و من كلام له عليه السّلام لابى ذر (ره) لما اخرج الى الربذة و هو المأة و الثلاثون من المختار في باب الخطب.
و هو مروى في روضة الكافى بتفصيل تطلع عليه انشاء اللّه يا أبا ذرّ إنّك غضبت للّه سبحانه فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، و اهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و أغناك عمّا منعوك، و ستعلم من الرّابح غدا، و الأكثر حسّدا، و لو أنّ السّموات و الأرضين كانتا على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا، لا يونسنّك إلّا الحقّ، و لا يوحشنّك إلّا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمنوك.
اللغة
قال الطريحى (الرّبذة) بالتّحريك قرية معروفة قرب المدينة نحوا من ثلاثة أميال كانت عامرة في صدر الاسلام فيها قبر أبي ذر الغفارى و جماعة من الصّحابة و هي في هذا الوقت دارسة لا يعرف لها أثر و لا رسم و (الرّتق) ضدّ الفتق قال اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما، و رتقت المرأة رتقا من باب تعب إذا انسدّ مدخل الذّكر من فرجها فلا يستطاع جماعها فهى رتقاء واسع (القرض) القطع و منه الحديث كان بني إسرائيل إذا أصاب أحدا قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاريض أي قطعوها، و سمّى القرض المصطلح و هو ما تعطيه لتقضاه به لأنّه قطيعة من مالك (الأمن) ضدّ الخوف و أمن كفرح أمنا و أمانا بفتحهما.
الاعراب
قد مضى تحقيق الكلام فى ما في مثل قوله فما أحوجهم في شرح الخطبة المأة و الثّامنة، و ما في ما منعتهم يحتمل المصدر و الموصول فالعايد محذوف و مثله على الاحتمال الثاني ما في عمّا منعوك، فافهم
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام حسبما أشار إليه السيّد (ره) قاله لأبي ذرّ لما أخرج إلى الرّبذة بأمر عثمان اللّعين، و ستعلم نبأه بعد حين (يا أبا ذر إنّك غضبت) القوم (للّه سبحانه فارج من غضبت له) و إنّما أتى بالموصول و لم يقل فارج اللّه لما فيه من تقرير الغرض المسوق له الكلام، فانّ المقصود بهذا الكلام تسلية همّ أبي ذرّ رحمه اللّه و سلب وحشته و كأبته، فانّه إذا كان غضبه للّه سبحانه و في اللّه سبحانه خالصا مخلصا فلا بدّ أن يكون رجاه باللّه و حرىّ حينئذ عليه سبحانه الذى كان غضبه له أن لا يخيّب رجاه و لا يقطع أمله بل يكون مونسه في الوحشة و أنيسه في الوحدة، و ناصره و معينه و حافظه على كلّ حالة، ففى التّعبير بالموصول زيادة تقرير لعدم تخيّب رجاه، و فيه من التّسلية له ما لا يخفى (إنّ القوم) أراد به عثمان و معاوية و أمثالهما (خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك) يعنى أنّهم خافوا منك أن تفسد دنياهم كما أنّك خفت أن تفسدوا دينك (فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه فما أحوجهم إلى ما منعتهم) أيما أعظم احتياجهم إلى منعك إيّاهم لأنّك إنّما تمنعهم من المنكرات و في هذا المنع لهم من الفوائد ما لا تحصى و في تركه من المضارّ ما لا تستقصى، أو ما أكثر حاجتهم إلى الذي منعته منهم بخروجك من بين أظهرهم و هو دينك الذي خفتهم عليه (و) ما (أغناك عمّا منعوك) أى ما كثر غنائك عن الّذي منعوك منه و هو دنياهم الّتي خافوك عليها (و ستعلم من الرّابح غدا) أي في الآخرة (و الأكثر حسّدا) ثمّ أراد زيادة ترغيبه في الثّقة و الاعتماد على اللّه سبحانه فقال (و لو أنّ السّموات و الأرضين كانتا على عبد رتقا) أى مرتقين منسدّين و هو كناية عن شدّة الضّيق أى لو كان العبد في غاية الشّدة و نهاية الضّنك و الضيق بحيث ضافت عليه السّموات و الأرض بما رحبت (ثمّ اتقى اللّه) سبحانه (لجعل اللّه له منهما مخرجا) حسبما وعده في الكتاب العزيز بقوله: و من يتّق اللّه يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكّل على اللّه فهو حسبه.
