قس الأمور عند ذلك- و اعمد إلى أقربها إلى الله عز و جل و أشبهها بالحق- و اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه- فإن أحضر بينته أخذت له بحقه- و إلا استحللت عليه القضية- فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى- المسلمون عدول بعضهم على بعض- إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور- أو ظنينا في ولاء أو نسب- فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر- و درأ عنكم بالبينات و الأيمان الشبهات- إياك و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم- و التنكر عند الخصومات- فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر- و يحسن به الذخر فمن صحت نيته- و أقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس- و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه إنه ليس من نفسه- شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه- و خزائن رحمته و السلام- .
ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد- في كتاب الكامل و أطراها- فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام- و اختصرها بأجود الكلام- و جعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا- و لا ظالم عن حدودها محيصا- .
و كتب عمر إلى عماله يوصيهم- فقال في جملة الكتاب- ارتدوا و ائتزروا و انتعلوا- و ألقوا الخفاف و السراويلات و ألقوا الركب- و انزوا نزوا على الخيل و اخشوشنوا و عليكم بالمعدية- أو قال و تمعددوا و ارموا الأغراض- و علموا فتيانكم العوم و الرماية- و ذروا التنعم و زي العجم و إياكم و الحرير- فإن رسول الله ص نهى عنه- و قال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا- و أشار بإصبعه- . و كتب إلى بعض عماله- أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته- و أن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته- فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك- فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة- رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن- و حتفها في سمنها و كتب إلى أبي موسى و هو بالبصرة- بلغني أنك تأذن للناس الجماء الغفير- فإذا جاءك كتابي هذا- فأذن لأهل الشرف و أهل القرآن و التقوى و الدين- فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة- و لا تؤخر عمل اليوم لغد- فتتداك عليك الأعمال فتضيع- و إياك و اتباع الهوى- فإن للناس أهواء متبعة و دنيا مؤثرة و ضغائن محمولة- و حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة- فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة- كان مرجعه إلى الرضا و الغبطة- و من ألهته حياته و شغلته أهواؤه- عاد أمره إلى الندامة و الحسرة- إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة- بعيد القرارة لا يحنق على جرة- و لا يطلع الناس منه على عورة- و لا يخاف في الحق لومة لائم- الزم أربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بأفضل حظك- إذا حضر الخصمان- فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة- ثم ائذن للضعيف حتى ينبسط لسانه- و يجترئ قلبه و تعاهد الغريب- فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف إلى أهله- و احرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء- و السلام عليك- . و كان رجل من الأنصار- لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور- إلى أن جاء ذات يوم مع خصم له- فجعل في أثناء الكلام يقول- يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه- كما يفصل فخذ الجزور- . قال عمر- فما زال يرددها حتى خفت على نفسي- فقضيت عليه و كتبت إلى عمالي- أما بعد فإياكم و الهدايا فإنها من الرشا- ثم لم أقبل له هدية فيما بعد و لا لغيره- . و كان عمر يقول- اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون- فإن الله عز و جل وكل بهم ملائكة- واضعة أيديهم على أفواههم- فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم- . و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه- قال كان عمر يقول- جردوا القرآن و لا تفسروه- و أقلوا الرواية عن رسول الله ص و أنا شريككم- . و قال أبو جعفر- و كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شي ء جمع أهله- فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا- و أن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم- و أقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل- إلا أضعفت عليه العقوبة- . قال أبو جعفر و كان عمر شديدا على أهل الريب- و في حق الله صليبا حتى يستخرجه- و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه و بالضعيف رحيما- .
و روى زيد بن أسلم- عن أبيه أن نفرا من المسلمين- كلموا عبد الرحمن بن عوف- فقالوا كلم لنا عمر بن الخطاب- فقد و الله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا- فذكر عبد الرحمن له ذلك- فقال أ و قد قالوا ذلك- و الله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله في أمرهم- و قد تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم- و أنا و الله أشد فرقا لله منهم لي- .
و روى جابر بن عبد الله قال- قال رجل لعمر يا خليفة الله قال خالف الله بك- قال جعلني الله فداك قال إذن يهينك الله- . و روى أبو جعفر- قال استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه- فقال له علي بن أبي طالب ع- تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال- و لا تمسك منه شيئا- و قال عثمان بن عفان- أرى مالا كثيرا يسع الناس و إن لم يحصوا- حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر- فقال الوليد بن هشام بن المغيرة- يا أمير المؤمنين قد جئت الشام- فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا- و جندوا جنودا و فرضوا لهم أرزاقا- فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب- و مخرمة بن نوفل و جبير بن مطعم- و كانوا نساب قريش- و قال اكتبوا الناس على منازلهم- فكتبوا فبدءوا ببني هاشم- ثم أتبعوهم أبا بكر و قومه- ثم عمر و قومه على ترتيب الخلافة- فلما نظر إليه قال وددت أنه كان هكذا- لكن ابدأ بقرابة النبي ص الأقرب فالأقرب- حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله- . قال أبو جعفر جاءت بنو عدي إلى عمر- فقالوا له يا عمر- أنت خليفة رسول الله
ص- قال أو خليفة أبي بكر- و أبو بكر خليفة رسول الله ص- قالوا و ذاك فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم- فقال بخ بخ يا بني عدي- أردتم الأكل على ظهري- و أن أذهب حسناتي لكم- لا و الله و لو كتبتم آخر الناس- إن لي صاحبين سلكا طريقا- فإن أنا خالفتهما خولف بي- و الله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد- و لا نرجو ما نرجو من الآخرة و ثوابها إلا بمحمد ص- فهو شرفنا و قومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب- و ما بيننا و بين أن نلقاه- ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة- و الله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال و جئنا بغير عمل- فإنهم أولى بمحمد ص منا يوم القيامة- لا ينظرن رجل إلى قرابته- و ليعمل بما عند الله- فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه- .
و روى السائب بن يزيد قال- سمعت عمر بن الخطاب يقول- و الله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه- و ما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك- و ما أنا فيه إلا كأحدكم- و لكنا على منازلنا من كتاب الله- و قسمنا من رسول الله ص- فالرجل و بلاؤه في الإسلام- و الرجل و غناؤه و الرجل و حاجته- و الله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء- حظه من المال و هو مكانه- . و روى نافع مولى آل الزبير قال- سمعت أبا هريرة يقول رحم الله ابن حنتمة- لقد رأيته عام الرمادة- و إنه ليحمل على ظهره جرابين- و عكة زيت في يده- و إنه ليعتقب هو و أسلم- فلما رآني قال من أين يا أبا هريرة- قلت قريبا فأخذت أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار- فإذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب- فقال عمر ما أقدمكم قالوا الجهد- و أخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه- و رمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها- فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز- فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا- و أرسل أسلم إلى المدينة- فجاء بأبعرة فحملهم عليها- ثم أنزلهم الجبانة ثم كساهم- و كان يختلف إليهم و إلى غيرهم حتى كفى الله ذلك- . و روى راشد بن سعد أن عمر أتي بمال- فجعل يقسم بين الناس فازدحموا عليه- فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه- فعلاه عمر بالدرة- و قال إنك أقبلت- لا تهابن سلطان الله في الأرض- فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك- . و قالت الشفاء ابنة عبد الله- و رأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي- و يتكلمون رويدا ما هؤلاء- فقيل نساك- فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا- و كان إذا تكلم أسمع- و إذا مشى أسرع و إذا ضرب أوجع- .
أعان عمر رجلا على حمل شي ء فدعا له الرجل- و قال نفعك بنوك يا أمير المؤمنين- قال بل أغناني الله عنهم- . و من كلامه- القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد- و الأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك- و التقوى بالتوقي و من يتق الله يقه- .
و قال عمر كنا نعد المقرض بخيلا إنما كانت المواساة- . أتى رهط إلى عمر- فقالوا يا أمير المؤمنين- كثر العيال و اشتدت المئونة فزدنا في أعطياتنا- فقال فعلتموها جمعتم بين الضرائر- و اتخذتم الخدم من مال الله- أما لوددت أني و إياكم في سفينتين في لجة البحر- تذهب بنا شرقا و غربا- فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم- فإن استقام اتبعوه و إن جنف قتلوه- فقال طلحة و ما عليك لو قلت و إن أعوج عزلوه- فقال القتل أرهب لمن بعده- احذروا فتى قريش- فإنه كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا- و يضحك عند الغضب- و يتناول ما فوقه من تحته- . و كان يقول في آخر أيامه- عند تبرمه بالأمر و ضجره من الرعية- اللهم ملوني و مللتهم و أحسست من نفسي و أحسوا مني- و لا أدري بأينا يكون اللوت- و قد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك- . و ذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا- فقالوا فاضل لا يعرف الشر- قال ذاك أوقع له فيه و روى الطبري في التاريخ- أن عمر استعمل عتبة بن أبي سفيان على عمل- فقدم منه بمال فقال له ما هذا يا عتبة- قال مال خرجت به معي و تجرت فيه- قال و ما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه- فأخذ المال منه فصيره في بيت المال- فلما قام عثمان قال لأبي سفيان-
إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك- فقال له أبو سفيان إياك و ما هممت به- إنك إن خالفت صاحبك قبلك- ساء رأي الناس فيك- إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك- . و روى الطبري أيضا- أن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر- فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم- تتجر فيها و تضمنها- فخرجت بها إلى بلاد كلب فباعت و اشترت- و بلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه- و معه ابنه عمرو بن أبي سفيان- فعدلت إليه من بلاد كلب- و كان أبو سفيان قد طلقها- فقال معاوية ما أقدمك يا أمه- قالت النظر إليك يا بني إنه عمر- و إنما يعمل لله و قد أتاك أبوك- فخشيت أن تخرج إليه من كل شي ء- و أهل ذلك هو- و لكن لا يعلم عمر من أين أعطيته- فيؤنبوك و يؤنبك و لا تستقبلها أبدا- فبعث معاوية إلى أبيه و أخيه مائة دينار- و كساهما و حملهما فسخطها عمر- فقال أبو سفيان لا تسخطها- فإنها عطاء لم تغب عنه هند- و رجع هو و ابنه إلى المدينة- فسأله عمر بكم أجازك معاوية- فقال بمائة دينار فسكت عمر- . و روى الأحنف قال- أتى عبد الله بن عمير عمر- و هو يقرض الناس- فقال يا أمير المؤمنين- أقرض لي فلم يلتفت إليه فنخسه- فقال عمر حس و أقبل عليه- فقال من أنت فقال عبد الله بن عمير- و كان أبوه استشهد يوم حنين- فقال يا يرفأ أعطه ستمائة- فأعطاه ستمائة فلم يقبلها- و رجع إلى عمر فأخبره- فقال يا يرفأ أعطه
ستمائة حلة فأعطاه- فلبس الحلة التي كساه عمر و رمى ما كان عليه- فقال له خذ ثيابك هذه- فلتكن في مهنة أهلك و هذه لزينتك- . و روى إياس بن سلمة عن أبيه- قال مر عمر في السوق و معه الدرة- فخفقني خفقة فأصاب طرف ثوبي- و قال أمط عن الطريق- فلما كان في العام المقبل لقيني- فقال يا سلمة أ تريد الحج قلت- نعم فأخذ بيدي و انطلق بي إلى منزله- فأعطاني ستمائة درهم و قال استعن بها على حجك- و اعلم أنها بالخفقة التي خفقتك- فقلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها- قال و أنا ما نسيتها- . و خطب عمر فقال أيتها الرعية- إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب و المعاونة على الخير- إنه ليس من حلم أحب إلى الله- و لا أعم نفعا من حلم إمام و رفقه- و ليس من جهل أبغض إلى الله من جهل إمام و خرفه- أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه- فوته الله العافية من فوقه- . و روى الربيع بن زياد- قال قدمت على عمر بمال من البحرين- فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه- فقال ما قدمت به قلت خمسمائة ألف- قال ويحك إنما قدمت بخمسين ألفا- قلت بل خمسمائة ألف- قال كم يكون ذلك- قلت مائة ألف و مائة ألف و مائة ألف حتى عددت خمسا- فقال إنك ناعس ارجع إلى بيتك- ثم اغد علي فغدوت عليه- فقال ما جئت به قلت ما قلته لك- قال كم هو قلت خمسمائة ألف- قال أ طيب هو قلت نعم- لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه- فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه- و قسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة-
فأصبح فجمع المهاجرين و الأنصار- و فيهم علي بن أبي طالب- و قال للناس ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال- فقال الناس يا أمير المؤمنين- إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك و تجارتك و صنعتك فهو لك- فالتفت إلى علي فقال ما تقول أنت- قال قد أشاروا عليك قال فقل أنت- فقال له لم تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله- فقال لتخرجن مما قلت- قال أجل و الله لأخرجن منه- أ تذكر حين بعثك رسول الله ص ساعيا- فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته- فكان بينكما شي ء فجئتما إلي و قلتما- انطلق معنا إلى رسول الله ص فجئنا إليه- فوجدناه خاثرا فرجعنا- ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس- فأخبرته بالذي صنع العباس- فقال لك يا عمر- أ ما علمت أن عم الرجل صنو أبيه- فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول- و طيب نفسه في اليوم الثاني- فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول- و قد بقي عندي من مال الصدقة ديناران- فكان ما رأيتم من خثوري لذلك- و أتيتم في اليوم الثاني و قد وجهتهما- فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي- أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا- و أن تفضه على فقراء المسلمين- فقال صدقت و الله لأشكرن لك الأولى و الأخيرة- . و روى أبو سعيد الخدري قال- حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته- فلما دخل المسجد الحرام- دنا من الحجر الأسود فقبله و استلمه- و قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع- و لو لا أني رأيت رسول الله ص قبلك و استلمك- لما قبلتك و لا استلمتك- فقال له علي بلى يا أمير المؤمنين- إنه ليضر و ينفع- و لو علمت تأويل ذلك من كتاب الله- لعلمت أن الذي أقول لك- كما أقول قال الله تعالى- وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى
- فلما أشهدهم و أقروا له- أنه الرب عز و جل و أنهم العبيد- كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر- و أن له لعينين و لسانا و شفتين- تشهد لمن وافاه بالموافاة- فهو أمين الله عز و جل في هذا المكان- فقال عمر لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن- . قلت- قد وجدنا في الآثار و الأخبار في سيرة عمر أشياء- تناسب قوله في هذا الحجر الأسود- كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله ص تحتها بيعة الرضوان- في عمرة الحديبية- لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله ص كانوا يأتونها- فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها- ثم أمر بها فقطعت- . و روى المغيرة بن سويد قال- خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر- أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ- و لِإِيلافِ قُرَيْشٍ- فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك- فقال ما بالهم- قالوا مسجد صلى فيه النبي ص و الناس يبادرون إليه- فناداهم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم- اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا- من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل- و من لم تعرض له صلاة فليمض- . و أتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال- أنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا- فيه علم من علوم الفرس و كلام معجب- فدعا بالدرة فجعل يضربه بها- ثم قرأ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ- و يقول ويلك أ قصص أحسن من كتاب الله- إنما هلك من كان قبلكم- لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم و أساقفتهم- و تركوا التوراة و الإنجيل حتى درسا- و ذهب ما فيهما من العلم- . و جاء رجل إلى عمر فقال- إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين- فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن- فقال اللهم أمكني منه- فبينا عمر يوما جالس يغدي الناس- إذ جاءه الضبيع و عليه ثياب و عمامة فتقدم فأكل- حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى- وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً- فَالْحامِلاتِ وِقْراً- قال ويحك أنت هو- فقام إليه فحسر عن ذراعيه- فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان فقال- و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك- ثم أمر به فجعل في بيت- ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة- فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى- ثم حمله على قتب و سيره إلى البصرة- و كتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته- و أن يقوم في الناس خطيبا- ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه- فلم يزل وضيعا في قومه و عند الناس حتى هلك- و قد كان من قبل سيد قومه- .
و قال عمر على المنبر- ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن- أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها- فأفتوا بآرائهم فضلوا و أضلوا- ألا إنا نقتدي و لا نبتدي و نتبع و لا نبتدع- إنه ما ضل متمسك بالأثر و روى زيد بن أسلم عن أبيه- قال سمعت عمر يقول في الحج- فيم الرملان الآن و الكشف عن المناكب- و قد أظهر الله الإسلام و نفى الكفر و أهله- و مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله ص- .
مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه- فقال ما اسمك قال جمرة- قال أبو من قال أبو شهاب- قال ممن قال من الحرقة- قال و أين مسكنك قال بحرة النار- قال بأيها قال بذات لظى- فقال ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا- فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا- . و روى الليث بن سعد قال- أتي عمر بفتى أمرد- قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق- فسأل عن أمره و اجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه- فكان يدعو و يقول اللهم أظفرني بقاتله- حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك- وجد طفل مولود ملقى في موضع ذلك القتيل- فأتي به عمر- فقال ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى- فدفع الطفل إلى امرأة- و قال لها قومي بشأنه- و خذي منا نفقته و انظري من يأخذه منك- فإذا وجدت امرأة تقبله و تضمه إلى صدرها- فأعلميني مكانها- فلما شب الصبي جاءت جارية- فقالت للمرأة- إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي إليها بهذا الصبي- فتراه و ترده إليك قالت نعم- اذهبي به إليها و أنا معك- فذهبت بالصبي حتى دخلت على امرأة شابة- فأخذت الصبي- فجعلت تقبله و تفديه و تضمه إليها- و إذا هي بنت شيخ من الأنصار- من أصحاب رسول الله ص- فجاءت المرأة و أخبرت عمر- فاشتمل على سيفه و أقبل إلى منزلها- فوجد أباها متكئا على الباب- فقال له ما الذي تعلم من حال ابنتك- قال أعرف الناس بحق الله و حق أبيها- مع حسن صلاتها و صيامها و القيام بدينها فقال- إني أحب أن أدخل إليها و أزيدها رغبة في الخير- فدخل الشيخ ثم خرج- فقال ادخل يا أمير المؤمنين- فدخل و أمر أن يخرج كل من في الدار إلا أباها- ثم سألها عن الصبي فلجلجت- فقال لتصدقيني ثم انتضى السيف- فقالت على رسلك يا أمير المؤمنين- فو الله لأصدقنك- إن عجوزا كانت تدخل علي فاتخذتها أما- و كانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة- و أنا لها بمنزلة البنت-
فمكثت كذلك حينا- ثم قالت إنه قد عرض لي سفر- و لي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة- و أنا أحب أن أضمها إليك- حتى أرجع من سفري- ثم عمدت إلى ابن لها أمرد- فهيأته و زينته كما تزين المرأة و أتتني به- و لا أشك أنه جارية- فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة- فاغتفلني يوما و أنا نائمة- فما شعرت به حتى علاني و خالطني- فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي فقتلته- ثم أمرت به فألقي حيث رأيت- فاشتملت منه على هذا الصبي- فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه- هذا و الله خبرهما على ما أعلمتك- فقال عمر صدقت بارك الله فيك- ثم أوصاها و وعظها و خرج- و كان عمر يقول- لو أدركت عروة و عفراء لجمعت بينهما- . ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه- و قال ما رأيت أحدا أتقي منه و لا أعمل بالحق منه- لا يبالي على من وقع الحق- من ولد أو والد- إني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت- فقال قدم عبد الله و عبد الرحمن ابنا عمر غازيين- فقلت أين نزلا قال في موضع كذا لأقصى مصر- و قد كان عمر كتب إلي- إياك و أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي- فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره- فافعل بك ما أنت أهله- فضقت ذرعا بقدومهما- و لا أستطيع أن أهدي لهما- و لا أن آتيهما في منزلهما خوفا من أبيهما- فو الله إني لعلى ما أنا عليه- و إذا قائل يقول- هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب- و أبو سروعة يستأذنان عليك- فقلت يدخلان فدخلا و هما منكسران- فقالا أقم علينا حد الله- فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا- فزبرتهما و طردتهما- و قلت ابن أمير المؤمنين و آخر معه من أهل بدر- فقال عبد الرحمن- إن لم تفعل أخبرت أبي- إذا قدمت عليه أنك لم تفعل- فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر و عزلني- فنحن على ما نحن عليه إذ دخل عبد الله بن عمر- فقمت إليه و رحبت به- و أردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى علي- و قال إن أبي نهاني أن أدخل عليك- إلا ألا أجد من الدخول بدا- و إني لم أجد من الدخول عليك بدا- إن أخي لا يحلق على رءوس الناس أبدا- فأما الضرب فاصنع ما بدا لك- قال و كانوا يحلقون مع الحد- فأخرجتهما إلى صحن الدار و ضربتهما الحد- و دخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن- إلى بيت من الدار فحلق رأسه- و حلق أبا سروعة- و الله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان- و إذا كتابه قد ورد- من عبد الله عمر أمير المؤمنين- إلى العاصي ابن العاصي- عجبت لك يا ابن العاصي و لجرأتك علي و مخالفتك عهدي- أما إني خالفت فيك أصحاب بدر و من هو خير منك- و اخترتك و أنت الخامل و قدمتك و أنت المؤخر- و أخبرني الناس بجرأتك و خلافك و أراك كما أخبروا- و ما أراني إلا عازلك فمسي ء عزلك- ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك- و تحلق رأسه في داخل بيتك- و قد عرفت أن في هذا مخالفتي- و إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك- تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين- و لكن قلت هو ولد أمير المؤمنين- و قد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي- في حق يجب لله عز و جل- فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب- حتى يعرف سوء ما صنع- قال فبعثت به كما قال أبوه- و أقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما- و كتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه- و أخبرته أني ضربته في صحن الدار- و حلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه- أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم و الذمي- و بعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر- فذكر أسلم مولى عمر قال- قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما- فدخل عليه في عباءة- و هو لا يقدر على المشي من مركبه- فقال يا عبد الرحمن فعلت و فعلت السياط السياط- فكلمه
عبد الرحمن بن عوف- و قال يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة- فلم يلتفت إليه و زبره فأخذته السياط- و جعل يصيح أنا مريض و أنت و الله قاتلي- فلم يرق له حتى استوفى الحد و حبسه- ثم مرض شهرا و مات- . و روى الزبير بن بكار- قال خطب عمر أم كلثوم بنت علي ع- فقال له إنها صغيرة فقال زوجنيها يا أبا الحسن- فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد- فقال أنا أبعثها إليك فإن رضيتها زوجتكها- فبعثها إليه ببرد- و قال لها قولي هذا البرد الذي ذكرته لك- فقالت له ذلك- فقال قولي له قد رضيته رضي الله عنك و وضع يده على ساقها- فقالت له أ تفعل هذا- لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك- ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر- و قالت بعثتني إلى شيخ سوء- قال مهلا يا بنية إنه زوجك- فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة- و كان يجلس فيها المهاجرون الأولون- فقال رفئوني رفئوني قالوا بما ذا يا أمير المؤمنين- قال تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب-
سمعت رسول الله ص يقول كل سبب و نسب و صهر ينقطع يوم القيامة- إلا سببي و نسبي و صهري
- . و كتب عثمان إلى أبي موسى- إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم- و احمل ما بقي إلي ففعل- و جاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدي عثمان- فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة- فمضى بها فبكى زيد- قال عثمان ما يبكيك- قال أتيت عمر مثل ما أتيتك به- فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه- حتى أبكى الغلام و أن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحدا قال شيئا- فقال عثمان إن عمر كان يمنع أهله و قرابته- ابتغاء وجه الله- و أنا أعطي أهلي و أقاربي ابتغاء وجه الله- و لن تلقى مثل عمر و روى إسماعيل بن خالد- قال قيل لعثمان أ لا تكون مثل عمر- قال لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم- . ذكرت عائشة عمر فقالت كان أجودنا- نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها- . جاء عبد الله بن سلام بعد أن صلى الناس على عمر- فقال إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه- فلا تسبقوني بالثناء عليه- ثم قال نعم أخو الإسلام كنت يا عمر- جوادا بالحق بخيلا بالباطل- ترضى حين الرضا و تسخط حين السخط- لم تكن مداحا و لا معيابا- طيب الطرف عفيف الطرف- . و روى جويرية بن قدامة- قال دخلت مع أهل العراق على عمر حين أصيب- فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء- و الدم يسيل فقال له الناس أوصنا- فقال عليكم بكتاب الله- فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه- فأعدنا القول عليه ثانية أوصنا- قال أوصيكم بالمهاجرين- فإن الناس سيكثرون و يقلون- و أوصيكم بالأنصار فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه- و أوصيكم بالأعراب- فإنهم أصلكم الذي لجأتم إليه و مأواكم- و أوصيكم بأهل الذمة- فإنهم عهد نبيكم و رزق عيالكم- قوموا عني- .
فلم أحفظ من كلامه إلا هذه الكلمات- . و روى عمرو بن ميمون قال- سمعت عمر و هو يقول و قد أشار إلى الستة- و لم يكلم أحدا منهم إلا علي بن أبي طالب و عثمان- ثم أمرهم بالخروج فقال لمن كان عنده- إذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته- ثم قال إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق- فقال له قائل فما يمنعك من العهد إليه- قال أكره أن أتحملها حيا و ميتا
خطب عمر الطوال
و قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال- و كان كلامه قصيرا- و إنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي طالب ع- . و قد وجدت أنا لعمر خطبا فيها بعض الطول- ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- . فمنها خطبة خطب بها حين ولي الخلافة- و هي بعد حمد الله و الثناء عليه و على رسوله- أيها الناس إني وليت عليكم- و لو لا رجاء أن أكون خيركم لكم- و أقواكم عليكم- و أشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم- ما توليت ذلك منكم- و لكفى عمر فيها مجزى العطاء موافقة الحساب- بأخذ حقوقكم كيف آخذها و وضعها أين أضعها-
و بالسير فيكم كيف أسير فربي المستعان- فإن عمر لم يصبح يثق بقوة و لا حيلة- إن لم يتداركه الله برحمته و عونه- . أيها الناس إن الله قد ولاني أمركم- و قد علمت أنفع ما لكم- و أسأل الله أن يعينني عليه- و أن يحرسني عنده كما حرسني عند غيره- و أن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به- فإني امرؤ مسلم و عبد ضعيف إلا ما أعان الله- و لن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا- إن شاء الله- إنما العظمة لله و ليس للعباد منها شي ء- فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي- و إني أعقل الحق من نفسي- و أتقدم و أبين لكم أمري- فأيما رجل كانت له حاجة- أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني- فإنما أنا رجل منكم- فعليكم بتقوى الله في سركم و علانيتكم- و حرماتكم و أعراضكم- و أعطوا الحق من أنفسكم- و لا يحمل بعضكم بعضا على ألا تتحاكموا إلي- فإنه ليس بيني و بين أحد هوادة- و أنا حبيب إلى صلاحكم عزيز على عنتكم- و أنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله- و أهل بلد لا زرع فيه و لا ضرع إلا ما جاء الله به إليه- و إن الله عز و جل قد وعدكم كرامة كبيرة- و أنا مسئول عن أمانتي و ما أنا فيه- و مطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله- لا أكله إلى أحد- و لا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء- و أهل النصح منكم للعامة- و لست أحمل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله- .
و خطب عمر مرة أخرى- فقال بعد حمد الله و الصلاة على رسول الله ص-
أيها الناس إن بعض الطمع فقر- و إن بعض اليأس غنى- و إنكم تجمعون ما لا تأكلون- و تؤملون ما لا تدركون- و أنتم مؤجلون في دار غرور- و قد كنتم على عهد رسول الله ص تؤخذون بالوحي- و من أسر شيئا أخذ بسريرته- و من أعلن شيئا أخذ بعلانيته- فأظهروا لنا حسن أخلاقكم و الله أعلم بالسرائر- فإنه من أظهر لنا قبيحا- و زعم أن سريرته حسنة لم نصدقه- و من أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا- و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق- فأنفقوا خيرا لأنفسكم- و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون- . أيها الناس أطيبوا مثواكم و أصلحوا أموركم- و اتقوا الله ربكم و لا تلبسوا نساءكم القباطي- فإنه إن لم يشف فإنه يصف- . أيها الناس إني لوددت أن أنجو كفافا لا لي و لا علي- إني لأرجو أن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا- أن أعمل فيكم بالحق إن شاء الله- و ألا يبقى أحد من المسلمين و إن كان في بيته- إلا أتاه حقه و نصيبه من مال الله- و إن لم يعمل إليه نفسه و لم ينصب إليه بدنه- فأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله- فقليل في رفق خير من كثير في عنف- . و اعلموا أن القتل حتف من الحتوف- يصيب البر و الفاجر- و الشهيد من احتسب نفسه- و إذا أراد أحدكم بعيرا فليعمد إلى الطويل العظيم- فليضربه بعصاه فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره- . و خطب عمر مرة أخرى فقال- إن الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر- و اتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم- من كرامة الدنيا و الآخرة من غير مسألة منكم- و لا رغبة منكم فيه إليه- فخلقكم تبارك و تعالى- و لم تكونوا شيئا لنفسه و عبادته- و كان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه- فجعلكم عامة خلقه- و لم يجعلكم لشي ء غيره- و سخر لكم ما في السموات و الأرض- و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة- و حملكم في البر و البحر- و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون- ثم جعل لكم سمعا و بصرا- و من نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم- و منها نعم اختص بها أهل دينكم- ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم و زمانكم و طبقتكم- و ليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة- إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم- أتعبهم شكرها و فدحهم حقها- إلا بعون الله مع الإيمان بالله و رسوله- فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها- قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم- إلا أمتين أمة مستعبدة للإسلام و أهله- يتجرون لكم تستصفون معايشهم و كدائحهم- و رشح جباههم عليهم المئونة و لكم المنفعة- و أمة تنتظر وقائع الله و سطواته في كل يوم و ليلة- قد ملأ الله قلوبهم رعبا- فليس لهم معقل يلجئون إليه و لا مهرب يتقون به- قد دهمتهم جنود الله و نزلت بساحتهم- مع رفاغة العيش و استفاضة المال- و تتابع البعوث و سد الثغور بإذن الله- في العافية الجليلة العامة- التي لم تكن الأمة على أحسن منها منذ كان الإسلام- و الله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد- فما عسى أن يبلغ شكر الشاكرين- و ذكر الذاكرين و اجتهاد المجتهدين- مع هذه النعم التي لا يحصى عددها و لا يقدر قدرها- و لا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله و رحمته و لطفه- فنسأل الله الذي أبلانا هذا- أن يرزقنا العمل بطاعته و المسارعة إلى مرضاته- و اذكروا عباد الله بلاء الله عندكم- و استتموا نعمة الله عليكم و في مجالسكم مثنى و فرادى- فإن الله تعالى قال لموسى-
أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ- وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ- و قال لمحمد ص- وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ- فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين- خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها- و تستريحون إليها- مع المعرفة بالله و بدينه- و ترجون الخير فيما بعد الموت- و لكنكم كنتم أشد الناس عيشة- و أعظم الناس بالله جهالة- فلو كان هذا الذي ابتلاكم به- لم يكن معه حظ في دنياكم- غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد و المنقلب- و أنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه- كنتم أحرياء إن تشحوا على نصيبكم منه- و إن تظهروه على غيره فبله- أما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا و كرامة الآخرة- أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم- فأذكركم الله الحائل بينكم و بين قلوبكم- إلا ما عرفتم حق الله و عملتم له- و سيرتم أنفسكم على طاعته- و جمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها و انتقالها- و وجلا من تحويلها- فإنه لا شي ء أسلب للنعمة من كفرانها- و أن الشكر أمن للغير و نماء للنعمة و استجلاب للزيادة- و هذا علي في أمركم و نهيكم واجب إن شاء الله
و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى- في كتاب مقاتل الفرسان- قال كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي- أو إلى النعمان بن مقرن- أن في جندك رجلين من العرب- عمرو بن معديكرب و طليحة بن خويلد- فأحضرهما الناس و أدبهما و شاورهما في الحرب- و ابعثهما في الطلائع و لا تولهما عملا من أعمال المسلمين- و إذا وضعت الحرب أوزارها- فضعهما حيث وضعا أنفسهما- قال و كان عمرو ارتد و طليحة تنبأ- .
و روى أبو عبيدة أيضا في هذا الكتاب- قال قدم عمرو بن معديكرب- و الأجلح بن وقاص الفهمي على عمر- فأتياه و بين يديه مال يوزن- فقال متى قدمتما قالا يوم الخميس- قال فما حبسكما عني قالا شغلنا المنزل يوم قدمنا- ثم كانت الجمعة ثم غدونا عليك اليوم- فلما فرغ من وزن المال نحاه و أقبل عليهما- فقال هيه فقال عمرو بن معديكرب- يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص الشديد المرة- البعيد الغرة الوشيك الكرة- و الله ما رأيت مثله حين الرجال صارع و مصروع- و الله لكأنه لا يموت- فقال عمر للأجلح و أقبل عليه- و قد عرف الغضب في وجهه هيه يا أجلح- فقال الأجلح- يا أمير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين- كثيرا نسلهم داره أرزاقهم- خصبة بلادهم أجرياء على عدوهم- فأكلا عدوهم عنهم- فسيمتع الله بك فما رأينا مثلك إلا من سبقك- فقال ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما قال فيك- قال ما رأيت من وجهك قال أصبت- أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك- لأوجعتكما ضربا و عقوبة- فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك- و الله لوددت لو سلمت لكم حالكم و دامت عليكم أموركم- أما إنه سيأتي عليك يوم تعضه و ينهشك- و تهره و ينبحك و لست له يومئذ و ليس لك- فإن لا يكن بعدكم فما أقربه منكم- .
لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز و تستر و حمل إلى عمر- حمل و معه رجال من المسلمين- فيهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك- فأدخلوه في المدينة في هيئته- و عليه تاجه الذهب و كسوته- فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد- فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه- فقال الهرمزان أين عمر فقالوا هو ذا- قال و أين حراسه و حجابه- قالوا لا حارس له و لا حاجب- قال فينبغي أن يكون هذا نبيا- قالوا إنه يعمل عمل الأنبياء- .
فاستيقظ عمر فقال الهرمزان قالوا نعم- قال لا أكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شي ء- فرموا بالحلية و ألبسوه ثوبا ضعيفا- فقال عمر يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر- و قد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث- فقال يا عمر إنا و إياكم في الجاهلية كنا نغلبكم- إذ لم يكن الله معكم و لا معنا- فلما كان الله معكم غلبتمونا- قال فما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة- قال أخاف إن قلت أن تقتلني- قال لا بأس عليك فأخبرني- فاستسقى ماء فأخذه و جعلت يده ترعد- قال ما لك قال أخاف أن تقتلني و أنا أشرب- قال لا بأس عليك حتى تشربه- فألقاه من يده فقال ما بالك- أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش- قال كيف تقتلني و قد أمنتني- قال كذبت قال لم أكذب- فقال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس- أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك- و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك- قال إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني- و لا بأس عليك حتى تشرب- و قال له ناس من المسلمين مثل قول أنس- فأقبل على الهرمزان- فقال تخدعني و الله لا تخدعني إلا أن تسلم- فأسلم ففرض له ألفين و أنزله المدينة- .
بعث عمر عمير بن سعيد الأنصاري عاملا على حمص- فمكث حولا لا يأتيه خبره- ثم كتب إليه بعد حول- إذا أتاك كتابي هذا فأقبل- و احمل ما جبيت من مال المسلمين- فأخذ عمير جرابه و جعل فيه زاده و قصعته- و علق أداته و أخذ عنزته- و أقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينة- و قد شحب لونه و اغبر وجهه و طال شعره- فدخل على عمر فسلم- فقال عمر ما شأنك يا عمير- قال ما ترى من شأني أ لست تراني صحيح البدن- ظاهر الدم معي الدنيا أجرها بقرنيها- قال و ما معك فظن عمر أنه قد جاء
بمال- قال معي جرابي أجعل فيه زادي- و قصعتي آكل فيها و أغسل منها رأسي و ثيابي- و أداتي أحمل فيها وضوئي و شرابي- و عنزتي أتوكأ عليها و أجاهد بها عدوا إن عرض لي- قال عمر أ فجئت ماشيا قال نعم لم يكن لي دابة- قال أ فما كان في رعيتك أحد يتبرع لك بدابة تركبها- قال ما فعلوا و لا سألتهم ذلك- قال عمر بئس المسلمون خرجت من عندهم- قال عمير اتق الله يا عمر و لا تقل إلا خيرا- قد نهاك الله عن الغيبة و قد رأيتهم يصلون- قال عمر فما ذا صنعت في إمارتك- قال و ما سؤالك قال سبحان الله- قال أما إني لو لا أخشى أن أعمل ما أخبرتك- أتيت البلد فجمعت صلحاء أهله فوليتهم جبايته- و وضعه في مواضعه و لو أصابك منه شي ء لأتاك- قال أ فما جئت بشي ء قال لا- فقال جددوا لعمير عهدا- قال إن ذلك لشي ء لا أعمله بعد لك و لا لأحد بعدك- و الله ما كدت أسلم بل لم أسلم- قلت لنصراني معاهد أخزاك الله- فهذا ما عرضتني له يا عمر إن أشقى أيامي ليوم صحبتك- ثم استأذنه في الانصراف فأذن له- و منزله بقباء بعيدا عن المدينة- فأمهله عمر أياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث- فقال انطلق إلى عمير بن سعد و هذه مائة دينار- فإن وجدت عليه أثرا فأقبل علي بها- و إن رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة- فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا- يفلي قميصا له إلى جانب حائط- فسلم عليه فقال عمير انزل رحمك الله- فنزل فقال من أين جئت قال من المدينة- قال كيف تركت أمير المؤمنين قال صالحا- قال كيف تركت المسلمين قال صالحين- قال أ ليس عمر يقيم الحدود قال بلى- ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه- فقال عمير اللهم أعن عمر- فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك- قال فنزل به ثلاثة أيام- و ليس لهم إلا قرص من شعير- كانوا يخصونه كل يوم به و يطوون حتى نالهم الجهد- فقال له عمير إنك قد أجعتنا- فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل- فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه- و قال بعث بها أمير المؤمنين فاستغن بها- فصاح و قال ردها لا حاجة لي فيها- فقالت المرأة خذها
ثم ضعها في موضعها- فقال ما لي شي ء أجعلها فيه- فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها- ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشهداء و الفقراء- فجاء الحارث إلى عمر فأخبره- فقال رحم الله عميرا ثم لم يلبث أن هلك- فعظم مهلكه على عمر- و خرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع الغرقد- فقال لأصحابه ليتمنين كل واحد منا أمنيته- فكل واحد تمنى شيئا و انتهت الأمنية إلى عمر- فقال وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد- أستعين به على أمور المسلمين
نبذ من كلام عمر
و من كلام عمر إياكم و هذه المجازر- فإن لها ضراوة كضراوة الخمر- . و قال إياكم و الراحة فإنها غفلة- . و قال السمن غفلة- . و قال لا تسكنوا نساءكم الغرف و لا تعلموهن الكتابة- و استعينوا عليهن بالعرى- و عودوهن قول لا فإن نعم تجرئهن على المسألة- . و قال تبين عقل المرء في كل شي ء حتى في علته- فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته و يحتمي من مطعمه و مشربه- عرفت ذلك في عقله- و ما سألني رجل عن شي ء قط إلا تبين لي عقله في ذلك- . و قال إن للناس حدودا و منازل فأنزلوا كل رجل منزلته- و ضعوا كل إنسان في حده و احملوا كل امرئ بفعله على قدره- . و قال اعتبروا عزيمة الرجل بحميته و عقله بمتاع بيته- قال أبو عثمان الجاحظ- لأنه
ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا و مرقعته طبرية- . و قال من يئس من شي ء استغنى عنه- و عز المؤمن استغناؤه عن الناس- . و قال لا يقوم بأمر الله إلا من لا يصانع- و لا يصارع و لا يتبع المطامع- . و قال لا تضعفوا همتكم- فإني لم أر شيئا أقعد برجل- عن مكرمة من ضعف همته و وعظ رجلا فقال- لا تلهك الناس عن نفسك- فإن الأمور إليك تصل دونهم- و لا تقطع النهار سادرا فإنه محفوظ عليك- فإذا أسأت فأحسن- فإني لم أر شيئا أشد طلبا- و لا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم- . و قال احذر من فلتات السباب- و كل ما أورثك النبز و أعلقك اللقب- فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك- . و قال كل عمل كرهت من أجله الموت فاتركه- ثم لا يضرك متى مت- . و قال أقلل من الدين تعش حرا- و أقلل من الذنوب يهن عليك الموت- و انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس- . و قال ترك الخطيئة أسهل من معالجة التوبة- . و قال احذروا النعمة حذركم المعصية- و هي أخفهما عليكم عندي- . و قال احذروا عاقبة الفراغ- فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر- . و قال أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه- و أحلمهم من عفا بعد القدرة و أبخلهم من بخل بالسلام- و أعجزهم من عجز في دعائه- . و قال رب نظرة زرعت شهوة- و رب شهوة أورثت حزنا دائما- .
