و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الثاني و الاربعون من المختار فى باب الخطب
و الظّاهر أنّه ملتقط من كلام طويل له عليه السّلام قدّمنا روايته في شرح الكلام المأة و السّادس و العشرين من البحار من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثقفي من كتاب الكافي لمحمّد بن يعقوب الكليني على اختلاف عرفته.
و ليس لواضع المعروف في غير حقّه و عند غير أهله من الحظّ فيما أتى إلّا محمدة اللّئام، و ثناء الأشرار، و مقالة الجهّال ما دام منعما عليهم ما أجود يده و هو عن ذات اللّه بخيل، فمن آتاه اللّه ما لا فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضّيافة، و ليفكّ به الأسير و العانى، و ليعط منه الفقير و الغارم، و ليصبر نفسه على الحقوق و النّوائب ابتغاء الثّواب فإنّ فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا، و درك فضائل الآخرة إنشاء اللّه.
اللغة
قال الفيومى (المحمدة) بفتح الميم نقيض المذمّة، و نقل ابن السرّاج و جماعة بالكسر و (الغارم) من عليه الدّين و (صبرت) صبرا من باب ضرب حبست النفس عن الجزع قال تعالى: و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم، و يستعمل تارة بعن كما في المعاصى، و تارة بعلى كما في الطاعات، و (النّوائب) جمع النائبة و هى النازلة التي تنوب على الانسان و تنزل عليه.
الاعراب
قوله و مقالة الجهّال ما دام منعما عليهم، ما ظرفيّة مصدريّة، و دام فعل ناقص و اسمه ضمير مستتر عايد إلى واضع المعروف، و منعما خبره، و إنّما جعلت ما مصدريّة لأنّها تؤل بمصدر مضاف إليه الزّمان أى مدّة دوامه منعما، و سميّت ظرفيّة لنيابتها عن الظرف، و هو المدّة، فأصل ما دام منعما مدّة ما دام منعما، فحذف المضاف أعنى المدّة و ناب المضاف إليه و هو ما وصلتها عنها في الانتصاب على الظرفية كما ناب المصدر الصّريح عن ظرف الزّمان في نحو جئتك صلاة العصر أى وقت صلاة العصر، فعلى هذا يكون قوله: ما دام منعما، ظرفا للمقالة و منصوبا بها و قيدا لها و جملة ما أجود يده، في محلّ النّصب مقول القول أى مقالتهم ذلك، و الواو في قوله، و هو حالية، و الفاء في قوله: فمن أتاه، فصيحة، و عطف العاني على الأسير للتفسير، و الفاء في قوله: فانّ فوزا، للسببيّة.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام وارد في معرض الذّم على صرف المال في غير أهله و الحثّ على صرفه في وجوه البرّ و مصارف الخير.
أمّا الأوّل أعني صرف المال لغير مستحقّه فقد نبّه على خساسة ثمرته و زهادة منفعته بقوله (و ليس لواضع المعروف) أى البرّ و الاحسان (في غير حقّه) أى غير المحلّ الّذي هو حقيق به و حقّ له (و عند غير أهله) و مستحقّه من الحظّ و النصيب فيما أتى و جاء به (إلّا محمدة اللّئام) الموصوفين بدنائة النّفس و رزالة الطبع (و ثناء الأشرار) و الفجّار (و مقالة الجهّال ما دام منعما عليهم ما أجود يده) يعني أنّ الجهلة و السفهة يصفونه بالكرم و الجود و يقولون إنّه جواد ما دام إنعامه عليهم حتّى إذا انقطع انعامه عنهم يبدلون الشّكر بالكفران، و الثناء بالمذمّة، بل ربّما يجعلون الشّر عوض الشكر استجلابا لذلك الانعام المنقطع، و استعادة له فهذا الرّجل و إن كان السفلة و السّفهاء يصفونه بالجود لجهلهم بوضع الأشياء في مواضعها التي هي مقتضي العقل و الشّرع، و لكنّه ليس بجواد في نفس الأمر و عند اولى الألباب العارفين بمواضع الأشياء و مواضعها التي يحسن وضعها فيها، بل يصفونه العقلاء بالبخل كما قال عليه السّلام (و هو عن ذات اللّه بخيل) يعني أنّه بخيل عما يرجع إلى ذات اللّه سبحانه و يحصل رضاه كوجوه البرّ الواجبة و المندوبة من الصدّقات و صلة الرّحم و الضيافة و الحقّ المعلوم للسّائل و المحروم و نحوها.