(لا يونسنّك إلّا الحقّ و لا يوحشنّك إلّا الباطل فلو قبلت دنياهم) و لم تمنعهم من زبرجها و زخارفها و قيناتها (لأحبّوك و لو قرضت منها) و قطعت قطيعة لنفسك من مالها و قبلت ما يعطونك منها إليك (لأمنوك) أى كنت في أمن من شرورهم، و لم يصل إليك أذا هم
تنبيه
في ذكر نبذ من أحوال أبى ذر و فضائله و كيفية اسلامه و اخراجه الى الربذة
فأقول: أبو ذر اسمه جندب ابن السّكن كما قاله الطريحى، أو جندب ابن جنادة كما قاله المجلسيّ و هو الأشهر فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبد اللّه، و هو من بني غفار و زان كتاب أمّا كيفيّة اسلامه ففي الروضة من الكافي عن أبي عليّ الأشعرىّ عن محمّد ابن عبد الجبّار عن عبد اللّه بن محمّد عن سلمة اللّؤلؤى عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ألا أخبركم كيف كان إسلام سلمان و أبي ذر فقال الرّجل و أخطأ: أمّا إسلام سلمان فقد عرفته فأخبرني باسلام أبي ذر، فقال: إنّ أبا ذر كان في بطن مرّ يرعى غنما فأتى ذئب عن يمين غنمه فهشّ بعصاه على الذئب فجاء الذّئب عن شماله فهشّ عليه أبو ذر فقال له أبو ذر ما رأيت ذئبا أخبث منك و لا شرّا، فقال الذّئب: و اللّه شرّ منّي أهل مكّة بعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا فكذّبوه و شتموه، فوقع في اذن أبي ذر فقال لامرءته هلمّي مزودى و إداوتي و عصاى، ثمّ خرج على رجليه يريد مكّة ليعلم خبر الذئب و ما أتاه به حتى بلغ مكّة، فدخلها في ساعة حارّة و قد تعب و نصب و أتا زمزم و قد عطش فاغترف دلوا فخرج لبنا، فقال في نفسه: هذا دالّة يدلّنى على أنّ خبر الذئب و ما جئت له حقّ فشرب و جاء إلى جانب من جوانب المسجد فاذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما قال الذئب، فما زالوا في ذلك من ذكر النبيّ و الشتم له حتى جاء ابو طالب من آخر النهار، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: كفّوا فقد جاء عمّه، قال: فكفّوا، فما زال يحدّثهم و يكلّمهم حتى كان آخر النهار، ثمّ قام و قمت على اثره فالتفت إلىّ فقال: اذكر حاجتك، فقلت هذا النبيّ المبعوث فيكم قال: و ما تصنع به قلت: او من به و اصدّقه و أعرض عليه نفسى و لا يأمرني بشي ء إلّا أطعته، فقال: و تفعل فقلت: نعم، قال: فقال: غدا في هذا الوقت إلىّ حتى أدفعك إليه، قال: فبتّ تلك اللّيلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم، فما زالوا في ذكر النبيّ و شتمه حتّى طلع ابو طالب فلما رأوه قال بعضهم لبعض امسكوا فقد جاء عمّه فأمسكوا فما زال يحدّثهم حتى قام فتبعته فسلّمت عليه فقال: اذكر حاجتك، فقلت: النبىّ المبعوث فيكم قال: و ما تصنع به قلت: اؤمن به و أصدقّه و أعرض عليه نفس و لا يأمرنى بشي ء إلّا أطعته قال: و تفعل قلت: نعم، قال: قم معى، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة عليه السّلام فسلّمت عليه و جلست فقال لي: ما حاجتك فقلت: هذا النّبيّ المبعوث فيكم قال: و ما حاجتك إليه قلت: اؤمن به و اصدّقه و أعرض عليه نفسى و لا يأمرني بشي ء إلّا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، قال: فشهدت قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر فسلّمت عليه و جلست، فقال لي جعفر: ما حاجتك فقلت: هذا النبيّ المبعوث فيكم قال: و ما حاجتك إليه قلت: أؤمن به و أصدّقه و أعرض عليه نفسي و لا يأمرني بشي ء إلّا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله، قال: فشهدت، فدفعني إلى بيت فيه عليّ عليه السّلام فسلّمت و جلست فقال: ما حاجتك قلت: هذا النبيّ المبعوث فيكم قال: و ما حاجتك إليه قلت: أومن به و اصدّقه و أعرض عليه نفسي، و لا يأمرني بشي ء إلّا أطعته، قال: تشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، قال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسلّمت و جلست فقال لي رسول اللّه: ما حاجتك قلت: النبيّ المبعوث فيكم قال: و ما حاجتك إليه قلت: أؤمن به و اصدّقه و لا يأمرني بشي ء إلّا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، فقلت: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال لي: يا باذر انطلق إلى أهلك فانّك تجد ابن عمّ لك قد مات و ليس له وارث غيرك، فخذ ما له و أقم عند أهلك حتّى يظهر أمرنا، قال: فرجع أبو ذر و أخذ و أقام عند أهله حتّى ظهر أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هذا حديث أبي ذر و إسلامه «رض»
و أما مناقبه الجميلة و خصاله الحميدة و كراماته البديعة
فأكثر من أن تحصى، و كفى في فضله اختصاصه برسول اللّه و كونه من خيار صحابته و تالي مرتبة سلمان و أنّه ارتدّ النّاس بعد رسول اللّه إلى أعقابهم القهقرى و لم يبق غيرهما و غير عمّار و المقداد و قد قال فيه رسول اللّه ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر، قيل بماذا فضّله اللّه بهذا و شرّفه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأنّه كان بفضل علىّ أخى رسول اللّه قوّالا، و له في كلّ الأحوال مدّاحا، و لشانئه و أعدائه شانئا، و لأوليائه و أحبّائه مواليا، سوف يجعله اللّه في الجنان من أفضل سكانها، يخدمه ما لا يعرف عدده إلّا اللّه من وصايفها و غلمانها و ولدانها.
و عن عليّ بن إبراهيم عن الصّادق عليه السّلام قال: نزل قوله تعالى: إنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنّات الفردوس نزلا، في أبي ذر و المقداد و سلمان و عمّار.