و قال ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الإيمان- حلم يرد به جهل الجاهل- و ورع يحجزه عن المحارم- و خلق يداري به الناس
أخبار عمر مع عمرو بن معديكرب
و ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى- في كتاب مقاتل الفرسان- أن سعد بن أبي وقاص أوفد عمرو بن معديكرب- بعد فتح القادسية إلى عمر- فسأله عمر عن سعد كيف تركته- و كيف رضا الناس عنه- فقال يا أمير المؤمنين- هو لهم كالأب يجمع لهم جمع الذرة- أعرابي في نمرته أسد في تامورته- نبطي في جبايته يقسم بالسوية- و يعدل في القضية و ينفر في السرية- . و كان سعد كتب يثني على عمرو- فقال عمر لكأنما تعاوضتما الثناء- كتب يثني عليك و قدمت تثني عليه- فقال لم أثن إلا بما رأيت قال دع عنك سعدا- و أخبرني عن مذحج قومك- . قال في كل فضل و خير- قال ما قولك في علة بن خالد- قال أولئك فوارس أعراضنا- أحثنا طلبا و أقلنا هربا- قال فسعد العشيرة قال أعظمنا خميسا- و أكبرنا رئيسا و أشدنا شريسا- قال فالحارث بن كعب قال حكمة لا ترام- قال فمراد قال الأتقياء البررة- و المساعير الفجرة ألزمنا قرارا و أبعدنا آثارا- .
قال فأخبرني عن الحرب قال مرة المذاق- إذا قلصت عن ساق- من صبر فيها عرف و من ضعف عنها تلف- و إنها لكما قال الشاعر-
- الحرب أول ما تكون فتيةتسعى بزينتها لكل جهول
- حتى إذا استعرت و شب ضرامهاعادت عجوزا غير ذات حليل
- شمطاء جزت رأسها و تنكرتمكروهة للشم و التقبيل
- . قال فأخبرني عن السلاح- قال سل عما شئت منه قال الرمح- قال أخوك و ربما خانك- قال النبل قال منايا تخطئ و تصيب- قال الترس قال ذاك المجن و عليه تدور الدوائر- قال الدرع قال مشغلة للراكب متعبة للراجل- و إنها لحصن حصين- قال السيف قال هناك قارعت أمك الهبل- قال بل أمك- قال بل أمي و الحمى أضرعتني لك- . عرض سليمان بن ربيعة الباهلي جنده بأرمينية- فكان لا يقبل من الخيل إلا عتيقا- فمر عمرو بن معديكرب بفرس غليظ- فرده و قال هذا هجين- قال عمرو إنه ليس بهجين و لكنه غليظ- قال بل هو هجين- فقال عمرو إن الهجين ليعرف الهجين- فكتب بكلمته إلى عمر- فكتب إليه أما بعد يا ابن معديكرب- فإنك القائل لأميرك ما قلت- فإنه بلغني أن عندك سيفا تسميه الصمصامة- و أن عندي سيفا أسميه مصمما- و أقسم بالله لئن وضعته بين أذنيك- لا يقلع حتى يبلغ قحفك- .
و كتب إلى سليمان بن ربيعة يلومه في حلمه عنه- فلما قرأ عمرو الكتاب قال من ترونه يعني- قالوا أنت أعلم- قال هددني بعلي و الله- و قد كان صلى بناره مرة في حياة رسول الله ص- و أفلت من يده بجريعة الذقن- و ذلك حين ارتدت مذحج- و كان رسول الله ص أمر عليها فروة بن مسيك المرادي- فأساء السيرة- و نابذ عمرو بن معديكرب ففارقه في كثير من قبائل مذحج- فاستجاش فروة عليه و عليهم رسول الله ص- فأرسل خالد بن سعيد بن العاص في سرية- و خالد بن الوليد بعده في سرية ثانية- و علي بن أبي طالب ع في سرية ثالثة- و كتب إليهم كل واحد منكم أمير من معه- فإذا اجتمعتم فعلي أمير على الكل- فاجتمعوا بموضع من أرض اليمن يقال له كسر- فاقتتلوا هناك و صمد عمرو بن معديكرب لعلي ع- و كان يظن أن لا يثبت له أحد من شجعان العرب- فثبت له فعلا عليه و عاين منه ما لم يكن يحتسبه- ففر من بين يديه هاربا ناجيا بحشاشة نفسه- بعد أن كاد يقتله و فر معه رؤساء مذحج و فرسانهم- و غنم المسلمون أموالهم- و سبيت ذلك اليوم ريحانة بنت معديكرب أخت عمرو- فأدى خالد بن سعيد بن العاص فداءها من ماله- فأصابه عمرو أخوها الصمصامة- فلم يزل ينتقل في بني أمية و يتداولونه واحدا بعد واحد- حتى صار إلى بني العباس- في أيام المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر
فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبة
فأما ما نقل عن عمر من الألفاظ الغريبة اللغوية- التي شرحها المفسرون- فنحن نذكر من ذلك ما يليق بهذا الكتاب- .
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه- روى عبد الرحمن بن أبي زيد- عن عمران بن سودة الليثي- قال صليت الصبح مع عمر- فقرأ سبحان و سورة معها ثم انصرف- فقمت معه فقال أ حاجة قلت حاجة- قال فالحق فلحقت فلما دخل أذن- فإذا هو على رمال سرير ليس فوقه شي ء- فقلت نصيحة قال مرحبا بالناصح غدوا و عشيا- قلت عابت أمتك أو قال رعيتك عليك أربعا- قال فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها- هكذا روى ابن قتيبة- و قال أبو جعفر فوضع رأس درته في ذقنه- و وضع أسفلها على فخذه و قال هات- قال ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج- و زاد أبو جعفر و هي حلال- و لم يحرمها رسول الله ص و لا أبو بكر- فقال أجل إنكم إذا اعتمرتم في أشهر حجكم- رأيتموها مجزئة عن حجكم فقرع حجكم- و كانت قابية قوب عامها و الحج بهاء من بهاء الله- و قد أصبت- قال و ذكروا أنك حرمت متعة النساء- و قد كان رخصة من الله نستمتع بقبضة- و نفارق عن ثلاث- قال إن رسول الله ص أحلها في زمان ضرورة- و رجع الناس إلى السعة- ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عاد إليها و لا عمل بها- فالآن من شاء نكح بقبضة- و فارق عن ثلاث بطلاق و قد أصبت- . و قال ذكروا أنك أعتقت الأمة- إذا وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها- قال ألحقت حرمة بحرمة- و ما أردت إلا الخير و أستغفر الله- . قال و شكوا منك عنف السياق و نهر الرعية- قال فنزع الدرة ثم مسحها حتى أتى على سيورها- و قال و أنا زميل محمد رسول الله ص في غزاة قرقرة
الكدر- فو الله إني لأرتع فأشبع و أسقي فأروي- و إني لأضرب العروض و أزجر العجول- و أؤدب قدري و أسوق خطوتي- و أرد اللفوت و أضم العنود و أكثر الضجر- و أقل الضرب و أشهر بالعصا و أدفع باليد- و لو لا ذلك لأعذرت- . قال أبو جعفر- فكان معاوية إذا حدث بهذا الحديث يقول- كان و الله عالما برعيته- . قال ابن قتيبة رملت السرير و أرملته- إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف- . و ذقن عليها أي وضع عليها ذقنه يستمع الحديث- . و قوله فقرع حجكم أي خلت أيام الحج من الناس- و كانوا يتعوذون من قرع الفناء- و ذلك ألا يكون عليه غاشية و زوار- و من قرع المراح و ذلك ألا يكون فيه إبل- . و القابية قشر البيضة إذا خرج منها الفرخ- . و القوب الفرخ قال الكميت-
- لهن و للمشيب و من علاهمن الأمثال قابية و قوب
- . أراد أن النساء ينفرن من ذي الشيب- و يفارقنه كما يفارق الفرخ البيضة- فلا يعود إليها بعد خروجه منها أبدا- و روي عن عمر- أنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية من الحج- خلت مكة من الحجاج- فكانت كبيضة فارقها فرخها قوله إني لأرتع فأشبع و أسقى فأروي- مثل مستعار من رعيت الإبل أي إذا أرتعت الإبل- أي أرسلتها ترعى تركتها حتى تشبع- و إذا سقيتها تركتها حتى تروي- . و قوله أضرب العروض- العروض الناقة تأخذ يمينا و شمالا و لا تلزم المحجة- يقول أضربها حتى تعود إلى الطريق- و مثله قوله و أضم العنود- . و العجول البعير يند عن الإبل- يركب رأسه عجلا و يستقبلها- .
قوله و أؤدب قدري أي قدر طاقتي- . و قوله و أسوق خطوتي أي قدر خطوتي- . و اللفوت البعير يلتفت يمينا و شمالا و يروغ- . و قوله و أكثر الزجر و أقل الضرب- أي أنه يقتصر من التأديب في السياسة على ما يكتفي به- حتى يضطر إلى ما هو أشد منه و أغلظ- . و قوله و أشهر بالعصا و أدفع باليد- يريد أنه يرفع العصا يرهب بها و لا يستعملها- و لكنه يدفع بيده- . قوله و لو لا ذلك لأعذرت- أي لو لا هذا التدبير و هذه السياسة لخلفت بعض ما أسوق- و يقال أعذر الراعي الشاة و الناقة إذا تركها- و الشاة العذيرة و عذرت هي إذا تخلفت عن الغنم- . قال ابن قتيبة و هذه أمثال ضربها- و أصلها في رعية الإبل و سوقها- و إنما يريد بها حسن سياسته للناس في الغزاة التي ذكرها- يقول فإذا كنت أفعل كذا في أيام رسول الله ص- مع طاعة الناس له و تعظيمهم إياه- فكيف لا أفعله بعده- .
و عندي أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل- و ليس في كلام عمر ما يدل على ذلك- و ليس عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس- و لا يأمرهم و لا ينهاهم- و كيف و رسول الله ص حاضر بينهم- و لا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب- و لا ما يحتاج فيه إلى السياسة- و هل كان لعمر أو لغير عمر و رسول الله ص حي- أن يرتع فيشبع و يسقي فيروي- و هل تكون هذه الصفات و ما بعدها إلا للرئيس الأعظم- و الذي اراده عمر ذكر حاله في خلافته- رادا على عمران بن سوادة في قوله- إن الرعية يشكون منك عنف السياق و شدة النهر- فقال ليشكون فو الله إني لرفيق بهم- و مستقص في سياستهم-
و لا ناهك لهم عقوبة- و إني لأقنع بالهيبة و التهويل عليهم- و لا أعمل العصا حيث يمكنني الاكتفاء باليد- و إني أرد الشارد منهم و أعدل المائل- إلى غير ذلك من الأمور التي عددها و أحسن في تعديدها- . و إنما ذكر قوله- أنا زميل رسول الله ص في غزاة قرقرة الكدر- على عادة العرب في الافتخار وقت المنافرة- و عند ما تجيش النفس و يحمى القلب- كما كان علي ع يقول وقت الحاجة- أنا عبد الله و أخو رسوله فيذكر أشرف أحواله- و المزية التي اختص بها عن غيره- و كان رسول الله ص في غزاة قرقرة الكدر- أردف عمر معه على بعيره- فكان عمر يفخر بها و يذكرها وقت الحاجة إليها- . و في حديث عمر أنه خرج من الخلاء- فدعا بطعام فقيل له أ لا تتوضأ- فقال لو لا التنطس ما باليت ألا أغسل يدي- .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام- قال ابن علية التنطس التقذر- و قال الأصمعي هو المبالغة في التطهر- فكل من أدق النظر في الأمور- فاستقصى علمها فهو متنطس- و منه قيل للطبيب النطاسي و النطيس لدقة علمه بالطب- . و في حديث عمر حين سأل الأسقف عن الخلفاء- فحدثه حتى إذا انتهى إلى الرابع- فقال صدع من حديد و قال عمر وا دفراه- . قال أبو عبيدة قال الأصمعي- كان حماد بن سلمة يقول صدأ من حديد- و هذا أشبه بالمعنى لأن الصدأ له دفر و هو النتن- و الصدع لا دفر له- و قيل للدنيا أم دفر لما فيها من الدواهي و الآفات- فأما الذفر بالذال المعجمة و فتح الفاء- فهو الريح الذكية من طيب أو نتن- .
و عندي في هذا الحديث كلام- و الأظهر أن الرواية المشهورة هي الصحيحة- و هي قوله صدع من حديد و لكن بفتح الدال- و هو ما كان من الوعول بين العظيم و الشخت- فإن ثبتت الرواية بتسكين الدال فغير ممتنع أيضا- يقال رجل صدع إذا كان ضربا من الرجال- ليس برهل و لا غليظ- . و رابع الخلفاء هو علي بن أبي طالب ع- و أراد بالأسقف مدحه- . و قول عمر وا دفراه إشارة إلى نفسه- كأنه استصغر نفسه و عابها بالنسبة إلى ما وصفه الأسقف- من مدح الرابع و إطرائه- . فأما تأويل أبي عبيدة فإنه ظن أن الرابع عثمان- و جعل رسول الله ص معدودا من الجملة- ليصح كون عثمان رابعا- و جعل الدفر و النتن له- و صرف اللفظ عن الرواية المشهورة إلى غيرها- فقال صدأ حديد ليطابق لفظه النتن على ما يليق بها- فغير خاف ما فيه من التعسف و رفض الرواية المشهورة- .
و أيضا فإن رسول الله ص لا يجوز إدخاله في لفظ الخلفاء- لأنه ليس بخليفة لأن الخليفة من يخلف غيره- و رسول الله ص مستخلف الناس كلهم و ليس بخليفة لأحد- . و في حديث عمر قال عند موته- لو أن لي ما في الأرض جميعا- لافتديت به من هول المطلع- . قال أبو عبيد هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار- أو من انحدار إلى إشراف و هو من الأضداد- فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة- .
و في حديث عمر- حين بعث حذيفة و ابن حنيف إلى السواد- ففلجا الجزية على أهله- . قال أبو عبيد- فلجا أي قسما بالفلج و أصله من الفلج- و هو المكيال الذي يقال له الفلج- لأن خراجهم كان طعاما- . و في حديث عمر حين قال له حذيفة- إنك تستعين بالرجل الذي فيه- و بعضهم يرويه بالرجل الفاجر- فقال- أستعمله لأستعين بقوته- ثم أكون على قفانه- . قال أبو عبيد عن الأصمعي- قفان كل شي ء جماعه و استقصاء معرفته- يقول أكون على تتبع أمره حتى أستقصي عمله و أعرفه- . قال أبو عبيد- و لا أحسب هذه الكلمة عربية و إنما أصلها قبان- و منه قول العامة فلان قبان على فلان- إذا كان بمنزلة الأمين عليه- و الرئيس الذي يتتبع أمره و يحاسبه- و به سمي هذا الميزان الذي يقال له القبان- . و في حديث عمر حين قال لابن عباس- و قد شاوره في شي ء فأعجبه كلامه- نشنشة أعرفها من أخشن هكذا الرواية- و أما أهل العلم فيقولون شنشنة أعرفها من أخزم- . و الشنشنة في بعض الأحوال قد تكون بمعنى المضغة- أو القطعة تقطع من اللحم- و القول المشهور أن الشنشنة مثل الطبيعة و السجية- فأراد عمر أني أعرف فيك مشابه من أبيك في رأيه- و يقال إنه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس- .
قال و قد قال أبو عبيدة معمر بن المثنى- يجوز شنشنة و نشنشة و غيره ينكر نشنشة- .
و في حديث عمر يوم السقيفة قال- و قد كنت زورت في نفسي قاله- أقوم بها بين يدي أبي بكر- فلم يترك أبو بكر شيئا مما زورته إلا تكلم به- . قال أبو عبيد- التزوير إصلاح الكلام و تهيئته كالتزويق- . و في حديث عمر- حين ضرب الرجل الذي أقسم على أم سلمه- ثلاثين سوطا كلها تبضع و تحدر- . قال أبو عبيد أي تشق و تورم- حدر الجلد يحدره و أحدره غيره- . و في حديثه أنه قال لمؤذن بيت المقدس- إذا أذنت فترسل و إذا أقمت فاحذم- . قال أبو عبيدة الحذم بالحاء المهملة الحدر في الإقامة- و قطع التطويل و أصله في المشي و هو الإسراع فيه- و أن يكون مع هذا كأنه يهوي بيده إلى خلفه- و الجذم بالجيم أيضا القطع و كذلك الخذم بالخاء المعجمة- . و في حديثه أنه قال- لا يقر رجل أنه كان يطأ جاريته- إلا ألحقت به ولدها- فمن شاء فليمسكها و من شاء فليرسلها- . قال أبو عبيد هكذا الرواية بالسين المهملة- و المعروف أنه الإرشال بالشين المعجمة- و لعله حول الشين إلى السين- كما يقال سمت العاطش أي شمته و في حديثه- كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة- كذب عليكم الجهاد ثلاثة أسفار كذبت عليكم- .
قال أبو عبيد معنى كذب عليكم الإغراء أي عليكم به- و كان الأصل في هذا أن يكون نصبا- و لكنه جاء عنهم بالرفع شاذا على غير قياس- و مما يحقق أنه مرفوع قول الشاعر-
- كذبت عليك لا تزال تقوفنيكما قاف آثار الوثيقة قائف
- فقوله كذبت عليك- إنما أغراه بنفسه أي عليك بي- فجعل نفسه في موضع رفع- أ لا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه- . و قال معقر بن حمار البارقي-
- و ذبيانية وصت بنيهابأن كذب القراطف و القروف
- فرفع و الشعر مرفوع- و معناه عليكم بالقراطف و القروف- و القراطف القطف واحدها قرطف و القروف الأوعية- . و مما يحقق الرفع أيضا قول عمر كذبت عليكم- قال أبو عبيد و لم أسمع النصب في هذا إلا حرفا- كان أبو عبيد يحكيه عن أعرابي- نظر إلى ناقة نضو لرجل- فقال كذب عليك البزر و النوى- لم أسمع في هذا نصبا غير هذا الحرف- . قال و العرب تقول للمريض- كذب عليك العسل بالرفع أي عليك به- . و في حديثه ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل- يخرق أعراض الناس ألا تعربوا عليه- قالوا نخاف لسانه قال ذاك ألا تكونوا شهداء- . قال أبو عبيد ألا تعربوا- أي ألا تفسدوا عليه كلامه و تقبحوه له- . و في حديثه أنه نهى عن الفرس في الذبيحة- .
قال أبو عبيد قيل في تفسيره- أن ينتهي بالذبح إلى النخاع و هو عظم في الرقبة- و ربما فسر النخاع- بأنه المخ الذي في فقار الصلب متصلا بالقفا- فنهى أن ينتهي بالذبح إلى ذلك- . و قيل في تفسيره أيضا- أن يكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد- و يؤكد هذا التفسير قوله في تمام الحديث- و لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق- . و في حديثه حين أتاه رجل يسأله أيام المحل- فقال له هلكت و أهلكت- فقال عمر أ هلكت و أنت تنث نثيث الحميت- أعطوه ربعة من الصدقة- فخرجت يتبعها ظئراها- . قال أبو عبيد- قد روي تمث بالميم و المحفوظ بالنون- و تنث أي ترشح و تعرق من سمنك و كثرة لحمك- . و الحميت النحي و فيه الرب أو السمن أو نحوها- و الربعة ما ولد في أول النتاج و الذكر ربع- .
و في حديثه أنه خرج إلى المسجد للاستسقاء فصعد المنبر- فلم يزد على الاستغفار حتى نزل فقيل- إنك لم تستسق- فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء- . قال أبو عبيد- جعل الاستغفار استسقاء تأول فيه قوله تعالى- اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- و المجاديح جمع مجدح- و هو النجم الذي كانت العرب تزعم أنها تمطر به- و يقال مجدح بضم الميم- و إنما قال عمر ذلك- على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب- ليس على تحقيق الأنواء و لا التصديق بها-
و هذا شبيه بقول ابن عباس- في رجل جعل أمر امرأته بيدها- فقالت له أنت طالق ثلاثا- فقال خطأ الله نوءها ألا طلقت نفسها ثلاثا- ليس هذا دعاء منه ألا تمطر- إنما ذلك على الكلام المقول- . و مما يبين أن عمر أراد إبطال الأنواء و التكذيب بها- قوله لقد استسقيت بمجاديح السماء- التي يستسقى بها الغيث- فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الأنواء- . و في حديثه و هو يذكر حال صباه في الجاهلية- لقد رأيتني مرة و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا- قد ألبستنا أمنا نقبتها- و زودتنا يمينتيها من الهبيد- فنخرج بناضحنا- فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي- و خرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا- و قد جعلت لنا لفينة من ذلك الهبيد فيا خصباه- . قال أبو عبيد- الناضح البعير الذي يسنى عليه فيسقى به الأرض- و الأنثى ناضحة و هي السانية أيضا- و الجمع سوان و قد سنت تسنو- و لا يقال ناضح لغير المستسقى- . و النقبة أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل- فيجعل لها حجزة مخيطة من غير نيفق- و تشد كما تشد حجزة السراويل- فإذا كان لها نيفق و ساقان فهي سراويل- .
و قال و الذي وردت به الرواية- زودتنا يمينتيها- و الوجه في الكلام أن يكون يمينتيها بالتشديد- لأنه تصغير يمين بلا هاء- و إنما قال يمينتيها و لم يقل يديها و لا كفيها- لأنه لم يرد أنها جمعت كفيها ثم أعطتنا بهما- و إنما أراد أنها أعطت كل واحد كفا كفا بيمينها- فهاتان يمينان- . الهبيد حب الحنظل- زعموا أنه يعالج حتى يمكن أكله و يطيب- .
و اللفيتة ضرب من الطبيخ كالحساء- . و في حديثه إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه- و لا يتخذ ثبانا- . قال أبو عبيد- هو الوعاء الذي يحمل فيه الشي ء- فإن حملته بين يديك فهو ثبان- و أن جعلته في حضنك فهي خبنة- . و في حديثه لو أشاء لدعوت بصلاء و صناب- و صلائق و كراكرة و أسنمة و أفلاذ- . قال أبو عبيد- الصلاء الشواء و الصناب الخردل بالزبيب- و الصلائق الخبز الرقيق- و من رواه سلائق بالسين أراد ما يسلق من البقول و غيرها- و الكراكر كراكر الإبل- و الأفلاذ جمع فلذ و هو القطعة من الكبد- . و في حديثه لو شئت أن يدهمق لي لفعلت- . قال أبو عبيد- دهمقت الطعام إذا لينته و رققته و طيبته- . و في حديثه لئن بقيت لأسوين بين الناس- حتى يأتي الراعي حقه في صفنه لم يعرق جبينه- . الصفن خريطة للراعي فيها طعامه و ما يحتاج إليه- و روي بفتح الصاد و يقال أيضا في صفينه- .
و في حديثه لئن بقيت إلى قابل ليأتين كل مسلم حقه- حتى يأتي الراعي بسرو حمير لم يعرق جبينه- . السرو مثل الخيف- و هو ما انحدر عن الجبل و ارتفع عن المسيل- . و في حديثه- لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم- حتى يكونوا ببانا واحدا- .
قال أبو عبيد- قال ابن مهدي يعني شيئا واحدا- و لا أحسب هذه الكلمة عربية- و لم أسمعها في غير هذا الحديث- . و في حديثه أنه خطب فقال- ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه و أمانته- بأن يقال سابق الحاج أو قال سبق الحاج- فادان معرضا فأصبح قد رين به- فمن كان له عليه دين فليغد بالغداة- فلنقسم ماله بينهم بالحصص- . قوله فادان معرضا أي استدان معرضا- و هو الذي يعترض الناس فيستدين ممن أمكنه- و كل شي ء أمكنك من عرضه فهو معرض لك- كقوله و البحر معرضا و السدير- . و رين بالرجل إذا وقع فيما لا يمكنه الخروج منه- .
و في حديثه أنه قال لمولاه أسلم- و رآه يحمل متاعه على بعير من إبل الصدقة- فقال فهلا ناقة شصوصا أو ابن لبون بوالا- . الشصوص التي قد ذهب لبنها- و وصف ابن اللبون بالبول- و إن كانت كلها تبول- إنما أراد ليس عنده سوى البول- أي ليس عنده مما ينتفع به من ظهر و لا له ضرع فيحلب- لا يزيد على أنه بوال فقط- . و في حديثه حين قيل له- إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد- فقال و ما على نساء بني المغيرة- أن يسفكن من دموعهن على أبي سليمان- ما لم يكن نقع و لا لقلقة- . قيل النقع هاهنا طعام المأتم- و الأشبه أن النقع رفع الصوت و اللقلقة مثله- . و في حديثه- أن سلمان بن ربيعة الباهلي شكا إليه عاملا من عماله- فضربه بالدرة حتى أنهج- . قال أبو عبيد- أي أصابه النفس و البهر من الإعياء- . و في حديثه حين قدم عليه أحد بني ثور- فقال له هل من مغربة خبر- فقال نعم أخذنا رجلا من العرب- كفر بعد إسلامه فقدمناه فضربنا عنقه- فقال فهلا أدخلتموه جوف بيت- فألقيتم إليه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام- لعله يتوب أو يراجع اللهم لم أشهد و لم آمر- و لم أرض إذ بلغني- .
يقال هل من مغربة خبر بكسر الراء- و يروى بفتحها و أصله البعد و منه شأو مغرب- . و في حديثه أنه قال- آلله ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم- ثم يرى أنه لا أقيده و الله لأقيدنه- . قال أبو عبيد- آكلة اللحم عصا محددة- . و في حديثه- أعضل بي أهل الكوفة- ما يرضون بأمير و لا يرضاهم أمير- هو من العضال- و هو الداء و الأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه- . و في حديثه أنه خطب فذكر الربا- فقال إن منه أبوابا لا تخفى على أحد- منها السلم في السن- و أن تباع الثمرة و هي مغضفة و لما تطب- و أن يباع الذهب بالورق نساء- . قال أبو عبيد- السلم في السن أن يسلف الرجل في الرقيق و الدواب- و غيرها من الحيوان لأنه ليس له حد معلوم- . و المغضفة المتدلية في شجرها- و كل مسترخ أغضف- أي تكون غير مدركة- . و في حديثه أنه خطب- فقال ألا لا تغالوا في صداق النساء- فإن الرجل يغالي بصداق المرأة- حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوة- تقول جشمت إليك عرق القربة- .
قال معناه تكلفت لك حتى عرقت عرق القربة- و عرقها سيلان مائها و في حديثه- أنه رفع إليه غلام ابتهر جارية في شعره- فقال انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد- . قال أبو عبيد- ابتهرها أي قذفها بنفسه فقال فعلت بها- . و في حديثه- أنه قضى في الأرنب بحلان إذا قتلها المحرم- . قال الحلان الجدي- . و في حديثه أنه قال حجة هاهنا- ثم احدج هاهنا حتى تفنى- . قال يأمر بحجة الإسلام لا غير- ثم بعدها الغزو في سبيل الله- .
حتى تفنى أي حتى تهرم- . و في حديثه أنه سافر في عقب رمضان- و قال إن الشهر قد تسعسع فلو صمنا بقيته- . قال أبو عبيد- السين مكررة مهملة- و العين مهملة أي أدبر و فنى- . و في حديثه و قد سمع رجلا خطب فأكثر- فقال إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان- . الواحدة شقشقة- و هو ما يخرج من شدق الفحل عند نزوانه شبيهة بالرئة- و الشيطان
لا شقشقة له- إنما هذا مثل لما يدخل في الخطب- من الكلام المكذوب و تزوير الباطل- . و في حديثه أنه قدم مكة فأذن أبو محذورة- فرفع صوته فقال له- أ ما خشيت يا أبا محذورة أن ينشق مريطاؤك- . قال المريطاء ما بين السرة إلى العانة و يروى بالقصر- . و في حديثه- أنه سئل عن المذي فقال هو الفطر و فيه الوضوء- . قال سماه فطرا من قولهم- فطرت الناقة فطرا إذا حلبتها بأطراف الأصابع- فلا يخرج اللبن إلا قليلا- و كذلك المذي و ليس المني كذلك- لأنه يخرج منه مقدار كثير- . و في حديثه أنه سئل عن حد الأمة الزانية- فقال إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار- . قال الفروة جلدة الرأس و هذا مثل- إنما أراد أنها ألقت القناع و تركت الحجاب- و خرجت إلى حيث لا يمكنها أن تمتنع من الفجور- نحو رعاية الغنم فكأنه يرى أن لا حد عليها- . و في حديثه أنه أتي بشارب- فقال لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة- فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي- فقال إذا أصبحت غدا فاضربه الحد- فجاء عمر
و هو يضربه ضربا شديدا- فقال قتلت الرجل كم ضربته قال ستين- قال أقص عنه بعشرين- .
قال معناه اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين- التي بقيت من الحد فلا تضربه إياها- . و في حديثه أن رجلا أتاه فذكر له- أن شهادة الزور قد كثرت في أرضهم- فقال لا يؤسر أحد في الإسلام بشهادة الزور- فإنا لا نقبل إلا العدول- . قال لا يؤسر لا يحبس و منه الأسير المسجون- . و في حديثه أنه جدب السمر بعد عتمة- . جدبه أي عابه و وصمه- . و مثل هذا الحديث في كراهيته السمر حديثه الآخر- أنه كان ينش الناس بعد العشاء بالدرة- و يقول انصرفوا إلى بيوتكم- . قال هكذا روي بالشين المعجمة- و قيل إن الصحيح ينس بالسين المهملة- و الأظهر أنه ينوش الناس بالواو من التناوش- قال تعالى وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ- . و في حديثه هاجروا و لا تهجروا- و اتقوا الأرنب إن يحذفها أحدكم بالعصا- و لكن ليذك لكم الأسل الرماح و النبل- .
قال رواه زر بن حبيش- قال قدمت المدينة فخرجت في يوم عيد- فإذا رجل متلبب أعسر أيسر- يمشي مع الناس كأنه راكب- و هو يقول كذا و كذا فإذا هو عمر- يقول هاجروا و أخلصوا الهجرة و لا تهجروا- . و لا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحة منكم- كقولك تحلم الرجل و ليس بحليم- و تشجع و ليس بشجاع- . و الذكاة الذبح و الأسل أعم من الرماح- و أكثر ما يستعمل في الرماح خاصة- . و المتلبب المتحزم بثيابه- . و فلان أعسر يسر يعمل بكلتا يديه- و الذي جاء في الرواية أيسر بالهمزة- . و في حديثه أنه أفطر في رمضان- و هو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا الشمس طالعة- فقال لا نقضيه ما تجانفنا فيه الإثم- .
يقول لم نتعمد فيه الإثم- و لا ملنا إليه و الجنف الميل- . و في حديثه أنه قال لما مات عثمان بن مظعون على فراشه- هبنه الموت عندي منزلة حين لم يمت شهيدا- فلما مات رسول الله ص على فراشه و أبو بكر- علمت أن موت الأخيار على فرشهم- . هبته أي طأطأه و حط من قدره- . و في حديثه أن رجلا من الجن لقيه- فقال هل لك أن تصارعني- فإن صرعتني
علمتك آية- إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان- فصارعه فصرعه عمر و قال له- إني أراك ضئيلا شخيتا- كان ذراعيك ذراعا كلب- أ فهكذا أنتم كلكم أيها الجن أم أنت من بينهم- فقال إني من بينهم لضليع فعاودني- فصارعه فصرعه الإنسي فقال أ تقرأ آية الكرسي- فإنه لا يقرؤها أحد- إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان منه- و له خبج كخبج الحمار- . قال رواه عبد الله بن مسعود- و قال خرج رجل من الإنس- فلقيه رجل من الجن ثم ذكر الحديث- فقيل له هو عمر- فقال و من عسى أن يكون إلا عمر- الشخيت النحيف الجسم و مثله الشخت- . و الضليع العظيم الخلق- . و الخبج الضراط- . و في حديثه- أنه كان يطوف بالبيت- و هو يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة- و قنا عذاب النار- ما له هجيرى غيرها- . قال هجيرى الرجل دأبه و ديدنه و شأنه- . و مثلها من قول عمر- لو أطيق الأذان مع الخليقى لأذنت- . و مثلها من قول عمر بن عبد العزيز- لا رديدى في الصدقة أي لا ترد- . و مثلها قول العرب- كانت بينهم رميا أي مراماة- ثم حجزت بينهم حجيزى أي محاجزة- .
و في حديثه- حين قال للرجل الذي وجد منبوذا فأتاه به- فقال عسى الغوير أبؤسا- قال عريفه يا أمير المؤمنين إنه و إنه فأثنى عليه خيرا- و قال فهو حر ولاؤه لك- . الأبؤس جمع بأس و المثل قديم مشهور- و مراد عمر لعلك أنت صاحب هذا المنبوذ- كأنه اتهمه و ساء ظنه فيه- فلما أثنى عليه عريفه أي كفيله- قال له هذا المنبوذ حر و ولاؤه لك- لأنه بإنقاذه إياه من الهلكة كأنه أعتقه- . و في حديثه- أن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله- . هكذا يروى بالتخفيف و الكسر- و المعروف مغويات بتشديد الياء و فتحها واحدتها مغواة- و هي حفرة كالزبية تحفر للذئب و يجعل فيها جدي- فإذا نظر إليها الذئب سقط يريده فيصاد- و لهذا قيل لكل مهلكة مغواة- . و في حديثه فرقوا عن المنية- و اجعلوا الرأس رأسين- و لا تلثوا بدار معجزة و أصلحوا مثاويكم- و أخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم- و اخشوشنوا و اخشوشبوا و تمعددوا- .
قال فرقوا عن المنية و اجعلوا الرأس رأسين- أي إذا أراد أحدكم أن يشتري شيئا من الحيوان- كمملوك أو دابة فلا يغالين به- فإنه لا يدري ما يحدث فيه- و لكن ليجعل ثمنه في رأسين- و إن كان كل واحد منهما دون الأول- فإن مات أحدهما بقي الآخر- . و قوله و لا تلثوا بدار معجزة- فالإلثاث الإقامة أي لا تقيموا ببلد يعجزكم فيه الرزق- و لكن اضطربوا في البلاد للكسب- . و هذا شبيه بحديثه الآخر- إذا اتجر أحدكم في شي ء ثلاث مرات- فلم يرزق منه فليدعه- . و المثاوي المنازل جمع مثوى- . و أخيفوا الهوام أي اقتلوا ما يظهر في دوركم- من الحيات و العقارب لتخافكم فلا تظهر- .
و اخشوشنوا أمر بالخشونة في العيش- و مثله اخشوشبوا بالباء أراد ابتذال النفس في العمل- و الاحتفاء في المشي ليغلظ الجلد و يجسو- . و تمعددوا قيل إنه من الغلظ أيضا- يقال للغلام إذا أنبت و غلظ قد تمعدد- . و قيل أراد تشبهوا بمعد بن عدنان- و كانوا أهل قشف و غلظ في المعاش- أي دعوا التنعم و زي العجم- . و قد جاء عنه في حديث آخر مثله- عليكم باللبسة المعدية- . و في حديثه أنه كتب إلى خالد بن الوليد- أنه بلغني أنك دخلت حماما بالشام- و أن من بها من الأعاجم- أعدوا لكم دلوكا عجن بخمر- و إني أظنكم آل المغيرة ذرو النار- .
الدلوك ما يتدلك به كالسحور و الفطور و نحوهما- . و ذرو النار خلق النار- و يروى ذرء النار بالهمزة من ذرأ الله الناس- أي صورهم و أوجدهم- . و في حديثه املكوا العجين فإنه أحد الريعين- . ملكت العجين أجدت عجنه- . و الريع الزيادة- و الريع الثاني ما يزيد عند خبزه في التنور و في حديثه حين طعن- فدخل عليه ابن عباس فرآه مغتما بمن يستخلف بعده- فذكر عثمان فقال كلف بأقاربه- قال فعلي قال فيه دعابة- قال فطلحة قال لو لا بأو فيه- قال فالزبير قال وعقة لقس- قال فعبد الرحمن قال أوه- ذكرت رجلا صالحا و لكنه ضعيف- و هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعف- و القوي من غير عنف- قال فسعد- قال ذاك يكون في مقنب من مقانبكم- . قوله كلف بأقاربه أي شديد الحب لهم- . و الدعابة المزاح- .
و البأو الكبر و العظمة- . و قوله وعقة لقس و يروى ضبيس- و معناه كله الشراسة و شد الخلق و خبث النفس- .
و المقنب جماعة من الفرسان- . و في حديثه أنه قال عام الرمادة- لقد هممت أن أجعل مع كل أهل بيت من المسلمين مثلهم- فإن الإنسان لا يهلك على نصف شبعه- فقال له رجل- لو فعلت يا أمير المؤمنين ما كنت فيها ابن ثأداء- . قال يريد أن الإنسان- إذا اقتصر على نصف شبعه لم يهلك جوعا- و ابن ثأداء بفتح الهمزة ابن الأمة- . و في حديثه- أنه قرأ في صلاة الفجر بالناس سورة يوسف- فلما انتهى إلى قوله تعالى- إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ- وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ- بكى حتى سمع نشيجه- . النشيج صوت البكاء- يردده الصبي في صدره و لا يخرجه- . و في حديثه- أنه أتي في نساء أو إماء ساعيات في الجاهلية- فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم فلا يسترقوا- .
المساعاة زنا الإماء خاصة- قضى عمر في أولادهن في الجاهلية- أن يسومن على آبائهم- بدفع الآباء قيمتهم إلى سادات الإماء- و يصير الأولاد أحرارا لاحقي النسب بآبائهم- . و في حديثه ليس على عربي ملك- و لسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليهم- و لكنا نقومهم الملة خمسا من الإبل- . قال- كانت العرب تسبي بعضها بعضا في الجاهلية- فيأتي الإسلام و المسبي في يد الإنسان كالمملوك له- فقضى عمر في مثل هذا أن يرد حرا إلى نسبه- و تكون قيمته على نفسه يؤديها إلى الذي سباه- لأنه أسلم و هو في يده- و قيمته كائنا ما كان خمس من الإبل- . قوله و الملة أي تقوم ملة الإنسان و شرعها- . و في حديثه- لما ادعى الأشعث بن قيس رقاب أهل نجران- لأنه كان سباهم في الجاهلية- و استعبدهم تغلبا فصاروا كمماليكه- فلما أسلموا أبوا عليه فخاصموه عند عمر في رقابهم- فقالوا يا أمير المؤمنين إنما كنا له عبيد مملكة- و لم نكن عبيد قن فتغيظ عمر عليه- و قال أردت أن تتغفلني- .
يعني أردت غفلتي- .
و عبد قن ملك و ملك أبواه- و عبد مملكة بفتح اللام و ضمها- من غلب عليه و استعبد و كان في الأصل حرا- فقضى عمر فيهم أن صيرهم أحرارا بلا عوض- لأنه ليس بسباء على الحقيقة- . و في حديثه أنه قضى في ولد المغرور بغرة- . قال هو الرجل يزوج رجلا آخر مملوكة لإنسان آخر- على أنها حرة- فقضى عمر أن يغرم الزوج لمولى الأمة غرة- أي عبدا أو أمة و يكون ولده حرا- ثم يرجع الرجل الزوج على من غره بما غرم- . و في حديثه أنه رأى جارية متكمكمة فسأل عنها- فقالوا أمة آل فلان فضربها بالدرة ضربات- و قال يا لكعاء أ تشبهين بالحرائر- . قال متكمكمة لابسة قناع- أصله من الكمة و هي كالقلنسوة- و الأصل مكممة فأعاد الكاف- كما قالوا كفكف فلان عن كذا و تصرصر الباب- . و لكعاء و لكاع بالكسر و البناء شتم للأمة- و للرجل يقال يا لكع- . و في حديثه ورع اللص و لا تراعه- . يقول ادفعه إذا رأيته في منزلك- و اكففه بما استطعت و لا تنتظر فيه شيئا- و كل
شي ء كففته فقد ورعته- و كل ما تنتظره فأنت تراعيه- و المعنى أنه رخص في الإقدام على اللص بالسلاح- و نهى أن يمسك عنه نائما- . و في حديثه أن رجلا أتاه فقال- إن ابن عمي شج موضحة- فقال أ من أهل القرى أم من أهل البادية- قال من أهل البادية- فقال عمر إنا لا نتعاقل المضغ بيننا- . قال سماها مضغا- استصغارا لها و لأمثالها كالسن و الإصبع- . قال و مثل ذلك لا تحمله العاقلة عند كثير من الفقهاء- و كذلك كل ما كان دون الثلث- .
