مِنْهَا وَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَ الْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَ الْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ شبه الدنيا و ما بعدها بما يتصوره الأعمى من الظلمة التي يتخيلها و كأنها محسوسة له و ليست بمحسوسة على الحقيقة و إنما هي عدم الضوء كمن يطلع في جب ضيق فيتخيل ظلاما فإنه لم ير شيئا و لكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيل أنه يرى الظلمة فأما من يرى المبصرات في الضياء فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا و هذه حال الدنيا و الآخرة أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم و يظنون أنهم يبصرون شيئا و ليسوا بمبصرين على الحقيقة و لا حواسهم نافذة في شي ء و أهل الآخرة قد نفذت أبصارهم فرأوا الآخرة و لم يقف إحساسهم على الدنيا خاصة فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة و هذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة و الحقيقة و إليه الإشارة بقوله سبحانه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها فأما قوله فالبصير منها شاخص و الأعمى إليها شاخص فمن مستحسن التجنيس و هذا هو الذي يسميه أرباب الصناعة الجناس التام فالشاخص الأول الراحل و الشاخص الثاني من شخص بصره بالفتح إذا فتح عينه نحو الشي ء مقابلا له و جعل لا يطرف
فصل في الجناس و أنواعه
و اعلم أن الجناس على سبعة أضرب أولها الجناس التام كهذا اللفظ و حده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في تركيبها و في وزنها قالوا و لم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد و هو قوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ و عندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا و قد ذكرته في كتابي المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر و قلت إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد و التجنيس أن يتفق اللفظ و يختلف المعنى و لا يكون أحدهما حقيقة و الآخر مجازا بل يكونان حقيقتين و إن زمان القيامة و إن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر و لا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظ الساعة على أحد الموضعين حقيقة و على الآخر مجازا و ذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس كما لو قلت ركبت حمارا و لقيت حمارا و أردت بالثاني البليد و أيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الأولى خاصة من زمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس و عن مشابهة التجنيس بالكلية قالوا و ورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد و هو قوله ص لقوم من الصحابة كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته خلوا بين جرير و الجرير فالجرير الثاني الحبل و جاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله
فأصبحت غرر الإسلام مشرقة بالنصر تضحك عن أيامك الغرر
فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه و الغرر الثانية من غرة الشي ء و هي أكرمه و كذلك قوله
من القوم جعد أبيض الوجه و الندى و ليس بنان يجتدى منه بالجعد
فالجعد الأول السيد و الثاني ضد السبط و هو من صفات البخيل و كذلك قوله
بكل فتى ضرب يعرض للقنا محيا محلى حلية الطعن و الضرب
فالضرب الأول الرجل الخفيف و الثاني مصدر ضرب و كذلك قوله
عداك حر الثغور المستضامة عن برد الثغور و عن سلسالها الحصب
فأحدهما جمع ثغر و هو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب و الثاني للأسنان و من هذه القصيدة
كم أحرزت قضب الهندي مصلته تهتز من قضب تهتز في كثب
بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت أحق بالبيض أبدانا من الحجب
و قد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس و أطنبوا و عندي أنه ليس بتجنيس أصلا لأن تسمية السيوف قضبا و تسمية الأغصان قضبا كله بمعنى واحد و هو القطع فلا تجنيس إذا و كذلك البيض للسيوف و البيض للنساء كله بمعنى البياض فبطل معنى التجنيس و أظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب الفلك الدائر قالوا و من هذا القسم قوله أيضا
إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا صدور العوالي في صدور الكتائب
و هذا عندي أيضا ليس بتجنيس لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد و هو جزء الشي ء المتقدم البارز عن سائره فأما قوله أيضا
عامي و عام العيس بين وديقة مسجورة و تنوفة صيخود
حتى أغادر كل يوم بالفلا للطير عيدا من بنات العيد
فإنه من التجنيس التام لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى فالعيد الأول هو اليوم المعروف من الأعياد و العيد الثاني فحل من فحول الإبل و نحو هذا قول أبي نواس
عباس عباس إذا احتدم الوغى و الفضل فضل و الربيع ربيع
و قول البحتري
إذا العين راحت و هي عين على الهوى فليس بسر ما تسر الأضالع
فالعين الثانية الجاسوس و الأولى العين المبصرة و للغزى المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها أولها
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا و نحن في حفر الأجداث أحيانا
و قال في أثنائها
تقول أنت امرؤ جاف مغالطة فقلت لا هومت أجفان أجفانا
و قال في مديحها
لم يبق غيرك إنسان يلاذ به فلا برحت لعين الدهر إنسانا
و قد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الأعجاز على الصدور ذكر أنه خارج عن باب التجنيس قال مثل قول الشاعر
و نشري بجميل الصنع ذكرا طيب النشر
و نفري بسيوف الهند من أسرف في النفر
و بحري في شرى الحمد على شاكلة البحر
و هذا من التجنيس و ليس بخارج عنه و لكنه تجنيس مخصوص و هو الإتيان به في طرفي البيت و عد ابن الأثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب
يا بياضا أذرى دموعي حتى عاد منها سواد عيني بياضا
و كذلك قول البحتري
و أغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل
و هذا عندي ليس بتجنيس لاتفاق المعنى و العجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال إن قول أبي تمام
أظن الدمع في خدي سيبقى رسوما من بكائي في الرسوم