و في الكافي عن سهل عن محمّد بن عبد الحميد عن يونس عن شعيب العقر قوفي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام شي ء يروى عن أبي ذر رضي اللّه عنه أنّه كان يقول ثلاث يبغضها النّاس و أنا احبّها: احبّ الموت، و احبّ الفقر، و احبّ البلاء، فقال: إنّ هذا ليس على ما تروون إنّما عنى الموت في طاعة اللّه أحبّ إلىّ من الحياة في معصية اللّه و البلاء في طاعة اللّه أحبّ إلىّ من الصحّة في معصية اللّه، و الفقر في طاعة اللّه أحبّ إلىّ من الغني في معصية اللّه و في تفسير الامام عند تفسير قوله: الّذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصّلاة، قال: و حدّثني أبي عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان من خيار أصحابه أبو ذر الغفاري فجاء ذات يوم فقال: يا رسول اللّه إنّ لي غنيمات قدر ستّين شاة أكره أن ابدئه فيها و افارق حضرتك و خدمتك، و أكره أن أكلها إلى راع فيظلمها و يسى ء رعيها، فكيف أصنع فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابدء فيها فبدء فيها، فلمّا كان في اليوم السّابع جاء إلى رسول اللّه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذرّ، فقال لبيّك يا رسول اللّه، قال: ما فعلت غنيماتك فقال: يا رسول اللّه إنّ لها قصّة عجيبة، قال: و ما هى قال يا رسول اللّه بينا أنا في صلاتي إذ عدا الذّئب على غنمي فقلت: يا ربّ صلاتي يا ربّ غنمي فآثرت صلاتي فأحضر الشيطان ببالى يا أبا ذر أين أنت إن عدت الذّئاب على غنمك و أنت تصلّى فأكلها كلّها و ما بقى لك في الدّنيا ما تتعيّش به فقلت للشيطان: يبقى لي توحيد اللّه و الايمان بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موالاة أخيه سيّد الخلق بعده عليّ ابن أبي طالب عليه السّلام و موالاة الأئمة الهادين الطّاهرين من ولده عليهم السّلام و معاداة أعدائهم و كلّما فات من الدّنيا بعد ذلك سهل و أقبلت على صلاتي، فجاء ذئب فأخذ حملا و ذهب به و أنا أحسّ به إذ أقبل على الذّئب أسد قطعه نصفين و استنقذ الحمل و ردّه إلى القطيع ثمّ نادى يا أبا ذر اقبل على صلاتك فانّ اللّه قد و كلنى بغنمك إلى أن تصلّى، فأقبلت على صلاتي و قد غشينى التّعجب ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتّى فرغت منها، فجاءني الأسد و قال لى امض إلى محمّد فأخبره إنّ اللّه تعالى قد أكرم صاحبك الحافظ شريعتك و و كل أسدا بغنمه يحفظها، فتعجّب من كان حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صدقت يا أبا ذر و لقد آمنت به أنا و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين، فقال بعض المنافقين:
هذا بمواطاة بين محمّد و أبي ذر يريد أن يخدعنا بغروره و اتّفق منهم عشرون رجلا و قالوا نذهب إلى عنمه فنظر إليها و ننظر إلى أبي ذر إذا صلّى هل يأتي الأسد و يحفظ غنمه فنبيّن بذلك كذبه، فذهبوا و نظروا و أبو ذر قائم يصلّى و الأسد يطوف حول غنمه و يرعيها و يردّ إلى القطيع ما يشذّ عنه منها حتى إذا فرغ من صلاته ناداه الأسد هات قطيعك مسلّما وافر لعدو سالما، ثمّ ناداهم الأسد معاشر المنافقين أنكرتم تولّى محمّد و عليّ و الطّيبين من آلهما و المتوسّل إلى اللّه تعالى بهما أن يسخّرني ربّي لحفظ غنمه، و الّذي أكرم محمّدا و آله الطيّبين، لقد جعلنى اللّه طوع يدي أبي ذر حتّى لو أمرني بافتراسكم و إهلاككم لأهلككم، و الّذى لا يحلف بأعظم منه لو سئل اللّه بمحمّد و آله الطّيبين أن يحول البحار دهن زنبق و بان و الجبل مسكا و عنبرا و كافورا و قضبان الأشجار قضب الزّمرد و الزّبرجد لما منعه اللّه ذلك، فلمّا جاء أبو ذر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا أبا ذر إنّك أحسنت طاعة اللّه فسخّر اللّه لك من يطيعك في كفّ العواري عنك، فأنت من أفضل من مدحه اللّه عزّ و جلّ بأنّهم يقيمون الصّلاة
و أما كيفية اخراجه الى الربذة و ما جرى بينه و بين عثمان
فقد رواه العامّة و الخاصّة قال الشّارح المعتزلي و علم الهدى في محكىّ الشافي و اللّفظ للثّاني: إنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه و أعطى الحرث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمأة ألف درهم، و أعطى زيد بن ثابت مأئة ألف درهم جعل أبو ذر يقول: بشّر الكافرين بعذاب أليم، و يتلو قول اللّه عزّ و جلّ الذين يكنزون الذّهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم، فرفع ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر رحمه اللّه نائلا مولاه أن انته عمّا يبلغني عنك، فقال: أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه عزّ و جلّ و عيب من ترك أمر اللّه فواللّه لأن أرضى اللّه بسخط عثمان أحبّ إلىّ و خير لي من أن أرضى عثمان بسخط اللّه، فأغضب عثمان ذلك فأحفظه و تصابر، و قال عثمان يوما: أ يجوز للامام أن يأخذ من المال فاذا أيسر قضاه فقال كعب الأخبار: لا بأس بذلك، فقال أبو ذر رحمه اللّه: يابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا فقال عثمان: قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشّام، فأخرجه اليها، فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمأة دينار فقال أبو ذر: إن كانت من عطائى الذي حرمتمونيه عامى هذا قبلتها، و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها وردّها عليه، و بني معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذه من مال اللّه فهى الخيانة، و إن كانت من مالك فهو الاسراف، فكان أبو ذر يقول: و اللّه لقد حدثت أعمالا ما أعرفها و اللّه ما هى في كتاب اللّه و لا في سنّة نبيّه، و اللّه إنّي لأرى حقّا يطفأ و باطلا يحيى و صادقا مكذّبا و اثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه و قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إنّ أبا ذر لمعضد عليكم الشّام فتدارك أهله إن كان لكم فيه حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية أما بعد فاحمل جنيدبا إلىّ على أغلظ مركب و أوعره، فوجّه به مع من سار به اللّيل و النّهار، و جمله على شارف ليس عليها إلّا قتب حتّى قدم بالمدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد.