و في حديثه أنه لما حصب المسجد- قال له فلان لم فعلت- قال هو أغفر للنخامة و ألين في الموطئ- . أغفر لها أستر لها- . و حصب المسجد فرشه بالحصباء- و هي رمل فيه حصى صغار- . و في حديثه- أن الحارث بن أوس سأله عن المرأة تطوف بالبيت- ثم تنفر من غير أن تطوف طواف الصدر إذا كانت حائضا- فنهاه عمر عن ذلك- فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله ص- فقال عمر أربت يداك أ تسألني- و قد سمعت من رسول الله ص كي أخالفه- قال دعا عليه بقطع اليدين- من قولك قطعت الشاة إربا إربا- .
و في حديثه أنه سمع رجلا يتعوذ من الفتن- فقال عمر اللهم إني أعوذ بك من الضفاطة- أ تسأل ربك ألا يرزقك مالا و ولدا- . قال أراد قوله تعالى- وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ- و الضفاطة الحمق و ضعف العقل رجل ضفيط أي أحمق- . و في حديثه ما بال رجال لا يزال أحدهم- كاسرا وسادة عند امرأة مغزية- يتحدث إليها و تتحدث إليه- عليكم بالجنبة فإنها عفاف- إنما النساء لجم على وضم إلا ما ذب عنه- . قال مغزية قد غزا زوجها فهو غائب عنها- أغزت المرأة إذا كان بعلها غازيا- و كذلك أغابت فهي مغيبة- . و عليكم بالجنبة أي الناحية- يقول تنحوا عنهن و كلموهن من خارج المنزل- و الوضم الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم- . قال و هذا مثل حديثه الآخر- ألا لا يدخلن رجل على امرأة- و إن قيل حموها ألا حموها الموت- . قال دعا عليها- فإذا كان هذا رأيه في أبي الزوج- و هو محرم لها فكيف بالغريب- و في حديثه- أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها- فلا بيعة إلا عن مشورة- و أيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة- فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا- .
قال التغرة التغرير- غررت بالقوم تغريرا و تغرة- كقولك حللت اليمين تحليلا
و تحلة و مثله في المضاعف كثير- أي أن في ذلك تغريرا بأنفسهما و تعريضا لهما أن يقتلا- . و في حديثه- أن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته- و قال انتعش نعشك الله- و إذا تكبر و عدا طوره- وهصه الله إلى الأرض- . قال وهصه أي كسره و عدا طوره أي قدره- . و في حديثه حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها- و تذروا أرباقها في أعناقها- . قال أراد بالذرية هنا النساء و لم يرد الصبيان- لأنه لا حج عليهم- . و الأرباق جمع ربق و هو الحبل- . و في حديثه أنه وقف بين الحرتين و هما داران لفلان- فقال شوى أخوك حتى إذا انضج رمد- . هذا مثل يضرب للرجل يصنع معروفا ثم يفسده- . و في حديثه السائبة و الصدقة ليومهما- . قال السائبة المعتق- .
و ليومهما ليوم القيامة الذي فعل ما فعله لأجله- . و في حديثه لا تشتروا رقيق أهل الذمة- فإنهم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض- و أرضهم فلا تتنازعوها- و لا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله- . قال كره أن يشتري أرضهم المسلمون و عليها خراج- فيصير الخراج منتقلا إلى المسلم- و إنما منع من شراء رقيقهم- لأن جزيتهم تكثر على حسب كثرة رقيقهم- فإذا ابتيع رقيقهم قلت جزيتهم- و إذا أقلت جزيتهم يقل بيت المال- . و في حديثه في قنوت الفجر- و إليك نسعى و نحفد- نرجو رحمتك و نخشى عذابك- إن عذابك بالكفار ملحق- . قال حفد العبد مولاه يحفد أي خدم- و منه قوله تعالى بَنِينَ وَ حَفَدَةً- أي خدما- . و ملحق اسم فاعل بمعنى لاحق من الحق- و هو لغة في لحق يقال لحقت زيدا و ألحقته بمعنى- .
و في حديثه لا تشتروا الذهب بالفضة إلا يدا بيد- هاء و هاء إني أخاف عليكم الرماء- . قال الرماء الزيادة و هو بمعنى الربا- يقال أرميت على الخمسين أي زدت عليها- .
و في حديثه- من لبد أو عقص أو ضفر فعليه الحلق- . قال التلبيد أن تجعل في رأسك شيئا- من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل- . و العقص و الضفر فتل الشعر و نسجه و في حديثه- ما تصعدتني خطبة كما تصعدتني خطبة النكاح- . قال معناه ما شق علي و أصله من الصعود- و هي العقبة المنكرة- قال تعالى سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً- . و في حديثه أنه قال لمالك بن أوس- يا مالك أنه قد دفت علينا من قومك دافة- و قد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم- . قال الدافة جماعة تسير سيرا ليس بالشديد- . و في حديثه أنه سأل جيشا- فقال هل ثبت لكم العدو قدر حلب شاة بكيئة- . قال البكيئة القليلة اللبن- . و في حديثه أنه قال في متعة الحج- قد علمت أن رسول الله ص فعلها و أصحابه- و لكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك- ثم يلبون بالحج تقطر رءوسهم- .
قال المعرس الذي يغشى امرأته- قال كره أن يحل الرجل من عمرته- ثم يأتي النساء ثم يهل بالحج- . و في حديثه نعم المرء صهيب لو لم يخف الله لم يعصه- . قال المعنى أنه لا يترك المعصية خوف العقاب- بل يتركها لقبحها- فلو كان لا يخاف عقوبة الله لترك المعصية- . و في حديثه أنه أتي بسكران في شهر رمضان- فقال للمنخرين للمنخرين- أ صبياننا صيام و أنت مفطر- . قال معناه الدعاء عليه كقولك كبه الله للمنخرين- و كقولهم لليدين و للفم- . و في حديثه أنه قال لما توفي رسول الله ص- قام أبو بكر فتلا هذه الآية في خطبته- إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- قال عمر فعقرت حتى وقعت إلى الأرض- . قال يقال للرجل إذا بهت و بقي متحيرا دهشا قد عقر- و مثله بعل و خرق- . و في حديثه أنه كتب إلى أبي عبيدة و هو بالشام- حين وقع بها الطاعون- أن الأردن أرض غمقة و أن الجابية أرض نزهة- فأظهر بمن معك من المسلمين إلى الجابية- .
قال الغمقة الكثيرة الأنداء و الوباء- و النزهة البعيدة من ذلك- . و في حديثه- أنه قال لبعضهم في كلام كلمه به بل تحوسك فتنة- . قال معناه تخالطك و تحثك على ركوبها- قال و تحوس مثل تجوس بالجيم- قال تعالى فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ- . و في حديثه حين ذكر الجراد فقال- وددت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين- . قال القفعة شي ء شبيه بالزنبيل ليس بالكبير- يعمل من خوص ليس له عرى- و هو الذي يسمى القفة- . و في حديثه أن أذينة العبدي أتاه يسأله فقال- إني حججت من رأس هزا و خازك- أو بعض هذه المزالف- فمن أين أعتمر فقال ائت عليا فاسأله- فسألته فقال من حيث ابتدأت- . قال رأس هزا و خازك موضعان من ساحل فارس- و المزالف كل قرية تكون بين البر و بلاد الريف- و هي المزارع أيضا كالأنبار و عين التمر و الحيرة- . و في حديثه أنه نهى عن المكايلة- . قال معناه مكافأة الفعل القبيح بمثله- .
و في حديثه ليس الفقير الذي لا مال له- إنما الفقير الأخلق الكسب- . قال أراد الرجل الذي لا يرزأ في ماله- و لا يصاب بالمصائب- و أصله أن يقال للجبل المصمت الذي لا يؤثر فيه شي ء أخلق- و صخرة خلقاء إذا كانت كذلك- فأراد عمر أن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة- لمن لم يقدم من ماله لنفسه شيئا يثاب عليه هناك- و هذا نحو
قول النبي ص ليس الرقوب الذي لا يبقى له ولد- إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده أحدا
- . فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب أبي عبيد- . فأما ما ذكره ابن قتيبة من غريب حديثه في كتابه- فأنا ألخص منه ما أنا ذاكره- . قال ابن قتيبة- فمن غريب حديث عمر أنه خطب- فقال إن أخوف ما أخاف عليكم- أن يؤخذ الرجل المسلم البري ء عند الله- فيدسر كما يدسر الجزور- و يشاط لحمه كما يشاط لحم الجزور- يقال عاص و ليس بعاص-
فقال علي ع فكيف ذاك و لما تشتد البلية- و تظهر الحمية و تسبى الذرية- و تدقهم الفتن دق الرحى بثفالها
- . قال ابن قتيبة- يدسر أي يدفع- و
منه حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاه- إنما هو شي ء يدسره البحر
- . و يشاط لحمه أي يقطع و يبضع- و الأصل في الإشاطة الإحراق فأستعير- و في الحديث أن زيد بن حارثة قاتل يوم مؤتة- حتى شاط في رماح القوم- . و الثفال جلدة تبسط تحت الرحى فيقع عليها الدقيق- .
و
في حديث عمر القسامة توجب العقل و لا تشيط الدم
- . قال ابن قتيبة العقل الدية- يقول إذا حلفت فإنما تجب الدية لا القود- و قد روي عن ابن الزبير و عمر بن عبد العزيز- أنهما أقادا بالقسامة- . و
في حديثه لا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب
- . قال يغسق أي يظلم- . و الظراب جمع ظرب و هو ما كان دون الجبل- و إنما خص الظراب بالذكر لقصرها- أراد أن ظلمة الليل تقرب من الأرض- . و
في حديثه أن رجلا كسر منه عظم فأتى عمر يطلب القود- فأبى أن يقتص له- فقال الرجل فكاسر عظمي إذن كالأرقم- إن يقتل ينقم و إن يترك يلقم- فقال عمر هو كالأرقم
- . قال كانت الجاهلية تزعم- أن الجن يتصور بعضهم في صورة الحيات- و أن من قتل حية منها طلبت الحية بالثأر- فربما مات أو أصابه خبل- فهذا معنى قوله إن يقتل ينقم- و معنى يلقم يقول إن تركته أكلك- و هذا مثل يضرب للرجل يجتمع عليه أمران من الشر- لا يدري كيف يصنع فيهما- و نحوه قولهم هو كالأشقر إن تقدم عقر و إن تأخر نحر- .
قال- و إنما لم يقده لأنه يخاف من القصاص في العظم الموت- و لكن فيه الدية- . و في حديثه أنه أتى مسجد قباء- فرأى فيه شيئا من غبار و عنكبوت- فقال لرجل ائتني بجريدة و اتق العواهن- قال فجئته بها فربط كميه بوذمة- ثم أخذ الجريدة فجعل يتتبع بها الغبار- . قال الجريدة السعفة و جمعها جريد- . و العواهن السعفات التي يلين القلبة- و القلبة جمع قلب- و أهل نجد يسمون العواهن الحواني- و إنما نهاه عنها إشفاقا على القلب أن يضر به قطعها- . و الوذمة سير من سيور الدلو- يكون بين آذان الدلو و العراقي- . و
في حديثه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم- و لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم- و لا تجمروهم فتفتنوهم
- . قال التجمير ترك الجيش في مغازيهم لا يقفلون- . و في حديثه أنه أتي بمروط- فقسمها بين نساء المسلمين- و رفع مرطا بقي إلى أم سليط الأنصارية- و قال إنها كانت تزفر القرب يوم أحد تسقى المسلمين- . قال تزفرها تحملها- و منه زفر اسم رجل كان يحمل الأثقال- .
و
في حديثه أنه قال أعطوا من الصدقة من أبقت له السنة غنما- و لا تعطوا من أبقت له السنة غنمين
- . قال السنة هاهنا الأزمنة- و منه قوله تعالى وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ- . قال و كان عمر لا يجيز نكاحا في عام سنة- يقول لعل الضيعة تحملهم على أن ينكحوا غير الأكفاء- . و كان أيضا لا يقطع سارقا في عام سنة- . و قوله غنما أي قطعة من الغنم- يقال لفلان غنمان أي قطعتان من الغنم- و أراد عمر أن من له قطعتان غني- لا يعطى من الصدقة شيئا- لأنها لم تكن قطعتين إلا لكثرتها- . و في حديثه أنه انكفأ لونه في عام الرمادة حين قال- لا آكل سمنا و لا سمينا- و أنه اتخذ أيام كان يطعم الناس قدحا فيه فرض- فكان يطوف على القصاع فيغمز القدح- فإن لم تبلغ الثريدة الفرض- قال فانظر ما ذا يفعل بصاحب الطعام- . قال انكفأ تغير عن حاله- و أصله الانقلاب من كفأت الإناء- . و سمي عام الرمادة من قولهم أرمد الناس إذا جهدوا- و الرمد الهلاك- . و القدح السهم و الفرض الحز- جعل عمر هذا الحز علامة لعمق الثريد في الصحفة- .
و في حديثه أن عطاء بن يسار قال- قلت للوليد بن عبد الملك- روي لي أن عمر بن الخطاب قال- وددت أني سلمت من الخلافة كفافا لا علي و لا لي- فقال كذبت الخليفة يقول هذا- فقلت أ و كذبت فأفلت منه بجريعة الذقن- . قال يقال خلص من خصمه كفافا- أي كف كل واحد منهما على صاحبه- فلم ينل أحدهما من الآخر شيئا- . و أفلت فلان بجريعة ذقن- أي أن نفسه قد صارت في فيه- و جريعة تصغير جرعة- . قلت و إنما استعظم الوليد ذلك- لأن بني أمية كانوا يرون- أن من ولي الخلافة فقد وجبت له الجنة- و لهذا خطب هشام يوم ولي- فقال الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام و في حديثه أن سماك بن حرب قال- رأيت عمر فرأيت رجلا أروح كأنه راكب- و الناس يمشون كأنه من رجال بني سدوس- . قال الأروح الذي تتدانى عقباه- و تتباعد صدور قدميه- يقال أروح بين الروح- و الأفحج الذي تتدانى صدور قدميه- و تتباعد عقباه و تتفحج ساقاه- و الأوكع الذي يميل إبهام رجله على أصابعه حتى يزول- فيرى شخص أصلها خارجا- و هو الوكع و منه أمة وكعاء- و بنو سدوس فخذ من بني شيبان- و الطول أغلب عليهم- .
و في حديثه عن ابن عباس قال- دعاني فإذا حصير بين يديه- عليه الذهب منثور نثر الحثا فأمرني بقسمة- . قال الحثا التبن مقصور- قال الراجز يهجو رجلا-
- و يأكل التمر و لا يلقي النوىو لا يواري فرجه إذا اصطلى
كأنه غرارة ملأى حثا
- . و في حديثه أنه قال- النساء ثلاث فهينة لينة عفيفة مسلمة- تعين أهلها على العيش- و لا تعين العيش على أهلها- و أخرى وعاء للولد- و أخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء- و يفكه عمن يشاء- و الرجال ثلاثة- رجل ذو رأي و عقل- و رجل إذا حزبه أمر أتى ذا رأي فاستشاره- و رجل حائر بائر لا يأتمر رشدا- و لا يطيع مرشدا- . قال البائر الهالك- قال تعالى وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- و الأصل في قوله غل قمل- أنهم كانوا يغلون بالقد و عليه الشعر- فيقمل على الرجال- . و لا يأتمر رشدا أي لا يأتي برشد من ذات نفسه- يقال لمن فعل الشي ء من غير مشاورة قد ائتمر- و بئس ما ائتمرت لنفسك- قال النمر بن تولب-
- و اعلمن أن كل مؤتمرمخطئ في الرأي أحيانا
- . و في حديثه أنه خرج ليلة في شهر رمضان- و الناس أوزاع فقال- إني لأظن لو جمعناهم على قارئ واحد كان أفضل- فأمر أبي بن كعب فأمهم- ثم خرج ليلة و هم
يصلون بصلاته- فقال نعم البدعة هذه- و التي ينامون عنها أفضل من التي يقومون- . قال الأوزاع الفرق- يريد أنهم كانوا يصلون فرادى- يقال وزعت المال بينهم أي فرقته- . و قوله و التي ينامون عنها أفضل- يريد صلاة آخر الليل فإنها خير من صلاة أوله- . و في حديثه أن أصحاب محمد ص تذاكروا الوتر- فقال أبو بكر أما أنا فأبدأ بالوتر- و قال عمر لكني أوتر حين ينام الضفطى- . قال هو جمع ضفيط و هو الرجل الجاهل الضعيف الرأي- . و منه ما روي عن ابن عباس أنه قال- لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء- فقيل أ تقول هذا و أنت عامل لفلان- فقال إن في ضفطات و هذه إحدى ضفطاتي- . و في حديثه أنه قال في وصيته- إن توفيت و في يدي صرمة ابن الأكوع- فسنتها سنة ثمغ- .
قال الصرمة هاهنا قطعة من النخل- و يقال للقطعة الخفيفة من الإبل صرمة- و يقال لصاحبها مصرم- و لعله قيل للمقل مصرم من هذا- . و ثمغ مال كان لعمر و وقفه- . و في حديثه أنه لما قدم الشام تفحل له أمراء الشام- قال أي اخشوشنوا له في الزي و اللباس و المطعم تشبها به- و أصله من الفحل- لأن التصنع في اللباس و القيام على النفس- إنما هو عندهم للإناث لا للفحول- . و في حديثه أنه قدم مكة فسأل من يعلم موضع المقام- و كان السيل احتمله من مكانه- فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي- يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته و ذرعته بمقاط عندي- .
قال المقاط الحبل و جمعه مقط- . و في حديثه أنه قال للذي قتل الظبي و هو محرم- خذ شاة من الغنم فتصدق بلحمها و اسق إهابها- . قال الإهاب الجلد- . و اسقه أي اجعله سقاء لغيرك- كما تقول اسقني عسلا أي اجعله لي سقاء- و أقد بي خيلا أي أعطني خيلا أقودها- و اسقني إبلا أعطني إبلا أسوقها- .
و قالت بنو تميم للحجاج- أقبرنا صالحا يعنون صالح بن عبد الرحمن- و كان قتله و صلبه فسألوه أن يمكنهم من دفنه- . و في حديثه أنه ذكر عنده التمر و الزبيب أيهما أفضل- و يروى أنه قال لرجل من أهل الطائف- الحبلة أفضل أم النخلة- فأرسل إلى أبي حثمة الأنصاري فقال- إن هؤلاء اختلفوا في التمر و الزبيب أيهما أفضل- . و في رواية أخرى- و جاء أبو عمرة عبد الرحمن بن محصن الأنصاري- فقال أبو حثمة ليس الصقر في رءوس الرقل- الراسخات في الوحل المطعمات في المحل- تعلة الصبي و قرى الضيف- و به يحترش الضب في الأرض الصلعاء- كزبيب إن أكلته ضرست و إن تركته غرثت- . و في الرواية الأخرى فقال أبو عمرة- الزبيب إن آكله أضرس و إن أتركه أغرث- ليس كالصقر في رءوس الرقل- الراسخات في الوحل و المطعمات في المحل- خرفة الصائم و تحفة الكبير- و صمتة الصغير و خرسة مريم- و يحترش به الضباب من الصلعاء- . قال الحبلة بفتح الحاء و تسكين الباء الأصل من الكرم- و في الحديث أن نوحا لما خرج من السفينة غرس الحبلة- و كانت لأنس بن مالك حبلة تحمل كذا- و كان يسميها أم العيال- فأما الحبلة بالضم فثمر العضاه- . و منه الحديث- كنا نغزو مع رسول الله ص و ما لنا طعام إلا الحبلة- و ورق السمر- و الحبلة بالضم أيضا ضرب من الحلي يجعل في القلائد- شبه بورق العضاه لأنه يصاغ على صورته- . و أغرث أجوع و الغرث الجوع- .
و الصقر عسل الرطب- . و الرقل جمع رقلة و هي النخلة الطويلة- . و قوله خرفة الصائم اسم لما يخترف أي يجتنى- و نسبها إلى الصائم- لأنهم كانوا يحبون أن يفطروا على التمر- . و قوله و صمتة الصغير- لأن الصغير كان إذا بكى عندهم سكتوه به- و تعلة الصبي نحوه من التعليل- . و خرسة مريم الخرسة ما تطعمه النفساء عند ولادتها- أشار إلى قوله تعالى- وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا- فأما الخرس بغير هاء فهو الطعام الذي يصنع لأجل الولادة- كالإعذار للختان و النقيعة للقادم و الوكيرة للبناء- . و يحترش به الضب أي يصطاده- يقال إن الضب يعجب بالتمر- و الحارش صائد الضباب- . و الصلعاء الصحراء التي لا نبات بها كرأس الأصلع- . و في حديثه أنه قال للسائب- ورع عني بالدرهم و الدرهمين- . قال أي كف الخصوم عني في قدر الدرهم و الدرهمين- بأن تنظر في ذلك و تقضي فيه بينهم و تنوب عني- و كل من كففته فقد ورعته- و منه الورع في الدين إنما هو الكف عن المعاصي- و منه حديث عمر لا تنظروا إلى صلاة الرجل و صيامه- و لكن من إذا حدث صدق و إذا اؤتمن أدى- و إذا أشفى ورع أي إذا أشرف على المعصية كف عنها- .
و في حديثه أنه خطب الناس فقال- أيها الناس لينكح الرجل منكم لمته من النساء- و لتنكح المرأة لمتها من الرجال قال لمة الرجل من النساء مثله في السن- و منه ما روي أن فاطمة ع- خرجت في لمة من نسائها تتوطأ ذيلها- حتى دخلت على أبي بكر- . و أراد عمر بن الخطاب لا تنكح الشابة الشيخ الكبير- و لا ينكح الشاب العجوز- و كان سبب هذه الخطبة- أن شابة زوجها أهلها شيخا فقتلته- . و في حديثه أن رجلا أتاه يشكو إليه النقرس- فقال كذبتك الظهائر- . قال الظهائر جمع ظهيرة- و هي الهاجرة و وقت زوال الشمس- . و كذبتك أي عليك بها و هي كلمة معناها الإغراء- يقولون كذبك كذا أي عليك به- . و
منه الحديث المرفوع الحجامة على الريق فيها شفاء و بركة- فمن احتجم في يوم الخميس و يوم الأحد كذباك
- . أي عليك بهما- و إنما أمر عمر صاحب النقرس- أن يبرز للحر في الهاجرة و يمشي حافيا- و يبتذل نفسه لأن ذلك يذهب النقرس- . و في حديثه أنه قال- من يدلني على نسيج وحده- فقال أبو موسى ما نعلمه غيرك- فقال ما هي إلا إبل موقع ظهورها- . قال معنى قوله نسيج وحده أي لا عيب فيه و لا نظير له- أصله من الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره- .
و البعير الموقع الذي يكثر آثار الدبر بظهره- لكثرة ما يركب- و أراد عمر أنا كلنا مثل ذلك في العيب- . و في حديثه أن الطبيب الأنصاري سقاه لبنا حين طعن- فخرج من الطعنة أبيض يصلد- . قال أي يبرق و لم يتغير لونه و في حديثه أن نادبة عمر- قالت وا عمراه أقام الأود و شفى العمد- فقال علي ع أما و الله ما قالته و لكن قولته- . و العمد ورم و دبر يكون في ظهر البعير- و أراد علي ع- أنه كأنما ألقي هذا الكلام على لسانها لصحته و صدقه- . و في حديثه أنه استعمل رجلا على اليمن- فوفد إليه و عليه حلة مشتهرة و هو مرجل دهين- فقال أ هكذا بعثناك ثم أمر بالحلة فنزعت عنه- و ألبس جبة صوف- ثم سأل عن ولايته فلم يذكر إلا خيرا فرده على عمله- ثم وفد إليه بعد ذلك فإذا أشعث مغبر عليه أطلاس- فقال و لا كل هذا- إن عاملنا ليس بالشعث و لا العافي- كلوا و اشربوا و ادهنوا- إنكم لتعلمون الذي أكره من أمركم- . قال ثياب أطلاس أي وسخة- و منه قيل للذئب أطلس- .
و العافي الطويل الشعر- يقال عفى وبر البعير إذا طال- و
منه الحديث المرفوع أمر أن تعفى اللحى و تحفى الشوارب
- . و في حديثه أنه قال للرجل- أ ما تراني لو شئت أمرت بشاة فتية سمينة أو قنية- فألقي عنها صوفها- ثم أمرت بدقيق فنخل في خرقة فجعل منه خبز مرقق- و أمرت بصاع من زبيب- فجعل في سعن حتى يكون كدم الغزال- . قال السعن قربة أو إداوة ينتبذ فيها و تعلق بجذع- . و في حديثه أنه رأى رجلا يأنح ببطنه- فقال ما هذا قال بركة من الله- قال بل هو عذاب من الله يعذبك به- . قال يأنح يصوت- و هو ما يعتري الإنسان السمين من البهر إذا مشى- أنح يأنح أنوحا- . و في حديثه أنه لما دنا من الشام و لقيه الناس- جعلوا يتراطنون- فأشكعه ذلك و قال لأسلم مولاه- إنهم لم يروا على صاحبك بزة قوم غضب الله عليهم- . قال أشكعه أغضبه- قال أراد أنهم لم يتحاموا عنه اللغط- و الكلام بالفارسية و النبطية بحضرته- لأنهم لم يروه بعين الإمارة و السلطان- كما يرون أمراءهم- لأنهم لم يروا عليه بزة الأمراء و زيهم- .
و في حديثه أن عاملا على الطائف كتب إليه- أن رجالا منهم كلموني في خلايا لهم- أسلموا عليها و سألوني أن أحميها لهم- فكتب إليه عمر- أنها ذباب غيث فإن أدوا زكاته فاحمه لهم- . قال الخلايا موضع النحل التي تعسل الواحدة خلية- و أراد بقوله إنها ذباب غيث أنها تعيش بالمطر- لأنها تأكل ما ينبت عنه- فإذا لم يكن غيث فقدت ما تأكل- فشبهها بالسائم من النعم- لا مئونة على صاحبها منها و أوجب فيها الزكاة- . و في حديثه أن سعد بن الأخرم قال- كان بين الحي و بين عدي بن حاتم تشاجر- فأرسلوني إلى عمر فأتيته و هو يطعم الناس من كسور إبل- و هو قائم متوكئ على عصا- مؤتزر إلى أنصاف ساقيه- خدب من الرجال كأنه راعي غنم- و علي حلة ابتعتها بخمسمائة درهم- فسلمت عليه فنظر إلي بذنب عينه- و قال لي أ ما لك معوز قلت بلى- قال فألقها فألقيتها و أخذت معوزا- ثم لقيته فسلمت فرد علي السلام- . قال كسور الإبل أعضاؤها- . و الخدب العظيم الجافي و كأنه راعي غنم- يريد في الجفاء و البذاذة و خشونة الهيئة و اللبسة- . و المعوز الثوب الخلق و الميم مكسورة- و إنما ترك رد السلام عليه أولا- لأنه أشهر الحلة فأدبه بترك رد السلام- فلما خلعها و لبس المعوز رده عليه- .
و في حديثه أنه ذكر فتيان قريش و سرفهم في الإنفاق- فقال لحرفة أحدهم أشد علي من عيلته- . قال الحرفة هاهنا- أن يكون الرجل لا يتجر و لا يلتمس الرزق- فيكون محدودا لا يرزق إذا طلب- و منه قيل فلان محارف و العيلة الفقر- . و في حديثه أنه قال لرجل ما مالك- قال أقرن لي و آدمة في المنيئة- قال قومها و زكها- . قال الأقرن جمع قرن- و هي جعبة من جلود تكون للصيادين- يشق منها جانب ليدخلها الريح فلا يفسد الريش- . و آدمة جمع أديم كجريب و أجربة- . و المنيئة الدباغ- و إنما أمره بتزكيتها لأنها كانت للتجارة- . و في حديثه أن أبا وجزة السعدي قال- شهدته يستقي فجعل يستغفر- فأقول أ لا يأخذ فيما خرج له- و لا أشعر أن الاستسقاء هو الاستغفار- فقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشرة ليلة- حتى رأيت الأرنبة يأكلها صغار الإبل- من وراء حقاق العرفط- . قال فقلدتنا مطرتنا لوقت معين- و منه قلد الحمى- و قلد الزرع سقيه لوقت و هو وقت الحاجة- . و قال رأيت الأرنب يحتملها السيل حتى تتعلق بالعرفط- و هو شجر ذو شوك- و زاد في الأرنب هاء كما قالوا عقرب و عقربة- و حقاق العرفط صغارها- و قيل الأرنب
ضرب من النبت لا يكاد يطول- فأراد أنه طال بهذا المطر حتى أكلته صغار الإبل- من وراء شجر العرفط- . و في حديثه- أنه قال ما ولي أحد إلا حامى على قرابته- و قرى في عيبته- و لن يلي الناس قرشي عض على ناجذه- . قال حامى عليهم عطف عليهم- و قرى في عيبته أي اختان و أصل قرى جمع- . و في حديثه لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع و ينزو- . يخور يضعف و النزع في القوس و النزو على الخيل- . و روي أن عمر كان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى- ثم يجمع جراميزه و يثب- فكأنما خلق على ظهر فرسه- . و
في حديثه تعلموا السنة و الفرائض و اللحن كما تتعلمون القرآن
- . قال اللحن هاهنا اللغة و النحو- . و في حديثه أنه مر على راع- فقال يا راعي عليك بالظلف من الأرض- لا ترمض فإنك راع و كل راع مسئول- . قال الظلف المواضع الصلبة- أمره أن يرعى غنمه فيها و نهاه أن يرمض- و هو أن يرعى غنمه في الرمضاء- و هي تشتد جدا في الدهاس و الرمل- و تخف في الأرض الصلبة- .
و في حديثه أن رجلا قرأ عليه حرفا فأنكره- فقال من أقرأك هذا قال أبو موسى- فقال إن أبا موسى لم يكن من أهل البهش- . قال البهش المقل الرطب فإذا يبس فهو الخشل- و أراد أن أبا موسى ليس من أهل الحجاز- لأن المقل بالحجاز نبت و القرآن نزل بلغة الحجاز- . و في حديثه أن عقبة بن أبي معيط- لما قال للنبي ص أ أقتل من بين قريش- فقال عمر حن قدح ليس منها- . قال هذا مثل يضرب للرجل- يدخل نفسه في القوم و ليس منهم- و القدح أحد قداح الميسر- و كانوا يستعيرون القدح يدخلونه في قداحهم- يتيمنون به و يثقون بفوزه- . و في حديثه- أن أهل الكوفة- لما أوفدوا العلباء بن الهيثم السدوسي إليه- فرأى عمر هيئته رثة و أعجبه كلامه و عمله- قال لكل أناس في حميلهم خير- . قال هذا مثل و المراد أنهم سودوه على معرفة منهم- بما فيه من الخلال المحمودة- و المعنى أن خبره فوق منظره- . و في حديثه أنه أخذ من القطنية الزكاة- . قال هي الحبوب كالعدس و الحمص- و في أخذ الزكاة منها خلاف بين الفقهاء- .
و في حديثه أنه كان يقول للخارص- إذا وجدت قوما قد خرفوا في حائطهم- فانظر قدر ما ترى أنهم يأكلونه فلا تخرصه- .
قال خرفوا فيه أي نزلوا فيه أيام اختراف الثمرة- . و في حديثه إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك- . قال يريد صب الماء على البول في الأرض- فإنه يطهر المكان و لا حاجة إلى غسله- و جزى قضى و أغنى- من قوله تعالى لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً- فإن أدخلت الألف قلت أجزأك و همزت- و معناه كفاك- . و في حديثه أنه قال- لا يعطى من المغانم شي ء حتى تقسم إلا لراع- و الدليل غير موليه- . قال الراعي هاهنا الطليعة لأنه يرعى القوم أي يحفظهم- . و قوله غير موليه أي غير معطيه شيئا لا يستحقه- . و في حديثه أن من الناس من يقاتل رياء و سمعة- و منهم من يقاتل و هو ينوي الدنيا- و منهم من ألجمه القتال فلم يجد بدا- و منهم من يقاتل صابرا محتسبا أولئك هم الشهداء- قال ألجمه القتال أي رهقه و غشيه فلم يجد مخلصا- .
و في حديثه أنه أرسل إلى أبي عبيدة رسولا- فقال له حين رجع فكيف رأيت أبا عبيدة- قال رأيت بللا من عيش فقصر من رزقه- ثم أرسل إليه و قال للرسول حين قدم كيف رأيته- قال رأيته حفوفا- قال رحم الله أبا عبيد بسطنا له فبسط و قبضنا له فقبض- . قال الحفوف و الحفف واحد- و هو ضيق العيس و شدته- يقال ما عليهم حفف و لا ضفف أي ما عليهم أثر عوز- و الشظف مثل الحفف- . و في حديثه أنه رئي في المنام فسئل عن حاله- فقال ثل عرشي لو لا أني صادفت ربي رحيما- . قال ثل عرشه أي هدم- . و في حديثه أنه قال لأبي مريم الحنفي- لأنا أشد بغضا لك من الأرض للدم- قالوا كان عمر عليه غليظا- كان قاتل زيد بن الخطاب أخيه- فقال أ ينقصني ذلك من حقي شيئا قال لا قال فلا ضير- .
قال هذا مثل لأن الأرض لا يغوص فيها الدم كما يغوص الماء- فهذا بغض الأرض له- و يقال إن دم البعير تنشفه الأرض وحده و في حديثه أن اللبن يشبه عليه- .
قال معناه أن الطفل ربما نزع به الشبه إلى الظئر- من أجل لبنها- فلا تسترضعوا إلا من ترضون أخلاقها- . و في حديثه اغزوا و الغزو حلو خضر- قبل أن يكون ثماما ثم يكون رماما- ثم يكون حطاما- . قال هذا مثل و الثمام نبت ضعيف- . و الرمام بالضم و الرميم واحد مثل طوال و طويل- . و الحطام يبس النبت إذا تكسر- و معنى الكلام أنه أمرهم بالغزو حين عزائمهم قوية- و بواعثهم إليه شديدة- فإن مع ذلك يكون الظفر قبل أن يهي و يضعف- فيكون كالثمام الضعيف ثم كالرميم- ثم يكون حطاما فيذهب- . و في حديثه إذا انتاطت المغازي و اشتدت العزائم- و منعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط- . قال انتاطت بعدت و النطي ء البعيد- . و اشتدت العزائم صعبت و منعت الغنائم أنفسها- فخير غزوكم الرباط في سبيل الله- . و في حديثه أنه وضع يده في كشية ضب- و قال إن النبي ص لم يحرمه و لكن قذره- . قال كشية الضب شحم بطنه- .
و قوله وضع أي أكل منه- . و في حديثه- لا أوتى بأحد انتقص من سبل المسلمين إلى مثاباته شيئا- إلا فعلت به كذا- . قال المثابات هاهنا- المنازل يثوب أهلها إليها أي يرجعون- و المراد من اقتطع شيئا من طريق المسلمين و أدخله في داره- . و في حديثه أنه كره النير- . قال هو علم الثوب و أظنه كرهه إذا كان حريرا- . و في حديثه- أنه انكسرت قلوص من إبل الصدقة فجفنها- .
قال اتخذ منها جفنة من طعام و أجمع عليه- . و في حديثه عجبت لتاجر هجر و راكب البحر- . قال عجب كيف يختلف إلى هجر مع شدة وبائها- و كيف يركب البحر مع الخطار بالنفس- . و في حديثه أنه قال ليلة لابن عباس في مسير له- أنشدنا لشاعر الشعراء قال و من هو- قال الذي لم يعاظل بين القول و لم يتبع حوشي الكلام- قال و من هو قال زهير- فجعل ينشد إلى أن برق الصبح- . قال هو مأخوذ من تعاظل الجراد إذا ركب بعضه بعضا- . و حوشي الكلام وحشيه- . و في حديثه أن نائلا مولى عثمان قال- سافرت مع مولاي و عمر في حج أو عمرة- فكان عمر و عثمان و ابن عمر لفا- و كنت أنا و ابن الزبير في شببة معنا لفا- فكنا نتمازح و نترامى بالحنظل- فما يزيدنا عمر على أن يقول لنا- كذاك لا تذعروا علينا- فقلنا لرياح بن العترف لو نصبت لنا نصب العرب- فقال أقول مع عمر فقلنا افعل و إن نهاك فانته- ففعل و لم يقل عمر شيئا- حتى إذا كان في وجه السحر ناداه يا رياح إنها- اكفف فإنها ساعة ذكر- . قال لفا أي حزبا و فرقة- . و شببة جمع شاب مثل كاتب و كتبة- و كاذب و كذبة و كافر و كفرة- . و قوله كذاك أي حسبكم- . و قوله لا تذعروا علينا أي لا تنفروا إبلنا- . و نصب العرب غناء لهم يشبه الحداء إلا أنه أرق منه- . و في حديثه- أنه كتب في الصدقة إلى بعض عماله كتابا فيه- و لا تحبس الناس أولهم على آخرهم- فإن الرجن للماشية عليها شديد و لها مهلك- و إذا وقف الرجل عليك غنمه فلا تعتم من غنمه- و لا تأخذ من أدناها- و خذ الصدقة من أوسطها- و إذا وجب على
الرجل سن لم تجدها في إبله- فلا تأخذ إلا تلك السن من شروى إبله- أو قيمة عدل- و انظر ذوات الدر و الماخض- فتنكب عنها فإنها ثمال حاضريهم- . قال الرجن الحبس- رجن بالمكان أقام به و مثله دجن بالدال- . و لا تعتم لا تختر اعتام اعتياما أي اختار- . من شروى إبله أي من مثلها- . و ذوات الدر ذوات اللبن- . و الماخض الحامل- . و ثمال حاضريهم عصمتهم و غياثهم- و حاضريهم من يسكن الحضر- . و في حديثه- أنه كان يلقط النوى من الطريق و النكث- فإذا مر بدار قوم ألقاها فيها- و قال ليأكل هذا داجنتكم و انتفعوا بباقيه- . قال الداجنة ما يعلفه الناس في منازلهم- من الشاة و الدجاج و الطير- . و النكث الخيوط الخلق من صوف أو شعر أو وبر- . و في حديثه- ثلاث من الفواقر جار مقامة- إن رأى حسنة دفنها و إن رأى سيئة أذاعها- و امرأة إن دخلت عليها لسنتك- و إن غبت عنها لم تأمنها- و إمام إن أحسنت لم يرض عنك و إن أسأت قتلك- .
قال الفواقر الدواهي- واحدتها فاقرة لأنها تكسر فقار الظهر- . و لسنتك أخذتك بلسانها- . و في حديثه في خطبة له- من أتى هذا البيت لا ينهره إليه غيره- رجع و قد غفر له- . قال ينهره يدفعه- يريد من حج لا ينوي بالحج إلا الطاعة غفر له- . و
في حديثه اللبن لا يموت
- . قال قيل في معناه- أن اللبن إذا أخذ من ميتة لم يحرم- و كل شي ء أخذ من الحي فلم يحرم- فإنه إن أخذ من الميت لم يحرم- . و قيل في معناه- إن رضع الطفل من امرأة ميتة- حرم عليه من أولادها و قرابتها- من يحرم عليها منها لو كانت حية- . و قيل معناه أن اللبن إذا انفصل من الضرع- فأوجر به الصبي أو أدم به أو ديف له في دواء و سقيه- فإنه إن لم يسم في اللغة رضاعا- إلا أنه يحرم به ما يحرم بالرضاع- فقال اللبن لا يموت أي لا يبطل عمله بمفارقة الثدي- . و في حديثه من حظ المرء نفاق أيمه و موضع خفه- . قال الأيم التي لا بعل لها- و الخف الإبل- كما تسمى الحمر و البغال حافرا و البقر و الغنم ظلفا- يريد من حظ الإنسان أن يخطب إليه- و يتزوج بناته و أخواته و أشباههن فلا يبرن-
و من حظه أيضا أن ينفق إبله- حتى ينتابه التجار و غيرهم فيبتاعوها في مواضعها- يستطرقونه لا يحتاج أن يعرضها عليهم- . و في حديثه أن العباس بن عبد المطلب سأله عن الشعراء- فقال إمرؤ القيس سابقهم- خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر- . قال خسف لهم من الخسيف- و هي البئر تحفر في حجارة فيخرج منها ماء كثير- و جمعها خسف- . و قوله افتقر أي فتح- و هو من الفقير و الفقير فم القناة- . و قوله عن معان عور- يريد أن إمرأ القيس من اليمن و اليمن ليست لهم فصاحة نزار- فجعل معانيهم عورا- و فتح إمرؤ القيس عنها أصح بصر
ذكر الأحاديث الواردة في فضل عمر
فأما الحديث الوارد في فضل عمر- فمنه ما هو مذكور في الصحاح- و منه ما هو غير مذكور فيها- فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك-
ما روت عائشة أن رسول الله ص قال كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر
- أخرجاه في الصحيحين- و
روى سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر على رسول الله ص- و عنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن- فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب- فدخل و رسول الله ص يضحك- قال أضحك الله سنك يا رسول الله- قال عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي- فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب- فقال عمر أنت
أحق أن يهبن- ثم قال أي عدوات أنفسهن- أ تهبنني و لا تهبن رسول الله ص- قلن نعم أنت أغلظ و أفظ- فقال رسول الله ص- و الذي نفسي بيده- ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك
- أخرجاه في الصحيحين- و قد روي في فضله من غير الصحاح أحاديث-
منها إن السكينة لتنطق على لسان عمر
و
منها إن الله تعالى ضرب بالحق على لسان عمر و قلبه
و
منها إن بين عيني عمر ملكا يسدده و يوفقه
و
منها لو لم أبعث فيكم لبعث عمر
و
منها لو كان بعدي نبي لكان عمر
و
منها لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر
و
منها ما أبطأ عني جبريل إلا ظننت أنه بعث إلى عمر
و
منها سراج أهل الجنة عمر
و
منها إن شاعرا أنشد النبي ص شعرا- فدخل عمر فأشار النبي ص إلى الشاعر أن اسكت- فلما خرج عمر قال له عد فعاد- فدخل عمر فأشار النبي ص بالسكوت مرة ثانية- فلما خرج عمر سأل الشاعر رسول الله ص عن الرجل- فقال هذا عمر بن الخطاب و هو رجل لا يحب الباطل
و
منها إن النبي ص قال وزنت بأمتي فرجحت و وزن أبو بكر بها فرجح- و وزن عمر بها فرجح ثم رجح ثم رجح - .
