أين القوم الّذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، و قرءوا القرآن فأحكموه، و هيجوا إلى الجهاد فولهوا و له اللّقاح إلى أولادها، و سلبوا السّيوف أغمادها، و أخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا، و صفّا صفّا، بعض هلك، و بعض نجى، لا يبشّرون بالأحياء، و لا يعزّون عن الموتى، مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصّيام، ذبل الشّفاه من الدّعاء، صفر الألوان من السّهر، على وجوههم «عليهم خ» غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذّاهبون، فحقّ لنا أن نظماء إليهم، و نعض الأيدي على فراقهم
اللغة
(اللّقاح) بكسر اللّام الابل الواحدة لقوح كصبور و هي الحلوب أو التي نتجت هى لقوح إلى شهرين أو ثلاثة، ثمّ هي لبون و (زحف) اليه كمنع زحفا و زحوفا و زحفانا مشى، و الزحف أيضا الجيش لأنّهم يزحفون إلى العدوّ و يمشون و (الصّف) مصدر كالتصفيف و يقال أيضا للقوم المصطفين.
و (المره) بضمّ الميم و سكون الراء مرض في العين بترك الكحل من مرهت عينه كفرحت فسدت بترك الكحل و (خمص البطن) مثلّثة خلاه (ذبل) الشي ء ذبولا من باب قعد قلّ نضارته و ذهب ماؤه و (الظماء) محرّكة شدّة العطش
الاعراب
و قوله أين القوم أين كلمة استفهام استعملت هنا مجازا في التحسّر و التأسّف على السّلف الماضين، و هو من باب تجاهل العارف، و أغمادها منصوب بنزع الخافض أو بدل من السيوف، و أخذوا بأطراف الأرض، إمّا من باب القلب أى أخذوا الأرض بأطرافها كما تقول: أخذوا بزمام النّاقة، أو الباء زائدة، أى أخذوا على النّاس أطراف الأرض أى حصروهم.
و زحفا زحفا و صفا صفا، منصوبان على الحال من فاعل أخذوا، أى زحفا بعد زحف و صفا بعد صف، أى ذوى صفوف كثيرة و لا يمنع جمودهما إمّا لعدم اشتراط الاشتقاق في الحال، أو لامكان التأويل المشتق بناء على الاشتراط، و يجوز انتصابهما على المصدر، أى يزحفون زحفا و يصطفون صفا.
و التنوين في قوله: بعض هلك و بعض نجا، للتعويض، أى بعضهم هلك و بعضهم نجا، و كذلك اللّام في قوله: لا يبشّرون بالأحياء و لا يعزّون بالموتى، و جملة اولئك اخوانى الذّاهبون، استينافية بيانية
المعنى
ثمّ تأسّف على السّلف الماضين من رؤساء الدّين كحمزة و جعفر و سلمان و أبي ذر و المقداد و عمّار و نظرائهم و تحسّر على فقدهم فقال (أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه) بأحسن القبول (و قرءوا القرآن فأحكموه) أى جعلوه محكما و أذعنوا بكونه من اللَّه و أنّ المورد له رسول اللَّه، و تدبّروا في معانيه و عملوا بمضامينه و أخذوا تأويله و تنزيله ممّن نزل في بيته.
(و هيجوا إلى الجهاد فولهوا و له اللّقاح إلى أولادها) أى اشتاقوا إلى الجهاد اشتياق النّاقة المرضعة إلى أولادها، و على النسخة الثّانية التضمّنة لسقط لفظ الوله فالمعنى أنهم جعلوا اللّقاح و الهة إلى أولادها لركوبهم اياها عند خروجهم إلى الجهاد (و سلبوا السّيوف) من (أغمادها) و جفونها أو سلبوا أغماد السّيوف منها (و أخذوا بأطراف الأرض) أى أخذوا الأرض بأطرافها و تسلّطوا عليها، أو أخذوا على النّاس أطرافها و حصروهم و ضيّقوا عليهم (زحفا زحفا و صفّا صفّا) يعنى حالكونهم جيشا بعد جيش و صفّا بعد صفّ (بعض هلك و بعض نجا) كما أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله: فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا.