أقول: و عن المسعودي في مروج الذّهب أنّه ردّ الى المدينة على بعير عليه قتب يابس معه خمسمائة من الصّقالية يطردون به حتّى أتوا به المدينة و قد تسلّخت بواطن أفخاذه و كاد يتلف، فقيل له: إنّك تموت، قال: هيهات لن أموت حتّى انفى قال السيّد ره و في رواية الواقدي إنّ أبا ذر لما دخل على عثمان قال: لا أنعم اللّه بك عينا يا جنيدب، فقال أبو ذر رحمه اللّه: أنا جندب و سمّاني رسول اللّه عبد اللّه فاخترت اسم رسول اللّه الذي سمّاني به على اسمي، فقال عثمان: أنت الذي تزعم أنّا نقول إنّ يد اللّه مغلولة و إنّ اللّه فقير و نحن أغنياء فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال اللّه على عباده، و لكن اشهد أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إذا بلغ ابن أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا، و عباد اللّه خولا ، و دين اللّه دخلا ثمّ يريح عباد اللّه منهم، فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من رسول اللّه فقالوا: ما سمعناه، فقال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول اللّه فقال أبو ذر لمن حضر: أما تظنّون أني صدقت قالوا: لا و اللّه ما ندرى، فقال عثمان: ادعو الى عليا فدعي فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فحدّثه، فقال عثمان لعليّ: هل سمعت هذا من رسول اللّه فقال: لا و صدق أبو ذر، فقال: كيف عرفت صدقه فقال: لأنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، فقال من حضر من أصحاب النبيّ جميعا: لقد صدق أبو ذر، فقال أبو ذر: أحدّثكم أنّى سمعت هذا من رسول اللّه ثمّ تتّهموني ما كنت أظنّ أن أعيش حتّى أسمع من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
قال السّيّد (ره): و روى الواقدي في خبر آخر باسناده عن صهبان مولى الأسلميّين قال: رأيت أبا ذر يوما دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت و فعلت فقال له أبو ذر: قد نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشّني، فقال عثمان: كذبت و لكنّك تريد الفتنة و تحبّها قد قلبت الشّام علينا، فقال له أبو ذر: اتّبع سنّة صاحبيك لا يكون لأحد عليك كلام، فقال له عثمان: ما لك و ذلك لا أمّ لك، فقال أبو ذر و اللّه ما وجدت لي عذرا إلّا الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، فغضب عثمان فقال: أشيروا علىّ في هذا الشيخ الكذّاب إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فانّه قد فرّق جماعة المسلمين أو أنفيه من الأرض، فتكلّم عليّ عليه السّلام و كان حاضرا فقال: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون قال: إن يك كاذبا فعليه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الّذي يعدكم إنّ اللّه لا يهدى من هو مسرف كذّاب فأجابه عثمان بجواب غليظ لم احبّ أن أذكره و أجابه علىّ عليه السّلام مثله أقول هذا الجواب الذي لم يحبّ ذكره هو قوله لعنه اللّه: بفيك التّراب، فأجابه عليه السّلام بقوله: بل بفيك التّراب كما يأتي في رواية تقريب المعارف قال الواقدي: ثمّ إنّ عثمان حظر على النّاس أن يقاعدوا أبا ذر و يكلّموه، فمكث كذلك أيّاما ثمّ أمر أن يؤتى به، فلمّا أتى به و وقف بين يديه قال: ويحك يا عثمان أما رأيت رسول اللّه و رأيت أبا بكر و عمر هل رأيت هديك هديهم إنّك لتبطش في بطش جبّار، فقال: اخرج عنّا من بلادنا، فقال أبو ذر: فما أبغض إلىّ جوارك فالى أين أخرج قال: حيث شئت، قال: فأخرج إلى الشّام أرض الجهاد، فقال: إنما أجلبتك من الشّام لما قد أفسدتها أفأردّك إليها قال: إذا أخرج إلى العراق قال: لا، قال: و لم قال: تقدم على قوم أهل شبهة و طعن على الأئمة، قال: فأخرج إلى مصر، قال: لا، قال: فالى أين أخرج قال: حيث شئت فقال هو إذا التعرّب بعد الهجرة أخرج إلى نجد، قال عثمان: الشّرف الشّرف الا بعد أقصى فأقصى، فقال أبو ذر: قد أبيت ذلك علىّ، قال: امض على وجهك هذا و لا تعودنّ الرّبذة و في البحار من تقريب المعارف لأبي الصّلاح عن الثّقفي في تاريخه عن عبد الملك ابن أخى أبي ذر قال: كتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذر قد حرّف قلوب أهل الشّام و بغّضك إليهم فما يستفتون غيره و لا يقضى بينهم إلّا هو، فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل أبا ذر على ناب صعب و قتب ثمّ ابعث معه من يبخش به بخشا عنيفا حتّى يقدم به علىّ، قال: فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب ما على القتب إلّا مسح ثمّ بعث معه من يسيره سيرا عنيفا و خرجت معه فما لبث الشّيخ إلّا قليلا حتّى سقط مايلى القتب من لحم فخذيه و قرح، فكنت إذا كان اللّيل أخذت ملائى فالقيتهما تحته فاذا كان السّحر نزعتهما مخافة أن يروني فيمنعوني من ذلك حتّى قدمنا المدينة، و بلغ عثمان ما لقى أبو ذر من الوجع و الجهد فحجبه جمعة و جمعة حتّى مضت عشرون ليلة أو نحوها و أفاق أبو ذر ثمّ أرسل اليه و هو معتمد على يدي فدخلنا عليه و هو متّكى، فاستوى قاعدا فلمّا دنى أبو ذر منه قال عثمان:
- لا أنعم اللّه بعمرو عيناتحيّة السّخط إذا التقينا
فقال له أبو ذر: فو اللّه ما سمّاني اللّه عمرا و لا سمّاني أبواى عمرا و إنّى على العهد الذي فارقت عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما غيّرت و لا بدّلت، فقال له عثمان: كذبت لقد كذبت على نبينّا و طعنت في ديننا و فارقت رأينا و ضغنت قلوب المسلمين علينا، ثمّ قال لبعض غلمانه: ادع لي قريشا، فانطلق رسوله فما لبثنا أن امتلاء البيت من رجال قريش، فقال لهم عثمان إنّا أرسلنا إليكم في هذا الشّيخ الكذّاب الذي كذب على نبيّنا و طعن في ديننا و ضغن قلوب المسلمين علينا، و إنّى قد رأيت أن أقتله أو أصلبه أو أنفيه من الأرض، فقال بعضهم: رأينا لرأيك تبع، و قال بعضهم: لا تفعل فانّه صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و له حقّ فما منهم أحد أدّى الذي عليه فبيناهم كذلك إذا جاء عليّ بن أبي طالب يتوكّأ على عصا سرّا، فسلّم عليه و نظر و لم يجد مقعدا فاعتمد على عصاه فما أدرى أتخلّف عهد أمّ يظنّ به غير ذلك، ثمّ قال عليّ فيما أرسلتم إلينا قال عثمان: أرسلنا إليكم في أمر قد فرّق لنا فيه الرّأى فأجمع رأينا و رأى المسلمين فيه على أمر، قال عليّ عليه السّلام: و للّه الحمد أما أنّكم لو أشرتمونا لم نألكم نصيحة، فقال عثمان: إنّا أرسلنا إليكم في هذا الشيخ الذي قد كذب على نبيّنا و طعن في ديننا و خالف رأينا و ضغن قلوب المسلمين علينا، و قد رأينا أن نقتله أو نصلبه أو ننفيه من الأرض، قال عليّ عليه السّلام أفلا أدلّكم على خير من ذلكم و أقرب رشدا تتركونه بمنزلة آل فرعون «إن يك كاذبا فعليه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إنّ اللّه لا يهدى من هو مسرف كذّاب» فقال عثمان لعنه اللّه: بفيك التّراب، فقال له عليّ عليه السّلام بل بفيك التراب، و سيكون به فأمر بالنّاس فاخرجوا و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي في قوله تعالى: و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم الآية، أنّها نزلت في أبي ذر رحمه اللّه و عثمان بن عفّان، و كان سبب ذلك لمّا أمر عثمان بن عفّان بنفى أبا ذر إلى الرّبذة، دخل عليه أبو ذر و كان عليلا متوكّئا على عصاه و بين يدي عثمان مأئة ألف درهم قد حملت إليه من بعض النّواحى و أصحابه حوله ينظرون إليه و يطمعون أن يقسّمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان: ما هذا المال فقال له عثمان: مأئة ألف درهم حملت إلىّ من بعض النواحي اريد أن أضمّ إليها مثله و أرى فيه رأيى، فقال أبو ذر: يا عثمان أيّما أكثر مأئة ألف درهم أو أربعة دنانير فقال: بل مأئة ألف درهم، فقال: أما تذكر أنا و أنت و قد دخلنا على رسول اللّه عشيّا فرأيناه كئيبا حزينا فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السّلام، فلمّا أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكا مستبشرا فقلنا له: بآبائنا و امّهاتنا دخلنا عليك البارحة فرأيناك كئيبا حزينا، ثمّ عدنا إليك اليوم فرأيناك ضاحكا مستبشرا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم كان قد بقى عندى من في ء المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسّمتها و خفت أن يدركني الموت و هى عندي و قد قسّمتها اليوم و استرحت منها، فنظر عثمان إلى كعب الأخبار فقال له: يا أبا إسحاق ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة هل يجب عليه فيما بعد ذلك شي ء فقال: لا و لو اتّخذ لبنة من ذهب و لبنة من فضّة ما وجب عليه شي ء، فرفع أبو ذر عصاه و ضرب به رأس كعب ثمّ قال له: يابن اليهوديّة الكافرة ما أنت و النّظر في أحكام المسلمين قول اللّه أصدق من قولك حيث قال: الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