و قد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا- و لكنا ذكرنا الأشهر- و قد طعن أعداؤه و مبغضوه في هذه الأحاديث- فقالوا لو كان محدثا و ملهما- لما اختار معاوية الفاسق لولاية الشام- و لكن الله تعالى قد ألهمه و حدثه- بما يواقع من القبائح و المنكرات- و البغي و التغلب على الخلافة- و الاستئثار بمال الفي ء و غير ذلك من المعاصي الظاهرة قالوا و كيف لا يزال الشيطان يسلك فجا غير فجه- و قد فر مرارا من الزحف في أحد و حنين و خيبر- و الفرار من الزحف من عمل الشيطان- و إحدى الكبائر الموبقة- . قالوا و كيف يدعى له أن السكينة تنطق على لسانه- أ ترى كانت السكينة تلاحي رسول الله ص يوم الحديبية- حتى أغضبه- . قالوا و لو كان ينطق على لسانه ملك- أو بين عينيه ملك يسدده و يوفقه- أو ضرب الله بالحق على لسانه و قلبه- لكان نظيرا لرسول الله ص- بل كان أفضل منه- لأنه ص كان يؤدي الرسالة إلى الأمة عن ملك من الملائكة- و عمر قد كان ينطق على لسانه ملك- و زيد ملكا آخر بين عينيه يسدده و يوفقه- فهذا الملك الثاني مما قد فضل به على رسول الله ص- و قد كان حكم في أشياء فيخطئ فيها- حتى يفهمه إياها علي بن أبي طالب و معاذ بن جبل و غيرهما- حتى قال لو لا علي لهلك عمر و لو لا معاذ لهلك عمر- و كان يشكل عليه الحكم- فيقول لابن عباس غص يا غواص فيفرج عنه- فأين كان الملك الثاني المسدد له- و أين الحق الذي ضرب به على لسان عمر- و معلوم أن رسول الله ص كان ينتظر في الوقائع نزول الوحي- و عمر على مقتضى هذه الأخبار- لا حاجة به إلى نزول ملك عليه- لأن الملكين معه في كل وقت و كل حال- ملك ينطق على لسانه و ملك آخر بين عينيه يسدده و يوفقه- و قد عززا بثالث و هي السكينة- فهو إذا أفضل من رسول الله ص- .
و قالوا و الحديث الذي مضمونه- لو لم أبعث فيكم لبعث عمر- فيلزم أن يكون رسول الله ص عذابا على عمر- و أذى شديدا له- لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبيا و رسولا- و لم تعلم رتبة أجل من رتبة الرسالة- فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة- ينبغي ألا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه- . قالوا و أما كونه سراج أهل الجنة- فيقتضي أنه لو لم يكن تجلى عمر- لكانت الجنة مظلمة لا سراج لها- . قالوا و كيف يجوز أن يقال- لو نزل العذاب لم ينج منه إلا عمر- و الله تعالى يقول وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ- . قالوا و كيف يجوز أن يقال- إن النبي ص كان يسمع الباطل و يحبه و يشهده- و عمر لا يسمع الباطل و لا يشهده و لا يحبه- أ ليس هذا تنزيها لعمر عما لم ينزه عنه رسول الله ص- . قالوا و من العجب أن يكون النبي ص أرجح من الأمة يسيرا- و كذلك أبو بكر و يكون عمر أرجح منهما كثيرا- فإن هذا يقتضي أن يكون فضله أبين و أظهر- من فضل أبي بكر و من فضل رسول الله ص- . و الجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثا ملهما- أن يكون محدثا ملهما في كل شي ء- بل الاعتبار بأكثر أفعاله و ظنونه و آرائه- و لقد كان عمر كثير التوفيق- مصيب الرأي في جمهور أمره- و من تأمل سيرته علم صحة ذلك- و لا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه في القليل من الأمور- . و أما الفرار من الزحف- فإنه لم يفر إلا متحيزا إلى فئة- و قد استثنى الله تعالى ذلك فخرج به عن الإثم- .
و أما باقي الأخبار- فالمراد بالملك فيها الأخبار عن صحة ظنه و صدق فراسته- و هو كلام يجري مجرى المثل- فلا يقدح فيه ما ذكروه- . و أما قوله ص- لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر- فهو كلام قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر- فإن عمر لم يشر عليه و نهاه عنه- فأنزل الله تعالى- لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ- لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- و إذا كان القرآن قد نطق بذلك و شهد- لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر- . و أما قوله ع سراج أهل الجنة عمر- فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنة- من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر- أي يستضيئون بعلمه كما يستضاء بالسراج- . و أما حديث منع الشاعر- فإن رسول الله ص خاف أن يذكر في شعره- ما يقتضي الإنكار فيعنف به عمر- و كان شديد الغلظة- فأراد النبي ص أن ينكر هو على الشاعر- أن قال في شعره ما يقتضي ذلك على وجه اللطف و الرفق- و كان ع رءوفا رحيما كما قال الله تعالى- . و أما حديث الرجحان فالمراد به الفتوح و ملك البلاد- و تأويله أنه ع أري في منامه- ما يدل على أنه يفتح الله عليه بلادا و على أبي بكر مثله- و يفتح على عمر أضعاف ذلك و هكذا وقع- . و اعلم أن من تصدى للعيب وجده- و من قصر همته على الطعن على الناس انفتحت له أبواب كثيرة- و السعيد من أنصف من نفسه- و رفض الهوى و تزود التقوى و بالله التوفيق
ذكر ما ورد من الخبر عن إسلام عمر
و أما إسلام عمر فإنه أسلم- فكان تمام أربعين إنسانا في أظهر الروايات- و ذلك في السنة السادسة من النبوة- و سنه إذ ذاك ست و عشرون سنة- و كان عمر ابنه عبد الله يومئذ ست سنين- و أصح ما روي في إسلامه- رواية أنس بن مالك عنه- قال خرجت متقلدا سيفي- فلقيت رجلا من بني زهرة- فقال أين تعمد- قلت أقتل محمدا قال و كيف تأمن في بني هاشم و بني زهرة- فقلت ما أراك إلا صبوت- قال أ فلا أدلك على العجب- أن أختك و زوجها قد صبوا- فمشى عمر فدخل عليهما ذامرا- و عندهما رجل من أصحاب رسول الله ص- يقال له خباب بن الأرت- فلما سمع خباب حس عمر توارى- فقال عمر ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم- و كانوا يقرءون طه على خباب- فقال ما عندنا شي ء إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا- قال فلعلكما قد صبوتما- فقال له ختنه- أ رأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك- فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا- فجاءت أخته فدفعته عن زوجها- فنفحها بيده فأدمى وجهها- فجاهرته فقالت إن الحق في غير دينك- و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله- فاصنع ما بدا لك- فلما يئس قال أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرءوه- و كان عمر يقرأ الخط
فقالت له أخته إنك رجس- و إن هذا الكتاب لا يمسه إلا المطهرون- فقم فتوضأ فقام فأصاب ماء- ثم أخذ الكتاب فقرأ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى - إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى - إلى قوله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا- فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي- فقال عمر دلوني على محمد- فلما سمع خباب قول عمر- و رأى منه الرقة خرج من البيت- فقال أبشر يا عمر فإني لأرجو أن تكون دعوة رسول الله ص ليلة الخميس لك- سمعته يقول- اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام- قال- و رسول الله ص- في الدار التي في أصل الصفا- فانطلق عمر حتى أتى الدار- و على الباب حمزة بن عبد المطلب- و طلحة بن عبيد الله- و ناس من أهل رسول الله ص- فلما رأى الناس عمر قد أقبل كأنهم وجدوا- و قالوا قد جاء عمر فقال حمزة قد جاء عمر- فإن يرد الله به خيرا يسلم- و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا- قال و النبي ص من داخل البيت يوحى إليه- فسمع رسول الله ص كلام القوم- فخرج مسرعا حتى انتهى إلى عمر- فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه- و قال ما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك- يعني من الخزي و النكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة- ثم قال اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر- فقال أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أنك رسول الله- فكبر أهل الدار و من كان على الباب تكبيرة- سمعها من كان في المسجد من المشركين- .
و قد روي أن عمر كان موعودا و مبشرا بما وصل إليه- من قبل أن يظهر أمر الإسلام- قرأت في كتاب من تصانيف أبي أحمد العسكري رحمه الله- أن عمر خرج عسيفا مع الوليد بن المغيرة إلى الشام- في تجارة للوليد و عمر يومئذ ابن ثماني عشرة سنة- فكان يرعى
للوليد إبله- و يرفع أحماله و يحفظ متاعه- فلما كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم- فجعل ينظر إليه و يطيل النظر لعمر- ثم قال أظن اسمك يا غلام عامرا أو عمران أو نحو ذلك- قال اسمي عمر قال اكشف عن فخذيك- فكشف فإذا على أحدهما شامة سوداء- في قدر راحة الكف- فسأله أن يكشف عن رأسه- فكشف فإذا هو أصلع- فسأله أن يعتمل بيده- فاعتمل فإذا أعسر أيسر فقال له أنت ملك العرب و حق مريم البتول- قال فضحك عمر مستهزئا قال أ و تضحك و حق مريم البتول أنك ملك العرب- و ملك الروم و ملك الفرس- فتركه عمر و انصرف مستهينا بكلامه- و كان عمر يحدث بعد ذلك- و يقول تبعني ذلك الرومي و هو راكب حمارا- فلم يزل معي حتى باع الوليد متاعه- و ابتاع بثمنه عطرا و ثيابا و قفل إلى الحجاز- و الرومي يتبعني لا يسألني حاجة- و يقبل يدي كل يوم إذا أصبحت كما تقبل يد الملك- حتى خرجنا من حدود الشام- و دخلنا في أرض الحجاز راجعين إلى مكة- فودعني و رجع و كان الوليد يسألني عنه فلا أخبره- و لا أراه إلا هلك و لو كان حيا لشخص إلينا
تاريخ موت عمر و الأخبار الواردة في ذلك
فأما تاريخ موته- فإن أبا لؤلؤة طعنه يوم الأربعاء- لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث و عشرين- و دفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع و عشرين- و كانت ولايته عشر سنين و ستة أشهر- و هو ابن ثلاث و ستين في أظهر الأقوال- و قد كان قال على المنبر يوم جمعة- و قد ذكر رسول الله ص و أبا بكر- أني قد رأيت رؤيا أظنها لحضور أجلي- رأيت كأن ديكا نقرني نقرتين- فقصصتها على أسماء بنت عميس- فقالت يقتلك رجل من العجم- و إني أفكرت فيمن أستخلف- ثم رأيت أن الله لم يكن ليضيع دينه- و خلافته التي بعث بها رسوله- و روى ابن شهاب قال- كان عمر لا يأذن لصبي قد احتلم في دخول المدينة- حتى كتب المغيرة و هو على الكوفة- يذكر له غلاما صنعا عنده- و يستأذنه في دخول المدينة- و يقول إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس- إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن يرسل به إلى المدينة- و ضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر- فجاء إلى عمر يوما يشتكي إليه الخراج- فقال له عمر ما ذا تحسن من الأعمال- فعد له الأعمال التي يحسن- فقال له ليس خراجك بكثير في كنه عملك- هذا هو الذي رواه أكثر الناس من قوله له- و من الناس من يقول إنه جهر بكلام غليظ- و اتفقوا كلهم على أن العبد انصرف ساخطا يتذمر- فلبث أياما ثم مر بعمر فدعاه- فقال قد حدثت أنك تقول- لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح- فالتفت العبد عابسا ساخطا إلى عمر- و مع عمر رهط من الناس- فقال لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها- فلما ولي أقبل عمر على الرهط- فقال أ لا تسمعون إلى العبد ما أظنه إلا أوعدني آنفا- فلبث ليالي ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه- فكمن في زاوية من زوايا المسجد في غلس السحر- فلم يزل هنالك حتى جاء عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر- كما كان يفعل فلما دنا منه وثب عليه- فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة- قد خرقت الصفاق و هي التي قتلته- ثم انحاز إلى أهل المسجد فطعن فيهم من يليه- حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر- ثم انتحر بخنجره فقال عمر حين أدركه النزف- قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصل بالناس- ثم غلبه النزف فأغمي عليه فأحتمل حتى أدخل بيته- ثم صلى عبد الرحمن بالناس- قال ابن عباس فلم أزل عند عمر- و هو مغمى عليه لم يزل في غشية واحدة حتى أسفر- فلما أسفر أفاق فنظر في وجوه من حوله- و قال أ صلى الناس فقيل نعم- فقال لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ و صلى- ثم قال اخرج يا ابن عباس فاسأل من قتلني فجئت حتى فتحت باب الدار- فإذا الناس مجتمعون فقلت من طعن أمير المؤمنين- قالوا طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة قال ابن عباس- فدخلت فإذا عمر ينظر إلى الباب- يستأني خبر ما بعثني له- فقلت يا أمير المؤمنين- زعم الناس أنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة- و أنه طعن رهطا ثم قتل نفسه- فقال الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله- بسجدة سجدها له قط ما كانت العرب لتقتلني- ثم قال أرسلوا إلى طبيب ينظر جرحي- فأرسلوا إلى طبيب من العرب- فسقاه نبيذا فخرج من الجرح- فاشتبه عليهم الدم بالنبيذ- ثم دعوا طبيبا آخر فسقاه لبنا- فخرج اللبن من الطعنة صلدا أبيض- فقال الطبيب اعهد يا أمير المؤمنين عهدك- فقال لقد صدقني و لو قال غير ذلك لكذب- فبكى عليه القوم حتى أسمعوا من خارج الدار- فقال لا تبكوا علينا ألا و من كان باكيا فليخرج-
فإن النبي ص قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه
- . و روي عن عبد الله بن عمر أنه قال- سمعت أبي يقول لقد طعنني أبو لؤلؤة طعنتين- و ما أظنه إلا كلبا حتى طعنني الثالثة- و روي أن عبد الرحمن بن عوف- طرح على أبي لؤلؤة بعد أن طعن الناس خميصه كانت عليه- فلما حصل فيها نحر نفسه- فاحتز عبد الرحمن رأسه و اجتمع البدريون و أعيان المهاجرين و الأنصار بالباب- فقال عمر لابن عباس اخرج إليهم- فاسألهم أ عن ملإ منكم كان هذا الذي أصابني- فخرج يسألهم فقال القوم لا و الله- و لوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا- . و روى عبد الله بن عمر قال- كان أبي يكتب إلى أمراء الجيوش- لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي- فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بي- قالوا غلام المغيرة قال أ لم أقل لكم- لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني- . و روى محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه- عن عمرو بن ميمون قال إني لقائم- ما بيني و بين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب- و كان إذا مر بين الصفين قال استووا- حتى إذا لم ير بيننا خللا تقدم فكبر- و ربما قرأ سورة يوسف أو النحل في الركعة الأولى- أو نحو ذلك في الركعة الثانية حتى يجتمع الناس- فما هو إلا أن كبر- فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب- و ذلك حين طعنه العلج بسكين ذات طرفين- لا يمر على أحد يمينا و لا شمالا إلا طعنه- حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم ستة- فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا- فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه- و تناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف فقدمه- فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى- و أما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون- غير أنهم فقدوا صوت عمر فهم يقولون- سبحان الله فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة- فلما انصرفوا قال يا ابن عباس انظر من قتلني- فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة- قال الصنع قال نعم-
قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا- الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام- و قد كنت أنت و أبوك تحبان أن يكثر العلوج- و كان العباس أكثرهم رقيقا- فقال إن شئت فعلنا أي قتلناهم- قال كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم و صلوا قبلتكم- و حجوا حجكم- فأحتمل إلى بيته و انطلقنا معه- و كان الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ- فقائل يقول لا بأس عليه- و قائل يقول أخاف عليه- فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه- ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه- فعلموا أنه ميت فدخل الناس يثنون عليه- و جاء رجل شاب- فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله- لك صحبة برسول الله و قدم في الإسلام ما قد علمت- ثم وليت فعدلت ثم الشهادة- فقال عمر وددت أن ذلك كله كان كفافا لا على و لا لي- فلما أدبر إذا رداؤه يمس الأرض- فقال ردوا على الغلام فردوه- فقال يا ابن أخي ارفع ثوبك- فإنه أبقى لثوبك و أتقى لربك- يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من دين- فحسبوه فوجدوه ستة و ثمانين ألفا أو نحوه- فقال إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم- و إلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف به أموالهم- فسل في قريش و لا تعدهم إلى غيرهم- و أد عني هذا المال انطلق إلى عائشة- فقل لها يقرأ عليك السلام عمر- و لا تقل أمير المؤمنين فإني اليوم لست للمؤمنين أميرا- و قل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه- فمضى و سلم و استأذن و دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي- فقال يقرأ عليك عمر السلام- و يستأذن أن يدفن مع صاحبيه- فقالت كنت أريده لنفسي يعني الموضع- و لأوثرنه اليوم على نفسي- فلما أقبل قيل هذا عبد الله قد جاء- قال ارفعوني فأسندوه إلى رجل منهم- قال يا عبد الله ما لديك- قال الذي تحب يا أمير المؤمنين قد أذنت- قال الحمد لله ما كان شي ء أهم إلي من ذلك- إذا أنا قبضت فاحملني ثم سلم عليها- و قل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني- و إن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين- و ادفنوني بين المسلمين و جاءت ابنته حفصة و النساء معها- قال فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة- و استأذن الرجال فولجت بيتا داخلا لهم- فسمعنا بكاءها من البيت الداخل- فقال أوص يا أمير المؤمنين و استخلف- فقال ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر- أو قال الرهط الذين توفي رسول الله ص و هو عنهم راض- فسمى عليا و عثمان و الزبير و طلحة و سعدا و عبد الرحمن- و قال يشهدكم عبد الله بن عمر- و ليس له من الأمر شي ء كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعدا فهو أهل لذلك- و إلا فليستعن به أيكم أمر- فإني لم أعزله عن عجز و لا عن خيانة- ثم قال أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين- أن يعرف لهم حقهم و يحفظ لهم حرمتهم- و أوصيه بالأنصار خيرا- الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم- أن يقبل من محسنهم و أن يعفو عن مسيئهم- و أوصيه بأهل الأمصار خيرا- فإنهم ردء الإسلام و جباة الأموال و غيظ العدو- ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم- و أوصيه بالأعراب خيرا- فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام- أن يؤخذ من حواشي أموالهم- و يرد على فقرائهم- و أوصيه بذمة الله و ذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم- و أن يقاتل من وراءهم- و ألا يكلفوا إلا طاقتهم- . قال فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي- فسلم عبد الله بن عمر- و قال يستأذن عمر بن الخطاب- فقالت أدخلوه فأدخل- فوضع هنالك مع صاحبيه- .
و قال ابن عباس أنا أول من أتى عمر حين طعن- فقال احفظ عني ثلاثا فإني أخاف ألا يدركني الناس- أما أنا فلم أقض في الكلالة- و لم أستخلف على الناس- و كل مملوك لي عتيق- فقلت له أبشر بالجنة- صاحبت رسول الله ص فأطلت صحبته- و وليت أمر المسلمين فقويت عليه و أديت الأمانة- قال أما تبشيرك لي بالجنة- فو الله الذي لا إله إلا هو- لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت به- من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر- و أما ما ذكرت من أمر المسلمين- فلوددت أن ذلك كان كفافا لا علي و لا لي- و أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص فهو ذلك و روى معمر عن الزهري عن سالم عن عبد الله قال- دخلت على أبي- فقلت سمعت الناس يقولون مقالة و آليت أن أقولها لك- زعموا أنك غير مستخلف- و أنه لو كان لك راعي إبل أو غنم- ثم جاءك و تركها رأيت أنه قد ضيع- فرعاية الناس أشد فوضع رأسه ثم رفعه- فقال إن الله تعالى يحفظ دينه- إن لم أستخلف فإن رسول الله ص لم يستخلف- و إن استخلفت فإن أبا بكر قد استخلف- فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله و أبا بكر- فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله ص أحدا- و أنه غير مستخلف- . و روي أنه قال- و قد أذنت له عائشة في أن يدفن في بيتها- إذا مت فاستأذنوها مرة ثانية فإن أذنت و إلا فاتركوها- فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني- فاستأذنوها بعد موته فأذنت- .
و روى عمر بن ميمون قال- لما طعن عمر دخل عليه كعب الأحبار- فقال الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ- قد أنبأتك أنك شهيد- فقال من أين لي بالشهادة و أنا بجزيرة العرب- .
و روى ابن عباس قال- لما طعن عمر و جئته بخبر أبي لؤلؤة- أتيته و البيت ملآن فكرهت أن أتخطى رقابهم- و كنت حديث السن فجلست و هو مسجى- و جاء كعب الأحبار- و قال لئن دعا أمير المؤمنين- ليبقيه الله لهذه الأمة حتى يفعل فيها كذا و كذا- حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر- فقلت أبلغه ما تقول قال ما قلت إلا و أنا أريد أن تبلغه- فتشجعت و قمت فتخطيت رقابهم حتى جلست عند رأسه- و قلت إنك أرسلتني بكذا- إن عبد المغيرة قتلك و أصاب معك ثلاثة عشر إنسانا- و إن كعبا هاهنا و هو يحلف بكذا- فقال أدعو إلي كعبا فدعي- فقال ما تقول قال أقول كذا قال لا و الله لا أدعو- و لكن شقي عمر إن لم يغفر الله له- . و روى المسور بن مخرمة إن عمر لما طعن أغمي عليه طويلا- فقيل إنكم لم توقظوه بشي ء مثل الصلاة إن كانت به حياة- فقالوا الصلاة يا أمير المؤمنين الصلاة قد صليت- فانتبه فقال الصلاة لاها الله لا أتركها- لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة- فصلى و إن جرحه لينثعب دما- . و روى المسور بن مخرمة أيضا- قال لما طعن عمر جعل يألم و يجزع- فقال ابن عباس و لا و كل ذلك يا أمير المؤمنين- لقد صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته- ثم فارقته و هو عنك راض- و صحبت أبا بكر و أحسنت صحبته- و فارقك و هو عنك راض- ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم- و فارقتهم و هم عنك راضون- قال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص و أبي بكر فذلك- مما من الله به علي- و أما ما ترى من جزعي- فو الله لو أن لي بما في الأرض ذهبا- لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه- و في رواية لافتديت به من هول المطلع- و في رواية المغرور من غررتموه- لو أن لي ما على ظهرها من صفراء و بيضاء- لافتديت به من هول المطلع- و في رواية في الإمارة على تثني يا ابن عباس- قلت و في غيرها- قال و الذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها- كما دخلت فيها لا حرج و لا وزر- و في رواية لو كان لي ما طلعت عليه الشمس- لافتديت به من كرب ساعة يعني الموت- كيف و لم أرد الناس بعد- و في رواية لو أن لي الدنيا و ما فيها- لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر- .
قال ابن عباس- فسمعنا صوت أم كلثوم وا عمراه- و كان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء- فقال عمر ويلم عمر إن الله لم يغفر له- فقلت و الله إني لأرجو إلا تراها- إلا مقدار ما قال الله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها- إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين و سيد المسلمين- تقضي بالكتاب و تقسم بالسوية- . فأعجبه قولي فاستوى جالسا- فقال أ تشهد لي بهذا يا ابن عباس- فكععت أي جبنت- فضرب علي ع بين كتفي و قال اشهد- و في رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين- فو الله لقد كان إسلامك عزا و إمارتك فتحا- و لقد ملأت الأرض عدلا- فقال أ تشهد لي بذلك يا ابن عباس- قال فكأنه كره الشهادة فتوقف- فقال له علي ع قل نعم و أنا معك فقال نعم- . و في رواية أنه قال مسست جلده و هو ملقى- فقلت جلد لا تمسه النار أبدا- فنظر إلي نظرة جعلت أرثي له منها- قال و ما علمك بذلك- قلت صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته الحديث- فقال لو أن لي ما في الأرض- لافتديت به من عذاب الله قبل أن ألقاه أو أراه- . و في رواية قال- فأنكرنا الصوت و إذا عبد الرحمن بن عوف- و قيل طعن أمير المؤمنين- فانصرف الناس و هو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد- فقيل يا أمير المؤمنين الصلاة فرفع رأسه- و قال لاها الله إذن- لا حظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته- ثم وثب ليقوم فانثعب جرحه دما- فقال هاتوا لي عمامة فعصب بها جرحه ثم صلى و ذكر- ثم التفت إلى ابنه عبد الله- و قال ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله- قال عبد الله فلم أعج بها- و ظننت أنها اختلاس من عقله- فقالها مرة أخرى ضع خدي إلى الأرض يا بني فلم أفعل- فقال الثالثة ضع خدي إلى الأرض لا أم لك- فعرفت أنه مجتمع العقل- و لم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة- فوضعت خده إلى الأرض- حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب- و بكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه- فأصغيت أذني لأسمع ما يقول- فسمعته يقول يا ويل عمر و ويل أم عمر- إن لم يتجاوز الله عنه- و
قد جاء في رواية أن عليا ع جاء حتى وقف عليه- فقال ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى
و روي عن حفصة أم المؤمنين قالت سمعت أبي يقول في دعائه- اللهم قتلا في سبيلك و وفاة في بلد نبيك- قلت و أنى يكون هذا قال يأتي به الله إذا شاء و يروى أن كعبا كان يقول له- نجدك في كتبنا تموت شهيدا- فيقول كيف لي بالشهادة و أنا في جزيرة العرب- . و روى المقدام بن معديكرب قال- لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة ابنته- فنادت يا صاحب رسول الله- و يا صهر رسول الله و يا أمير المؤمنين- فقال لابنه عبد الله أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع- فأسنده إلى صدره- فقال لها إني أحرج عليك
بما لي عليك من الحق- أن تندبيني بعد مجلسك هذا- فأما عينك فلن أملكها- إنه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته- . و روى الأحنف قال سمعت عمر يقول- إن قريشا رءوس الناس- ليس أحد منهم يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس- فلما أصيب عمر أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام و يطعمهم- حتى يجتمعوا على رجل- فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام- فقال العباس بن عبد المطلب أيها الناس- إن رسول الله ص مات فأكلنا بعده- و مات أبو بكر فأكلنا بعده- و أنه لا بد للناس من الأكل- ثم مد يده فأكل من الطعام فعرفت قول عمر- . و يروي كثير من الناس الشعر المذكور في الحماسة- و يزعم أن هاتفا من الجن هتف به و هو-
- جزيت عن الإسلام خيرا و باركتيد الله في ذاك الأديم الممزق
- فمن يسع أو يركب جناحي نعامةليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
- قضيت أمورا ثم غادرت بعدهابوائق في أكمامها لم تفتق
- أ بعد قتيل بالمدينة أظلمتله الأرض تهتز العضاه بأسؤق
- و ما كنت أخشى أن تكون وفاتهبكفي سبنتي أزرق العين مطرق
- تظل الحصان البكر يلقي جنينهانثا خبر فوق المطي معلق
- . و الأكثرون يروونها لمزرد أخي الشماخ- و منهم من يرويها للشماخ نفسه
فصل في ذكر ما طعن به على عمر و الجواب عنه
و نذكر في هذا الموضع- ما طعن به على عمر في المغني من المطاعن- و ما اعترض به الشريف المرتضى على قاضى القضاة- و ما أجاب به قاضى القضاة- في كتابه المعروف بالشافي- و نذكر ما عندنا في البعض من ذلك-
الطعن الأول
قال قاضى القضاة- أول ما طعن به عليه قول من قال- إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم- أن الموت يجوز على النبي ص- و أنه أسوة الأنبياء في ذلك- حتى قال و الله ما مات محمد- و لا يموت حتى تقطع أيدي رجال و أرجلهم- فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى- إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- و قوله وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الآية- قال أيقنت بوفاته و كأني لم أسمع هذه الآية- فلو كان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك- و هذا يدل على بعده من حفظ القرآن و تلاوته- و من هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما- . قال قاضى القضاة و هذا لا يصح- لأنه قد روي عنه أنه قال كيف يموت- و قد قال الله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ- و قال وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً- و لذلك نفى موته ع- لأنه حمل الآية على أنها خبر عنه في حال حياته حتى قال له أبو بكر- إن الله وعده بذلك و سيفعله- و تلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك بموته- و إنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت- لا أنه منع من موته- . ثم سأل قاضى القضاة نفسه- فقال فإن قيل فلم قال لأبي بكر عند قراءة الآية- كأني لم أسمعها و وصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة- . و أجاب بأن قال- لما كان الوجه في ظنه- ما أزال أبو بكر الشبهة فيه جاز أن يتيقن- ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة- .
و أجاب بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين- و لو لم يكن في ذلك إلا خبر أبي بكر و ادعاؤه لذلك- و الناس مجتمعون لحصل اليقين- . و قوله كأني لم أقرأ هذه الآية أو لم أسمعها- تنبيه على ذهوله عن الاستدلال بها- لا أنه على الحقيقة لم يقرأها و لم يسمعها- و لا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب ألا يعرف القرآن- لأن ذلك لو دل- لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه- ثم ذكر أن حفظ القرآن كله غير واجب- و لا يقدح الإخلال به في الفضل- . و حكي عن الشيخ أبي علي- أن أمير المؤمنين ع لم يحط علمه بجميع الأحكام- و لم يمنع ذلك من فضله- و استدل بما روي من قوله- كنت إذا سمعت من رسول الله ص حديثا- نفعني الله به ما شاء أن ينفعني- و إذا حدثني غيره أحلفته فإن حلف لي صدقته- و حدثني أبو بكر و صدق أبو بكر- و ذكر أنه لم يعرف أي موضع يدفن فيه رسول الله ص- حتى رجع إلى ما رواه أبو بكر- و ذكر قصة الزبير في موالي صفية- و أن أمير المؤمنين ع أراد أن يأخذ ميراثهم- كما أن عليه أن يحمل عقلهم- حتى أخبره عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للأب- و العقل على العصبة- .
ثم سأل نفسه فقال- كيف يجوز ما ذكرتم على أمير المؤمنين ع- مع قوله سلوني قبل أن تفقدوني- و قوله إن هاهنا علما جما يومئ إلى قلبه- و قوله لو ثنيت لي الوسادة- لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم- و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الزبور بزبورهم- و بين أهل القرآن بقرآنهم- و قوله كنت إذا سئلت أجبت و إذا سكت ابتدئت- .
و أجاب عن ذلك- بأن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم- من غير أن يدل على الإحاطة بالجميع- . و حكي عن أبي علي استبعاده ما روي من قوله- لو ثنيت الوسادة- قال لأنه لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يحكم بما لا يجوز- و معلوم أنه ع لا يحكم بين الجميع إلا بالقرآن- ثنيت له الوسادة أو لم تثن- و هذا يدل على أن الخبر موضوع خطبه 228 نهج البلاغه- . فاعترض الشريف المرتضى فقال- ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص- من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال- و الاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه- أو يكون منكرا لموته في تلك الحال- من حيث لم يظهر دينه على الدين كله- و ما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب- أنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال- . فإن كان الوجه الأول- فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله- و العلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل- و العلم من دينه ع بأنه سيموت كما مات من قبله ضروري- و ليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر- من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و ما أشبهها و إن كان خلافه على الوجه الثاني تأول ما فيه- أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر- من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت و إنما خالف في تقدمه- و قد كان يجب أن يقول له- و أي حجة في هذه الآيات على
من جوز عليه ص الموت- في المستقبل و أنكره في هذه الحال- و بعد فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر- من بين سائر الخلق- و من أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال و أرجلهم- و كيف حمل معنى قوله تعالى- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ- و قوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً- على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة- و كيف لم يخطر هذا إلا لعمر وحده- و معلوم أن ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة- و قلة التأمل و البصيرة- و كيف لم يوقن بموته لما رأى ما عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته- و ما ركبهم من الحزن و الكآبة لفقده- و هلا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد- فلم يحتج إلى موقف و معرف- و قد كان يجب إن كانت هذه شبهة- أن يقول في حال مرض رسول الله ص- و قد رأى جزع أهله و أصحابه و خوفهم عليه من الوفاة- حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه- عن الخروج في الجيش الذي كان رسول الله ص- يكرر و يردد الأمر حينئذ بتنفيذه- لم أكن لأسأل عنك الركب ما هذا الجزع و الهلع- و قد أمنكم الله من موته بكذا في وجه كذا- و ليس هذا من أحكام الكتاب- التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب- .
قلت- الذي قرأناه و رويناه من كتب التواريخ- يدل على أن عمر أنكر موت رسول الله ص من الوجهين المذكورين- أنكر أولا أن يموت إلى يوم القيامة- و اعتقد عمر أنه يعمر كما يعتقد كثير من الناس في الخضر- فلما حاجه أبو بكر بقوله تعالى- إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- و بقوله أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ- رجع عن ذلك الاعتقاد- . و ليس يرد على هذا ما اعترض به المرتضى- لأن عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه- كاستحالة الموت على البارئ تعالى أعني الاستحالة الذاتية- بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم
القيامة- مع كون الموت جائزا في العقل عليه و لا تناقض في ذلك- فإن إبليس يبقى حيا إلى يوم القيامة- مع كون موته جائزا في العقل- و ما أورده أبو بكر عليه لازم- على أن يكون نفيه للموت على هذا أوجه- . و أما الوجه الثاني- فهو أنه لما دفعه أبو بكر عن ذلك الاعتقاد- وقف مع شبهة أخرى اقتضت عنده أن موته يتأخر- و إن لم يكن إلى يوم القيامة- و ذلك أنه تأول قوله تعالى- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ- فجعل الضمير عائدا على الرسول لا على الدين- و قال إن رسول الله ص لم يظهر بعد على سائر الأديان- فوجب أن تستمر حياته إلى أن يظهر على الأديان- بمقتضى الوعد الذي لا يجوز عليه الخلف و الكذب- فحاجه أبو بكر من هذا المقام- فقال له إنما أراد ليظهر دينه و سيظهره فيما بعد- و لم يقل ليظهره الآن- فمن ثم قال له و لو أراد ليظهر الرسول ص على الدين كله- لكان الجواب واحدا- لأنه إذا ظهر دينه فقد أظهره هو- .
فأما قول المرتضى رحمه الله- و كيف دخلت هذه الشبهة على عمر من بين الخلق- فهكذا تكون الخراطر و الشبه- و الاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره- و كيف دخلت الشبهة على جماعة منعوا الزكاة- و احتجوا بقوله تعالى- وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ- دون غيرهم من قبائل العرب- و كيف دخلت الشبهة على أصحاب الجمل و صفين دون غيرهم- و كيف دخلت الشبهة على خوارج النهروان دون غيرهم- و هذا باب واسع- فأما قوله- و من أين زعم أنه لا يموت- حتى تقطع أيدي رجال و أرجلهم- فإن الذي
ذكره المؤرخون أنه قال- ما مات رسول الله ص- و إنما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه- و سيعود فتقطع أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجف بموته- و هذه الرواية تخالف ما ذكره المرتضى- . فأما قوله و كيف حمل معنى قوله- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ- و قوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً- على أن ذلك لا يكون في المستقبل- فقد بينا الشبهة الداخلة عليه في ذلك- و كونه ظن أن ذلك يكون معجلا على الفور و كذلك قوله- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ- لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ- كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً- فإنه ظن أن هذا العموم يدخل فيه رسول الله ص- لأنه سيد المؤمنين و سيد الصالحين- أو أنه لفظ عام و المراد به رسول الله وحده- كما ورد في كثير من آيات القرآن مثل ذلك- فظن أن هذا الاستخلاف في جميع الأرض- و تبديل الخوف بالأمن إنما هو على الفور لا على التراخي- و ليست هذه الشبهة بضعيفة جدا كما ظن المرتضى- بل هي موضع نظر- .
فأما قوله- كيف لم يؤمن بموته- لما رأى من كآبة الناس و حزنهم- فلأن الناس يبنون الأمر على الظاهر- و عمر نظر في أمر باطن دقيق- فاعتقد أن الرسول لم يمت و إنما ألقي شبهه على غيره- كما ألقي شبه عيسى على غيره فصلب- و عيسى قد رفع و لم يصلب- و اعلم أن أول من سن لأهل الغيبة من الشيعة- القول بأن الإمام لم يمت و لم يقتل- و إن كان في الظاهر و في مرأى العين قد قتل أو مات- إنما هو عمر- و لقد كان يجب على المرتضى و طائفته- أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد- .
فأما قوله- فهلا قال في مرض رسول الله ص- لما رأى جزعهم لموته قد أمنكم الله من موته فغير لازم- لأن الشبهة لا تجب أن تخطر بالبال في كل الأوقات- فلعله قد كان في ذلك الوقت غافلا عنها- مشغول الذهن بغيرها- و لو صح للمرتضى هذا- لوجب أن يدفع و يبطل كل ما يتجدد و يطرأ على الناس- من الشبهة في المذاهب و الآراء- فنقول كيف طرأت عليهم هذه الشبهات الآن- و لم تطرأ عليهم من قبل- و هذا من اعتراضات المرتضى الضعيفة- على أنا قد ذكرنا نحن في الجزء الأول من هذا الكتاب- ما قصده عمر بقوله إن رسول الله لم يمت- و قلنا فيه قولا شافيا لم نسبق إليه فليعاود ثم قال المرتضى- فأما ما روي عن أمير المؤمنين ع- من خبر الاستحلاف في الأخبار- فلا يدل على عدم علم أمير المؤمنين بالحكم- لأنه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبر- و يخوفه من الكذب على النبي ص- لأن العلم بصحة الحكم- الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر- و أيضا فلا تاريخ لهذا الحديث- و يمكن أن يكون استحلافه ع للرواة- إنما كان في حياة رسول الله ص- و في تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الأحكام- . فأما حديث الدفن و إدخاله في باب أحكام الدين- التي يجب معرفتها فطريف- و قد يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع- سمع من النبي ص في باب الدفن مثل ما سمعه أبو بكر- و كان عازما على العمل به- حتى روى أبو بكر ما رواه- فعمل بما كان يعلمه لا من طريق أبي بكر- و ظن الناس أن العمل لأجله- و يجوز أن يكون رسول الله ص خير وصيه ع في موضع دفنه- و لم يعين له موضعا بعينه- فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته- فليس في هذا دلالة على أنه ع استفاد حكما لم يكن عنده- .
