و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الحادى و الاربعون من المختار في باب الخطب.
أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دين و سداد طريق فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، أما أنّه قد يرمي الرّامي، و تخطى ء السّهام و يحيل الكلام و باطل ذلك يبور، و اللّه سميع و شهيد
اللغة
(وثق) الشي ء بالضمّ وثاقة قوى و ثبت فهو وثيق ثابت محكم و (السّداد) بالفتح الصّواب من القول و الفعل و (الأقاويل) جمع أقوال و هو جمع قول و (أخطأ السّهم) الغرض تجاوزه و لم يصبه و (يحيل الكلام) في أكثر النّسخ باللام مضارع حال بمعنى يستحيل أى يكون محالا قال في القاموس: و كلّ ما تغيّر أو تحرّك من الاستواء إلى العوج فقد حال و استحال، و قال أيضا: و المحال بالضم من الكلام ما عدل عن وجهه كالمستحيل، أحال أتى به، و في المصباح المحال الباطل الغير الممكن الوقوع، و في بعض النسخ بالكاف مضارع حاك أو أحاك قال في القاموس: حاك القول في القلب يحيك حيكا أخذ، و السّيف اثر و الشفرة قطعت كأحاك فيهما و (بار) الشي ء يبور بورا بالضّم هلك.
الاعراب
إضافة وثيقة دين و سداد طريق من إضافة الصّفة إلى موصوفه و التاء في الوثيقة للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة كما قيل أو للمبالغة، و جملة فلا يسمعنّ، في محلّ الرّفع خبر من و لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط اتى بالفاء في خبره، و الضمير في قوله: إنّه، للشأن، و الواو في قوله: و باطل ذلك، للحال.
المعنى
اعلم أنّ المقصود بهذا الكلام النّهى عن التسّرع إلى التصديق بما يقال في حقّ الانسان الموصوف بحسن الظاهر المشهور بالوثوق و الصّلاح و التدّين ممّا يعيبه و يقدحه، و يدلّ عليه الأدلّة الدّالة على حرمة الاصغاء إلى الغيبة على ما تقدّم في شرح الكلام السّابق، و إليه اشير في قوله سبحانه: يا أيّها الّذين آمنوا إن جائكم فاسق بنبا فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين إذا عرفت ذلك فأقول قوله: (أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دين و سداد طريق) أى دينا محكما و طريقا صوابا، قيل المراد بوثيقة الدّين اللّزوم للأحكام الشرعيّة و التقييد لا كمن يعبد اللّه على حرف فان أصابه خير اطمأنّ به و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه.
و لعلّ المراد بوثيقة الدّين العقيدة و بسداد الطريق حسن العمل كما يشعر به ما رواه الحافظ أبو نعيم بسنده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال لابنه الحسن عليه السّلام: يا بنيّ ما السّداد فقال: يا أبتي السداد دفع المنكر بالمعروف، أي من عرف من أخيه المؤمن حسن الاعتقاد و العمل (فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال) أى أقاويلهم الّتي توجب شينه و تهدم مروّته و تسقطه عن أعين النّاس.
روى الصّدوق في عقاب الأعمال باسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: قلت له: جعلت فداك الرّجل من اخواني بلغني عنه الشي ء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك و قد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال عليه السّلام لي: يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك و إن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته فتكون من الذّين قال اللّه: إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدّنيا و الآخرة.
و في الوسائل عن العياشي في تفسيره عن الفيض بن المختار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لمّا نزلت المائدة على عيسى قال للحواريّين: لا تأكلوا منها حتّى آذن لكم، فأكل منها رجل فقال بعض الحواريّين: يا روح اللّه أكل منها فلان، فقال له عيسى عليه السّلام: أكلت منها فقال: لا، فقال الحواريّون: بلى و اللّه يا روح اللّه لقد أكل منها، فقال عيسى عليه السّلام: صدّق أخاك و كذّب بصرك.
ثمّ علّل عليه السّلام عدم جواز استماع أقاويل الرّجال و تصديقها بالمثل الّذي ضربه بقوله (أما أنّه قد يرمى الرّامى و تخطى ء السهام) يعني أنّه ربما يرمى الرّامى سهمه فلا يصيب الغرض بل يخطيه (و) كذلك قد يتكلّم إنسان بكلام يعيب به على غيره أو يغتابه ف (يحيل الكلام) و يستحيل و يعدل عن وجه الصّواب و يخالف الواقع و لا يعيبه إما لغرض شخصىّ فاسد للقائل في المقول عليه من العداوة و الشحناء و الحسد و نحوها فيرميه بالعيب و يطعنه بالغيب لذلك، و إمّا لشبهة منه فيه بأن يشتبه الأمر عليه فيظنّ المعروف منكرا مثل ما لو رأى في يد أحد قارورة مملوّة يشرب منها فظنّها خمرا و هو خلّ فيتّهمه بشرب الخمر.
و لذلك ورد في الأخبار المستفيضة حمل فعل المسلم على الصّحة مثل ما رواه في الكافي عن الحسين بن المختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا.
و عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.
هذا كلّه على رواية يحيل باللّام و أمّا على الرّواية الاخرى فالمراد به التنبه على أنّ ضرر الكلام أقوى من ضرر السهام، و تأثيره أشدّ من تأثيرها، و ذلك لأنّ الرّامى قد يرمي فتخطئ سهامه و لا تصيب الغرض، و أمّا الكلام فيؤثر لا محالة و إن كان باطلا لأنّه يلوث العرض في نظر من لا يعرفه و يسقط محلّ المقول فيه و منزلته من القلوب.
ثمّ قال تهديدا أو تحذيرا و تنبيها على ضرر ذلك الكلام الفاسد و القول الباطل على سبيل إرسال المثل (و باطل ذلك يبور و اللّه سميع و شهيد) يعني أنّ الغرض و الغاية من ذلك القول الّذي يعاب به باطل نشأ من الحقد و الحسد أو التّصادم في مال أو جاه أو نحو ذلك من الأغراض الباطلة، و الباطل انّما يبور أى يهلك و يفنى كما قال تعالى: إنّ الباطل كان زهوقا، و وزره يدوم و يبقى لأنّه بعين اللّه السميع البصير الشّاهد الخبير بمحاسن الأفعال و الأقوال و مقابحها المجازى بالحسنات عظيم الثواب و بالسيّئات أليم العقاب.
|