فقال عثمان: يا أبا ذر إنّك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك و لو لا صحبتك لرسول اللّه لقتلتك، فقال: كذبت يا عثمان أخبرنى حبيبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّهم لا يفتنونك و لا يقتلونك و أمّا عقلى فقد بقى منه ما أحفظ حديثا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيك و في قومك، فقال: ما سمعت فيّ و في قومى قال: سمعته يقول: إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلا صيّروا مال اللّه دولا، و كتاب اللّه دخلا، و عباده خولا و الفاسقين حزبا و الصّالحين حربا، فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمّد هل سمع أحد منكم هذا من رسول اللّه قالوا: لا ما سمعنا هذا من رسول اللّه، فقال عثمان: ادع لي عليّا فجاء أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له عثمان: يا أبا الحسن انظر ما يقول هذا الشّيخ الكذّاب، فقال عليه السّلام: مه يا عثمان لا تقل كذّاب فانّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذرّ فقال أصحاب رسول اللّه: صدق أبو ذر فقد سمعنا هذا من رسول اللّه، فبكى أبو ذر عند ذلك فقال: ويلكم كلّكم قد مدّ عنقه إلى هذا المال ظننتم أنّى أكذب على رسول اللّه، ثمّ نظر إليهم فقال: من خيركم فقالوا أنت تقول إنّك خيرنا قال: نعم خلفت حبيبي رسول اللّه على هذه الجبّة و هو علىّ بعد و أنتم قد أحدثتم أحداثا كثيرة و اللّه سائلكم عن ذلك و لا يسألني، فقال عثمان: يا أبا ذر أسألك بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا ما أخبرتني عن شي ء أسألك عنه، فقال أبو ذر: و اللّه لو لم تسألني بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا لأخبرتك فقال: أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها قال: مكّة حرم اللّه و حرم رسوله أعبد اللّه فيها حتّى يأتيني الموت، فقال: لا و لا كرامة، قال: المدينة حرم رسول اللّه قال: لا و لا كرامة لك، قال: فسكت أبو ذر، فقال عثمان: أىّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها قال: الرّبذة التي كنت فيها على غير دين الاسلام، فقال عثمان: سر إليها، قال أبو ذر: قد سألتني فصدقتك و أنا أسألك فاصدقنى، قال: نعم فقال: أخبرني لو بعثتني فيمن بعثت من أصحابك إلى المشركين فأسروني فقالوا لا نفديه إلّا بثلث ما تملك، قال: كنت أفديك، قال: فان قالوا لا نفديه إلّا بنصف ما تملك، قال: كنت أفديك، قال فان قالوا لا نفديه إلّا بكلّ ما تملك قال كنت أفديك، قال أبو ذر رحمه اللّه: اللّه أكبر قال لي حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما: يا أبا ذر كيف أنت إذا قيل لك: أىّ البلاد أحبّ اليك فتقول: مكّة حرم اللّه و حرم رسوله أعبد اللّه فيها حتى يأتيني الموت، فيقال لك لا و لا كرامة لك، فتقول: فالمدينة حرم رسول اللّه، فيقال لك لا و لا كرامة لك ثمّ يقال لك أىّ البلاد أبغض اليك أن تكون فيها، فتقول: الرّبذة الّتي كنت فيها على غير دين الاسلام، فيقال لك سر اليها، فقلت: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه فقال: إى و الذي نفسى بيده إنّه لكائن فقلت: يا رسول اللّه أفلا أضع سيفي هذا على عاتقى فأضرب به قدما قدما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا، اسمع و اسكت و لو لعبد حبشيّ و قد أنزل اللّه تعالى فيك و في عثمان آية، فقلت: و ما هي يا رسول اللّه فقال: قوله تبارك و تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
و في الرّوضة من الكافي عن سهل عن محمّد بن الحسن عن محمّد بن حفص التميمي قال حدّثني أبو جعفر الخثعميّ قال: لمّا سيّر عثمان أبا ذرّ إلى الرّبذة شيّعة أمير المؤمنين و عقيل و الحسن و الحسين عليهم السّلام و عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه، فلمّا كان عند الوداع قال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا أبا ذر إنّما غضبت للّه عزّ و جلّ فارج من غضبت له إنّ القوم خافوك على دينارهم و خفتهم على دينك فارحلوك عن الفناء و امتحنوك بالبلاء، لو كانت السّماوات و الأرض على عبد رتقا ثم اتّقى اللّه جعل له مخرجا، لا يؤنسنّك إلّا الحقّ و لا يوحشنّك إلّا الباطل ثمّ تكلّم عقيل و قال: يا أبا ذر أنت تعلم أنّا نحبّك و نحن نعلم أنّك تحبّنا و أنت قد حفظت فينا ما ضيّع النّاس إلّا القليل، فثوابك على اللّه عزّ و جلّ، و لذلك أخرجك المخرجون و سيّرك المسيّرون، فثوابك على اللّه عزّ و جلّ فاتّق اللّه و اعلم أنّ استعفاؤك البلاء من الجزع و استبطاؤك العافية من الأياس فدع الأياس و الجزع فقل: حسبى اللّه و نعم الوكيل.
ثمّ تكلّم الحسن عليه السّلام و قال: يا عمّاه إنّ القوم قد أتوا إليك ما قد ترى و أنّ اللّه بالمنظر الأعلى، فدع عنك ذكر الدّنيا بذكر فراقها، و شدّة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها، و اصبر حتّى تلقى نبيّك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو عنك راض إن شاء اللّه.