و أما موالي صفية فحكم الله فيهم- ما أفتى به أمير المؤمنين ع- و ليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به- و لكنه كسكوته عن كثير من الحق تقية و مداراة للقوم- . و أما قوله ع سلوني قبل أن تفقدوني- و قوله إن هاهنا لعلما جما إلى غير ذلك- فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط- على ما ظنه صاحب الكتاب- بل هو قول واثق بنفسه- آمن من أن يسأل عما لا يعلمه- و كيف يجوز أن يقول مثله على رءوس الأشهاد و ظهور المنابر- سلوني قبل أن تفقدوني- و هو يعلم أن كثيرا من أحكام الدين يعزب عنه- و أين كان أعداؤه و المنتهزون لفرصته و زلته- عن سؤاله عن مشكل المسائل و غوامض الأحكام- و الأمر في هذا ظاهر- . فأما استبعاد أبي علي لما روي عنه ع من قوله- لو ثنيت لي الوسادة للوجه الذي ظنه فهو البعيد- فإنه لم يفطن لغرضه ع- و إنما أراد أني كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة- بنبينا ص و صحة شرعه- فأكون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم- من هذه الشريعة و أحكام هذا القرآن- و هذا من جليل الأغراض و عظيمها
الطعن الثاني
أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ- و قال إن يكن لك عليها سبيل- فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه- و قال لو لا معاذ لهلك عمر- و من يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما- لأنه يجري مجرى أصول الشرع- بل العقل يدل عليه لأن الرجم عقوبة- و لا يجوز أن يعاقب من لا يستحق- .
اعتذر قاضي القضاة عن هذا- فقال إنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها- مع علمه بأنها حامل- لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر- و هو أن الحامل لا ترجم حتى تضع- و إنما ثبت عنده زناها- فأمر برجمها على الظاهر- و إنما قال ما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل- . ثم سأل نفسه فقال- فإن قيل إذا لم تكن منه معصية- فكيف يهلك لو لا معاذ- و أجاب بأنه لم يرد لهلك من جهة العذاب- و إنما أراد أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل- و يجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها- لأن ذلك لا يمتنع أن يكون بخطيئة و إن صغرت- . اعترض المرتضى على هذا الاعتذار- فقال لو كان الأمر على ما ظننته- لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه- بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له هي حامل- و لا يقول له إن كان لك سبيل عليها- فلا سبيل لك على ما في بطنها- لأن هذا قول من عنده أنه أمر برجمها مع العلم بحملها- و أقل ما يجب لو كان الأمر كما ظنه صاحب الكتاب- أن يقول لمعاذ ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم- و إنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها- فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة- و في إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا- و قد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل- لأنه أحد الموانع من الرجم- فإذا علم انتفاءه و ارتفاعه أمر بالرجم- و صاحب الكتاب قد اعترف- بأن ترك المسألة عن ذلك تقصير و خطيئة- و ادعى أنها صغيرة و من أين له ذلك- و لا دليل يدل عنده في غير الأنبياء ع- أن معصية بعينها صغيرة- .
فأما إقراره بالهلاك لو لا تنبيه معاذ- فإنه يقتضي التعظيم و التفخيم لشأن الفعل- و لا يليق ذلك إلا بالتقصير الواقع- إما في الأمر برجمها مع العلم بأنها حامل- أو ترك البحث عن ذلك
و المسألة عنه- و أي لوم عليه في أن يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل- إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه و لا تقصير- . قلت أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى- و لم يمتنع أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل- و أن معاذا قد كان من الأدب أن يقول له- حامل يا أمير المؤمنين- فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى أخلاق العرب و خشونتهم- فقال له إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها- فنبهه على العلة و الحكم معا- و كان الأدب أن ينبهه على العلة فقط- . و أما عدول عمر عن أن يقول- أنا أعلم أن الحامل لا ترجم- و إنما أمرت برجمها- لأني لم أعلم أنها حامل- فلأنه إنما يجب أن يقول مثل هذا- من يخاف من اضطراب حاله- أو نقصان ناموسه و قاعدته أن لم يقله- و عمر كان أثبت قدما في ولايته- و أشد تمكنا من أن يحتاج إلى الاعتذار بمثل هذا- . و أما قول المرتضى- كان يجب أن يسأل عن الحمل- لأنه أحد الموانع من الرجم فكلام صحيح لازم- و لا ريب إن ترك السؤال عن ذلك نوع من الخطإ- و لكن المرتضى قد ظلم قاضي القضاة- لأنه زعم أنه ادعى أن ذلك صغيرة- ثم أنكر عليه ذلك و من أين له ذلك- و أي دليل دل على أن هذه المعصية صغيرة- و قاضي القضاة ما ادعى أن ذلك صغيرة- بل قال لا يمتنع أن يكون ذلك خطيئة و إن صغرت- و العجب أنه حكى لفظ قاضي القضاة بهذه الصورة- ثم قال إنه ادعى أنها صغيرة- و بين قول القائل لا يمتنع أن يكون صغيرة- و قوله هي صغيرة لا محالة فرق عظيم- .
و أما قول عمر لو لا معاذ لهلك عمر- فإن ظاهر اللفظ يشعر بما يريده المرتضى و ينحو إليه- و لا يمتنع أن يكون المقصود به ما ذكره قاضي القضاة- و إن كان مرجوحا فإن القائل خطأ قد يقول- هلكت ليس يعني به العقاب يوم القيامة- بل لوم الناس و تعنيفهم إياه على ترك الاحتراس و إهمال التثبت
الطعن الثالث
خبر المجنونة التي أمر برجمها- فنبهه أمير المؤمنين ع- و
قال إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق
- فقال لو لا علي لهلك عمر- و هذا يدل على أنه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة- . أجاب قاضي القضاة فقال- ليس في الخبر أنه عرف جنونها- فيجوز أن يكون الذي نبه عليه هو جنونها دون الحكم- لأنه كان يعلم أن الحد لا يقام في حال الجنون- و إنما قال لو لا علي لهلك عمر- لا من جهة المعصية و الإثم- لكن لأن حكمه لو نفذ لعظم غمه- و يقال في شدة الغم إنه هلاك- كما يقال في الفقر و غيره- و ذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغم الذي زال بهذا التنبيه- على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في الشرع أن يكون صحيحا- و أن يقال إذا كانت مستحقة للحد- فإقامته عليها تصح و إن لم يكن لها عقل- لأنه لا يخرج الحد من أن يكون واقعا موقعه- و يكون قوله ع رفع القلم عن ثلاث- يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم- و من هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها- فرجع فيه إلى غيره- و لا يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة- . اعترض الشريف المرتضى هذا فقال- لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها- لما قال له أمير المؤمنين- أ ما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق- بل كان يقول له بدلا من ذلك هي مجنونة- و كان ينبغي أن يقول عمر متبرئا من الشبهة- ما علمت بجنونها- و لست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم- فلما رأيناه استعظم ما أمر به- و قال لو لا علي لهلك عمر دلنا- على أنه كان تأثم و تحرج بوقوع الأمر بالرجم- و أنه مما لا يجوز و لا يحل- و إلا فلا معنى لهذا الكلام- و أما ذكر الغم- فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله- و لم يكن منه تفريط و لا تقصير- لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به- فكانت المسألة عن حالها و البحث لا يجبان عليه- فأي وجه لتألمه و توجعه و استعظامه لما فعله- و هل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزناء في أنه- لو ظهر للإمام بعد ذلك براءة ساحته- لم يجب أن يندم على فعله و يستعظمه- لأنه وقع صوابا مستحقا- .
و أما قوله- إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون- و تأوله الخبر المروي على أنه يقتضي زوال التكليف- دون الأحكام فإن أراد أنه لا يمتنع في العقل- أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف و لا إهانة- فذلك صحيح كما يقام على التائب- و أما الحد في الحقيقة- و هو الذي تضمنه الاستخفاف و الإهانة- فلا يجوز إلا على المكلفين و مستحقي العقاب- و بالجنون قد أزيل التكليف- فزال استحقاق العقاب الذي تبعه الحد- . و قوله- لا يمتنع أن يرجع فيما هذه حاله من المشتبه إلى غيره- فليس هذا من المشتبه الغامض- بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء- على أنا قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام في جلي- و لا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره- . و قوله- إن الخطأ في ذلك لا يعظم- فيمنع من صحة الإمامة اقتراح بغير حجة- لأنه إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل للقطع على أنه صغير- . قلت لو كان قد نقل أن أمير المؤمنين قال له- أ ما علمت لكان قول المرتضى قويا ظاهرا- إلا أنه لم ينقل هذه الصيغة بعينها- و المعروف المنقول أنه قال له- قال رسول الله ص رفع القلم عن ثلاث- فرجع عن رجمها- و يجوز أن يكون أشعره بالعلةو الحكم معا- لأن هذا الموضع أكثر اشتباها من حديث رجم الحامل- فغلب على ظن أمير المؤمنين أنه لو اقتصر على قوله- أنها مجنونة لم يكن ذلك دافعا لرجمها- فأكده برواية الحديث- و اعتذار قاضي القضاة بالغم جيد- و قول المرتضى- أي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ليس بإنصاف- و لا مثل هذا يقال فيه أنه فعل ما له أن يفعله- و لا يقال في العرف لمن قتل إنسانا خطأ- أنه فعل ما له أن يفعله- و المرجوم في الزناء إذا ظهر للإمام بعد قتله براءة ساحته- قد يغتم بقتله غما كثيرا بالطبع البشرى- و يتألم و إن لم يكن آثما و ليس من توابع الإثم و لوازمه- . و قول المرتضى- لم يجب أن يندم على ما فعله كلام خارج عما هو بصدده- لأنه لم يجر ذكر للندم- و إنما الكلام في الغم و لا يلزم أن يكون كل مغتم نادما- . و أما اعتراضه على قاضي القضاة في قوله- لا يمتنع في الشرع أن ترجم المجنونة- فلما اشتبه على عمر الأمر سأل غيره عنه بقوله- إن أردت الحد الحقيقي فمعلوم- و إن أردت ما هو جنس الحد فمسلم فليس بجيد- لأن هذا إنما يكون طعنا على عمر بتقدير ثلاثة أمور- أحدها أن يكون
النبي ص قد قال أقيموا الحد على الزاني
بهذا اللفظ- أعني أن يكون في لفظ النص ذكر الحد- و ثانيها أن يكون الحد في اللغة العربية- أو في عرف الشرع الذي يتفاهمه الصحابة- هو العقوبة المخصوصة التي يقارنها الاستخفاف و الإهانة- و ثالثها ألا يصح إهانة المجنون و الاستخفاف به- و أن يعلم عمر ذلك- فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة- ثم أمر عمر بأن يقام الحد على المجنونة- فقد توجه الطعن- و معلوم أنه لم تجتمع هذه الأمور الثلاثة- فإنه ليس في القرآن و لا في السنة ذكر الحد بهذا اللفظ- و لا الحد في اللغة العربية هو العقوبة- التي يقارنها الاستخفاف و الإهانة- و لا عرف الشرع و مواضعه الصحابة يشتمل على ذلك- و إنما هذا شي ء استنبطه المتكلمون المتأخرون بأذهانهم و أفكارهم- ثم بتقدير تسليم هذين المقامين لم قال- إن المجنون لا يصح عليه الاستخفاف و الإهانة- فمن الجائز أن يصح ذلك عليه- و إن لم يتألم بالاستخفاف و الإهانة كما يتألم بالعقوبة- و إذا صح عليه أن يألم بالعقوبة- صح عليه أن يألم بالاستخفاف و الإهانة- لأن الجنون لا يبلغ و إن عظم مبلغا- يبطل تصور الإنسان لإهانته و لاستخفافه- و بتقدير ألا يصح على المجنون الاستخفاف و الإهانة- من أين لنا أن عمر علم أن ذلك لا يصح عليه- فمن الممكن أن يكون ظن أن ذلك يصح عليه- لأن هذا مقام اشتباه و التباس- . فأما قوله- قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام أصلا إلى غيره- فهو مبني على مذهبهم و قواعدهم- و قوله معترضا على كلام قاضي القضاة- أن الخطأ في ذلك قد لا يعظم- ليمنع من صحة الإمامة أن هذا اقتراح بغير حجة- لأنه إذا اعترف بالخطإ- فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير غير لازم- لأن قاضي القضاة لم يقطع بأنه صغير- بل قال لا يمتنع- و إذا جاز أن يكون صغيرا- لم نكن قاطعين على فساد الإمامة به- . فإن قال المرتضى كما أنكم لا تقطعون على أنه صغير- فتكون الإمامة مشكوكا فيها- قيل له الأصل عدم الكبير- فإذا حصل الشك في أمر- هل هو صغير أم كبير تساقط التعارض- و رجعنا إلى الأصل و هو عدم كون ذلك الخطإ كبيرا- فلا يمنع ذلك من صحة الإمامة
الطعن الرابع
حديث أبي العجفاء- و أن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء- اقتداء بما كان من النبي ص في صداق فاطمة- حتى قامت المرأة و نبهته بقوله تعالى- وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً على جواز ذلك- فقال كل النساء أفقه من عمر-
و بما روي أنه تسور على قوم و وجدهم على منكر- فقالوا له إنك أخطأت من جهات تجسست- و قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا- و دخلت بغير إذن و لم تسلم- . أجاب قاضي القضاة- فقال علمنا بتقدم عمر في العلم و فضله فيه ضروري- فلا يجوز أن يقدح فيه بأخبار أحاديث غير مشهورة- و إنما أراد في المشهور أن المستحب الاقتداء برسول الله ص- و أن المغالاة فيها ليس بمكرمة ثم عند التنبيه- علم أن ذلك مبني على طيب النفس- فقال ما قاله على جهة التواضع- لأن من أظهر الاستفادة من غيره و إن قل علمه- فقد تعاطى الخضوع- و نبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها- و صير نفسه قدوة في ذلك و أسوة و ذلك حسن من الفضلاء- و أما حديث التجسس فإن كان فعله فقد كان له ذلك- لأن للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل- و إنما لحقه على ما يروى في الخبر الخجل- لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر اعترض المرتضى على هذا الجواب فقال له- أما تعويلك على العلم الضروري بكونه من أهل العلم و الاجتهاد- فذلك إذا صح لم ينفعك- لأنه قد يذهب على من هو بهذه الصفة كثير من الأحكام- حتى ينبه عليها و يجتهد فيها- و ليس العلم الضروري ثابتا بأنه عالم بجميع أحكام الدين- فيكون قاضيا على هذه الأخبار- فأما تأوله الحديث و حمله على الاستحباب فهو دفع للعيان- لأن المروي أنه منع من ذلك و حظره- حتى قالت المرأة ما قالت- و لو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة- و لا كان لكلام المرأة موقع- و لا كان يعترف لها بأنها أفقه منه- بل كان الواجب أن يرد عليها و يوبخها- و يعرفها أنه ما حظر لذلك- و إنما تكون
الآية حجة عليه لو كان حاظر مانعا- فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح و تصويب الخطإ- و لو كان الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب- لكان هو المصيب و المرأة مخطئة- فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ و هي المصيبة- فأما التجسس فهو محظور بالقرآن و السنة- و ليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب و السنة- و قد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا- أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه- و قال له إنك أخطأت السنة من وجوه- فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب- و تلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج و إقامة العذر- . قلت قصارى هذا الطعن- أن عمر اجتهد في حكم أو أحكام فأخطأ- فلما نبه عليها رجع- و هذا عند المعتزلة و أكثر المسلمين غير منكر- و إنما ينكر أمثال هذا من يبطل الاجتهاد- و يوجب عصمة الإمام- فإذا هذا البحث ساقط على أصول المعتزلة- و الجواب عنه غير لازم علينا
الطعن الخامس
أنه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز- حتى أنه كان يعطي عائشة و حفصة عشرة آلاف درهم- في كل سنة و منع أهل البيت خمسهم- الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله ص- و أنه كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض- . أجاب قاضي القضاة- بأن دفعه إلى الأزواج جائز- من حيث إن لهن حقا في بيت
المال- و للإمام أن يدفع ذلك على قدر ما يراه- و هذا الفعل قد فعله من قبله و من بعده- و لو كان منكرا لما استمر عليه أمير المؤمنين ع- و قد ثبت استمراره عليه- و لو كان ذلك طعنا لوجب إذا كان يدفع إلى الحسن و الحسين- و إلى عبد الله بن جعفر و غيرهم من بيت المال شيئا- أن يكون في حكم الخائن- و كل ذلك يبطل ما قالوه- لأن بيت المال إنما يراد لوضع الأموال في حقوقها ثم الاجتهاد- و إلى المتولي للأمر في الكثرة و القلة- . فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد- و قد اختلف الناس فيه- فمنهم من جعله حقا لذوي القربى- و سهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الآية- و منهم من جعله حقا لهم من جهة الفقر- و أجراهم مجرى غيرهم- و إن كانوا قد خصوا بالذكر كما أجرى الأيتام- و إن خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر- و الكلام في ذلك يطول فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقة الاجتهاد- و من قدح في ذلك- فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة الصحابة- . فأما اقتراضه من بيت المال- فإن صح فهو غير محظور بل ربما كان أحوط- إذا كان على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذي يمكنه منه الرد- و قد ذكر الفقهاء ذلك و قال أكثرهم- أن الاحتياط في مال الأيتام و غيرهم- أن يجعل في ذمة الغني المأمون لبعده عن الخطر- و لا فرق بين أن يقرض الغير أو يقترضه لنفسه- و من بلغ في أمره أن يطعن على عمر بمثل هذه الأخبار- مع ما يعلم من سريرته و تشدده في ذات الله- و احتياطه فيما يتصل بملك الله و تنزهه عنه- حتى فعل بالصبي الذي أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل- و حتى كان يرفع نفسه عن الأمر الحقير و يتشدد على كل أحد- حتى على ولده فقد أبعد في القول- . اعترض المرتضى- فقال أما تفصيل الأزواج فإنه لا يجوز- لأنه لا سبب فيهن يقتضي ذلك- و إنما يفضل الإمام في العطاء ذوي الأسباب المقتضية لذلك- مثل الجهاد و غيره من الأمور العام نفعها للمسلمين- . و قوله إن لهن حقا في بيت المال صحيح- إلا أنه لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن- و ما عيب بدفع حقهن إليهن- و إنما عيب بالزيادة عليه- و ما يعلم أن أمير المؤمنين ع استمر على ذلك- و إن كان صحيحا كما ادعى- فالسبب الداعي إلى الاستمرار عليه- هو السبب الداعي إلى الاستمرار على جميع الأحكام- فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين إلى الحسن و الحسين و غيرهما- شيئا من بيت المال فعجب- لأنه لم يفضل هؤلاء في العطية فيشبه ما ذكرناه في الأزواج- و إنما أعطاهم حقوقهم و سوى بينهم و بين غيرهم- . فأما الخمس فهو للرسول و لأقربائه- على ما نطق به القرآن- و إنما عنى تعالى بقوله- وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ- من كان من آل الرسول خاصة- لأدلة كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها هاهنا- و
قد روى سليم بن قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول نحن و الله الذين عنى الله بذي القربى- قرنهم الله بنفسه و نبيه ص- فقال ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ- كل هؤلاء منا خاصة- و لم يجعل لنا سهما في الصدقة- أكرم الله تعالى نبيه و أكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس
- و روى يزيد بن هرم قال- كتب نجده إلى ابن عباس يسأله عن الخمس لمن هو- فكتب إليه كتبت تسألني عن الخمس لمن هو- و إنا كنا نزعم أنه لنا- فأبى قومنا علينا ذلك فصبرنا عليه- . قال و أما الاجتهاد الذي عول عليه- فليس عذرا في إخراج الخمس عن أهله فقد أبطلناه- .
و أما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعو إلى الريبة- و من كان من التشدد و التحفظ- و التقشف على الحد الذي ذكره- كيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال- و فيه حقوق و ربما مست الحاجة إلى الإخراج منها- و أي حاجة لمن كان جشب المأكل خشن الملبس- يتبلغ بالقوت إلى اقتراض الأموال- . فأما حكايته عن الفقهاء- أن الاحتياط أن يحفظ مال الأيتام في ذمة الغني المأمون- فذلك إذا صح لم يكن نافعا له- لأن عمر لم يكن غنيا و لو كان غنيا لما اقترض- فقد خرج اقتراضه عن أن يكون من باب الاحتياط- و إنما اشترط الفقهاء مع الأمانة الغنى- لئلا تمس الحاجة إليه فلا يمكن ارتجاعه- و لهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن صوابا- و حسن نظر للمسلمين- . قلت أما قوله لا يجوز للإمام أن يفضل في العطاء- إلا لسبب يقتضي ذلك كالجهاد- فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده- فقد يستحق الإنسان التفضيل في العطاء- على غيره لكثرة عبادته- أو لكثرة علمه أو انتفاع الناس به- فلم لا يجوز أن يكون عمر فضل الزوجات لذلك- . و أيضا فإن الله تعالى فرض لذوي القربى من رسول الله ص- نصيبا في الفي ء و الغنيمة- ليس إلا لأنهم ذوو قرابته فقط- فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك ما فعله في العطاء- فيفضل ذوي قرابة رسول في ذلك على غيرهم- ليس إلا لأنهم ذوو قرابته- و الزوجات و إن لم يكن لهن قربى النسب- فلهن قربى الزوجية- و كيف يقول المرتضى- ما جاز أن يفضل أحدا إلا بالجهاد- و قد فضل الحسن و الحسين على كثير- من أكابر المهاجرين و الأنصار و هما صبيان- ما جاهدا و لا بلغا الحلم بعد- و أبوهما أمير المؤمنين
موافق على ذلك- راض به غير منكر له- و هل فعل عمر ذلك إلا لقربهما من رسول الله ص- . و نحن نذكر ما فعله عمر في هذا الباب مختصرا- نقلناه من كتاب أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المحدث- في أخبار عمر و سيرته- . روى أبو الفرج عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال- استشار عمر الصحابة بمن يبدأ في القسم و الفريضة- فقالوا ابدأ بنفسك- فقال بل أبدأ بآل رسول الله ص- و ذوي قرابته فبدأ بالعباس قال ابن الجوزي- و قد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له- . و روي أنه فرض له اثني عشر ألفا و هو الأصح- ثم فرض لزوجات رسول الله ص- لكل واحدة عشرة آلاف- و فضل عائشة عليهن بألفين فأبت- فقال ذلك بفضل منزلتك عند رسول الله ص- فإذا أخذت فشأنك- و استثنى من الزوجات جويرية و صفية و ميمونة- ففرض لكل واحدة منهن ستة آلاف- فقالت عائشة إن رسول الله ص كان يعدل بيننا- فعدل عمر بينهن و ألحق هؤلاء الثلاث بسائرهن- ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا- لكل واحد خمسة آلاف- و لمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف- . و قد روي أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا- من المهاجرين أو من الأنصار- أو من غيرهم من القبائل خمسة آلاف- ثم فرض لمن شهد أحدا و ما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف- ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف- ثم فرض لكل من شهد المشاهد- بعد وفاة رسول الله ص ألفين و خمسمائة- و ألفين و ألفا
و خمسمائة- و ألفا واحدا إلى مائتين و هم أهل هجر- و مات عمر على ذلك- .
قال ابن الجوزي- و أدخل عمر في أهل بدر ممن لم يحضر بدرا أربعة- و هم الحسن و الحسين و أبو ذر و سلمان- ففرض لكل واحد منهم خمسة آلاف- . قال ابن الجوزي- و روى السدي أن عمر كسا أصحاب النبي ص- فلم يرتض في الكسوة ما يستصلحه للحسن و الحسين ع- فبعث إلى اليمن فأتي لهما بكسوة فاخرة- فلما كساهما قال الآن طابت نفسي- . قال ابن الجوزي- فأما ما اعتمده في النساء- فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة- و نساء من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة- و نساء من بعد ذلك على ثلاثمائة- و جعل نساء أهل القادسية على مائتين مائتين- ثم سوى بين النساء بعد ذلك- . و لو لم يدل على تصويب عمر فيما فعله إلا إجماع الصحابة- و اتفاقهم عليه و ترك الإنكار لذلك كان كافيا- . فأما الخمس و الخلاف فيه فإنها مسألة اجتهادية- و الذي يظهر لنا فيه و يغلب عندنا من أمرها- أن الخمس حق صحيح ثابت- و أنه باق إلى الآن على ما يذهب إليه الشافعي- و أنه لم يسقط بموت رسول الله ص- و لكنا لا نرى ما يعتقده المرتضى من أن الخمس لآل الرسول ص- و أن الأيتام أيتامهم- و المساكين مساكينهم و ابن السبيل منهم- لأنه على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية و العطف- و يمكن أن يحتج على ذلك- بأن قوله تعالى في سورة الحشر لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ- يبطل هذا القول- لأن هذه اللام لا بد أن تتعلق بشي ء- و ليس قبلها ما تتعلق به أصلا- إلا أن تجعل بدلا من اللام التي قبلها في قوله- ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ- و ليس يجوز أن تكون بدلا من اللام في اللَّهِ- و لا من اللام في قوله وَ لِلرَّسُولِ- فبقي أن تكون بدلا من اللام في قوله و لِذِي الْقُرْبى - أما الأول فتعظيما له سبحانه- و أما الثاني فلأنه تعالى قد أخرج رسوله من الفقراء- بقوله وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- و لأنه يجب أن يرفع رسول الله ص عن التسمية بالفقير- و أما الثالث فإما أن يفسر هذا البدل- و ما عطف عليه المبدل منه- أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه- و الأول لا يصح- لأن المعطوف على هذا البدل- ليس من أهل القرى و هم الأنصار- أ لا ترى كيف قال سبحانه- لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الآية- ثم قال سبحانه- وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ و هم الأنصار- و إن كان الثاني صار تقدير الآية- أن الخمس لله و للرسول و لذي القربى- الذين وصفهم الله و نعتهم بأنهم هاجروا و أخرجوا من ديارهم- و للأنصار- فيكون هذا مبطلا لما يذهب إليه المرتضى- في قصر الخمس على ذوي القربى- . و يمكن أن يعترض هذا الاحتجاج فيقال- لم لا يجوز أن يكون قوله- وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ- ليس بعطف و لكنه كلام مبتدأ- و موضع الذين رفع بالابتداء و خبره يحبون- . و أيضا فإن هذه الحجة لا يمكن التمسك بها في آية الأنفال- و هو قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ- . فأما رواية سليم بن قيس الهلالي فليست بشي ء- و سليم معروف المذهب- و يكفي في رد روايته كتابه- المعروف بينهم المسمى كتاب سليم- .
على أني قد سمعت من بعضهم- من يذكر أن هذا الاسم على غير مسمى- و أنه لم يكن في الدنيا أحد يعرف بسليم بن قيس الهلالي- و أن الكتاب المنسوب إليه منحول موضوع خطبه 228 نهج البلاغه لا أصل له- و إن كان بعضهم يذكره في اسم الرجال- و الرواية المذكورة عن ابن عباس في كتابه- إلى نجدة الحروري صحيحة ثابتة- و ليس فيها ما يدل على مذهب المرتضى- من أن الخمس كله لذوي القربى- لأن نجدة إنما سأله عن خمس الخمس لا عن الخمس كله- . و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع- اختلاف الفقهاء في الخمس- أما أبو حنيفة فعنده أن قسمة الخمس- كانت في عهد رسول الله ص على خمسة أسهم- سهم لرسول الله ص- و سهم لذوي قرباه من بني هاشم- و بني المطلب دون بني عبد شمس و نوفل- استحقوه حينئذ بالنصرة و المظاهرة- لما روي عن عثمان بن عفان و جبير بن مطعم- أنهما قالا لرسول الله ص- هؤلاء إخوتك من بني هاشم لا ننكر فضلهم- لمكانك الذي جعلك الله منهم- أ رأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم و حرمتنا- و إنما نحن و هم بمنزلة واحدة-
فقال ص إنهم لم يفارقونا في جاهلية و لا إسلام- إنما بنو هاشم و بنو المطلب شي ء واحد
و شبك بين أصابعه- و ثلاثة أسهم ليتامى المسلمين و مساكينهم- و أبناء السبيل منهم- و أما بعد رسول الله ص فسهمه ساقط بموته- و كذلك سهم ذوي القربى- و إنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء- و لا يعطى أغنياؤهم- فيقسم الخمس إذن على ثلاثة أسهم- اليتامى و المساكين و ابن السبيل- . و أما الشافعي فيقسم الخمس عنده- بعد وفاة رسول الله ص على خمسة أسهم- سهم لرسول الله ص- يصرف إلى ما كان يصرفه إليه رسول الله ص أيام حياته- من مصالح المسلمين- كعدة الغزاة من الكراع و السلاح و نحو ذلك- و سهم لذوي القربى من أغنيائهم و فقرائهم- يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين- من بني هاشم و بني المطلب- و الباقي للفرق الثلاث- . و أما مالك بن أنس- فعنده أن الأمر في هذه المسألة مفوض إلى اجتهاد الإمام- إن رأى قسمه بين هؤلاء- و إن رأى أعطاه بعضهم دون بعض- و إن رأى الإمام غيرهم أولى و أهم فغيرهم- . و بقي الآن البحث عن معنى قوله سبحانه و تعالى- فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ- و ما المراد بسهم الله سبحانه- و كيف يقول الفقهاء الخمس مقسوم خمسة أقسام- و ظاهر الآية يدل على ستة أقسام فنقول- يحتمل أن يكون معنى قوله سبحانه- فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ- لرسول الله- كقوله وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ- أي و رسول الله أحق- و مذهب أبي حنيفة و الشافعي يجي ء على هذا الاحتمال- . و يحتمل أن يريد بذكره إيجاب سهم سادس- يصرف إلى وجه من وجوه القرب- و مذهب أبي العالية يجي ء على هذا الاحتمال- لأنه يذهب إلى أن الخمس يقسم ستة أقسام- أحدها سهمه تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة- و قد روي أن رسول الله ص- كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه- فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة- و يقول سهم الله تعالى- ثم يقسم ما بقي على خمسة أقسام- .
و قال قوم سهم الله لبيت الله- . و يحتمل احتمالا ثالثا- و هو أن يراد بقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ- أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه سبحانه لا غير- ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لهاعلى غيرها- كقوله وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ- و مذهب مالك يجي ء على هذا الاحتمال و
قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان على ستة- لله و للرسول سهمان- و سهم لأقاربه و ثلاثة أسهم للثلاثة- حتى قبض ع فأسقط أبو بكر ثلاثة أسهم- و قسم الخمس كله على ثلاثة أسهم- و كذلك فعل عمر
و
روي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس- و قال إنما لكم أن نعطي فقيركم و نزوج أيمكم- و نخدم من لا خادم له منكم- و أما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني- لا يعطى شيئا و لا يتيم موسر
و قد روي عن زيد بن علي ع مثل ذلك- قال ليس لنا أن نبني منه القصور و لا أن نركب منه البراذين- فأما مذهب الإمامية فإن الخمس كله للقرابة- . و
يروون عن أمير المؤمنين ع أنه قال أيتامنا و مساكيننا- فإن صح عنه ذلك- فقوله عندنا أولى بالاتباع- و إنما الكلام في صحته- . فأما اقتراض عمر من بيت المال ثمانين ألفا- فليس بمعروف- و المعروف المشهور أنه كان يظلف نفسه- عن الدرهم الواحد منه- . و قد روى ابن سعد في كتاب الطبقات- أن عمر خطب فقال- إن قوما يقولون إن هذا المال حلال لعمر- و ليس كما قالوا- لاها الله إذن أنا أخبركم بما أستحل منه- يحل لي منه حلتان حلة في الشتاء و حلة في القيظ- و ما أحج عليه و أعتمر من الظهر- و قوتي و قوت أهلي كقوت رجل من قريش- ليس بأغناهم و لا أفقرهم- ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم- .
و روى ابن سعد أيضا- أن عمر كان إذا احتاج أتى إلى صاحب بيت المال فاستقرضه- فربما عسر عليه القضاء فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه- فيحتال له و ربما خرج عطاؤه فقضاه- و لقد اشتكى مرة فوصف له الطبيب العسل- فخرج حتى صعد المنبر و في بيت المال عكة- فقال إن أذنتم لي فيها أخذتها و إلا فهي علي حرام- فأذنوا له فيها- ثم قال إن مثلي و مثلكم كقوم سافروا- فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم لينفق عليهم- فهل يحل له أن يستأثر منها بشي ء- . و روى ابن سعد أيضا قال- مكث عمر زمانا لا يأكل من مال المسلمين شيئا- حتى أصابته خصاصة- فأرسل إلى أصحاب رسول الله ص- فاستشارهم فقال لهم قد شغلت نفسي بأمركم- فما الذي يصلح أن أصيبه من مالكم- فقال عثمان كل و أطعم- و كذلك قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- فتركهما و أقبل على علي ع- فقال ما تقول أنت- قال غداء و عشاء قال أصبت و أخذ بقوله
و
روى أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سيرة عمر- عن نائلة عن ابن عمر قال جمع عمر الناس لما انتهى إليه فتح القادسية و دمشق- فقال إني كنت امرأ تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي- و قد شغلتموني عن التجارة بأمركم- فما ترون أنه يحل لي من هذا المال- فقال القوم فأكثروا و علي ع ساكت- فقال عمر ما تقول أنت يا أبا الحسن- قال ما أصلحك و أصلح عيالك بالمعروف- و ليس لك من هذا المال غيره- فقال القول ما قاله أبو الحسن و أخذ به
- . و روى عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده- أن عبد الله و عبيد الله ابني عمر مرا بأبي موسى- و هو على العراق و هما مقبلان من أرض فارس- فقال مرحبا بابني أخي لو كان عندي شي ء- و بلي قد اجتمع هذا المال عندي- فخذاه و اشتريا به متاعا فإذا قدمتما فبيعاه و لكما ربحه- و أديا إلى أمير المؤمنين رأس المال ففعلا- فلما قدما على عمر بالمدينة أخبراه- فقال أ كل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك- فقالا لا قال فإن عمر يأبى أن يجيز ذلك و جعل قرضا- . و روي عن قتادة قال- كان معيقيب على بيت المال لعمر- فكسح عمر بيت المال يوما و أخرجه إلى المسلمين- فوجد معيقيب فيه درهما فدفعه إلى ابن عمر- قال معيقيب ثم انصرفت إلى بيتي- فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني- فجئت فإذا الدرهم في يده- فقال ويحك يا معيقيب أ وجدت علي في نفسك شيئا- قلت و ما ذاك- قال أردت أن تخاصمني أمة محمد- في هذا الدرهم يوم القيامة- . و روى عمر بن شبة عن عبد الله بن الأرقم- و كان خازن عمر- فقال إن عندنا حلية من حلية جلولاء و آنية من فضة- فانظر ما تأمر فيها- قال إذا رأيتني فارغا فآذني- فجاءه يوما فقال إني أراك اليوم فارغا- فما تأمر بتلك الحلية- قال ابسط لي نطعا فبسطه ثم أتى بذلك المال- فصب عليه فرفع يديه و قال اللهم إنك ذكرت هذا المال- فقلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ- وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ- ثم قلت لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا- اللهم إني أسألك أن تضعه في حقه- و أعوذ بك من شره- ثم ابتدأ فقسمه بين الناس- فجاءه ابن بنت له فقال يا أبتاه هب لي منه خاتما- فقال اذهب إلى أمك تسقك سويقا فلم يعطه شيئا- .
و روى الطبري في تاريخه- أن عمر خطب أم كلثوم بنت أبي بكر- فأرسل فيها إلى عائشة فقالت الأمر إليها- فقالت أم كلثوم لا حاجة لي فيه- قالت لها عائشة ويلك أ ترغبين عن أمير المؤمنين- قالت نعم إنه يغلق بابه و يمنع خيره- و يدخل عابسا و يخرج عابسا- فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته- فقال أنا أكفيك فأتى عمر فقال- يا أمير المؤمنين بلغني خبر أعيذك بالله منه- قال ما هو قال خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر قال نعم- أ فترغب بي عنها أم ترغب بها عني- قال لا واحدة و لكنها حدثة- نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين و رفق- و فيك غلظة و نحن نهابك- و لا نستطيع أن نردك عن خلق من أخلاقك- فكيف بها إن خالفتك في شي ء فسطوت بها- كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك- قال فكيف لي بعائشة و قد كلمتها فيها- قال أنا لك بها و أدلك على خير منها- أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب- تعلق منها بسبب من رسول الله- فصرفه عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة- . و روى عاصم بن عمر- قال بعث إلى عمر عند الهاجرة- أو قال عند صلاة الصبح فأتيته- فوجدته جالسا في المسجد- فقال يا بني إني لم أكن أرى شيئا من هذا المال يحل لي- قبل أن ألي إلا بحقه- و ما كان أحرم علي منه حين وليته فعاد أمانتي- و إني كنت أنفقت عليك من مال الله شهرا- و لست بزائدك عليه و قد أعطيتك تمري بالعالية- فبعه و خذ ثمنه- ثم ائت رجلا من تجار قومك فكن إلى جانبه- فإذا ابتاع شيئا فاستشركه- و أنفق ما تربحه عليك و على أهلك- قال فذهبت ففعلت- .
و روى الحسن البصري- أن عمر كان يمشي يوما في سكة من سكك المدينة- إذ صبية تطيش على وجه الأرض- تقعد مرة و تقوم أخرى من الضعف و الجهد- فقال عمر ما بال هذه- قال عبد الله ابنه أ ما تعرف هذه قال لا- قال إنها إحدى بناتك فأنكر عمر ذلك- فقال هذه ابنتي من فلانة- قال ويحك و ما صيرها إلى ما أرى- قال منعك ما عندك قال أنا منعتك ما عندي- فما الذي منعك أن تطلب لبناتك ما يكسب الأقوام لبناتهم- أنه و الله ما لك عندي غير سهمك في المسلمين- وسعك أو عجز عنك و كتاب الله بيني و بينك- . و روى سعيد بن المسيب- قال كتب عمر لما قسم العطاء و فضل من فضل للمهاجرين- الذين شهدوا بدرا خمسة آلاف- و كتب لمن لم يشهد بدرا أربعة آلاف- فكان منهم عمر بن أبي سلمة المخزومي- و أسامة بن زيد بن حارثة- و محمد بن عبد الله بن جحش- و عبد الله بن عمر بن الخطاب- فقال عبد الرحمن بن عوف و هو الذي كان يكتب- يا أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر ليس من هؤلاء- أنه و أنه يطريه و يثني عليه- فقال له عمر ليس له عندي إلا مثل واحد منهم- فتكلم عبد الله و طلب الزيادة و عمر ساكت- فلما قضى كلامه قال عمر لعبد الرحمن- اكتبه على خمسة آلاف و اكتبني على أربعة آلاف- فقال عبد الله لا أريد هذا- فقال عمر و الله لا أجتمع أنا و أنت على خمسة آلاف- قم إلى منزلك فقام عبد الله كئيبا و قال أبو وائل- استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة- فأتاني رجل بصك يقول فيه- أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم- فقلت له مكانك و دخلت على ابن زياد- فقلت له إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة- على القضاء و بيت المال- و استعمل عثمان بن حنيف على سقي الفرات- و استعمل عمار بن ياسر على الصلاة و الجند- فرزقهم كل يوم شاة واحدة- فجعل نصفها و سقطها و أكارعها لعمار- لأنه كان على الصلاة و الجند- و جعل لابن مسعود ربعها و لابن حنيف ربعها- ثم قال إن مالا يؤخذ منه كل يوم شاة- أن ذلك فيه لسريع- فقال ابن زياد ضع المفتاح فاذهب حيث شئت- .
