أما أنّه ليس بين الباطل و الحقّ إلّا أربع أصابع، فسئل عن معني قوله عليه السّلام هذا، فجمع أصابعه و وضعها بين اذنه و عينه ثمّ قال: الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت.
المعنى
ثمّ نبّه على الفرق بين الحقّ و الباطل بقوله (أما أنّه ليس بين الحقّ و الباطل إلّا أربع أصابع فسئل عليه السّلام عن معنى قوله هذا) لاجماله و إبهامه (فجمع أصابعه) الأربع (و وضعها بين أذنه و عينه ثمّ قال: الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت) يعنى أنّ الباطل هو المسموع و الحقّ هو المرئى، فتسامح عليه السّلام في التفرقة بما ذكر تعويلا على الظهور، ضرورة أنّ الباطل ليس قولك سمعت، و لا الحقّ قولك رأيت، لأنّ قولك إخبار عن نفسك بالسّماع أو الرّؤية، و الحقّ و الباطل و صفان للمخبر عنه لا الخبر كما هو ظاهر.
فان قلت: كيف يقول الباطل ما يسمع و الحقّ ما يرى مع أنّ كثيرا من المسموعات حقّ لا ريب فيه، فانّ جلّ الأحكام الشرعيّة قد ثبت علينا بطريق النّقل و السماع، و كذلك كثير من العقائد الاصولية كنبوّة نبينا و معجزاته و كذا نبوّة سائر الأنبياء و إمامة الأئمة و معجزاتهم عليهم السّلام و أخبار المعاد من الحشر و النّشر و البعث و الحساب و الجنّة و النّار و غيرها.
قلت: قد أجاب عنه الشّارح المعتزلي بأنه ليس كلامه في المتواتر من الأخبار و إنّما كلامه في الأقوال الشّاذّة الواردة من طريق الآحاد الّتي تتضمّن القدح فيمن قد علمت «غلبت خ» نزاهته، فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك.
و أجاب الشّارح البحراني بأنّ قوله: الباطل أن تقول سمعت، لا يستلزم الكلّية حتّى يكون كلّ ما سمعه باطلا، فانّ الباطل و المسموع مهملان يعني انه ليس بقضية كلّية بل كلام خطابي مهمل يصدق بجزئي.
أقول: و لعلّ مرادهما أنّ اللّام في قوله: الباطل و الحقّ، للعهد و مراده عليه السّلام ليس تعريف مطلق الباطل و الحقّ بل التفرقة في افراد ما يعاب به الغير و يتضمّن قدحه بأنّه على قسمين: أحدهما ما سمعته من غيرك، فهو باطل لأنّ من جاءك به فاسق لا يمكن الرّكون إليه فلا بدّ من الحكم ببطلان خبره و إن كان ما خاله صدقا في نفس الأمر و الواقع، و ثانيهما ما أبصرته بعينك فهو الحقّ.
فان قلت: كيف التوفيق بين قوله عليه السّلام ذلك المفيد لحقيّة المرئى و بين روايتي عقاب الأعمال و الوسائل المتقدّمتين في شرح قوله عليه السّلام: فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، حيث أمر فيهما بتكذيب البصر فيما شاهدته.
قلت: لا منافاة بينهما، لأنّ المراد بتكذيب البصر فيهما عدم ترتيب الآثار على العيب الذي رآه و النّهى عن إذاعته و إفشائه للغير، لا أنّ ما رآه ليس بحق و محصلهما وجوب ستر ما رآه من أخيه و عدم هتك عرضه عند الغير، مثلا إذا رأى أنّه يشرب الخمر فان وجد لفعله محملا صحيحا كأن يحتمل أنّه خلّ أو أنّ شربه للدواء و العلاج، فلا بدّ من حمل فعله على الصّحة، و إن لم يجد له محملا فيحكم في نفسه بفسق الشّارب، و لا يأتمنه في امور يشترط فيها العدالة، و مع ذلك فلا يجوز إظهار ما فعله لغيره تنقيصا له على ما تقدّم في شرح الكلام السّابق و اللّه العالم.
|