ثمّ تكلّم الحسين عليه السّلام فقال: يا عمّاه إنّ اللّه تبارك و تعالى قادر أن يغيّر ما ترى و هو كلّ يوم في شأن، القوم منعوك دنياهم و منعتهم دينك فما أغناك عمّا منعوك و أحوجهم إلى ما منعتهم فعليك بالصّبر، و إنّ الخير في الصّبر و الصّبر من الكرم و دع الجزع فانّ الجزع لا يغنيك ثمّ تكلّم عمّار رضى اللّه عنه فقال: يا أبا ذرّ أوحش اللّه من أوحشك و أخاف من أخافك، أنّه و اللّه ما منع النّاس أن يقولوا الحقّ إلّا الرّكون إلى الدّنيا و الحبّ لها، ألا إنّما الطاعة على الجماعة و الملك لمن غلب عليه، و إنّ هؤلاء القوم دعوا النّاس إلى دنياهم فأجابوهم إليها و وهبوا لهم دينهم فخسروا الدّنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين.
ثمّ تكلّم أبو ذر رحمه اللّه فقال: عليكم السّلام و رحمة اللّه و بركاته بأبي و أمّي هذه الوجوه، فانّي إذا رأيتكم ذكرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكم و مالى بالمدينة شجن و لا سكن غيركم و إنّه ثقل على عثمان جوارى بالمدينة كما ثقل على معاوية فآلى أن يسيّرني إلى بلدة و طلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة، فزعم أنّه يخاف أن أفسد على أخيه النّاس بالكوفة و آلى باللّه ليسيّرنى إلى بلدة لا أرى بها أنيسا و لا أسمع بها حسيسا و إنّى و اللّه ما اريد إلّا اللّه عزّ و جلّ صاحبا و مالى مع اللّه وحشة حسبى اللّه لا إله إلّا هو عليه توكّلت و هو ربّ العرش العظيم و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين و في البحار عن المسعودى في مروج الذّهب بعد أن أورد كيفيّة ردّ عثمان له رحمه اللّه إلى المدينة و ساق الحديث إلى نفيه له منها قال: فقال له عثمان: و اروجهك عنّى قال: أسير إلى مكّة، قال: لا و اللّه، قال فإلى الشّام، قال: لا و اللّه، قال: فإلى البصرة قال: لا و اللّه فاختر غير هذه البلدان، قال لا و اللّه لا أختار غير ما ذكرت لك و لو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئا من البلدان فسيّرني حيث شئت من البلاد، قال إنّي اسيّرك إلى الرّبذة، قال: اللّه أكبر صدق رسول اللّه قد أخبرني بكلّ ما أنا لاق قال: و ما قال لك قال: أخبرني أني امنع من مكّة و المدينة و أموت بالرّبذة و يتولّى دفني نفر يريدون العراق إلى نحو الحجاز و بعث أبو ذر إلى جمل فحمل عليه امرأته و قيل ابنته، و أمر عثمان أن يتجافاه الناس حتّى يسير إلى الرّبذة و لمّا طلع عن المدينة و مروان يسيّره عنها طلع عليّ بن ابي طالب عليه السّلام و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام و عقيل أخوه و عبد اللّه بن جعفر و عمّار بن ياسر فاعترض مروان و قال: يا عليّ إنّ أمير المؤمنين نهى الناس أن يمنحوا أبا ذر أو يشيّعوه، فان كنت لم تعلم بذلك فقد أعلمتك، فحمل عليه السّلام عليه بالسّوط و ضرب بين اذنى ناقة مروان و قال تنحّ نحّاك اللّه إلى النّار، و مضى مع أبي ذر فشيّعه ثمّ ودّعه و انصرف فلمّا أراد عليه السّلام الانصراف بكى أبو ذر و قال: رحمكم اللّه أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن و ولدك ذكرت بكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشكى مروان إلى عثمان ما فعل به علىّ عليه السّلام، فقال عثمان: يا معشر المسلمين من يعذرني من عليّ ردّ رسولي عمّا وجّهته له و فعل و فعل و اللّه لنعطينّه حقّه، فلمّا رجع عليّ عليه السّلام استقبله النّاس و قالوا: إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر، فقال عليّ عليه السّلام: غضب الخيل على اللّجم، فلمّا كان بالعشّي و جاء عثمان قال: ما حملك على ما صنعت بمروان و لم اجترأت علىّ ورددت رسولي و أمرى فقال: أمّا مروان فاستقبلني بردّى فرددته عن ردّى، و أما أمرك لم أردّه، فقال: ألم يبلغك أنّي قد نهيت النّاس عن أبي ذرّ و تشييعه فقال عليّ عليه السّلام أو كلّما أمرتنا به من شي ء نرى طاعة اللّه و الحقّ في خلافه اتبعنا فيه أمرك لعمر اللّه ما نفعل، فقال عثمان: أقد مروان، قال: و ممّ أقيد قال: ضربت بين اذنى راحلته و شتمته فهو شاتمك و ضارب بين أذنى راحلتك، قال عليّ أمّا راحلتي فهى تلك فان أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فعل، و أمّا أنا فو اللّه لئن شتمنى لأشتمنّك بمثله لا كذب فيه و لا أقول إلّا حقا، قال عثمان: و لم لا يشتمك إذا شتمته فو اللّه ما أنت بأفضل عندي منه، فغضب عليّ عليه السّلام و قال: لي تقول هذا القول أمر و ان يعدل بي فلا و اللّه أنا أفضل منك، و أبي أفضل من أبيك و أمّي أفضل من امّك و هذه نبلى قد نثلتها فانثلّ نبلك، فغضب عثمان و احمرّ وجهه و قام و دخل، و انصرف عليّ فاجتمع إليه أهل بيته و رجال المهاجرين و الأنصار فلمّا كان من الغد و اجتمع النّاس شكى إليهم عليّا، و قال إنّه يغشّني و يظاهر من يغشّنى يريد بذلك أبا ذرّ و عمّارا و غيرهما، فدخل النّاس بينهما حتّى اصطلحا و قال عليّ: و اللّه ما أردت بتشييعي أبا ذر إلّا اللّه تعالى، هذا.