ثمّ أشار إلى انقطاع علائقهم من الدّنيا بقوله (لا يبشّرون بالأحياء و لا يعزّون عن الموتى) يعني إذا ولد لهم ولد فهم لا يبشّرون به و إذا مات منهم أحد فهم لا يعزّون عنه، أو أنهم لشدّة ولههم إلى الجهاد لا يفرحون ببقاء حيّهم حتّى يبشّروا به، و لا يحزنون لقتل قتيلهم حتّى يعزّوا عنه، و هذا هو الأظهر سيما على ما في بعض النسخ من لفظ القتلى بدل الموتى.
ثمّ أشار إلى مراتب زهدهم و خوفهم و خشيتهم من اللَّه تعالى فقال (مره العيون من البكاء خمص البطون من الصيام ذبل الشفاة من الدّعاء صفر الألوان من السّهر) أراد أنهم من شدّة بكائهم من خوف اللَّه سبحانه صارت عيونهم فاسدة، و من كثرة صيامهم ابتغاء لمرضاة اللَّه صارت بطونهم ضامرة، و من المواظبة على الدّعاء ظلّت شفاههم قليلة النداوة و النظارة، و من المراقبة على التهجد و القيام باتت ألوانهم متغيّرة مصفرّة.
(عليهم غبرة الخاشعين) و سيماء الخائفين (اولئك اخوانى الذاهبون فحقّ لنا) و خليق بنا (أن نظماء) و نشتاق (إليهم) أسفا عليهم (و نعضّ الأيدى على فراقهم) حسرة على فقدانهم قال الشّارح المعتزلي بعد أن ذكر أنّ المشار إليه بأولئك من كان في بدء الاسلام و خموله و ضعفه أرباب زهد و عبادة و شجاعة كمصعب بن عمير و سعد بن معاذ و جعفر ابن أبي طالب و عبد اللَّه بن رواحة و كعمّار و أبي ذر و المقداد و سلمان و خباب و جماعة من أصحاب الصفة ما هذا لفظه: و قد جاء في الأخبار الصحيحة أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال إنّ الجنّة لتشتاق إلى أربعة: عليّ، و عمّار، و إبى ذر، و المقداد، و جاء في الأخبار الصّحيحة أيضا أنّ جماعة من أصحاب الصفّة مرّ بهم أبو سفيان بن حرب بعد الاسلام فعضّوا أيديهم عليه و قالوا وا أسفاه كيف لم تأخذ السيوف مأخذها من عنق عدوّ اللَّه، و كان معه أبو بكر فقال لهم: أ تقولون هذا لسيّد البطحاء فرفع قوله إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأنكره و قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأبي بكر انظر لا تكون أغضبتهم فتكون قد أغضبت ربك، فجاء أبو بكر إليهم و ترضاهم سألهم أن تستغفروا له، فقالوا: غفر اللَّه لك.
أقول: إذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قد أنكر ما صدر من أبي بكر في حقّ أهل الصّفة مع أنه لم يكن بشي ء يعبأ به فكيف لا ينكر ما صدر عنه في حقّ أمير المؤمنين من غصبه عليه الخلافة مع أنّ نسبة أهل الصفة إليه ليست إلّا نسبة الرّعية إلى السّيد و العبد إلى المولى، و إذا كان غضبهم موجبا لغضب الرّب فكيف لا يوجب غضبه عليه السّلام غضبه سبحانه و قد قال تعالى: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ثمّ أقول: انظر إلى تزوير هذا اللّعين كيف ترضى أهل الصفّة فيما قال مع أنه لو كان ذنبا فلم يكن إلّا من صغاير الذّنوب و هينات السيئات و لم يطلب الرّضا من عليّ المرتضي فيما فعل في حقه من الظلم و الخطاء مع كونه من عظائم الجرائر و موبقات الكبائر، و لم يسأل الاستغفار من فاطمة الزّهراء عليها السّلام بنت خاتم الأنبياء مع ما فعل في حقّها من الظلم و الأذى، حيث غصب منها فدك و ألجأها إلى الخروج من قعر بيتها إلى الملاء، و ألبسها ثوب الصّغار و الصماء مع أنّ هذا كان أولى بسؤال الاستغفار فأولى.
ثمّ العجب من الشارح مع روايته لهذه الأحاديث الفاضحة و حكمه بصحّتها كيف يركن إلى أبي بكر و يتّخذه وليّا بلى من لم يجعل اللَّه له نورا فما له من نور.
|