و روى أبو جعفر الطبري في التاريخ- أن عمر بعث سلمة بن قيس الأشجعي إلى طائفة من الأكراد- كانوا على الشرك- فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينة- فلما انتهى إليهم دعاهم إلى الإسلام أو إلى أداء الجزية- فأبوا فقاتلهم فنصره الله عليهم- فقتل المقاتلة و سبي الذرية و جمع الرثة- و وجد حلية و فصوصا و جواهر- فقال لأصحابه أ تطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين- فإنه غير صالح لكم- و إن على أمير المؤمنين لمئونة و أثقالا- قالوا نعم قد طابت أنفسنا- فجعل تلك الجواهر في سفط- و بعث به مع واحد من أصحابه- و قال له سر فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين- فأوقرهما زادا لك و لغلامك و سر إلى أمير المؤمنين- قال ففعلت فأتيت عمر و هو يغدي الناس- قائما متكئا على عصا كما يصنع الراعي- و هو يدور على القصاع فيقول يا يرفأ زد هؤلاء لحما- زد هؤلاء خبزا زد هؤلاء مرقة- فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه خشونة- طعامي الذي معي أطيب منه- فلما فرغ أدبر فاتبعته- فدخل دارا فاستأذنت و لم أعلم حاجبه من أنا- فأذن لي فوجدته في صفة جالسا على مسح- متكئا على وسادتين من أدم محشوتين ليفا- و في الصفة عليه ستر من صوف- فنبذ إلي إحدى الوسادتين فجلست عليها- فقال يا أم كلثوم أ لا تغدوننا- فأخرج إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق- فقال يا أم كلثوم أ لا تخرجين إلينا تأكلين معنا- فقالت إني أسمع عندك حس رجل قال نعم- و لا أراه من أهل هذا البلد- قال فذاك حين عرفت أنه لم يعرفني- فقالت لو أردت أن أخرج إلى الرجال- لكسوتني كما كسا الزبير امرأته- و كما كسا طلحة امرأته- قال أ و ما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب- و زوجة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- قالت إن ذاك عني لقليل الغناء- قال كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا- فأكلت قليلا و طعامي الذي معي أطيب منه-
و أكل فما رأيت أحدا أحسن أكلا منه- ما يتلبس طعامه بيده و لا فمه- ثم قال اسقونا فجاءوا بعس من سلت- فقال أعط الرجل فشربت قليلا- و إن سويقي الذي معي لأطيب منه- ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته- ثم قال الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا- و سقانا فأروانا- إنك يا هذا لضعيف الأكل ضعيف الشرب- فقلت يا أمير المؤمنين إن لي حاجة- قال ما حاجتك قلت أنا رسول سلمة بن قيس- فقال مرحبا بسلمة و رسوله فكأنما خرجت من صلبه- حدثني عن المهاجرين كيف هم- قلت كما تحب يا أمير المؤمنين- من السلامة و الظفر و النصر على عدوهم- قال كيف أسعارهم قلت أرخص أسعار- قال كيف اللحم فيهم فإنه شجرة العرب- و لا تصلح العرب إلا على شجرتها- قلت البقرة فيهم بكذا و الشاة فيهم بكذا- ثم سرنا يا أمير المؤمنين حتى لقينا عدونا من المشركين- فدعوناهم إلى الذي أمرت به من الإسلام فأبوا- فدعوناهم إلى الخراج فأبوا- فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم- فقتلنا المقاتلة و سبينا الذرية و جمعنا الرثة- فرأى سلمة في الرثة حلية- فقال للناس إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا- أ فتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين- قالوا نعم ثم استخرجت سفطي ففتحته- فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر و أخضر و أصفر- وثب و جعل يده في خاصرته يصيح صياحا عاليا- و يقول لا أشبع الله إذن بطن عمر يكررها- فظن النساء أني جئت لأغتاله- فجئن إلى الستر فكشفنه- فسمعنه يقول لف ما جئت به يا يرفأ جأ عنقه- قال فأنا أصلح سفطي و يرفأ يجأ عنقي- ثم قال النجاء النجاء- قلت يا أمير المؤمنين انزع بي فاحلمني- فقال يا يرفأ أعطه راحلتين من إبل الصدقة-
فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه- و قال أظنك ستبطئ- أما و الله لئن تفرق المسلمون في مشاتيهم- قبل أن يقسم هذا فيهم- لأفعلن بك و بصاحبك الفاقرة- . قال فارتحلت حتى أتيت إلى سلمة بن قيس- فقلت ما بارك الله فيما اختصصتني به- اقسم هذا في الناس قبل أن تصيبني و إياك فاقرة- فقسمه فيهم فإن الفص ليباع بخمسة دراهم و بستة- و هو خير من عشرين ألفا- . و جملة الأمر أن عمر لا يجوز أن يطعن فيه بمثل هذا- و لا ينسب إلى شره و حب للمال- فإن طريقته في التعفف و التقشف- و خشونة العيش و الزهد أظهر من كل ظاهر- و أوضح من كل واضح و حاله في ذلك معلومة- و على كل تقدير سواء كان يفعل ذلك دينا أو ورعا- كما هو الظاهر من حاله- أو كان يفعل ذلك ناموسا و صناعة و رياء و حيلة- كما تزعم الشيعة فإنه عظيم- لأنه إما أن يكون على غاية الدين و التقى- أو يكون أقوى الناس نفسا و أشدهم عزما- و كلا الأمرين فضيلة- . و الذي ذكره المحدثون و أرباب السير- أن عمر لما طعن و احتمل في دمه إلى بيته- و أوصى بما أوصى- قال لابنه عبد الله انظروا ما علي من دين- فحسبوه فوجدوه ستمائة و ثمانين ألف درهم- هكذا ورد في الأخبار أنها كانت ديونا للمسلمين- و لم تكن من بيت المال- فقال عمر انظر يا عبد الله فإن وفى به مال آل عمر- فأده من أموالهم- و إلا فسل في بني عدي بن كعب- فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش- و لا تعدهم إلى غيرهم- فهكذا وردت الرواية- فلذلك قال قاضي القضاة- فإن صح فالعذر كذا و كذا- لأنه لم يثبت عنده صحة اقتراضه هذا المقدار من بيت المال- .
و قد روي أن عمر كان له نخل بالحجاز- غلته كل سنة أربعون ألفا- يخرجها في النوائب و الحقوق- و يصرفها إلى بني عدي بن كعب- إلى فقرائهم و أراملهم و أيتامهم- روى ذلك ابن جرير الطبري في التاريخ- . فأما قول المرتضى- أي حاجة بخشن العيش و جشب المأكل إلى اقتراض الأموال- فجوابه أن المتزهد المتقشف- قد يضيق على نفسه و يوسع على غيره- إما من باب التكرم و الإحسان- أو من باب الصدقة و ابتغاء الثواب- و قد يصل رحمه و إن قتر على نفسه- . و قد روى الطبري- أن عمر دفع إلى أم كلثوم بنت أمير المؤمنين ع صداقها- يوم تزوجها أربعين ألف درهم- فلعل هذا الاقتراض من الناس كان لهذا الوجه- و لغيره من الوجوه التي قل أن يخلو أحد منها
الطعن السادس
أنه عطل حد الله في المغيرة بن شعبة- لما شهد عليه بالزناء- و لقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة- اتباعا لهواه- فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم و ضربهم- فتجنب أن يفضح المغيرة و هو واحد- و فضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله- و وضعه في غير موضعه- . أجاب قاضي القضاة فقال- إنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة- و بإرادة الرابع لئلا يشهد لا تكمل البينة- و إنما تكمل بالشهادة- . و قال إن قوله- أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين- يجري في أنه سائغ صحيح مجرى ما روي عن النبي ص- من أنه أتي بسارق فقال لا تقر- .
و قال ع لصفوان بن أمية- لما أتاه بالسارق و أمر بقطعه- فقال هو له يعني ما سرق هلا قبل أن تأتيني به- فلا يمتنع من عمر ألا يحب- أن تكمل الشهادة و ينبه الشاهد على ألا يشهد- و قال إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفه- و إنه ليس حالهم و قد شهدوا- كحال من لم تتكامل الشهادة عليه- لأن الحيلة في إزالة الحد عنه- و لما تتكامل الشهادة عليه- ممكنة بتلقين و تنبيه غيره- و لا حيلة فيما قد وقع من الشهادة فلذلك حدهم- . قال و ليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة- ما في تكامل الشهادة على المغيرة- لأنه يتصور بأنه زان و يحكم بذلك- و ليس كذلك حال الشهود- لأنهم لا يتصورون بذلك- و إن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة- . و حكي عن أبي علي أن الثلاثة- كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة- لأنهم صاحوا به من نواحي المسجد- بأنا نشهد أنك زان- فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة- فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة- .
و حكي عن أبي علي في جواب اعتراضه عن نفسه- بما روي عن عمر أنه كان إذا رآه يقول- لقد خفت أن يرميني الله عز و جل بحجارة من السماء- أن هذا الخبر غير صحيح- و لو كان حقا لكان تأويله التخويف- و إظهار قوة الظن- لصدق القوم الذين شهدوا عليه ليكون ردعا له- و ذكر أنه غير ممتنع أن يحب- ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله- . ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة- و هل يقتضي الفسق أم لا- فإن قال لا نعلم أنه كان يتمم الشهادة- و لو علمنا ذلك لكان حيث ثبت في الشرع أن له
السكوت- لا يكون طعنا و لو كان ذلك طعنا- و قد ظهر أمره لأمير المؤمنين ع لما ولاه فارس- و لما ائتمنه على أموال الناس و دمائهم- . اعترض المرتضى فقال- إنما نسب إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت- و إنما بتلقينه لم تكمل الشهادة- لأن زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه- و قد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم- و لو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله و هم لا يعلمون- هل حاله في ذلك الحكم كحالهم- لكنه أحجم في الشهادة- لما رأى كراهية متولي الأمر لكمالها- و تصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها- . و من العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد- و هو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة- فإن كان درء الحد و الاحتيال في دفعه من السنن المتبعة- فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد- . و قوله إن دفع الحد عن المغيرة ممكن- و دفعه عن ثلاثة و قد شهدوا غير ممكن طريف- لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة- لاندفع الحد عن الثلاثة- و كيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره- .
و قوله- إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة- و في هذا من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة غير صحيح- لأن الحكم في الأمرين واحد- لأن الثلاثة إذا حدوا يظن بهم الكذب- و إن جوز أن يكونوا صادقين- و المغيرة لو تكاملت الشهادة عليه بالزناء لظن به ذلك مع التجويز- لأن يكون الشهود كذبه- و ليس في أحد إلا ما في الآخر- . و ما روي عنه ع- من أنه أتي بسارق فقال له لا تقر- إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه- لأنه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه- . و قصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه- .
فأما قوله ع هلا قبل أن تأتيني به- فلا يشبه كل ما نحن فيه- لأنه بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم- و ليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد- . فأما ما حكاه عن أبي علي- من أن القذف من الثلاثة كان قد تقدم- و أنهم لو لم يعيدوا الشهادة- لكان يحدهم لا محالة فغير معروف- و الظاهر المروي خلافه- و هو أنه حدهم عند نكول زياد عن الشهادة- و أن ذلك كان السبب في إيقاع الحد بهم- و تأوله عليه- لقد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء- لا يليق بظاهر الكلام- لأنه يقتضي التندم و التأسف على تفريط وقع- و لم يخاف أن يرمى بالحجارة- و هو لم يدرأ الحد عن مستحق له- و لو أراد الردع و التخويف للمغيرة- لأتي بكلام يليق بذلك- و لا يقتضي إضافة التفريط إلى نفسه- و كونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد- و يعدل به إلى غيره- .
و أما قوله- إنا ما كنا نعلم أن زيادا كان يتمم الشهادة- فقد بينا أن ذلك كان معلوما بالظاهر- و من قرأ ما روي في هذه القصة- علم بلا شك أن حال زياد كحال الثلاثة- في أنه إنما حضر للشهادة- و إنما عدل عنها لكلام عمر- . و قوله إن الشرع يبيح السكوت ليس بصحيح- لأن الشرع قد حظر كتمان الشهادة- . فأما استدلاله على أن زيادا لم يفسق- بالإمساك عن الشهادة بتوليه أمير المؤمنين ع له فارس- فليس بشي ء يعتمد- لأنه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك- و أظهر توبته لأمير المؤمنين ع فجاز أن يوليه- و قد كان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئا طيبا- و إن كان معتملا في باب الحجة كان يقول- إن زيادا إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزناء- و قد شهد بأنه شاهده بين شعبها الأربع- و سمع نفسا عاليا فقد صح على المغيرة بشهادة الأربع- جلوسه منها مجلس الفاحشة- إلى غير ذلك
من مقدمات الزناء و أسبابه- فهلا ضم عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده- بشهادة الأربعة ما صح من الفاحشة- مثل تعريك أذنه أو ما يجري مجراه من خفيف التعزير و يسيره- و هل في العدول عن ذلك- حتى عن لومه و توبيخه و الاستخفاف- به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به قلت- أما المغيرة فلا شك عندي أنه زنى بالمرأة- و لكني لست أخطئ عمر في درء الحد عنه- و إنما أذكر أولا قصته- من كتابي أبي جعفر محمد بن جرير الطبري- و أبي الفرج علي بن الحسن الأصفهاني- ليعلم أن الرجل زنى بها لا محالة- ثم أعتذر لعمر في درء الحد عنه- .
قال الطبري في تاريخه- و في هذه السنة يعني سنة سبع عشرة- ولى عمر أبا موسى البصرة- و أمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة- و ذلك لأمر بلغه عنه- قال الطبري حدثني محمد بن يعقوب بن عتبة- قال حدثني أبي قال- كان المغيرة يخالف إلى أم جميل امرأة من بني هلال بن عامر- و كان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك- يقال له الحجاج بن عبيد- و كان المغيرة و كان أمير البصرة يختلف إليها سرا- فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه- فخرج المغيرة يوما من الأيام إلى المرأة- فدخل عليها و قد وضعوا عليهما الرصد- فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر- فرأوه قد واقعها- فكتبوا بذلك إلى عمر و أوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة- فانتهى أبو بكرة إلى المدينة- و جاء إلى باب عمر فسمع صوته و بينه و بينه حجاب- فقال أبو بكرة فقال نعم- قال لقد جئت لشر- قال إنما جاء به المغيرة- ثم قص عليه القصة- و عرض عليه الكتاب- فبعث أبا موسى عاملا- و أمره أن يبعث إليه المغيرة- فلما دخل أبو موسى البصرة و قعد في الإمارة- أهدى إليه المغيرة عقيلة- و قال إنني قد رضيتها لك- فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر- . و قال الطبري و روى الواقدي قال- حدثني عبد الرحمن بن محمد- بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري- عن أبيه عن مالك بن أوس بن الحدثان- قال قدم المغيرة على عمر- فتزوج في طريقه امرأة من بني مرة- فقال له عمر إنك لفارغ القلب- شديد الشبق طويل الغرمول- ثم سأل عن المرأة فقيل له يقال لها الرقطاء- كان زوجها من ثقيف و هي من بني هلال- .
قال الطبري و كتب إلي السري- عن شعيب عن سيف- أن المغيرة كان يبغض أبا بكرة- و كان أبو بكرة يبغضه- و يناغي كل واحد منهما صاحبه- و ينافره عند كل ما يكون منه- و كانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق- و هما في مشربتين متقابلتين- فهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى- فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته- فهبت ريح ففتحت باب الكوة- فقام أبو بكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة- و قد فتحت الريح باب الكوة التي في مشربته- و هو بين رجلي امرأة فقال للنفر- قوموا فانظروا فقاموا فنظروا- ثم قال اشهدوا قالوا و من هذه- قال أم جميل إحدى نساء بني عامر بن صعصعة- فقالوا إنما رأينا أعجازا و لا ندري الوجوه- فلما قامت صمموا و خرج المغيرة إلى الصلاة- فحال أبو بكرة بينه و بين الصلاة- و قال لا تصل بنا و كتبوا إلى عمر بذلك- و كتب المغيرة إليه أيضا- فأرسل عمر إلى أبي موسى- فقال يا أبا موسى إني مستعملك- و إني باعثك إلى الأرض- التي قد باض بها الشيطان و فرخ فالزم ما تعرف- و لا تستبدل فيستبدل الله بك- فقال يا أمير المؤمنين- أعني بعدة من
أصحاب رسول الله ص- من المهاجرين و الأنصار- فإني وجدتهم في هذه الأمة و هذه الأعمال- كالملح لا يصلح الطعام إلا به- قال عمر فاستعن بمن أحببت- فاستعان بتسعة و عشرين رجلا- منهم أنس بن مالك- و عمران بن حصين و هشام بن عامر- و خرج أبو موسى بهم- حتى أناخ بالبصرة في المربد- و بلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد- فقال و الله ما جاء أبو موسى زائرا و لا تاجرا- و لكنه جاء أميرا- فإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم- فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر- إنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم- عزل فيها و عاتب و استحث و أمر- أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم- فبعثت أبا موسى فسلم ما في يديك إليه و العجل- .
كتب إلى أهل البصرة أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم- ليأخذ لضعيفكم من قويكم- و ليقاتل بكم عدوكم و ليدفع عن ذمتكم- و ليجبي لكم فيئكم و ليقسم فيكم- و ليحمي لكم طرقكم- . فأهدى إليه المغيرة وليدة من مولدات الطائف- تدعى عقيلة- و قال إني قد رضيتها لك و كانت فارهة- و ارتحل المغيرة و أبو بكرة- و نافع بن كلدة و زياد و شبل بن معبد البجلي- حتى قدموا على عمر- فجمع بينهم و بين المغيرة- فقال المغيرة يا أمير المؤمنين سل هؤلاء الأعبد- كيف رأوني مستقبلهم أم مستدبرهم- و كيف رأوا المرأة و عرفوها- فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر- و إن كانوا مستدبري- فبأي شي ء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي- و الله ما أتيت إلا امرأتي- فبدأ بأبي بكرة- فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل- و هو يدخله و يخرجه- قال عمر كيف رأيتهما- قال مستدبرهما- قال كيف استثبت رأسها- قال تجافيت فدعا بشبل بن معبد- فشهد مثل ذلك- و قال استقبلتهما و استدبرتهما- و شهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة- و لم يشهد زياد بمثل شهادتهم- قال رأيته جالسا بين رجلي امرأة- و رأيت قدمين مرفوعتين تخفقان- و استين مكشوفتين- و سمعت حفزا شديدا- قال عمر فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة- قال لا قال فهل تعرف المرأة قال لا و لكن أشبهها- فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد و قرأ- فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ- فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ- فقال المغيرة الحمد لله الذي أخزاكم- فصاح به عمر اسكت أسكت الله نأمتك- أما و الله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك- فهذا ما ذكره الطبري- .
و أما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني- فإنه ذكر في كتاب الأغاني- أن أحمد بن عبد العزيز الجوهري- حدثه عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن قتادة- قال كان المغيرة بن شعبة و هو أمير البصرة- يختلف سرا إلى امرأة من ثقيف- يقال لها الرقطاء فلقيه أبو بكرة يوما- فقال له أين تريد- قال أزور آل فلان فأخذ بتلابيبه- و قال إن الأمير يزار و لا يزور- . قال أبو الفرج و حدثني بحديثه جماعة- ذكر أسماءهم بأسانيد مختلفة- لا نرى الإطالة بذكرها- أن المغيرة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار- فكان أبو بكرة يلقاه- فيقول له أين يذهب الأمير- فيقول له إلى حاجة فيقول حاجة ما ذا- إن الأمير يزار و لا يزور- . قالوا و كانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة- فقال فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخويه- نافع و زياد و رجل آخر يقال له شبل بن معبد- و كانت غرفة جارته تلك محاذية غرفة أبي بكرة- فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته- فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها- فقال أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها- فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة- فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة- فقال له أبو بكرة- إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا- فذهب المغيرة و جاء ليصلي بالناس الظهر- فمنعه أبو بكرة و قال لا و الله لا تصلي بنا- و قد فعلت ما فعلت- فقال الناس دعوه فليصل إنه الأمير- و اكتبوا إلى عمر فكتبوا إليه- فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا المغيرة و الشهود- . قال أبو الفرج و قال المدائني في حديثه- فبعث عمر بأبي موسى- و عزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة- .
قال أبو الفرج و قال علي بن هاشم في حديثه- إن أبا موسى قال لعمر- لما أمره أن يرحل المغيرة من وقته- أ و خير من ذلك يا أمير المؤمنين- نتركه فيتجهز ثلاثا ثم يخرج- . قالوا فخرج أبو موسى- حتى صلى صلاة الغداة بظهر المربد- و أقبل إنسان فدخل على المغيرة- فقال إني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة- و عليه برنس و ها هو في جانب المسجد- فقال المغيرة إنه لم يأت زائرا و لا تاجرا قالوا و جاء أبو موسى- حتى دخل على المغيرة و معه صحيفة مل ء يده- فلما رآه قال أمير فأعطاه أبو موسى الكتاب- فلما ذهب يتحرك عن سريره- قال له مكانك تجهز ثلاثا- . قال أبو الفرج و قال آخرون- إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته- فقال المغيرة قد علمت ما وجهت له- فألا تقدمت و صليت- فقال ما أنا و أنت في هذا الأمر إلا سواء- فقال المغيرة إني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز- فقال أبو موسى قد عزم علي أمير المؤمنين- ألا أضع عهدي من يدي- إذا قرأته حتى أرحلك إليه- قال إن شئت شفعتني و أبررت قسم أمير المؤمنين- بأن تؤجلني إلى الظهر- و تمسك الكتاب في يدك- . قالوا فلقد رئي أبو موسى مقبلا و مدبرا- و أن الكتاب في يده معلق بخيط فتجهز المغيرة- و بعث إلى أبي موسى بعقيلة- جارية عربية من سبي اليمامة من بني حنيفة- و يقال إنها مولدة الطائف و معها خادم- و سار المغيرة حين صلى الظهر حتى قدم على عمر- . قال أبو الفرج- فقال محمد بن عبد الله بن حزم في حديثه- إن عمر قال له لما قدم عليه- لقد شهد عليك بأمر- إن كان حقا لأن تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك- .
قال أبو الفرج- قال أبو زيد عمر بن شبة- فجلس له عمر و دعا به و بالشهود- فتقدم أبو بكرة فقال أ رأيته بين فخذيها- قال نعم و الله- لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها- قال المغيرة لقد ألطفت النظر- قال أبو بكرة لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به- فقال عمر لا و الله حتى تشهد- لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة- قال نعم أشهد على ذلك- فقال عمر اذهب عنك مغيرة ذهب ربعك- . قال أبو الفرج- و يقال إن عليا ع هو قائل هذا القول- ثم دعا نافعا فقال علام تشهد- قال على مثل شهادة أبي بكرة- فقال عمر لا حتى تشهد أنك رأيته- يلج فيها ولوج المرود في المكحلة- قال نعم حتى بلغ قذذه- فقال اذهب عنك مغيرة ذهب نصفك- ثم دعا الثالث و هو شبل بن معبد- فقال علام تشهد قال على مثل شهادة صاحبي- فقال اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك- قال فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين- و بكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه- قال و لم يكن زياد حضر ذلك المجلس- فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة- و ألا يجالسهم أحد من أهل المدينة- و انتظر قدوم زياد- فلما قدم جلس في المسجد- و اجتمع رءوس المهاجرين و الأنصار- قال المغيرة و كنت قد أعددت كلمة أقولها- فلما رأى عمر زيادا مقبلا- قال إني لأرى رجلا- لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين- .
قال أبو الفرج- و في حديث أبي زيد بن عمر بن شبة- عن السري عن عبد الكريم بن رشيد- عن أبي عثمان النهدي- أنه لما شهد الشاهد الأول عند عمر- تغير الثالث لذلك لون عمر- ثم جاء الثاني فشهد- فانكسر لذلك انكسارا شديدا- ثم جاء فشهد فكان الرماد نثر على وجه عمر- فلما جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه- فرفع عمر رأسه إليه- و قال ما عندك أنت يا سلح العقاب- و صاح أبو عثمان النهدي صيحة تحكي صيحة عمر- قال عبد الكريم بن رشيد- لقد كدت أن يغشى علي لصيحته- .
قال أبو الفرج- فكان المغيرة يحدث- قال فقمت إلى زياد- فقلت لا مخبأ لعطر بعد عروس يا زياد- أذكرك الله و أذكرك موقف القيامة و كتابه و رسوله- أن تتجاوز إلى ما لم تر ثم صحت- يا أمير المؤمنين- أن هؤلاء قد احتقروا دمي فالله الله في دمي- قال فترنقت عينا زياد و احمر وجهه- و قال يا أمير المؤمنين- أما إن أحق ما حق القوم- فليس عندي و لكني رأيت مجلسا قبيحا- و سمعت نفسا حثيثا و انتهارا و رأيته متبطنها- فقال عمر أ رأيته يدخل و يخرج كالميل في المكحلة- قال لا- . قال أبو الفرج- و روى كثير من الرواة أنه قال رأيته رافعا برجليها- و رأيت خصيتيه مترددتين بين فخذيها- و سمعت حفزا شديدا و سمعت نفسا عاليا- فقال عمر أ رأيته يدخله و يخرجه كالميل في المكحلة- قال لا فقال عمر الله أكبر- قم يا مغيرة إليهم فاضربهم- فجاء المغيرة إلى أبي بكرة- فضربه ثمانين و ضرب الباقين- . و روى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة- و أعجب عمر قول زياد و درأ الحد عن المغيرة- فقال أبو بكرة بعد أن ضرب- أشهد أن المغيرة فعل كذا و كذا- فهم عمر بضربه- فقال له علي ع- إن ضربته رجمت صاحبك و نهاه عن ذلك- .
قال أبو الفرج- يعني إن ضربه تصير شهادته شهادتين- فيوجب بذلك الرجم على المغيرة- . قال فاستتاب عمر أبا بكرة- فقال إنما تستتيبني لتقبل شهادتي قال أجل- قال فإني لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا- قال فلما ضربوا الحد قال المغيرة- الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم- فقال عمر اسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه- . قال و أقام أبو بكرة على قوله و كان يقول- و الله ما أنسي قط فخذيها و تاب الاثنان- فقبل شهادتهما- و كان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة- قال اطلبوا غيري فإن زيادا أفسد علي شهادتي- . و قال أبو الفرج- و روى إبراهيم بن سعيد- عن أبيه عن جده- قال لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة- فذبحت و جعل جلدها على ظهره- قال إبراهيم فكان أبي يقول- ما ذاك إلا من ضرب شديد- . قال أبو الفرج- فحدثنا الجوهري عن عمر بن شبة- عن علي بن محمد عن يحيى بن زكريا- عن مجالد عن الشعبي- قال كانت الرقطاء التي رمي بها المغيرة- تختلف إليه في أيام إمارته الكوفة- في خلافة معاوية في حوائجها فيقضيها لها- . قال أبو الفرج و حج عمر بعد ذلك مرة- فوافق الرقطاء بالموسم فرآها- و كان المغيرة يومئذ هناك- فقال عمر للمغيرة ويحك أ تتجاهل علي- و الله ما أظن أبا بكرة كذب عليك- و ما رأيتك إلا خفت أن أرمي بحجارة من السماء- . قال و كان علي ع بعد ذلك يقول- إن ظفرت بالمغيرة لأتبعته الحجارة- . قال أبو الفرج فقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة- و يذكر هذه القصة-
- لو أن اللؤم ينسب كان عبداقبيح الوجه أعور من ثقيف
- تركت الدين و الإسلام لمابدت لك غدوة ذات النصيف
- و راجعت الصبا و ذكرت لهوامع القينات في العمر اللطيف
- . قال أبو الفرج و روى المدائني- أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة- رأى في طريقه جارية فأعجبته- فخطبها إلى أبيها- فقال له و أنت على هذه الحال- قال و ما عليك إن أبق فهو الذي تريد- و إن أقتل ترثني فزوجه- . و قال أبو الفرج قال الواقدي- كانت امرأة من بني مرة تزوجها بالرقم- فلما قدم بها على عمر- قال إنك لفارغ القلب طويل الشبق- . فهذه الأخبار كما تراها تدل متأملها- على أن الرجل زنى بالمرأة لا محالة- و كل كتب التواريخ و السير تشهد بذلك- و إنما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين- . و قد روى المدائني- أن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهلية- فلما دخل في الإسلام قيده الإسلام- و بقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولايته البصرة- . و روى أبو الفرج في كتاب الأغاني- عن الجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر- قال كان المغيرة بن شعبة و الأشعث بن قيس- و جرير بن عبد الله البجلي- يوما متوافقين بالكناسة في نفر- و طلع عليهم أعرابي- فقال لهم المغيرة دعوني أحركه قالوا لا تفعل- فإن للأعراب جوابا يؤثر قال لا بد- قالوا فأنت أعلم- فقال له يا أعرابي أ تعرف المغيرة بن شعبة- قال نعم أعرفه أعور زانيا- فوجم ثم تجلد- فقال أ تعرف الأشعث بن قيس- قال نعم ذاك رجل لا يعرى قومه- قال و كيف ذاك قال لأنهم حاكة- . قال فهل تعرف جرير بن عبد الله- قال كيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته- فقالوا قبحك الله فإنك شر جليس- هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالا- و تموت أكرم العرب موتة- قال فمن يبلغه إذن أهلي- فانصرفوا عنه فتركوه قال أبو الفرج- و روى علي بن سليمان الأخفس- قال خرج المغيرة بن شعبة و هو يومئذ على الكوفة- و معه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير- في ظهر الكوفة و النجف- فلقي ابن لسان الحمرة أحد بني تيم الله بن ثعلبة- و هو لا يعرف المغيرة و لا يعرفه المغيرة- فقال له من أين أقبلت يا أعرابي- قال من السماوة- قال كيف تركت الأرض خلفك- قال عريضة أريضة- قال فكيف كان المطر- قال عفى الأثر و ملأ الحفر- قال فمن أنت قال من بكر بن وائل- قال كيف علمك بهم- قال إن جهلتهم لم أعرف غيرهم- قال فما تقول في بني شيبان- قال سادتنا و سادة غيرنا- قال فما تقول في بني ذهل- قال سادة نوكى قال فقيس بن ثعلبة- قال إن جاورتهم سرقوك- و إن ائتمنتهم خانوك- قال فبنو تيم الله بن ثعلبة- قال رعاء النقد و عراقيب الكلاب- قال فبني يشكر- قال صريح تحسبه مولى- . قال هشام بن الكلبي لأن في ألوانهم حمرة- قال فعجل قال أحلاس الخيل قال فعبد القيس- قال يطعمون الطعام و يضربون الهام- قال فعنزة قال لا تلتقي بهم الشفتان لؤما- قال فضبيعة أضجم قال جدعا و عقرا- قال فأخبرني عن النساء- قال النساء أربع ربيع مربع- و جميع مجمع و شيطان سمعمع و غل لا يخلع- قال فسر قال أما الربيع المربع- فالتي إذا نظرت إليها سرتك- و إذا أقسمت عليها برتك- و أما التي هي جميع مجمع- فالمرأة تتزوجها و لها نسب فيجتمع نسبها إلى نسبك- و أما الشيطان السمعمع- فالكالحة في وجهك إذا دخلت- المولولة في أثرك إذا خرجت- و أما الغل الذي لا يخلع- فبنت عمك السوداء القصيرة- الفوهاء الدميمة التي قد نثرت لك بطنها- إن طلقتها ضاع ولدك- و إن أمسكتها فعلى جدع أنفك- قال المغيرة بل أنفك- قال فما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة- قال أعور زان- فقال الهيثم بن الأسود فض الله فاك- ويلك إنه الأمير المغيرة- قال إنها كلمة تقال فانطلق به المغيرة إلى منزله- و عنده يومئذ أربع نسوة و ستون أو سبعون أمه- و قال ويحك هل يزني الحر و عنده مثل هؤلاء- ثم قال لهن ارمين إليه بحليكن- ففعلن فخرج بمل ء كسائه ذهبا و فضة- . و إنما أوردنا هذين الخبرين- ليعلم السامع أن الخبر بزناه- كان شائعا مشهورا مستفيضا بين الناس- و لأنهما يتضمنان أدبا- و كتابنا هذا موضوع خطبه 228 نهج البلاغه للأدب- . و إنما قلنا إن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه- لأن الإمام يستحب له ذلك- و إن غلب على ظنه أنه قد وجب الحد عليه-
روى المدائني أن أمير المؤمنين عليا ع أتي برجل قد وجب عليه الحد- فقال أ هاهنا شهود قالوا نعم- قال فأتوني بهم إذا أمسيتم- و لا تأتوني إلا معتمين- فلما أعتموا جاءوه- فقال لهم نشدت الله رجلا- ما لي عنده مثل هذا الحد إلا انصرف- قال فما بقي منهم أحد فدرأ عنه الحد: ذكر هذا الخبر أبو حيان في كتاب البصائر في الجزء السادس منه:
و الخبر المشهور الذي كاد يكون متواترا-
أن رسول الله ص قال ادرءوا الحدود بالشبهات
- و من تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود- علم أنها بنيت على الإسقاط عند أدنى سبب و أضعفه- أ لا ترى أنه لو أقر بالزناء- ثم رجع عن إقراره قبل إقامة الحد- أو في وسطه قبل رجوعه و خلي سبيله- .
و قال أبو حنيفة و أصحابه- يستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع- و يقول له تأمل ما تقول- لعلك مسستها أو قبلتها- و يجب على الإمام أن يسأل الشهود ما الزناء- و كيف هو و أين زنى و بمن زنى و متى زنى- و هل رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة- فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم- فلا يقيم الحد حتى يعدلهم القاضي في السر و العلانية- و لا يقام الحد بإقرار الإنسان على نفسه- حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس- كلما أقر رده القاضي- و إذا تم إقراره سأله القاضي عن الزناء- ما هو و كيف هو و أين زنى- و بمن زنى و متى زنى- . قال الفقهاء- و يجب أن يبتدئ الشهود برجمه إذا تكاملت الشهادة- فإن امتنعوا من الابتداء برجمه سقط الحد- . قالوا- و لا حد على من وطئ جارية ولده أو ولد ولده- و إن قال علمت أنها على حرام- و إن وطئ جارية أبيه أو أمه أو أخته- و قال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه- و من أقر أربع مرات في مجالس مختلفة بالزناء بفلانة- فقالت هي بل تزوجني فلا حد عليه- و كذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان- فقال الرجل بل تزوجتها فلا حد عليها- قالوا و إذا شهد الشهود بحد متقادم من الزناء- لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام- لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزناء- و إن شهدوا أنه زنى بامرأة و لا يعرفونها لم يحد- لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزناء- و إن شهدوا أنه زنى بامرأة و لا يعرفونها لم يحد- و إن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة- و آخران أنه زنى بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا- و إن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة بالنخيلة- عند طلوع الشمس من يوم كذا و كذا- و أربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم- بدير هند درئ الحد عنه و عنها و عنهم جميعا- و إن شهد أربعة على شهادة أربعة بالزناء- لم يحد المشهود عليه- .
و هذه المسائل كلها مذهب أبي حنيفة- و يوافقه الشافعي في كثير منها- و من تأملها علم أن مبني الحدود على الإسقاط بالشبهات- و إن ضعفت- . فإن قلت كل هذا لا يلزم المرتضى- لأن مذهبه في فروع الفقه مخالف لمذهب الفقهاء- قلت ذكر محمد بن النعمان و هو شيخ المرتضى- الذي قرأ عليه فقه الإمامية في كتاب المقنعة- أن الشهود الأربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزناء- و لم يأتوا بها مجتمعين في وقت في مكان واحد- سقط الحد عن المشهود عليه- و وجب عليهم حد القذف- . قال و إذا أقر الإنسان على نفسه بالزناء- أربع مرات على اختيار منه للإقرار وجب عليه الحد- و إن أقر مرة أو مرتين أو ثلاثا- لم يجب عليه الحد بهذا الإقرار- و للإمام أن يؤدبه بإقراره على نفسه حسب ما يراه- فإن كان أقر على امرأة بعينها جلد حد القذف- . قال و إن جعل في الحفرة ليرجم- و هو مقر على نفسه بالزناء ففر منها ترك و لم يرد- لأن فراره رجوع عن الإقرار و هو أعلم بنفسه- . قال- و لا يجب الرجم على المحصن الذي يعده الفقهاء محصنا- و هو من وطئ امرأة في نكاح صحيح- و إنما الإحصان عندنا من له زوجة- أو ملك يمين يستغني بها عن غيرها و يتمكن من وطئها- فإن كانت مريضة لا يصل إليها بنكاح- أو صغيرة لا يوطأ مثلها- أو غائبة عنه أو محبوسة لم يكن محصنا بها- و لا يجب عليه الرجم- . قال و نكاح المتعة لا يحصن عندنا- و إذا كان هذا مذهب الإمامية- فقد اتفق قولهم و أقوال الفقهاء- في سقوط الرجم بأدنى سبب- و الذي رواه أبو الفرج الأصفهاني- أن زيادا لم يحضر في المجلس الأول- و أنه حضر في مجلس ثان- فلعل إسقاط الحد كان لهذا- .
ثم نعود إلى تصفح ما اعترض به المرتضى كلام قاضي القضاة- .
أما قوله كان الحد في حكم الثابت- فإن الله تعالى لم يوجب الحد إلا إذا كان ثابتا- و لم يوجبه إذا كان في حكم الثابت- و يسأل عن معنى قوله في حكم الثابت- هل المراد بذلك أنه قريب من الثبوت و إن لم يثبت حقيقة- أم المراد أنه قد ثبت و تحقق- فإن أراد الثاني قيل له لا نسلم أنه ثبت- لأن الشهادة لم تتم- و قد اعترف المرتضى بذلك- و أقر بأن الشهادة لم تكمل- و لكنه نسب ذلك إلى تلقين عمر- و إن أراد الأول قيل له- ليس يكفي في وحوب الحد أن يكون قريبا إلى الثبوت- لأنه لو كفى ذلك لحد الإنسان بشهادة ثلاثة من الشهود- . و أما قوله إن عمر لقنه و كره أن يشهد- فلا ريب أن الأمر وقع كذلك- و قد قلنا إن هذا جائز بل مندوب إليه- و روينا عن أمير المؤمنين ما رويناه- و ذكرنا قول الفقهاء في ذلك- و إنهم استحبوا أن يقول القاضي للمقر بالزناء- تأمل ما تقوله لعلك مسستها أو قبلتها- . فأما قول المرتضى إنه درأ الحد عن واحد- و كان درؤه عن ثلاثة أولى- فقد أجاب قاضي القضاة عنه بأنه ما كان يمكن دفعه عنهم فأما قول المرتضى بل قد كان يمكن دفعه عنهم- بألا يلقن الرابع الامتناع من الشهادة- فقد أجاب قاضي القضاة عنه- بأن الزناء و وسم الإنسان به أعظم و أشنع و أفحش- من أن يوسم بالكذب و الافتراء- و عقوبة الزاني أعظم من عقوبة الكاذب القاذف- عند الله تعالى في دار التكليف- يبين ذلك أن الله تعالى أوجب جلد ثلاثة من المسلمين- لتخليص واحد شهد الثلاثة عليه بالزناء- فلو لم يكن هذا المعنى ملحوظا في نظر الشارع لما أوجبه- فكيف يقول المرتضى- ليس لأحد الأمرين إلا ما في الآخر- .
و أما خبر السارق الذي رواه قاضي القضاة- و قول المرتضى في الاعتراض عليه- ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه- و قصة المغيرة تخالف هذا فليس بجيد- لأن في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم- الذي سرق السارق في زمانه- و فيه أيضا إغراء أهل الفساد بالسرقة- لأنهم إذا لم يقم الحد عليهم- لمكان الجحود أقدموا على سرقة الأموال- فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء أكثر- من عنايته بغيره من الأموال و الأبشار- لما قال للمكلف لا تقر بالسرقة و لا بالزناء- و لما رجح واحدا على ثلاثة- و هان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط- و هم ثلاثة حفظا لدم واحد- . و أما حديث صفوان و قول المرتضى فلا يشبه كل ما نحن فيه- لأن الرسول ص بين- أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم- و ليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد- . فجوابه أن قاضي القضاة لم يقصد- بإيراد هذا الخبر إلا تشييد قول عمر- أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين- لأن عمر كره فضيحة المغيرة- كما كره رسول الله ص فضيحة السارق- الذي قال صفوان هو له- و قال ع هلا قبل أن تأتيني به- أي هلا قلت ذلك قبل أن تحضره- فلم يفتضح بين الناس- فإن قولك هو له و إن درأ الحد- إلا أنه لا يدرأ الفضيحة- . فأما ما حكاه قاضي القضاة عن أبي علي- من أن القذف قد كان تقدم منهم و هم بالبصرة- فقد ذكرنا في الخبر ما يدل على ذلك- فبطل قول المرتضى أن ذلك غير معروف- و أن الظاهر المروي خلافه- . و أما قول عمر للمغيرة- ما رأيتك إلا خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء- فالظاهر أن مراده ما ذكره قاضي القضاة من التخويف- و إظهار قوة الظن بصدق الشهود ليكون ردعا له- و لذلك ورد في الخبر- ما أظن أبا بكرة كذب عليك- تقديره أظنه لم يكذب- و لو كان كما قال المرتضى ندما و تأسفا على تفريط وقع- لأقام الحد عليه و لو بعد حين- و من الذي كان يمنعه من ذلك لو أراده- .