و توضيح المرام موقوف على تحقيق الكلام فى معنى الجود و البخل.
فنقول: المال خلق لحكمة و مقصود و هو صلاحه لحاجات الخلق، و يمكن إمساكه عن الصّرف إلى ما خلق للصّرف إليه و يمكن بذله بالصّرف إلى ما لا يحسن الصّرف إليه، و يمكن التّصرّف فيه بالعدل و هو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، و يبذل حيث يجب البذل فالامساك حيث يجب البذل بخل، و البذل حيث يجب الامساك تبذير و إسراف، و الوسط بينهما و هو الجود و السّحاء محمود قال سبحانه: و الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما، فالوسط بين الاسراف و الاقتار هو الجود، و هو أن يقدّر بذله و امساكه بقدر الواجب.
و الواجب قسمان: واجب بالشّرع و واجب بالمروّة و العادة، فمن منع واحدا منهما فهو بخيل، و لكنّ المانع من واجب الشرع أبخل كالمانع من أداء الزّكاة و نفقة عياله الواجبي النفقة، و أما واجب المروّة فهو ترك المضايقة و الاستقصاء في المحقرات، فانّ ذلك مستقبح و يختلف استقباحه باختلاف الأحوال و الأشخاص فيستقبح من الغنى ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة، و كذلك من الرّجل مع أهله و أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب، و كذلك يستقبح المضايقة من الجار في حقّ الجار دون البعيد، و فى الضيافة دون المعاملة، و بالنسبة إلى العالم دون الجاهل و هكذا.
فمن أدّى واجب الشّرع و واجب المروّة اللّائقة فقد تبرّء من البخل، نعم لا يتّصف بصفة الجود و السّخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة و نيل الدّرجات، فاذا اتّسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع و لا يتوجّه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتّسع له نفسه من قليل أو كثير، و درجات ذلك متفاوتة غير محصورة، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة و المروّة هو الجود، و لكن يشترط فيه أمران: أحدهما أن يكون عن طيب نفس و الثّاني أن لا يكون عن طمع عوض و لو ثناء و محمدة و شكرا، فانّ من طمع في الشّكر و الثّناء ممّن يحسن إليه أو من غيره فانّه بيّاع ليس بجواد، فانّه يشترى المدح بماله، و المدح لذيذ و هو مقصود فى نفسه و كذلك لو كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلا أو من ملامة الخلق أو دفع شرّ، فكلّ ذلك ليس من الجود لأنّه مضطرّ إليه بهذه البواعث نعم لو لم يكن غرضه إلّا الثّواب في الآخرة و تحصيل رضاء اللّه سبحانه و اكتساب فضيلة الجود و تطهير النّفس من رذالة الشّح فهو الجواد و الموصوف بالسخاء.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك أنّ وضع المعروف في غير حقّه و عند غير أهله أو لرجاء العوض و المنفعة فليس جوادا في الحقيقة و عند أهل المعرفة و البصيرة، كما نبّه به الامام عليه السّلام و نهى عنه.
ثمّ أرشد عليه السّلام إلى ما ينبغي القيام به لمن آتاه اللّه المال و الثّروة بقوله (فمن آتاه اللّه مالا فليصل به) الرّحم و (القرابة) فقد روى في الوسائل من الكافي باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أىّ الصّدقة أفضل، فقال: على ذى الرّحم الكاشح.
و بهذا الاسناد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الصّدقة بعشرة و القرض بثمانية عشر و صلة الاخوان بعشرين و صلة الرّحم بأربعة و عشرين.
