مِنْهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَ السَّلَامَةُ
المعنی
هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع و إن كان كل كلامه فصيحا و لكن كل واحد له هوى و محبة لشي ء مخصوص و ضروب الناس عشاق ضروبا أما قوله كل شي ء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا قال أبو الطيب
و لذيذ الحياة أنفس في النفس و أشهى من أن يمل و أحلى
و إذا الشيخ قال أف فما مل حياة و لكن الضعف ملا
و قال أيضا
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا و حب الشجاع النفس أورده الحربا
و قال أبو العلاء
فما رغبت في الموت كدر مسيرها إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن
يصادفن صقرا كل يوم و ليلة و يلقين شرا من مخالبه الحجن
و لا قلقات الليل باتت كأنها من الأين و الإدلاج بعض القنا اللدن
ضربن مليعا بالسنابك أربعا إلى الماء لا يقدرن منه على معن
و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله و كلف نوحا و ابنه عمل السفن
و ما استعذبته روح موسى و آدم و قد وعدا من بعده جنتي عدن
و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب
عذرتكما إن الحمام لمبغض و إن بقاء النفس للنفس محبوب
و يكره طعم الموت و الموت طالب فكيف يلذ الموت و الموت مطلوب
و قال أبو الطيب أيضا
طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس أن الحمام مر المذاق
و الأسى قبل فرقة الروح عجز
و الأسى لا يكون بعد الفراق
البحتري
ما أطيب الأيام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لم ترجع
و قال آخر
أوفى يصفق بالجناح مغلسا و يصيح من طرب إلى الندمان
يا طيب لذة هذه الدنيا لنا لو أنها بقيت على الإنسان
و قال آخر
أرى الناس يهوون البقاء سفاهة و ذلك شي ء ما إليه سبيل
و من يأمن الأيام أما بلاؤها فجم و أما خيرها فقليل
و قال محمد بن وهيب الحميري
و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و ما كنت منه فهو شي ء محبب
و هذا مأخوذ من
قول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه
و قال آخر
يا موت ما أفجاك من نازل تنزل بالمرء على رغمه
تستلب العذراء من خدرها و تأخذ الواحد من أمه
أبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتمم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها نخلى
شيم الغانيات فيها فلا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لا
فإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة و أين هذا من
قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
و من
قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت
و ما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و
رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له
و كذلك
قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت
تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت و هي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه و بين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه و لا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه و إنما الحكم للأعم الأغلب و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت و إنما يتخلص به من الألم و أمير المؤمنين قال ما من شي ء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة
و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت فهل قيل في عكس ذلك و نقيضه شي ء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا إن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
و قال آخر
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه و فراق كل معاشر لا ينصف
و قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه إبراهيم بن مهدي
و إني و إن قدمت قبلي لعالم بأني و إن أبطأت عنك قريب
و إن صباحا نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة حبيب
و قال بعض السلف ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا فالله تعالى يقول وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا و إن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً و قال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي و يكثر من تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ و قالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت و قال بعضهم الصالح إذا مات استراح و الطالح إذا مات استريح منه و قال الشاعر
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه أبر بنا من كل بر و أرأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى و يدني من الدار التي هي أشرف
و قال آخر
من كان يرجو أن يعيش فإنني أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها عرفت لكان سبيله أن يعشقا
و قال أبو العلاء
جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا شرا إلي فجل الواحد الصمد
فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و تلك تزعم أن الظالم الجسد
إذا هما بعد طول الصحبة افترقا فإن ذاك لأحداث الزمان يد
و قال أبو العتاهية
المرء يأمل أن يعيش و طول عمر قد يضره
تفنى بشاشته و يبقى بعد حلو العيش مره
و تخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي أن هلكت
و قائل لله دره
و قال ابن المعتز
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا
فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله و هو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به و الانتفاع بمواعظه و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب و نور الأبصار و سمع الآذان الصم و ري الأكباد الحري و فيها الغنى كله و السلامة و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ و في قوله وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان و كيفية إنشاء النبات و المعادن و ما في العالم من القوى المختلفة و التأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه تبارك اسمه
|