و قوله لم يخاف أن يرمى بالحجارة- و هو لم يدرأ الحد عن مستحق له- جوابه- أن هذا القول يجري مجرى التهويل و التخويف للمغيرة- كيلا يقدم على أن يعرض نفسه لشبهه فيما بعد- . فأما قول قاضي القضاة أنه غير ممتنع أن يحب- ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله- و قول المرتضى معترضا عليه- إن كونه واليا من قبله- لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد فغير لازم- لأن قاضي القضاة ما جعل كونه واليا من قبله- مقتضيا أن يدرأ عنه الحد- و إنما قاله في جواب من أنكر على عمر محبته- لدرء الحد عنه- فقال إنه غير قبيح- و لا يحرم محبة درء الحد عنه لأنه وال من قبله- فجعل الولاية للبصرة مسوغة لمحبة عمر لدفع الحد عنه- لا مسوغة لدفع الحد عنه- و بين الأمرين فرق واضح- . و أما قول المرتضى- إن الشرع حظر كتمان الشهادة فصحيح فيما عدا الحدود- فأما في الحدود فلا و قد ورد
في الخبر الصحيح من رأى على أخيه شيئا من هذه القاذورات و ستر- ستره الله يوم يفتضح المجرمون
- . فأما قول المرتضى هب أن الحد سقط- أ ما اقتضت الحال تأديب المغيرة- بنوع من أنواع التعزير و إن خف- فكلام لازم لا جواب عنه- و لو فعله عمر لبرئ من التهمة براءة الذئب من دم يوسف- و ما أدري كيف فاته ذلك- مع تشدده في الدين و صلابته في السياسة- و لعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لا نعلمه
الطعن السابع
أنه كان يتلون في الأحكام- حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية- و روي مائة قضية- و أنه كان يفضل في القسمة و العطاء- و قد سوى الله تعالى بين الجميع- و أنه قال في الأحكام من جهة الرأي و الحدس و الظن- . أجاب قاضي القضاة عن ذلك- فقال مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف- و الرجوع عن رأي إلى رأي- بحسب الأمارات و غالب الظن- و قد ذكر أن ذلك طريقة أمير المؤمنين ع في أمهات الأولاد- و مقاسمة الجد مع الإخوة و مسألة الحرام- . قال و إنما الكلام في أصل القياس و الاجتهاد- فإذا ثبت ذلك خرج من أن يكون طعنا- و قد ثبت أن أمير المؤمنين ع كان يولي من يرى خلاف رأيه- كابن عباس و شريح- و لا يمنع زيدا و ابن مسعود من الفتيا- مع الاختلاف بينه و بينهما- . فأما ما روي من السبعين قضية- فالمراد به في مسائل من الجد- لأن مسألة واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة- و ليس في ذلك عيب بل يدل على سعة علمه- . و قال- قد صح في زمان الرسول ص مثل ذلك- لأنه لما شاور في أمر الأسرى أبا بكر أشار ألا يقتلهم- و أشار عمر بقتلهم فمدحهما جميعا- فما الذي يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين- و من الواحد في حالين- . و بعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن ع في طلب الإمامة- كان بخلاف اجتهاد الحسين ع- لأنه سلم الأمر و تمكنه أكثر من تمكن الحسين ع- و لم يمنع ذلك من كونهما ع مصيبين- .
اعترض المرتضى هذا الجواب فقال- لا شك أن التلون في الأحكام و الرجوع من قضاء إلى قضاء- إنما يكون عيبا و طعنا- إذا أبطل الاجتهاد الذي يذهبون إليه- فأما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا- فأما الدعوى على أمير المؤمنين ع أنه تنقل في الأحكام- و رجع من مذهب إلى آخر- فإنها غير صحيحة و لا نسلمه و نحن ننازعه فيها- و هو لا ينازعنا في تلون صاحبه و تنقله- فلم يشتبه الأمران- .
و أظهر ما روي في ذلك خبر أمهات الأولاد- و قد بينا فيما سلف من الكتاب ما فيه- و قلنا إن مذهبه في بيعهن كان واحدا غير مختلف- و إن كان قد وافق عمر في بعض الأحوال لضرب من الرأي- فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه- فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذي يذهبون إليه- بل لما بيناه من قبل- أنه ع كان غير متمكن من اختياره- و أنه يجري أكثر الأمور- مجراها المتقدم للسياسة و التدبير- و هذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه في الفتيا- . فأما قوله- إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة- و إنما كانت في مسائل من الجد- فكلا الأمرين واحد فيما قصدناه- لأن حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة و المسائل- فأما أمر الأسارى فإن صح- فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم و اليقين- لأنه لا سبيل لأبي بكر و عمر إلى المشورة- في أمر الأسارى إلا من طريق الظن و الحسبان- و أحكام الدين معلومة و إلى العلم بها سبيل- . و ما ادعاه من اجتهاد الحسن- بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه- لأن ذلك لم يكن عن اجتهاد و ظن- بل كان عن علم و يقين- فمن أين له أنهما عملا على الظن- فما نراه اعتمد على حجة- و من أين له أن تمكن الحسن- كان أكثر من تمكن الحسين-
على أن هذا لو كان على ما قاله- لم يحسن من هذا التسليم و من ذاك القتال- لأن المقاتل قد يكون مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة- و المسالم مضيعا للأمر مفرطا- و إذا كان عند صاحب الكتاب التسليم و القتال- إنما كانا عن ظن و أمارات- فليس يجوز أن يغلب على الظن- بأن الرأي في القتال مع ارتفاع أمارات التمكن- و لا أن يغلب في الظن المسالمة- مع قوة أمارات التمكن- .
قلت أما القول في صحة الاجتهاد و بطلانه- فله مواضع غير هذا الموضع- و كذلك القول في تقية الإمام و استصلاحه و فعله- ما لا يسوغ لضرب من السياسة و التدبير- . و أما مسائل الجد- فلم يعترض المرتضى قول قاضي القضاة فيها- و أما قاضي القضاة فقد استبعد- بل أحال أن تكون مسألة واحدة بعينها- تحتمل سبعين حكما مختلفة- فحمل الحديث على أن عمر أفتى- في باب ميراث الأجداد و الجدات- بسبعين فتيا في سبعين مسألة مختلفة الصور- و ذلك دليل على علمه و فقهه- و تمكنه من البحث في تفاريع المسائل الشرعية هذا هو جواب قاضي القضاة- فكيف يعترض بقوله- كلا الأمرين واحد فيما قصدناه- لأن حكم الله لا يختلف- في المسألة الواحدة و المسائل المتعددة- أ ليس هذا اعتراض من ظن- أن قاضي القضاة قد اعترض بتناقض أحكامه- و لكن لا في مسألة بعينها- بل في مسائل من باب ميراث الجد- و لم يقصد قاضي القضاة ما ظنه- و الوجه أن يعترض قاضي القضاة فيقال- إن الرواة كلهم اتفقوا على أن عمر تلون تلونا شديدا- في الجد مع الإخوة كيف يقاسمهم و هي مسألة واحدة- فقضى فيها بسبعين قضية- فأخرجوا الرواية مخرج التعجب من تناقض فتاويه- و لم يخرج أحد من المحدثين الرواية- مخرج المدح له بسعة تفريعه في الفقه و المسائل- فلا يجوز صرف الرواية عن الوضع الذي وردت عليه- .
و قول قاضي القضاة- كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجها- جوابه أنه لم يقع الأمر بموجب ما توهمه- بل المراد أن قوما تحاكموا إليه في هذه المسألة مثلا اليوم- فأفتى فيها بفتيا نحو أن يقول في جد و بنت و أخت- للبنت النصف و الباقي بين الجد و الأخت- للذكر مثل حظ الأنثيين- و هو قول زيد بن ثابت- ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة بعينها- قد وضعت لقوم آخرين- فيقول للبنت النصف و للجد السدس و الباقي للأخت- و هو المذهب المحكي عن علي ع- و ذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه الفتيا- على ما كان أفتى به من قبل- ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهر آخر- فيفتي فيها بفتيا أخرى- فيقول للبنت النصف- و الباقي بين الجد و الأخت نصفين- و هو مذهب ابن مسعود- ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر- فيقضي فيها بالفتيا الأولى- و هي مذهب زيد- بأن يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد- ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر- فيفتي فيها بقول علي ع- و هكذا لا تزال المسألة بعينها تقع- و أقواله فيها تختلف و هي ثلاثة لا مزيد عليها- إلا أنه لا يزال يفتي فيها فتاوى مختلفة- إلى أن توفي فأحصيت فكانت سبعين فتيا- .
فأما احتجاج قاضي القضاة بقصة أسرى بدر فجيد- و أما ما اعترض به المرتضى فليس بجيد- لأن المسألة من باب الشرع- و هو قتل الأسرى أو تخليتهم بالفداء- و القتل و إراقة الدم من أهم المسائل الشرعية- و قد علم من الشارع شدة العناية بأمر الدنيا- فإن كانت أحكام الشرع لا يجوز أن تتلقى- و أن يفتي فيها إلا بطريق معلومة- و أن الظن و الاجتهاد لا مدخل له في الشرع- كما يذهب إليه المرتضى- فكيف جاز من رسول الله ص أن يشاور في أحكام شرعية- من لا طريق له إلى العلم- و إنما قصارى أمره الظن و الاجتهاد و الحسبان- و كيف مدحهما جميعا و قد اختلفا- و لا بد أن يكون أحدهما مخطئا- .
و أما قول المرتضى- من أين لقاضي القضاة أن ما اعتمده الحسن و الحسين- من الكف و الإقدام كان عن الاجتهاد فجيد- و جواب صحيح على أصول الإمامية- لأنه ليس بمستحيل أن يعتمدا ذلك- بوصية سابقة من أبيهما ع- . و أما قوله لقاضي القضاة كلامك مضطرب- لأنك أسندت ما اعتمداه إلى الاجتهاد- ثم قلت و قد كان تمكن الحسن أكثر من تمكن الحسين ع- و هذا يؤدي إلى أن أحدهما غرر بنفسه- و الآخر فرط في تسليم حقه- فليس بجيد- و الذي أراده قاضي القضاة الدلالة على جواز الاجتهاد- و أنه طريقة المسلمين كلهم و أهل البيت ع- و أومأ إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية- و ما اعتمده الحسين من منازعة يزيد الخلافة- فعملا فيها بموجب اجتهادهما- و ما غلب على ظنونهما من المصلحة- و قد كان تمكن الحسن ع في الحال الحاضرة- أكثر من تمكن الحسين ع في حاله الحاضرة- لأن جند الحسن كان حوله و مطيفا به- و هم كما روي مائة ألف سيف- و لم يكن مع الحسين ع ممن يحيط به- و يسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس- و لكن ظنهما في عاقبة الأمر و مستقبل الحال كان مختلفا- فكان الحسن يظن خذلان أصحابه عند اللقاء و الحرب- و كان الحسين ع يظن نصرة أصحابه عند اللقاء و الحرب- فلذلك أحجم أحدهما و أقدم الآخر- فقد بان أن قول قاضي القضاة غير مضطرب و لا متناقض
الطعن الثامن
ما روي عن عمر من قوله- متعتان كانتا على عهد رسول الله ص- أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما- و هذا اللفظ قبيح لو صح المعنى فكيف إذ فسد- لأنه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول- و لأنه يوهم مساواة الرسول ص في الأمر و النهي- و أن اتباعه أولى من اتباع رسول الله ص- . أجاب قاضي القضاة- فقال أنه إنما عنى بقوله و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما- كراهته لذلك و تشدده فيه- من حيث نهى رسول الله ص عنهما بعد أن كانتا في أيامه- منبها بذلك على حصول النسخ فيهما و تغير الحكم- لأنا نعلم أنه كان متبعا للرسول متدينا بالإسلام- فلا يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله- و حكي عن أبي علي أن ذلك بمنزلة أن يقول- إني أعاقب من صلى إلى بيت المقدس- و إن كان صلي إلى بيت المقدس في حياة رسول الله ص- و اعتمد في تصويبه على كف الصحابة عن النكير عنه- و ادعى أن أمير المؤمنين ع- أنكر على ابن عباس إحلال المتعة- و روى عن النبي ص تحريمهما- فأما متعة الحج- فإنما أراد ما كانوا يفعلون من فسخ الحج- لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع- و لم يرد بذلك التمتع الذي يجري مجرى تقدم العمرة- و إضافة الحج إليها بعد ذلك- لأنه جائز لم يقع فيه قبح- . اعترض المرتضى هذا الكلام فقال- ظاهر الخبر المروي عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل- لأنه قال متعتان كانتا على عهد رسول الله ص- أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما- فأضاف النهي إلى نفسه- و لو كان الرسول نهى عنهما لأضاف النهي إليه- فكان آكد و أولى- فكان يقول فنهى عنهما أو نسخهما- و أنا من بعده أنهى عنهما و أعاقب عليهما- و ليس يشبه ما ذكره من الصلاة إلى بيت المقدس- أن نسخ الصلاة إلى بيت المقدس معلوم ضرورة من دينه ص- و ليس كذلك المتعة- على أنه لو قال- إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي ص جائزة- و أنا الآن أنهى عنها لكان قبيحا شنيعا- مثل ما استقبحنا من القول الأول- و ليس هذا القول منه ردا على الرسول ص- لأنه لا يمتنع أن يكون استحسن حظرها- في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم- و اعتقد أن الإباحة في أيام رسول الله ص كان لها شرط- لم يوجد في أيامه- و قد روي عنه أنه صرح بهذا المعنى- فقال إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول الله ص- و النساء يومئذ قليلة- و لذلك روي عنه في متعة الحج أنه قال- قد علمت أن رسول الله ص فعلها و أصحابه- و لكن كرهت أن يظلوا بها معرسين تحت الأراك- ثم يرجعوا بالحج تقطر رءوسهم- . و أما اعتماده على الكف عن النكير- فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا على شرائط شرحناها- على أنه قد روي أن عمر قال بعد نهيه عن المتعة- لا أوتي بأحد تزوج متعة إلا عذبته بالحجارة- و لو كنت تقدمت فيها لرجمت- و ما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا القول- لأن المتمتع عندهم لا يستحق الرجم- و لم يدل ترك النكير على صوابه- . فأما ادعاؤه على أمير المؤمنين ع- أنه أنكر على ابن عباس إحلالها- فالأمر بخلافه و عكسه- فقد روي عنه ع من طرق كثيرة- أنه كان يفتي بها و ينكر على محرمها و الناهي عنها- و
روى عمر بن سعد الهمداني عن حبيش بن المعتمر قال سمعت عليا ع يقول لو لا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي
و
روى أبو بصير قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع يروي عن جده أمير المؤمنين ع لو لا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي
- و قد أفتى بالمتعةجماعة من الصحابة و التابعين- كعبد الله بن عباس- و عبد الله بن مسعود- و جابر بن عبد الله الأنصاري- و سلمة بن الأكوع و أبي سعيد الخدري- و سعيد بن جبير و مجاهد- و غير ما ذكرناه ممن يطول ذكره- فأما سادة أهل البيت ع و علماؤهم- فأمرهم واضح في الفتيا بها- كعلي بن الحسين زين العابدين و أبي جعفر الباقر ع- و أبي عبد الله الصادق ع و أبي الحسن موسى الكاظم- و علي بن موسى الرضا ع- و ما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها- يدل على أوضح بطلان ما ذكره صاحب الكتاب- من ارتفاع النكير لتحريمها- لأن مقامهم على الفتيا بها نكير فأما متعة الحج فقد فعلها النبي ص- و الناس أجمع من بعده- و الفقهاء في أعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا- . فأما قول صاحب الكتاب- إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل- لأن ذلك أولا لا يسمى متعة- و لأن ذلك ما فعل في أيام النبي ص- و لا فعله أحد من المسلمين بعده- و إنما هو من سنن الجاهلية- فكيف يقول عمر متعتان كانتا على عهد رسول الله ص- و كيف يغلظ و يشدد فيما لم يفعل و لا فعل- . قلت لا شبهة أن الظاهر من كلام عمر- إضافة النهي إلى نفسه- لكنا يجب علينا أن نترك ظاهر اللفظ- إذا علمنا من قائله ما يوجب صرف اللفظ عن الظاهر- كما يعتمده كل أحد في القرائن المقترنة بالألفاظ- و المعلوم من حال عمر- أنه لم يكن يدعي أنه ناسخ لشريعةالرسول ص- و أنه كان متدينا بالإسلام و تابعا للرسول الذي جاء به- فوجب أن يحمل كلامه- على أنه أراد أنهما كانتا ثم حرمتا- ثم أنا الآن أعاقب من فعلهما- لأنه قد كان بلغه عن قوم من المسلمين- بعد علمهم بالتحريم- و قول المرتضى- لعله كان اعتقد أن الإباحة أيام رسول الله ص- كانت مشروطة بشرط لم يوجد في أيامه- قول يبطل طعنه في عمر- و يمهد له عذرا و يصير المسألة اجتهادية- . و أما طعنه في الاحتجاج على تصويب عمر- بترك الإنكار عليه و قوله فهلا أنكروا عليه قوله- لا أرى أحدا يستمتع إلا رجمته- فليس بطعن مستقيم- و إنما يكون طعنا صحيحا لو كان أتى بمتمتع فأمر برجمه- فأما أن ينكروا عليه وعيده و تهديده- لا لإنسان معين بل كلاما مطلقا- و قولا كليا يقصد به حسم المادة في المتعة- و تخويف فاعلها- فإنه ليس بمحل للإنكار عليه- و ما زالت الأئمة و الصالحون يتوعدون بأمر- ليس في نفوسهم فعله- على طريق التأديب و التهذيب- على أن قوما من الفقهاء- قد أوجبوا إقامة الحد على المتمتع- فلا يمتنع أن يكون عمر ذاهبا إلى هذا المذهب- . فأما ما رواه عن أمير المؤمنين ع- و عن الطاهرين من أولاده من تحليل المتعة- فلسنا في هذا المقام نناكره في ذلك و ننازعه فيها- و المسألة فقهية من فروع الشريعة- و ليس كتابنا موضوع خطبه 228 نهج البلاغها لذكره- و لا الموضع الذي نحن فيه يقتضي الحجاج فيها- و البحث في تحليلها و تحريمها- و إنما الموضع موضع الكلام في حال عمر- و ما نقل عنه من الكلمة- هل يقتضي ذلك الطعن في دينه أم لا- . فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه- و قال ما قدمنا ذكره من أن الحج بهاء من بهاء الله- و أن التمتع يكسفه و يذهب نوره و رونقه- و أنهم يظلون معرسين تحت الأراك- ثم
يهلون بالحج و رءوسهم تقطر- و إذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مئونة الاعتذار
الطعن التاسع
ما روي عنه من قصة الشورى- و كونه خرج بها عن الاختيار و النص جميعا- و أنه ذم كل واحد- بأن ذكر فيه طعنا ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه- و أنه جعل الأمر إلى ستة ثم إلى أربعة- ثم إلى واحد قد وصفه بالضعف و القصور- و قال إن اجتمع علي و عثمان فالقول ما قالاه- و إن صاروا ثلاثة و ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن- و ذلك لعلمه بأن عليا و عثمان لا يجتمعان- و أن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه و ابن عمه- و أنه أمر بضرب أعناقهم- إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام- و أنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم- أو الذين فيهم عبد الرحمن- . أجاب قاضي القضاة عن ذلك- فقال الأمور الظاهرة لا يجوز أن يعترض عليها بأخبار غير صحيحة- و الأمر في الشورى ظاهر- و أن الجماعة دخلت فيها بالرضا- و لا فرق بين من قال في أحدهم- أنه دخل فيها لا بالرضا و بين من قال ذلك في جميعهم- و لذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين ع في الشورى- أحد ما يعتمد عليه في أن لا نص يدل عليه- أنه المختص بالإمامة- لأنه قد كان يجب عليه أن يصرح بالنص على نفسه- بل يحتاج إلى ذكر فضائله و مناقبه- لأن الحال حال مناظرة- و لم يكن الأمر مستقرا لواحد- فلا يمكن أن يتعلق بالتقية- و المتعالم من حاله- أنه لو امتنع من هذا الأمر في الشورى أصلا- لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره- و معلوم أن دلالة الفعل أحسن من دلالة القول- من حيث كان الاحتمال فيه أقل- و المروي أن عبد الرحمن أخذ الميثاق على الجماعة بالرضا بمن يختاره- و لا يجب القدح في الأفعال بالظنون- بل يجب حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال- كما يجب مثله في غيرها- و يجب إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به- أن يحمل فعله على ما يطابقها- و قد علمنا أن حال عمر و ما كان عليه من النصيحة للمسلمين- منع من صرف أمره في الشورى- إلى الأغراض التي يظنها أعداؤه- فلا يصح لهم أن يقولوا- كان مراده في الشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة- التي فيها عبد الرحمن عند الخلاف أن يتم الأمر لعثمان- لأنه لو كان هذا مراده- لم يكن هناك ما يمنعه من النص على عثمان- كما لم يمنع ذلك أبا بكر- لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبي بكر لم ينقص عنه- و ليس ذلك بدعة- لأنه إذا جاز في غير الإمام إذا اختار أن يفعل ذلك- بأن ينظر في أماثل القوم فيعلم أنهم عشرة- ثم ينظر في العشرة فيعلم أن أمثلهم خمسة- ثم ينظر في واحد من الخمسة- فما الذي يمنع من مثله في الإمام- و هو في هذا الباب أقوى اختيارا- لأن له أن يختار واحدا بعينه- . ثم ذكر أنه إنما حصره في الجماعة- الذين انتهى إليهم الفضل- و جعله شورى بينهم- ثم بين أن الانتقال من الستة إلى الأربعة- و من الأربعة إلى الثلاثة لا يكون متناقضا- لأن الأقوال مختلفة و ليست واحدة- و لو كانت أيضا واحدة لكان كالرجوع- و للإمام أن يرجع في مثل ذلك لأنه في حكم الوصية- . قال و قولهم أنه كان يعلم أن عثمان و عليا لا يجتمعان- و أن عبد الرحمن يميل إلى عثمان قلة دين- لأن الأمور المستقبلة لا تعلم و إنما يحصل فيها أمارة- قال و الأمارات توجب- أنه لم يكن فيهم حرص شديد على الإمامة- بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق- و الائتلاف و الاسترواح إلى قيام الغير بذلك- و إنما جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن عند الاختلاف- لعلمه بزهده في الأمر- و أنه لأجل ذلك أقرب أن يتثبت- لأن الراغب عن الشي ء- يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه- و من كانت هذه حاله كان القوم إلى الرضا به أقرب- . و حكي عن أبي علي- أن المخادعة إنما تظن بمن قصده في الأمور طريق الفساد- و عمر بري ء من ذلك- . قال و الضعف الذي وصف به عبد الرحمن- إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي- و لذلك رد الاختيار و الرأي إليه- و حكي عن أبي علي ضعف ما روي من أمره- بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة- و أن ذلك لو صح لأنكره القوم- و لم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط- ثم تأوله إذ سلم صحته- على أنهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا- و طلب الأمر من غير وجهه- و قال و لا يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد- و إن بعد عنده أن يقدموا عليه- كما قال تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ- . اعترض المرتضى هذا الكلام- فقال إن الذي رتبه عمر في قصة الشورى- من ترتيب العدد و اتفاقه و اختلافه- يدل أولا على بطلان مذهب أصحاب الاختيار- في عدد العاقدين للإمامة- و أنه يتم بعقد واحد لغيره برضا أربعة- و أنه لا يتم بدون ذلك- فإن قصة الشورى تصرح بخلاف هذا الاعتبار- فهذا أحد وجوه المطاعن فيها- . و من جملتها أنه وصف كل واحد منهم بوصف- زعم أنه يمنع من الإمامة- ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف- و قد روى محمد بن سعد عن الواقدي- عن محمد بن عبد الله الزهري- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس- قال قال عمر لا أدري ما أصنع بأمة محمد ص- و ذلك قبل أن يطعن- فقلت و لم تهتم و أنت تجد من تستخلفه عليهم- قال أ صاحبكم يعني عليا قلت نعم- هو لها أهل في قرابته من رسول الله ص- و صهره و سابقته و بلائه- قال إن فيه بطالة و فكاهة فقلت فأين أنت من طلحة- قال فأين الزهو و النخوة- قلت عبد الرحمن قال هو رجل صالح على ضعف فيه- قلت فسعد قال ذاك صاحب مقنب و قتال- لا يقوم بقرية لو حمل أمرها- قلت فالزبير قال وعقة لقس- مؤمن الرضا كافر الغضب شحيح- و إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف- رفيق في غير ضعف و جواد في غير سرف- قلت فأين أنت من عثمان- قال لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس- و لو فعلها لقتلوه- . و قد يروى من غير هذا الطريق- أن عمر قال لأصحاب الشورى روحوا إلي- فلما نظر إليهم- قال قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته- يرجو أن يكون خليفة- أما أنت يا طلحة- أ فلست القائل إن قبض النبي ص أنكح أزواجه من بعده- فما جعل الله محمدا أحق ببنات أعمامنا منا- فأنزل الله تعالى فيك- وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ- وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً- و أما أنت يا زبير فو الله ما لان قلبك يوما و لا ليلة- و ما زلت جلفا جافيا- و أما أنت يا عثمان فو الله لروثة خير منك- و أما أنت يا عبد الرحمن- فإنك رجل عاجز تحب قومك جميعا- و أما أنت يا سعد فصاحب عصبية و فتنة- و أما أنت يا علي فو الله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم- فقام علي موليا يخرج- فقال عمر و الله إني لأعلم مكان رجل لو وليتموه-
أمركم لحملكم على المحجة البيضاء- قالوا من هو قال هذا المولي من بينكم- قالوا فما يمنعك من ذلك قال ليس إلى ذلك سبيل- . و في خبر آخر رواه البلاذري في تاريخه- أن عمر لما خرج أهل الشورى من عنده- قال إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق- فقال عبد الله بن عمر فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين- قال أكره أن أتحملها حيا و ميتا- . فوصف كما ترى كل واحد من القوم- بوصف قبيح يمنع من الإمامة- ثم جعلها في جملتهم- حتى كان تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع- و نحن نعلم أن الذي ذكره- إن كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد- فهو مانع من الاجتماع- مع أنه وصف عليا ع بوصف لا يليق به- و لا ادعاه عدو قط- بل هو معروف بضده- من الركانة و البعد عن المزاح و الدعابة- و هذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره ع- و كيف يظن به ذلك- و قد روي عن ابن عباس أنه قال- كان أمير المؤمنين علي ع- إذا أتى هبنا أن نبتدئه بالكلام- و هذا لا يكون إلا من شدة التزمت و التوقر- و ما يخالف الدعابة و الفكاهة- . و مما تضمنته قصة الشورى من المطاعن- أنه قال لا أتحملها حيا و ميتا- و هذا إن كان علة عدوله عن النص إلى واحد بعينه- فهو قول متلمس متخلص لا يفتات على الناس في آرائهم- ثم نقض هذا بأن نص على ستة من بين العالم كله- ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا- يؤول إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدم- و أي شي ء يكون من التحمل أكثر من هذا- و أي فرق بين أن يتحملها- بأن ينص على واحد بعينه- و بين أن يفعل ما فعله من الحصر و الترتيب- .
و من جملة المطاعن أنه أمر بضرب الأعناق- إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام- و معلوم أنهم بذلك لا يستحقون القتل- لأنهم إذا كانوا إنما كلفوا أن يجتهدوا آراءهم- في اختيار الإمام- فربما طال زمان الاجتهاد- و ربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض- فأي معنى للأمر بالقتل إذا تجاوزوا الأيام الثلاثة- ثم أنه أمر بقتل من يخالف الأربعة- و من يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن- و كل ذلك مما لا يستحق به القتل- . فأما تضعيف أبي علي لذكر القتل فليس بحجة- مع أن جميع من روى قصة الشورى روى ذلك- و قد روى الطبري ذلك في تاريخه و غيره- . فأما تأوله الأمر بالقتل- على أن المراد به إذا تأخروا على طريق شق العصا- و طلب الأمر من غير وجهه فبعيد من الصواب- لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك- و لأنهم إذا شقوا العصا- و طلبوا الأمر من غير وجهه من أول يوم- وجب أن يمنعوا و يقاتلوا- فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة أجلا- . فأما تعلقه بالتهديد- فكيف يجوز أن يتهدد الإنسان على فعل بما لا يستحقه- و إن علم أنه لا يعزم عليه- . فأما قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ- فيخالف ما ذكر- لأن الشرك يستحق به إحباط الأعمال- و ليس يستحق بالتأخير عن البيعة القتل- . فأما ادعاء صاحب الكتاب- أن الجماعة دخلوا في الشورى على سبيل الرضا- و أن عبد الرحمن أخذ عليهم العهد أن يرضوا بما يفعله- فمن قرأ قصة الشورى على وجهها- و عدل عما تسوله النفس من بناء الأخبار على المذاهب- علم أن الأمر بخلاف ما ذكر- و قد روى الطبري في تاريخه عن أشياخه من طرق مختلفة- أن أمير المؤمنين ع قال حين خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة- بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بني هاشم- إن طمع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا- و تلقاه العباس بن عبد المطلب فقال يا عم عدلت عنا- قال و ما علمك قال قرن بي عثمان- و قال كونوا مع الأكثر- و إن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا- فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن- فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن- و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان- فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن- فلو كان الآخران معي لم ينفعاني- بله أني لا أرجو إلا أحدهما- فقال له العباس لم أدفعك عن شي ء إلا رجعت إلى مستأخرا- أشرت عليك عند وفاة رسول الله ص- أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت- و أشرت عليك عند وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت- و أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى- ألا تدخل معهم فأبيت- فاحفظ علي واحدة- كلما عرض عليك القوم فقل لا إلا أن يولوك- و احذر هؤلاء الرهط- فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر- حتى يقوم لنا به غيرنا و غيرهم- و ايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير
فقال علي ع أما و الله لئن بقي عمر لأذكرنه ما أتى إلينا- و لئن مات ليتداولنها بينهم- و لئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون- ثم تمثل-
- حلفت برب الراقصات عشيةغدون خفافا فابتدرن المحصبا
- ليحتلبن رهط ابن يعمر مارئانجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
- . فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه- فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن- . قال المرتضى- فإن قال قائل أي معنى لقول العباس- إني دعوتك إلى أن تسأل رسول الله ص- فيمن هذا الأمر من قبل وفاته- أ ليس هذا مبطلا لما تدعونه من النص- . قلنا- غير ممتنع أن يريد العباس سؤاله عمن يصير الأمر إليه- و ينتقل إلى يديه- لأنه قد يستحقه من لا يصل إليه- و قد يصل إلى من لا يستحقه- و ليس يمتنع أن يريد- إنما كنا نسأله ص إعادة النص قبل الموت- ليتجدد و يتأكد- و يكون لقرب العهد إليه بعيدا من أن يطرح- . فإن قيل- أ ليس قد أنكرتم على صاحب الكتاب من التأويل بعينه- فيما استعمله من الرواية عن أبي بكر- من قوله ليتني كنت سألت رسول الله ص- هل للأنصار في هذا الأمر حق- . قلنا إنما أنكرناه في ذلك الخبر- لأنه لا يليق به من حيث قال- فكنا لا ننازعه أهله- و هذا قول من لا علم له بأنه ليس للأنصار حق في الإمامة- و من كان يرجع في أن لهم حقا في الأمر أو لا حق لهم فيه- إلى ما يسمعه مستأنفا- و ليس هذا في الخبر الذي ذكرناه- . و
روى العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده في إسناده أن أمير المؤمنين ع- شكا إلى العباس ما سمع من قول عمر- كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف- و قال و الله لقد ذهب الأمر منا- قال و كيف قلت ذلك يا ابن أخي- قال إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن- و عبد الرحمن نظير عثمان و صهره- فأحدهما يختار لصاحبه لا محالة- و إن كان الزبير و طلحة معي- فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين
- . قال ابن الكلبي- عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط- و أمها أروى بنت كريز و أروى أم عثمان- فلذلك قال صهره- . و في رواية الطبري- أن عبد الرحمن دعا عليا ع- فقال عليك عهد الله و ميثاقه- لتعملن بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة الخليفتين- فقال أرجو أن أفعل و أعمل بمبلغ علمي و طاقتي- . و
في خبر آخر عن أبي الطفيل أن عبد الرحمن قال لعلي ع- هلم يدك خذها بما فيها- على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر و عمر- فقال آخذها بما فيها- على أن أسير فيكم بكتاب الله و سنة نبيه جهدي فترك يده- و قال هلم يدك يا عثمان- أ تأخذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر و عمر- قال نعم قال هي لك يا عثمان
و
في رواية الطبري أنه قال لعثمان مثل قوله لعلي فقال نعم فبايعه- فقال علي ع ختونة حنت دهرا
و
في خبر آخر نفعت الختونة يا ابن عوف- ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا- فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ- و الله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك- و الله كل يوم هو في شأن
و
في غير رواية الطبري أن عبد الرحمن قال له- لقد قلت ذلك لعمر- فقال ع أ و لم يكن ذلك كما قلت
و
روى الطبري أن عبد الرحمن قال- لا تجعلن يا علي على نفسك سبيلا- فإني نظرت و شاورت الناس- فإذا هم لا يعدلون بعثمان- فقام علي ع و هو يقول سيبلغ الكتاب أجله
و
في رواية الطبري أن الناس لما بايعوا عثمان تلكأ علي ع- فقال عثمان فمن نكث فإنما ينكث على نفسه- و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا
عظيما- فرجع علي ع حتى بايعه- و هو يقول خدعة و أي خدعة
- . و روى البلاذري في كتابه- عن ابن الكلبي عن أبيه- عن أبي مخنف في إسناد له- أن عليا ع لما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما- فقال له عبد الرحمن بايع و إلا ضربت عنقك- و لم يكن يومئذ مع أحد سيف غيره- فخرج علي مغضبا فلحقه أصحاب الشورى- فقالوا له بايع و إلا جاهدناك- فأقبل معهم يمشي حتى بايع عثمان- . قال المرتضى فأي رضا هاهنا و أي إجماع- و كيف يكون مختارا من تهدد بالقتل و بالجهاد- و هذا المعنى و هو حديث ضرب العنق- لو روته الشيعة لتضاحك المخالفون منه و تغامزوا- و قالوا هذا من جملة ما تدعونه من المحال- و تروونه من الأحاديث و قد أنطق الله به رواتهم- و أجراه على أفواه ثقاتهم- و لقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل- يفند فيه ما فعلوه من بيعة عثمان- و عدولهم بالأمر عن أمير المؤمنين- إلى أن قال له عبد الرحمن يا مقداد اتق الله- فإني خائف عليك الفتنة- ثم إن المقداد قام فأتى عليا- فقال أ تقاتل فنقاتل معك- فقال علي فبمن أقاتل- و تكلم أيضا عمار فيما رواه أبو مخنف فقال يا معشر قريش- أين تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم- تحولونه هاهنا مرة و هاهنا مرة- أما و الله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم- فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من أهله- و وضعتموه في غير أهله- فقال له هشام بن الوليد يا ابن سمية- لقد عدوت طورك و ما عرفت قدرك- و ما أنت و ما رأته قريش لأنفسها- إنك لست في شي ء من أمرها و إمارتها فتنح عنها- و تكلمت قريش بأجمعها- و صاحت بعمار و انتهرته- فقال الحمد لله ما زال أعوان الحق قليلا- .
روى أبو مخنف أيضا أن عمارا قال هذا البيت ذلك اليوم-
- يا ناعي الإسلام قم فانعهقد مات عرف و أتى منكر
- أما و الله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم- و قال أمير المؤمنين ع- لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانيا- فقال و الله ما أجد عليهم أعوانا- و لا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون
و
روى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال دخلت على علي ع- و كنت حاضرا بالمدينة يوم بويع عثمان- فإذا هو واجم كئيب- فقلت ما أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم- فقال صبر جميل- فقلت سبحان الله إنك لصبور قال فاصنع ما ذا- قلت تقوم في الناس خطيبا فتدعوهم إلى نفسك- و تخبرهم أنك أولى بالنبي ص بالعمل و السابقة- و تسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك- فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة- فإن دانوا لك كان ما أحببت و إن أبوا قاتلتهم- فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه نبيه ص- و كنت أولى به منهم إذ ذهبوا بذلك فرده الله إليك- و إن قتلت في طلبه فقتلت شهيدا- و كنت أولى بالعذر عند الله تعالى في الدنيا و الآخرة- فقال ع أ و تراه كان تابعي من كل مائة عشرة- قلت لأرجو ذلك- قال لكني لا أرجو و لا و الله من المائة اثنين- و سأخبرك من أين ذلك- إن الناس إنما ينظرون إلى قريش- فيقولون هم قوم محمد ص و قبيلته- و إن قريشا تنظر إلينا- فتقول إن لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش- و إنهم أولياء هذا الأمر دون قريش و الناس- و إنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد أبدا- و متى كان في غيرهم تداولتموه بينكم- فلا و الله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعة أبدا- قلت أ فلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه- و أدعو الناس إليك- فقال يا جندب ليس هذا زمان ذلك- فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل علي- زبروني
و نهروني- حتى رفع ذلك من أمري للوليد بن عقبة- فبعث إلي فحبسني
- . قال و هذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير- في أن الخلاف كان واقما و الرضا كان مرتفعا- و الأمر إنما تم بالحيلة و المكر و الخداع- و أول شي ء مكر به عبد الرحمن- أنه ابتدأ فأخرج نفسه من الأمر- ليتمكن من صرفه إلى من يريد- و ليقال أنه لو لا إيثاره الحق- و زهده في الولاية لما أخرج نفسه منها- ثم عرض على أمير المؤمنين ع ما يعلم أنه لا يجيب إليه- و لا تلزمه الإجابة إليه- من السير فيهم بسيرة الرجلين- و علم أنه ع لا يتمكن من أن يقول- إن سيرتهما لا تلزمني- لئلا ينسب إلى الطعن عليهما- و كيف يلزم سيرتهما- و كل واحد منهما لم يسر بسيرة الآخر- بل اختلفا و تباينا في كثير من الأحكام- هذا بعد أن قال لأهل الشورى- وثقوا إلي من أنفسكم- بأنكم ترضون باختياري إذا أخرجت نفسي- فأجابوه على ما رواه أبو مخنف بإسناده- إلى ما عرض عليهم إلا أمير المؤمنين ع- فإنه قال انظر لعلمه بما يجر هذا المكر- حتى أتاهم أبو طلحة- فأخبره عبد الرحمن بما عرض- و ما جاء به القوم إياه إلا عليا- فأقبل أبو طلحة على علي ع- فقال يا أبا الحسن- إن أبا محمد ثقة لك و للمسلمين- فما بالك تخافه و قد عدل بالأمر عن نفسه- فلن يتحمل المأثم لغيره- فأحلف علي ع عبد الرحمن- بما عرض ألا يميل إلى الهوى- و أن يؤثر الحق و يجتهد للأمة- و لا يحابي ذا قرابة فحلف له- و هذا غاية ما يتمكن منه أمير المؤمنين ع في الحال- لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الأمر- و ظنت به الجماعة الخير و فوضت إليه الاختيار- لم يقدر أمير المؤمنين ع على أن يخالفهم- و ينقض ما اجتمعوا عليه- فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه- و صرح بما يخافه من جهته- من الميل إلى الهوى و إيثار القرابة- غير أن ذلك كله لم يغن شيئا- .
قال و أما قول صاحب الكتاب- أن دخوله في الشورى دلالة على أنه لا نص عليه بالإمامة- و لو كان عليه نص لصرح به في تلك الحال- و كان ذكره أولى من ذكر الفضائل و المناقب- فإن المانع من ذكر النص- كونه يقتضي تضليل من تقدم عليه و تفسيقهم- و ليس كذلك تعديد المناقب و الفضائل- . و أما دخوله ع في الشورى- فلو لم يدخل فيها إلا ليحتج- بما احتج به من مقاماته و فضائله و درايته- و وسائله إلى الإمامة و بالأخبار الدالة عندنا عليها على النص- و الإشارة بالإمامة إليه- لكان غرضا صحيحا و داعيا قويا- و كيف لا يدخل في الشورى- و عندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين- و فعل ما لم يسبق إليه من التحرز للدين- . فأول ما كان يقال له لو امتنع منها- إنك مصرح بالطعن على واضعها- و على جماعة المسلمين بالرضا بها- و ليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك- و أنك أحق به فيعود الأمر إلى ما كان ع يخافه- من تفرق الكلمة و وقوع الفتنة- . قال و في أصحابنا القائلين بالنص من يقول- إنه ع إنما دخل في الشورى لتجويزه أن ينال الأمر منها- و عليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به- من كل وجه يظن أن يوصله إليه- . قال و قول صاحب الكتاب إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها- لأن الأمر لم يكن استقر لواحد طريف- لأن الأمر و إن لم يكن في تلك الحال مستقرا لأحد- فمعلوم أن الإظهار بما يطعن في المتقدمين- من ولاة الأمر لا يمكن منه و لا يرضى به- و كذلك الخروج مما يتفق أكثرهم عليه- و يرضى جمهورهم به و لا يقرون أحدا عليه- بل يعدونه شذوذا عن الجماعة و خلافا على الأمة- . فأما قوله إن الأفعال لا يقدح فيها بالظنون- بل يجب أن تحمل على ظاهر الصحة- و إن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسن الظن به- يجب أن تحمل أفعاله على ما يطابقها- فإنا متى سلمنا له بهذه المقدمة لم يتم قصده فيها- لأن الفعل إذا كان له ظاهر- وجب أن يحمل على ظاهره- إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره- كما يجب مثله في الألفاظ- و قد بينا أن ظاهر الشورى و ما جرى فيها- يقتضي ما ذكرناه للأمارات اللائحة و الوجوه الظاهرة- فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل- بل المخالف هو الذي يسومنا أن نعدل عن الظاهر- فأما الفاعل و ما تقدم له من الأحوال- فمتى تقدم للفاعل حالة تقتضي- أن يظن به الخير من غير علم و لا يقين- فلا بد أن يؤثر فيها- و يقدح أن يرى له حالة أخرى تقتضي ظن القبيح به- لدلالة ظاهرها على ذلك- و ليس لنا أن نقضي بالأولى على الثانية- و هما جميعا مظنونتان- لأن ذلك بمنزلة أن يقول قائل- اقضوا بالثانية على الأولى- و ليس كذلك إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي بالخير منه- ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به- لأنا حينئذ نقتضي بالعلم على الظن- و نبطل حكمه لمكان العلم- و إذا صحت هذه الجملة- فما تقدمت لمن ذكر حالة تقتضي العلم بالخير- و إنما تقدم ما يقتضي حسن الظن- فليس لنا إلا نسي ء الظن به- عند ظهور أمارات سوء الظن- لأن كل ذلك مظنون غير معلوم- .