من التجنيس و قال أي تجنيس هاهنا و المعنى متفق و لو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين قالوا فأما الأجناس الستة الباقية فإنها خارجة عن التجنيس التام و مشبهة به فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها فمن ذلك
قول النبي ص اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي
و قول بعضهم لن تنالوا غرر المعالي إلا بركوب الغرر و اهتبال الغرر و قول البحتري
و فر الحائن المغرور يرجو أمانا أي ساعة ما أمان
يهاب الالتفات و قد تصدى للحظة طرفه طرف السنان
و قال آخر
قد ذبت بين حشاشة و ذماء ما بين حر هوى و حر هواء
و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس و ذلك نحو قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و كذلك قوله سبحانه وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ و قوله تعالى ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ و نحو هذا
ما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة
و قال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره و قال أبو تمام
يمدون من أيد عواص عواصم تصول بأسياف قواض قواضب
و قال البحتري
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد و مهفهف الكشحين أحوى أحور
و قال أيضا
شواجر أرماح تقطع بينهم شواجن أرحام ملوم قطوعها
و هذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص و بين المقلوب و هو أرماح و أرحام و منها أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن و التركيب بحرف واحد كقوله تعالى وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ و كقوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً و
كقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه و يده
و قول بعضهم الصديق لا يحاسب و العدو لا يحتسب له هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة قال و من هذا القسم قول أبي تمام
أيام تدمى عينه تلك الدمى حسنا و تقمر لبه الأقمار
بيض فهن إذا رمقن سوافرا صور و هن إذا رمقن صوار
و كذلك قوله أيضا
بدر أطاعت فيك بادرة النوى ولعا و شمس أولعت بشماس
و قوله أيضا
جهلوا فلم يستكثروا من طاعة معروفة بعمارة الأعمار
و قوله أيضا
إن الرماح إذا غرسن بمشهد فجنى العوالي في ذراه معال
و قوله أيضا
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا بلا نعمة أحسنت أن تتطولا
و قوله أيضا
شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان حتى استهل صوب العزالي
أي ربع يكذب الدهر عنه و هو ملقى على طريق الليالي
بين حال جنت عليه و حول فهو نضو الأوحال و الأحوال
أي حسن في الذاهبين تولى و جمال على ظهور الجمال
و دلال مخيم في ذرى الخيم و حجل مقصر في الحجال
فالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل و من ذلك قول علي بن جبلة
و كم لك من يوم رفعت عماده بذات جفون أو بذات جفان
و كقول البحتري
نسيم الروض في ريح شمال و صوب المزن في راح شمول
و كقوله أيضا
جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه ضبابة نقع تحتها الموت ناقع
و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه و هو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه الأصلية و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم و ليس بقمر و الأقمار تختلف بحرف واحد و كذلك عمارة و الأعمار و كذلك العوالي و المعالي و أما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فخارج عن هذا بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري
و لم يكن المعتز بالله إذ سرى ليعجز و المعتز بالله طالبه
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري
قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا فمالك موتور و سيفك واتر
و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر و يرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل و ليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب و مضروب لكان قد جانس و منها القسم المكنى بالمعكوس و هو على ضربين عكس لفظ و عكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم و من ذلك قول الأضبط بن قريع
قد يجمع المال غير آكله و يأكل المال غير من جمعه
و يقطع الثوب غير لابسه و يلبس الثوب غير من قطعه
و مثله قول المتنبي
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله و لا مال في الدنيا لمن قل مجده
و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان
أسف بمن يطير إلى المعالي و طار بمن يسف إلى الدنايا
و مثله قول آخر
إن الليالي للأنام مناهل تطوى و تنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة و طوالهن مع السرور قصار
و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه
- غيرتنا يد الزمانفقد شبت و التحى
- فاستحال الضحى دجىو استحال الدجى ضحى
و يسمى هذا الضرب التبديل و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك و مثله
قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار
قالوا و منه قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة و مثلوه أيضا
بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه
و بقول أبي تمام لأبي العميثل و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف و هو كقول بعضهم و قد أهدى لصديق له كرسيا
- أهديت شيئا يقل لو لاأحدوثة الفأل و التبرك
- كرسي تفاءلت فيه لمارأيت مقلوبه يسرك
و كقول الآخر
كيف السرور بإقبال و آخره إذا تأملته مقلوب إقبال
أي لا بقاء و كقول الآخر
جاذبتها و الريح تجذب عقربا من فوق خد مثل قلب العقرب
- و طفقت الثم ثغرها فتمنعت و تحجبت عني بقلب العقرب
يريد برقعا و منها النوع المسمى المجنب و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم
- أبا الفياض لا تحسب بأنيلفقري من حلى الأشعار عار
- فلي طبع كسلسال معينزلال من ذرا الأحجار جار
و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيس و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك و الريب
و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو
ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق
و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما و بينت أن كثيرا منها يتداخل و يقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك
|