و قد روى الشّارح المعتزلي أكثر ما أوردناه من الأخبار في تلك القصّة بطرق آخر نحو ما رويناه و هى كافية في الطعن على عثمان و القدح فيه لأنّ أيذائه لأبي ذر رحمه اللّه و إهانته به في حكم المعاداة للّه و لرسوله، و قد قال اللّه تعالى: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، و شهادته على أبي ذرّ بالكذب بعد ما سمع من أمير المؤمنين شهادة النّبيّ عليه بالصّدق و كونه أصدق النّاس لهجة تكون في الحقيقة راجعة إلى تكذيب رسول اللّه و ردّا لقوله، و أعظم ذلك منازعته في تلك القضيّة مع أمير المؤمنين و إسائته الأدب في حقّه و هي كافية في وجوب طعنه و لعنه و العجب أنّ الشّارح المعتزلي بعد ما أورد الأخبار الدّالة على إخراجه من المدينة بالاجبار اتبعه بقوله: و اعلم أنّ أصحابنا قد رووا أخبارا كثيرة معناها أنّه اخرج إلى الرّبذة باختياره «إلى أن قال» و نحن نقول: هذه الأخبار و إن كانت قد رويت لكنّها ليست في الاشتهار و الكثرة كتلك الأخبار و الوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و حسن الظنّ بفعله أنّه خاف الفتنة و اختلاف كلمة المسلمين فيغلب على ظنّه أنّ إخراج أبي ذرّ (ره) إلى الرّبذة أحسم للشّغب و أقطع للأطماع من أن يشرئب إلى شقّ العصا، فأخرجه مراعاة للمصلحة، و مثل ذلك يجوز للامام هكذا يقول أصحابنا المعتزلة و هو الأليق بمكارم الأخلاق فقد قال الشّاعر:
- إذا ما أتت من صاحب لك زلّةفكن أنت محتالا لزلّته عذرا
و إنّما يتأوّل أصحابنا حال من يحتمل حاله التّأويل كعثمان، فأمّا من لا يحتمل حاله التّأويل و إن كانت له صحبة سالفة كمعاية و أضرابه فانّهم لأيتأوّلون لهم إذ كانت أفعالهم و أقوالهم لا وجه لتأويلها و لا يقبل العلاج، و الاصلاح انتهى كلامه هبط مقامه.
اقول: أمّا ما حكاه عن أصحابه من روايتهم الأخبار الدّالة على إخراجه بالاختيار، ففيه أنّ هذه الأخبار ممّا تفرّد بروايته أولياء عثمان المتعصّبون له دفعا للعار و الشّنار عنه، و هى لا تكافؤ أخبار الاجبار عددا و سندا و شهرة بين المؤالف و المخالف، مضافا إلى ما فيها من مخايل الصّدق و دلائل الصّواب و الصّحة، و هل تظنّ في حقّ مثل أبى ذر أو يحكم عقلك بأنّه ترك إقامة حرم اللّه و حرم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مجاورة قبره و مصاحبة أمير المؤمنين و آله المعصومين و اختار المهاجرة إلى الفلاة و الأرض القفر بالطّوع و الاختيار و الرّغبة و الرّضاء كلّا ثمّ كلّا و كيف يرضى من له أدنى عقل و كياسة من المسلمين أن يموت في أرض اليهود و يكون فيها و يرجّحها على الدّفن في حرم الرّسول فضلا عن أبي ذرّ و أمثاله، إن هذا إلّا مفترى.
و أمّا ما اعتذر به الشارح عنه ففيه أنّ حمل فعل المسلم على الصّحة إنما هو اذا لم يكن الغالب على حاله الفساد، و أمّا اذا كان الغالب على حاله ذلك فلا، و حال عثمان و سابقه في السّوء و الفساد معلوم، و كفى بذلك اغتصابهم الخلافة لأمير المؤمنين عليه السّلام و تغييرهم شريعة سيّد المرسلين و إحراقهم باب بضعة خاتم النبيّين و جعلهم القرآن عضين، و اعتياضهم الدّنيا بالدّين، مضافة إلى مطاعنهم الدّثرة و فضائحهم الجمّة الّتي تقدّمت في مقامه و تأتي أيضا و مع ذلك فأىّ شي ء أوجب حسن الظنّ بفعل عثمان حتّى تأوّل الأخبار الناصّة بسوء فعله.
ثمّ أقول: هب أنّ الدّاعي على إخراجه كان خوف الفتنة و شقّ العصا على زعمك، و لكن أىّ شي ء كان الدّاعي على حمله من الشّام إلى المدينة على جمل صعب ليس عليها إلّا قتب يابس حتّى سقط لحم فخذيه من الجهد، و ما كان السّبب لهذه الأذيّة فان قلت: إنّ معاوية فعل ذلك في حقّه قلت: عثمان كتب إلى معاوية بأن يحمله على أغلظ مركب و أوعره مع من ساربه اللّيل و النّهار.
و أما تفرقة الشّارح بين عثمان و معاوية فهو أعجب ثمّ أعجب، لأنّ كليهما من فروع الشّجرة الملعونة، و كلّ منهما في مقام المحادّة و المعاداة و الظّلم لأمير المؤمنين و لعترة سيّد النّبيّين و لرؤساء الدّين، فلا يمكن إصلاح حالهما و علاج قبايح أعمالهما و فضائح أفعالهما بعد العين بالأثر و لا بعد الدّراية بالخبر، و سيعلم الّذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون.
|