و قوله- لو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع- كما لم يمنع ذلك أبا بكر من النص عليه فليس بشي ء- لأنه قد فعل ما يقوم مقام النص على من أراد إيصاله إليه- و صرفه عمن أراد أن يصرفه عنه- من غير شناعة التصريح- و حتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر- و يراجع في قصته كما روجع أبو بكر- و لم يتعسف أبعد الطريقين و غرضه يتم من أقربهما- .
قال فأما بيان صاحب الكتاب- أن الانتقال من الستة إلى الأربعة في الشورى- و من الأربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا- فهو رد على من زعم أن ذلك تناقض- و ليس من هذا الوجه طعنا- بل قد بينا وجوه المطاعن و فصلناها- . و أما قوله إن الأمور المستقبلة لا تعلم- و إنما يحصل فيها أمارة ردا على من قال- إن عمر كان يعلم أن عليا ع و عثمان لا يجتمعان- و أن عبد الرحمن يميل إلى عثمان فكلام في غير موضعه- لأن المراد بذلك الظن لا العلم- و إن عبر عن الظن بالعلم على طريقه في الاستعمال معروفة- لا يتناكرها المتكلمون- و لعل صاحب الكتاب قد استعمل العلم في موضع الظن- فيما لا يحصى كثرة من كتابه هذا و غيره- و قد بينا فيما ذكرناه من رواية الكلبي عن أبي مخنف- أن أمير المؤمنين ع أول من سبق إلى هذا المعنى- في قوله للعباس شاكيا إليه- ذهب و الله الأمر منا- لأن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن- و عبد الرحمن صهر عثمان- فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة- و إن كان الزبير و طلحة معي- فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين فأما قوله- إن عبد الرحمن كان زاهدا في الأمر- و الزاهد أقرب إلى التثبت- فقد بينا وجه إظهاره الزهد فيه- و أنه جعله الذريعة إلى مراده- .
فأما قول صاحب الكتاب- إن الضعف الذي وصفه به- إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي- فهب أن الأمر كذلك- أ ليس قد جعله أحد من يجوز أن يختار للإمامة- و يفوض إليه مع ضعفه عنها- و هذا بمنزلة أن يصفه بالفسق- ثم يدخله في جملة القوم- لأن الضعف عن الإمامة مانع منها- كما أن الفسق كذلك- .
قلت الكلام في الشورى و المطاعن فيها طويل جدا- و قد ذكرت من ذلك في كتبي الكلامية و تعليقاتي- ما قاله الناس و ما لم أسبق إليه- و لا يحتمل هذا الكتاب الإطالة باستقصاء ذلك- لأنه ليس بكتاب حجاج و نظر- و لكني أذكر منه نكتا يسيرة فأقول- إن كانت أفعال عمر و أقواله قد تناقضت- في واقعة الشورى كما زعم المرتضى رحمه الله- فكذلك أفعال أمير المؤمنين- إن كان منصوصا عليه كما تقوله الإمامية- قد تناقضت أيضا- أما أولا فإن كان منصوصا عليه- فكيف أدخل نفسه في الشورى المبنية على صحة الاختيار- و عدم النص أ ليس هذا إيهاما ظاهرا لأكثر المسلمين- خصوصا الضعفة منهم- و من لا نظر له في دقائق الأمور عنده أنه غير منصوص عليه- فكيف يجوز له إضلال المكلفين- و أن يوقع في نفوسهم عدم النص- مع كون النص كان حاصلا- . و أما عذر المرتضى عن هذا- بأنه دخل في الشورى- ليتمكن من الاحتجاج على أهل الشورى بمقاماته و فضائله- فيقال له قد كان الدهر الأطول مخالطا- لأهل الشورى و غيرهم- مجتمعا معهم في المسجد و غيره- من مواطن كل يوم بل كل ساعة- فلا يجوز أن يقال دخل ليضمه و إياهم أو يظلهم سقف- فيتمكن بذلك من ذكر مقاماته و فضائله بينهم- لأن العاقل لا يجوز أن يرتكب أمرا يوهم القبيح- ليفعل فعلا قد كان من قبله بثلاث عشرة سنة- متمكنا من أن يفعله- من غير أن يرتكب ذلك الأمر الموهم للقبيح- و ليت شعري من الذي كان يمنعه أيام أبي بكر و عمر- من أن يذكر مقاماته و فضائله و يفتخر بها- و لم أنفك ع من ذكر فضائله- و الفخر بمناقبه في تلك المدة الطويلة- و قد كان عمر و هو المعروف المشهور بالغلظة و الفظاظة- يذكر فضائله و يعترف بها- فلست أرى لعذر المرتضى أصلا بهذا الوجه أو معنى- .
فأما عذره الثاني عن دخوله في الشورى بقوله- لو لم يدخل فيها لقيل له- إنك قد طعنت على واضع الشورى- و ليس ذلك إلا لأنك ترى الأمر لك فليس بعذر جيد- لأنه لو امتنع من الدخول فيها على وجه الزهد- و قلة الالتفات إلى الولاية و الإعراض عن السلطان و الإمرة- لما نسبه أحد إلى ما ذكره المرتضى أصلا- و لقال الناس رجل زاهد لا يريد الدنيا و لا يرغب في الرئاسة- ثم ما المانع من أن يقول لعمر و هو حي- نشدتك الله لا تدخلني فيها- فإني لا أريدها و لا أوثرها- أ تراه كان في جواب هذا الكلام يأمر بقتله- و يقول له إنما امتناعك- لأنك تدعي أن رسول الله ص نص عليك- فلا ترى أخذ الأمر من جهتي و توليه من طريقي- و إنما تريده بمحض النص الأول لا غير- ما أظن أن عاقلا يخطر له أن ذلك كان يكون- فهذا العذر بارد لا معنى له كالعذر الأول- . فأما عذره الثالث و هو قوله- إنه كان يجب عليه- أن يتوصل إلى القيام بالأمر بكل طريق- لأنه يلزمه القيام به فعذر جيد لا بأس به- . و أما ثانيا فيقال للمرتضى- هب إنا نزلنا عن الدخول في الشورى- هلا عرض للجماعة و هم مجتمعون- و هو يعد لهم مناقبه و فضائله بذكر النص- و ذلك بأن يكنى عنه كناية لطيفة فيقول لهم- قد كان من رسول الله ص بالأمس في حقي ما تعلمون- أ تراهم كانوا في جواب هذه الكلمة يقتلونه- ما أظن أنهم كانوا يجتمعون على ذلك- و لا بد لو عرض بشي ء من ذلك- كان من كلام يدور بينهم في المعنى نحو أن يقولوا- إن ذلك النص رجع عنه رسول الله ص- أو يقولوا رأى المسلمون تركه للمصلحة- أو يجري بينه و بينهم جدال و نزاع- و لم يكن هناك خليفة يخاف جانبه- و إنما كان مجلس مناظرة و بحث و لم يستقر الأمر لأحد- .
و قول المرتضى إنه و إن كان كذلك- إلا أنهم كانوا لا يرضون أن يطعن في المتقدمين منهم- و يكرهون منه ذلك و لا يقرونه عليه- و يعدونه شذوذا له عن الجماعة و خلافا للأمة قول صحيح- إذا كان القائل يقوله على وجه شق العصا و المنابذة- و كشف القناع و إذا قاله على وجه الاستعطاف لهم- و الإذكار بما عساهم نسوة- و حسن التلطف و الرفق بهم و الاستمالة لهم- و تذكيرهم حقوق رسول الله ص- و ميثاقه الذي واثقهم به- فإنه لا يقع منهم في مقابلة ذلك قتله- و لا قطع عضو من أعضائه و لا إقامة الحد عليه- و أقصى ما في الباب- أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه- و يجيبونه بجواب يناسب جوابه- و يدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع- إن كانوا مقيمين على الإصرار على غصب الحق منه- . و أما ثالثا فإن كان ع كما تقوله الإمامية منصوصا عليه- فما الذي منعه لما قال له عبد الرحمن- أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين- أن يقول نعم فإنه لو قال نعم- لبايعه عبد الرحمن- و وصل إلى الأمر الذي يلزمه القيام به- و إلى الحال التي كان يتوصل- بكل طريق إلى الوصول إليها- . و قول المرتضى إن سيرتهما كانت مختلفة- لأن أحدهما حكم بكثير مما حكم الآخر بضده ليس بجيد- لأن السيرة التي كان عبد الرحمن يطلبها ذلك اليوم- هو الأمر الكلي في إيالة الرعية و سياستهم و جباية الفي ء- و ظلف الوالي نفسه و أهله عنه و صرفه إلى المسلمين- و رم الأمور و جمع العمال- و قهر الظلمة و إنصاف المظلومين- و حماية البيضة و تسريب الجيوش إلى بلاد الشرك- هذه هي السيرة التي كان عبد الرحمن يشترطها- و هي التي طلبها الناس بعد ذلك- فقالوا لمعاوية في آخر أيامه و لعبد الملك و لغيرهما- و صاحوا بهم تحت المنابر نطلب سيرة العمرين- و لم يريدوا في الأحكام و الفتاوي الشرعية- نحو القول في الجد مع الإخوة- و القول في الكلالة و القول في أمهات الأولاد- فما أعلم الذي منع أمير المؤمنين ع- من أن يقول لعبد الرحمن نعم فيأخذها- ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على هذه السيرة و أقواهم عليها- فوا عجبا بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب- فإذا هو ناكص عنها- و قد عرضت عليه على أمر هو قيم به- و لهذا كان الرأي عندي أن يدخل فيها حينئذ- و من الذي كان يناظره بعد ذلك و يجادله- فيقول قد أخللت بشي ء من سيرة أبي بكر و عمر- كلا إن السيف لضاربه و الأمر لمالكه- و الرعية أتباع و الحكم لصاحب السلطان منهم- . و من العجب أن يقول المرتضى- إنه لأجل التقية وافق على الرضا بالشورى- فهلا اتقى القوم- و قد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها و كرهها- و من كان يخاف على نفسه- أن لو أظهر الزهد في الخلافة و الرغبة- عن الدخول في أمر الشورى- كيف لم يخف على نفسه- و قد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها- و لم يوافق عليها- و قال لا بل على أن أجتهد رأيي- . و أما قول المرتضى- إنه وصف القوم بصفات تمنع من الإمامة- ثم عينهم للإمامة فنقول في جوابه- أن تلك الصفات لا تمنع من الإمامة بالكلية- بل هي صفات تنقص في الجملة- أي لو لم تكن هذه الصفات فيهم لكانوا أكمل- أ لا ترى أنه قال في عبد الرحمن- رجل صالح على ضعف فيه- فذكر أن فيه ضعفا يسيرا- لأنه لو كان يرى ضعفه مانعا من الإمامة- لقال ضعيف عنها جدا أو لا يصلح لها لضعفه- و كذلك قوله في أمير المؤمنين فيه فكاهة- لأن ذلك لا يمنع من الإمامة- و لا زهو طلحة و نخوته- و لا ما وصف به الزبير من أنه شديد السخط وقت غضبه- و أنه بخيل و لا توليه الأقارب على رقاب الناس- إذا لم يكونوا فساقا- و أقوى عيب ذكره ما عاب به سعدا في قوله- صاحب
مقنب و قتال- لا يقوم بقرية لو حمل أمرها- و يجوز أن يكون قال ذلك على سبيل المبالغة في استصلاحه- لأن يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدي الإمام- و أنه ليس له دربة و نظر- في تدبير البلاد و الأطراف و جباية أموالها- أ لا تراه كيف قال لا يقوم بقرية- و يجوز أن يلي الخلافة من هذه حاله- و يستعين في أمر العباد و البلاد- و جباية الأموال بالكفاة الأمناء فأما الرواية الأخرى التي قال فيها لعثمان- لروثة خير منك فهي من روايات الشيعة- و لسنا نعرفها من كتب غيرهم- . فأما قوله كيف قال لا أتحملها حيا و ميتا- فحصر الخلافة في العدد المخصوص- ثم رتبها ذلك الترتيب- إلى أن آلت إلى اختيار عبد الرحمن وحده- فنقول في جوابه- أنه كان يحب إلا يستقل وحده بأمر الخلافة- و أن يشاركه في ذلك غيره من صلحاء المهاجرين- ليكون أعذر عند الله تعالى و عند الناس- و إذا كان قد وضع الشورى على ذلك الوضع المخصوص- فلم يتحملها استقلالا بل شركه فيها غيره- فهو أقل لتحمله أمرها لو كان عين على واحد بعينه- . و أما حديث القتل- فليس مراده إلا شق العصا و مخالفة الجماعة- و التوثب على الأمر مغالبة- . و قول المرتضى- لو كان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله و يقاتل- فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة أجلا- فإنه يقال له- إن الأجل المذكور لم يضرب لقتل من يشق العصا- و إنما ضرب لإبرامهم الأمر و فصله- قبل أن تتطاول الأيام بهم- و يتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل- و أنهم مضطربون إلى الآن- لم يقيموا لأنفسهم خليفة بعده- فيطمع أهل الفساد و الدعارة- و لا يؤمن وقوع الفتن- و لا يؤمن أيضا أن يسترد الروم و فارس بلادا- قد كان الإسلام استولى عليها- لأن عدم الرئيس مطمع للعدو في ملكه و رعيته- . فأما الأخبار و الآثار التي ذكرها المرتضى- في مبايعة علي ع لعثمان- و أنه كان مكرها عليها أو كالمكره- و أن الرضا كان مرتفعا- و الخلاف كان واقعا فكلام في غير موضعه- لأن قاضي القضاة لم ينح بكلامه هذا النحو- و لا قصد هذا القصد- ليناقضه بما رواه و أسنده من الأخبار و الآثار- و لا هذا الموضع من كتاب المغني موضع الكلام- في بيعة عثمان و صحتها و وقوع الرضا بها- فيطعن المرتضى في ذلك- بما رواه من الأخبار و الآثار الدالة على تهضم القوم- لأمير المؤمنين ع و أصحابه و شيعته و تهددهم- و إنما الرضا الذي أشار إليه قاضي القضاة- فهو رضا أمير المؤمنين ع بأن يكون في جملة أهل الشورى- لأن هذا الباب من كتاب المغني- هو باب نفي المطاعن عن عمر- و قد تقدم ذكر كثير منها- . ثم انتهى إلى هذا الطعن و هو حديث الشورى- فذكر قاضي القضاة أن الشورى مما طعن بها عليه- و ادعى أنها كانت خطأ من أفعاله- لأنها لا نص و لا اختيار- أ لا تراه كيف قال في أول الطعن- فخرج بها عن النص و الاختيار- فنقول في الجواب- لو كانت خطأ لما دخل علي ع فيها- و لا رضي بها- فدخوله فيها و رضاه بها دليل على أنها لم تكن خطأ- و أين هذا من بيعة عثمان- حتى يخلط أحد البابين بالآخر- . فأما دعواه أن عمر عمل هذا الفعل حيلة- ليصرف الأمر عن علي ع- من حيث علم أن عبد الرحمن صهر عثمان- و أن سعدا ابن عم عبد الرحمن فلا يخالفه- فجعل الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن- فنقول في جوابه- إن عمر لو فعل ذلك و قصده- لكان أحمق الناس و أجهلهم- لأنه من الجائز ألا يوافق سعد ابن عمه- لعداوة تكون بينهما خصوصا من بني العم- و يمكن أن يستميل علي ع سعدا إلى نفسه- بطريق آمنة بنت وهب- و بطريق حمزة بن عبد المطلب- و بطريق الدين و الإسلام- و عهد الرسول ص- و من الجائز أن يعطف عبد الرحمن على علي ع لوجه من الوجوه- و يعرض عن عثمان- أو يبدو من عثمان في الأيام الثلاثة- أمر يكرهه عبد الرحمن- فيتركه و يميل إلى علي ع- و من الجائز أن يموت عبد الرحمن في تلك الأيام- أو يموت سعد أو يموت عثمان- أو يقتل واحد منهم فيخلص الأمر لعلي ع- و من الجائز أن يخالف أبو طلحة أمره له- أن يعتمد على الفرقة التي فيها عبد الرحمن- و لا يعمل بقوله و يميل إلى جهة علي ع- فتبطل حيلته و تدبيره- . ثم هب أن هذا كله قد أسقطناه- من الذي أجبر عمر و أكرهه- و قسره على إدخال علي ع في أهل الشورى- و إن كان مراده كما زعم المرتضى صرف الأمر بالحيلة- فقد كان يمكنه أن يجعل الشورى في خمسة- و لا يذكر عليا ع فيهم- أ تراه كان يخاف أحدا لو فعل ذلك- و من الذي كان يجسر أن يراجعه في هذا أو غيره- و حيث أدخله من الذي أجبره على أن يقول- إن وليها ذلك لحملهم على المحجة البيضاء- و حملهم على الصراط المستقيم و نحو ذلك من المدح- قد كان قادرا ألا يقول ذلك- و الكلام الغث البارد لا أحبه- .
فأما قوله إن عبد الرحمن فعل ما فعل- من إخراج نفسه من الإمامة حيلة ليسلم الأمر إلى عثمان- و يصرفه عن علي ع- فكلام بعضه صحيح و بعضه غير صحيح- أما الصحيح منه فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان- و انحرافه عن علي ع قليلا- و ليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن- بل قريش قاطبة كانت منحرفة عنه- . و أما الذي هو غير صحيح- فقوله أنه أخرج نفسه منها لذلك- فإن هذا عندي غير صحيح- لأنه قد كان يمكنه ألا يخرج نفسه منها و يبلغ غرضه- بأن يتجاوز هو و ابن عمه إلى عثمان- و يدع عليا و طلحة و الزبير طائفة أخرى- فيولي المسلمون الأمر الطائفة التي فيها عبد الرحمن- بمقتضى نص عمر على ذلك- ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء- إن شاء وليها هو أو أحد الرجلين- فأي حاجة كانت به إلى أن يخرج نفسه منها- ليبلغ غرضا قد كان يمكنه الوصول إليه بدون ذلك- . و أيضا فإن كان غرضه ذلك- فإنه من رجال الدنيا قد كان لا محالة- و لم يكن من رجال الآخرة- و من هو من رجال الدنيا و محبيها- كيف تسمح نفسه بترك الخلافة ليعطيها غيره- و هلا واطأ سعدا ابن عمه و طلحة صديقه- على أن يولياه الخلافة- و قد قال عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن- لا سيما و طلحة منحرف عن علي ع و عثمان- لأنهما ابنا عبد مناف- و كذلك سعد و عبد الرحمن منحرفان عنهما لذلك أيضا- و لما اختصا به من صهر رسول الله ص- و الصحيح أن عبد الرحمن أخرج نفسه منها- لأنه استضعف نفسه عن تحمل أثقالها و كلفها- و كره أن يدخل فيها فيقصر عن عمر- و يراه الناس بعين النقص- و لا يستطيع أن يقوم بما كان عمر يقوم به- و كان عبد الرحمن غنيا موسرا كثير المال- و شيخا قد ذهب عنه ترف الشباب- فنفض عنها يده استغناء عنها- و كراهية لخلل يدخل عليه إن وليها- .
و أما ميله عن علي ع- فقد كان منه بعض ذلك و الطباع لا تملك- و الحسد مستقر في نفوس البشر- لا سيما إذا انضاف إليه ما يقتضي الازدياد في الأمور- . فأما تنزيه المرتضى لعلي ع عن الفكاهة و الدعابة فحق- و لقد كان
ع على قدم عظيمة- من الوقار و الجد و السمت العظيم و الهدى الرصين- و لكنه كان طلق الوجه سمح الأخلاق- و عمر كان يريد مثله من ذوي الفظاظة و الخشونة- لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه- و لا يستحسن طبع من يباينه في الخلق و الطبع- و أنا أعجب من لفظة عمر- إن كان قالها إن فيه بطالة- و حاش لله أن يوصف علي ع بذلك- و إنما يوصف به أهل الدعابة و اللهو- و ما أظن عمر إن شاء الله قالها- و أظنها زيدت في كلامه- و إن الكلمة هاهنا لدالة على انحراف شديد- . فأما قول أمير المؤمنين ع للعباس و لغيره- ذهب الأمر منا- إن عبد الرحمن لا يخالف ابن عمه- فليس معناه أن عمر قصد ذلك- و إنما معناه أن من سوء الاتفاق أن وقع الأمر هكذا- و يوشك ألا يصل إلينا حيث قد اتفق فيه هذه النكتة- . فأما قول قاضي القضاة- إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن- وجب أن يحمل فعله على ما يطابقها- و اعتراض المرتضى عليه بقوله- إن ذلك إنما يجب إذا كان الخير معلوما منه- فيما تقدم لا مظنونا- و متى كان مظنونا ثم وجدنا له فعلا يظن به القبيح- لم يكن لنا أن نقضي بالسابق على اللاحق- فنقول في جوابه- أن الإنسان إذا كان مشهورا بالصلاح و الخير- و تكرر منه فعل ذلك مدة طويلة- ثم رأيناه قد وقعت منه حركة تنافي ذلك فيما بعد- فإنه يجب علينا أن نحملها على ما يطابق أحواله الأولى- ما وجدنا لها محملا لأن أحواله الأولى كثيرة- و هذه حالة مفردة شاذة- و إلحاق القليل بالكثير- و حمله عليه أولى من نقض الكثير بالقليل و قد كانت أحوال عمر مدة عشرين سنة- منتظمة في إصلاح الرعية و مناصحة الدين- و هذا معلوم منه ضرورة أعني ظاهر أحواله- فإذا وقعت عنه حالة واحدة- و هي قصة الشورى فيها شبهة ما- وجب أن نتأولها ما وجدنا لها في الخير محملا- و نلحقها بتلك الأحوال الكثيرة- التي تكررت منه في الأزمان الطويلة- و لا يجوز أن نضع اليد عليها- و نقول هذه لا غيرها و نقبحها و نهجنها- و نسد أبواب هذه التأويلات عنها- ثم نحمل أفعاله الكثيرة المتقدمة كلها عليها- في التقبيح و التهجين- فهذا خلاف الواجب- فقد بان صحة ما ذكره قاضي القضاة- لأنه لا حاجة بنا في القضاء بالسابق على اللاحق- إلا أن يكون خيره معلوما و علم علما يقينا- فإن الظن الغالب كاف في هذا المقام على الوجه الذي ذكرناه- . و أما قوله عن عمر- أنه بلغ ما في نفسه من إيصال الأمر إلى من أراد- و صرفه عمن أراد من غير شناعة بالتصريح- و حتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر- أو يراجع في نصه كما روجع أبو بكر- و لأي حال يتعسف أبعد الطريقين و غرضه يتم من أقربهما- فقد قلنا في جوابه ما كفى- و بينا أن عمر لو أراد ما ذكر- لصرف الأمر عمن يريد صرفه عنه- و نص على من يريد إيصال الأمر إليه و لم يبال بأحد- فقد عرف الناس كلهم- كيف كانت هيبته و سطوته و طاعة الرعية له- حتى أن المسلمين أطاعوه- أعظم من طاعتهم رسول الله ص في حياته- و نفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره ع- فمن الذي كان يجسر أو يقدر أن يراجعه في نصه- أو يراده أو يلفظ عنده أو غائبا عنه بكلمة تنافي مراده- و أي شي ء ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص- ليقول المرتضى خاف عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر- و قد سمع الناس ما قال أبو بكر لطلحة لما راجعه- فإنه أخزاه و جبهه حتى دخل في الأرض- و قام من عنده و هو لا يهتدي إلى الطريق- و أين كانت هيبة الناس لأبي بكر من هيبتهم لعمر- فلقد كان أبو بكر و هو خليفة يهابه- و هو رعية و سوقة بين يديه- و كل أفاضل الصحابة كان يهابه و هو بعد لم يل الخلافة- حتى أن الشيعة تقول إن النبي ص يهابه- فمن كانت هذه حاله و هو رعية و سوقة- فكيف يكون و هو خليفة- قد ملك مشارق الأرض و مغاربها- و خطب له على مائة ألف منبر- و لو أراد عمر أن يخطب بالخلافة لأبي هريرة- لما خالفه أحد من الناس أبدا- فكيف يقول المرتضى لما ذا يتعسف عمر أبعد الطريقين- و غرضه يتم من أقربهما- . و العجب منه كيف يقول- خاف شناعة التصريح- فمن لم يخف عندهم شناعة المخالفة لرسول الله ص- و هو يعلم أن المسلمين يعلمون- أنه مخالف لله تعالى و لرسوله- قائم في مقام لم يجعله الله تعالى له- كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان- لو كان يريد استخلافه إن هذا لأعجب من العجب
الطعن العاشر
قولهم إنه أبدع في الدين ما لا يجوز- كالتراويح و ما عمله في الخراج الذي وضعه على السواد- و في ترتيب الجزية- و كل ذلك مخالف للقرآن و السنة- لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين- و الخمس منها لأهل الخمس- فخالف القرآن- و كذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا- فخالف في ذلك السنة- و أن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات فخالف السنة- . أجاب قاضي القضاة عن ذلك- بأن قيام شهر رمضان- قد روي عن النبي ص أنه عمله ثم تركه- و إذا علم أن الترك ليس بنسخ- صار سنة يجوز أن يعمل بها- و إذا كان ما لأجله تركه من التنبيه بذلك- على أنه ليس بفرض- و من تخفيف التعبد
ليس بقائم في فعل عمر- لم يمتنع أن يدوم عليه- و إذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة و التشدد في حفظ القرآن- فما الذي يمنع أن يعمل به- . فأما أمر الخراج فأصله السنة- لأن النبي ص بين- أن لمن يتولى الأمر ضربا من الاختيار في الغنيمة- و لذلك فصل بين الرجال و الأموال- فجعل الاختيار في الرجال إلى الإمام في القتل و الاسترقاق و المفاداة- و فصل بينه و بين المال و إن كان الجميع غنيمة- . ثم ذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين إضافة الملك- و إنما المراد أن لهم في ذلك من الاختصاص و الحق- ما ليس لغيرهم- فإذا عرض ما يقتضي تقديم أمر آخر- جاز للإمام أن يفعله- و رأى عمر في أمر السواد الاحتياط للإسلام- بأن يقر في أيديهم على الخراج الذي وضعه- و إن كان في الناس من يقول- فعل ذلك برضا الغانمين و بأن عوض- و يدل على صحة فعله إجماع الأمة و رضاهم به- و لما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين ع تركه على جملته- و لم يغيره- . ثم ذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد- فإن الخبر المروي في هذا الباب ليس بمقطوع به- و لا معناه معلوم- . اعترض المرتضى هذا الجواب- فقال أما التراويح فلا شبهة أنها بدعة- و
قد روي عن النبي ص أنه قال أيها الناس- إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة- و صلاة الضحى بدعة- ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة- و لا تصلوا صلاة الضحى- فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة- ألا و إن كل بدعة ضلالة- و كل ضلالة سبيلها في النار
و قد روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا- فرأى المصابيح في المسجد- فقال ما هذا فقيل له- إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع- فقال بدعة فنعمت البدعة- فاعترف كما ترى بأنها بدعة- و
قد شهد الرسول ص أن كل بدعة ضلالة
- . و قد روي- أن أمير المؤمنين ع لما اجتمعوا إليه بالكوفة- فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلي بهم نافلة شهر رمضان- زجرهم و عرفهم أن ذلك خلاف السنة- فتركوه و اجتمعوا لأنفسهم و قدموا بعضهم- فبعث إليهم ابنه الحسن ع- فدخل عليهم المسجد و معه الدرة- فلما رأوه تبادروا الأبواب و صاحوا وا عمراه- . قال فأما ادعاؤه أن قيام شهر رمضان- كان في أيام الرسول ص ثم تركه فمغالطة منه- لأنا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد- و إنما أنكرنا الاجتماع على ذلك- فإن ادعى أن الرسول ص صلاها جماعة في أيامه- فإنها مكابرة ما أقدم عليها أحد- و لو كان كذلك ما قال عمر إنها بدعة- و إن أراد غير ذلك فهو مما لا ينفعه- لأن الذي أنكرناه غيره- . قال و الذي ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن- و المحافظة على الصلاة ليس بشي ء- لأن الله تعالى و رسوله بذلك أعلم- و لو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة و يأمران بها- و ليس لنا أن نبدع في الدين- بما نظن أن فيه مصلحة- لأنه لا خلاف في أن ذلك لا يسوغ و لا يحل- . و أما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن- لأن الله تعالى جعل الغنيمة في وجوه مخصوصة- فمن خالفها فقد أبدع- و ليس للإمام و لا لغيره أن يجتهد- فيخالف النص فبطل قوله- أنه رأى من الاحتياط للإسلام- أن يقر في أيديهم على الخراج- لأن خلاف النص لا يكون من الاحتياط- و رسوله أعلم بالاحتياط منه- و لو كان لرضا الغانمين عن ذلك أو عوضهم منه- على ما ادعاه صاحب الكتاب- لوجب أن يظهر ذلك و يعلم- و ما عرفنا في ذلك شيئا و لا نقله الناقلون- .
و أما ما ادعاه من الإجماع- فمعوله فيه على ترك النكير- و قد تقدم الكلام عليه و تكرر- و كذلك قد تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين ع- ما أقره من أحكام القوم- و ما ادعاه أن خبر الجزية غير معلوم و لا مقطوع به- فهب أن ذلك مسلم على ما فيه- أ ليس من مذهبه- أن أخبار الآحاد في الشريعة يعمل بها- و إن لم تكن معلومة- فهلا عمل عمر بالخبر المروي في هذا الباب- و عدل عن اجتهاده الذي أداه إلى مخالفة الله تعالى- . أما كون صلاة التراويح بدعة- و إطلاق عمر عليها هذا اللفظ- فإن لفظ البدعة يطلق على مفهومين- أحدهما ما خولف به الكتاب و السنة- مثل صوم يوم النحر و أيام التشريق- فإنه و إن كان صوما إلا أنه منهي عنه- . و الثاني ما لم يرد فيه نص بل سكت عنه- ففعله المسلمون بعد وفاة رسول الله ص- فإن أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الأول- فلا نسلم أنها بدعة بهذا التفسير- و الخبر الذي رواه المرتضى غير معروف- و لا يمكنه أن يسنده إلى كتاب من كتب المحدثين- و لو قدر على ذلك لأسنده- و لعله من أخبار أصحابه من محدثي الإمامية و الأخباريين منهم و الألفاظ التي في آخر الحديث- و هي
كل بدعة ضلالة و كل ضلالةفي النار
مروية مشهورة- و لكن على تفسير البدعة بالمفهوم الأول- و قول عمر إنها لبدعة خبر مروي مشهور- و لكن أراد به البدعة بالتفسير الثاني- و الخبر الذي رواه أمير المؤمنين ع- ينفرد هو و طائفته بنقله- و المحدثون لا يعرفون ذلك و لا يثبتونه- . فأما إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان- صلاها رسول الله ص في جماعة- فإنكار لست أرتضيه لمثله- فإن كتب المحدثين مشحونة برواية ذلك- و قد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعدة طرق- و رواه الفقهاء- ذكره الطحاوي في كتاب إختلاف الفقهاء- و ذكره أبو الطيب الطبري الشافعي في شرحه كتاب المزني- و قد ذكره المتأخرون أيضا- ذكره الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين- و قال إن رسول الله ص صلى التراويح- في شهر رمضان في جماعة ليلتين أو ثلاثا ثم ترك- و قال أخاف أن يوجب عليكم- و أجاز لي الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي- بروايته عن شيخه محمد بن ناصر عن شيوخه و رجاله- أن رسول الله ص صلى نافلة شهر رمضان- في جماعة يأتمون به ليالي ثم لم يخرج و قام في بيته- و صلى الناس فرادى بقية أيامه- و أيام أبي بكر و صدرا من خلافة عمر- فخرج عمر ليلة- فرأى الناس أوزاعا يصلون في المسجد- فقال لو جمعتهم على إمام- فأمر أبي بن كعب أن يصلي بهم- فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج- فرآهم مجتمعين إلى أبي بن كعب يصلي بهم- فقال بدعة و نعمة البدعة- أما إنها لفضل و التي ينامون عنها أفضل- . قال يعني قيام آخر الليل فإنه أفضل من قيام أوله- . و أما قول قاضي القضاة أن في التراويح فائدة- و هي التشدد في حفظ القرآن و الدعاء إلى الصلاة- و اعتراض المرتضى إياه بقوله- الله أعلم بالمصلحة- و ليس لنا أن نسن ما لم يسنه الله و رسوله- فإنه يقال له أ ليس يجوز للإنسان- أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة- بكيفيات مخصوصة و أعداد ركعات مخصوصة- و لا يكون ذلك مكروها و لا حراما- نحو أن يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة- و يقرأ في كل ركعة منها سورة من قصار المفصل- أ فيقول أحد إن هذا بدعة- لأنه لم يرد فيه نص- و لا سبق إليه المسلمون من قبل- فإن قال هذا يسوغ- فإنه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة- قيل له و التراويح جائزة و مسنونة- لأنها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة- . فإن قال كيف تكون نافلة و هي جماعة- قيل له قد رأينا كثيرا من النوافل تصلى جماعة- نحو صلاة العيد و صلاة الكسوف- و صلاة الاستسقاء و صلاة الجنازة- إذا لم يتعين للمصلي بأن يقوم غيره مقامه فيها- . فأما ما أشار إليه قاضي القضاة- من التشدد في حفظ القرآن- فهو أنه روي أن عمر أتي بسارق فأمر بقطعه- فقال لم أعلم أن الله أوجب القطع في السرقة- و لو علمت لم أسرق فأحلفه على ذلك- و سن التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين- . و قد اختلف الفقهاء أيما أفضل في نافلة شهر رمضان- الاجتماع عليها أم صلاتها فرادى- فقال قوم الجماعة أفضل- لأن الاجتماع بركة و له فضيلة- و لو لا فضيلته لم يسن في المكتوبة- و لأنه ربما يكسل في الانفراد- و ينشط عند مشاهدة الجمع- . و قال قوم الانفراد أفضل- لأنها سنة ليست من الشعائر كالعيدين- فإلحاقها بتحية المسجد أولى- و قد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمع معا- ثم لم يصلوا التحية بالجماعة- . و روى القائلون بهذا القول
عن النبي ص أنه قال فضل صلاة المتطوع في بيته على صلاة المتطوع في المسجد- كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في البيت
و
قد روي عنه ع أن أفضل النوافل ركعتان- يصليهما المسلم في زاوية بيته لا يعلمهما إلا الله وحده
- . قالوا و لأنها إذا صليت فرادى- كانت الصلاة أبعد من الرياء و التصنع- و بالجملة الاختلاف في أيهما أفضل- فأما تحريم الصلاة و لزوم الإثم بفعلها- فمما لم يذهب إليه إلا الإمامية- و قد روى الرواة أن عليا ع خرج ليلا- في شهر رمضان في خلافة عثمان بن عفان- فرأى المصابيح في المساجد- و المسلمون يصلون التراويح- فقال نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا- و الشيعة يروون هذا الخبر- و لكن بحمل اللفظ على معنى آخر- . فأما حديث الخراج- فقد ذكره أرباب علم الخراج و الكتاب- و ذكره الفقهاء أيضا في كتبهم- و ذكره أرباب السيرة و أصحاب التاريخ- قال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج- اختلف الفقهاء في أرض العنوة- فقال بعضهم تخمس- ثم تقسم أربعة أخماس على الذين افتتحوها- و قال بعضهم ذلك إلى الإمام- إن رأى أن يجعلها غنيمة ليخمسها- و يقسم الباقي كما فعل رسول الله ص بخيبر فذلك إليه- و إن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها و لا يقسمها- بل تكون موقوفة على سائر المسلمين- كما فعل عمر بأرض السواد و أرض مصر و غيرهما- مما افتتحه عنوة فعلى الوجهين جميعا فيهما قدوة و متبع- لأن النبي ص قسم خيبر و صيرها غنيمة- و أشار الزبير بن العوام على عمر في مصر و بلاد الشام بمثل ذلك- و هو مذهب مالك بن أنس- و جعل عمر السواد و غيره فيئا موقوفا على المسلمين- من كان منهم حاضرا في وقته- و من أتى بعده و لم يقسمه- و هو رأي رآه علي بن أبي طالب ع و معاذ بن جبل- و أشارا عليه و به كان يأخذ سفيان بن سعيد- و ذلك رأي من جعل الخيار إلى الإمام- في تصيير أرض العنوة غنيمة- أو فيئا راجعا للمسلمين في كل سنة- .
قال قدامة رحمه الله- فأما ما فعله رسول الله ص من تصييره خيبر غنيمة- فإنه ع اتبع فيه آية محكمة و هي قوله تعالى- وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ- فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى - وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ- فهذه آية الغنيمة و هي لأهلها دون الناس- و بها عمل رسول الله ص- و أما الآية التي عمل بها عمر- و ذهب إليها علي ع و معاذ بن جبل فيما أشارا عليه به- فهي قوله تعالى- ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى - وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ- إلى قوله لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ- انتهت ألفاظ قدامة- . و روى محمد بن جرير الطبري في تاريخه- أن عمر هم أن يقسم أرض السواد بين الغانمين- كما يقسم الغنائم- ثم قال فكيف بالآجام و مناقع المياه- و الغياض و الهضب المرتفع و الغائط المنخفض- و كيف يصنع هؤلاء بالماء و قسمته بينهم- أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض- ثم جمع الغانمين فقال لهم ذلك- فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه- ثم يقتسمون غلتها كل عام- فقال عمر اللهم إني قد اجتهدت- و قد قضيت ما علي- اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد- . فأما قول قاضي القضاة- إن النبي ص جعل لمتولي أمر الأمة- ضربا من الاختيار في الغنيمة- و ما ذكره من الفرق بين الرجال و الأموال- و ما ذكره من أن الغانمين ليسوا مالكي الغنيمة ملكا صريحا- و إنما هو ضرب من الاختصاص- فكله جيد لا كلام عليه- و لم يعترضه المرتضى بشي ء و لا تعرض له- . و أما قول قاضي القضاة- إنه روي أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين- و بأن عوضهم عنه و إنكار المرتضى وقوع ذلك- و قوله أنه لم ينقل- فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه- أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين- و بعد أن جمعهم و قال لهم ما استصلحه- و ما أدى إليه اجتهاده فرضوا به- و أشهدوا الله عليهم و الحاضرين- . و قد ذكر كثير من الفقهاء- أن عمر عوض الغانمين عن أرض السواد- و وقفه على مصالح المسلمين- و هذا ما رواه الشافعي- و ذكر حديث التعريض أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي- في كتاب الحاوي في الفقه- و ذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في شرح المزني- . و أما تعلق قاضي القضاة بإجماع المسلمين فتعلق صحيح- و طعن المرتضى فيه بالتقية- و موافقة الإمام المعصوم على الباطل- طعن يسمج التعلق به- و للبحث فيه سبح طويل- . و أما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد- و للإمام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء و الفقهاء- و قد قال قاضي القضاة- إن الخبر الذي ذكره المرتضى و ذكر أنه مرفوع- و هو
على كل حالم دينار
خبر مظنون غير معلوم- و اعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الأمر كذلك- أ لستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع- فهلا عمل عمر بهذا الخبر- و إن كان خبر واحد اعتراض ليس بلازم- لأنه إذا كان خبر واحد عندنا- لم يلزم أن يكون أيضا خبر واحد عند عمر- بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر- و لو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبر- من واحد أو اثنين من الصحابة- ثم لم يعمل به كان الاعتراض لازما- و لكن ذلك مما لم يثبت
|