و في الوسائل أيضا عن الصّدوق قال: قال عليه السّلام لا صدقة و ذو رحم محتاج و باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: و من مشى إلى ذي قرابة بنفسه و ماله ليصل رحمه أعطاه اللّه عزّ و جلّ أجر مأئة شهيد و له بكلّ خطوة أربعون ألف حسنة و محى عنه أربعون ألف سيّئة، و رفع له من الدّرجات مثل ذلك، و كان كأنّما عبد اللّه عزّ و جلّ مأئة سنة صابرا محتسبا، هذا.
و قد مضى جملة من منافع صلة الرّحم و مضارّ القطيعة و الأخبار المتضمّنة لهذا المعنى في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الثّالثة و العشرين فليراجع.
(و ليحسن منه الضّيافة) قال الصّادق عليه السّلام لحسين بن نعيم الصحّاف في حديث رواه فى الكافي: أتحبّ إخوانك يا حسين قلت: نعم، إلى أن قال أ تدعوهم إلى منزلك قلت: نعم ما آكل إلّا و معى منهم الرّجلان و الثلاثة و الأقلّ و الأكثر، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما إنّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم، فقلت: جعلت فداك أطعمهم طعامى و أوطئهم رحلى و يكون فضلهم علىّ أعظم قال: نعم إنّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك و مغفرة عيالك، و إذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك و ذنوب عيالك.
(و ليفكّ به الأسير و العانى و ليعط منه الفقير و الغارم) أى المديون (و ليصبر نفسه على الحقوق) الواجبة و المندوبة كالزّكاة و الصّدقات، أى ليحبس نفسه على أدائها، و إنّما سمّى حبسا لأنّه خلاف ما يميل إليه الطّبع و النفس الامارة (و النّوائب) التي تنزل به من الحوادث و المهمّات الموجبة لغرمه.
كما في حديث الجهاد عن أبي الحسن عليه السّلام في قسمة الغنائم ثمّ قال: و يأخذ يعني الامام الباقى فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينويه من تقوية الاسلام و تقوية الدّين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامة قال الشّارح البحراني: و أشار بالنّوائب إلى ما يلحق الانسان من المصادرات التي يفكّ بها الانسان من أيدى الظالمين و ألسنتهم، و الانفاق في ذلك من الحقوق الواجبة على الانسان، انتهى.
و الأظهر التّعميم حسب ما ذكرنا و لمّا أشار إلى المواضع التي يحسن وضع المال فيها و صرفه إليها أردفه بقوله (ابتغاء الثواب) تنبيها على أنّ حسنه إنّما يكون إذا قصد به وجه اللّه سبحانه و طلب جزائه لا عن قصد رياء و سمعة.
ثمّ نبّه على ما يترتّب على هذه الخصال الحسنة من الأجر الجميل و الجزاء الجزيل بقوله (فانّ فوزا بهذه الخصال) الخمس (شرف مكارم الدّنيا و درك فضائل الآخرة إنشاء اللّه) لأنها توجب الذكر الجميل و الجاه العريض في الاولى و الثواب الجزيل الموعود لاولى الفضل و التّقى في العقبى، هذا.
و انّما أتى فوزا بالتنكير و لم يقل فانّ الفوز بهذه الخصال قصدا إلى التّقليل يعني أنّ قليل فوز بهذه يوجب شرف الدّنيا و الآخرة كما في قوله تعالى، و رضوان من اللّه أكبر، أى رضوان قليل منه سبحانه أكبر من ذلك كلّه على ما ذهب إليه صاحب التّلخيص.
و هذا أقرب و أولى بل أظهر ممّا قاله الشّارح المعتزلي في وجه تعليل التنكير حيث قال: قوله: فانّ فوزا أفصح من أن يقول فانّ الفوز أو فإنّ فى الفوز كما قال الشّاعر:
- إنّ شواء و نشوة و خبب البازل الأمونمن لذّة العيش للفتى في الدّهر و الدّهر ذو فنون
و لم يقل إنّ الشواء و النشوة، و السرّ في هذا أنّه كأنّه يجعل هذا المصدر و هذا الشواء شخصا من جملة اشخاص داخلة تحت نوع واحد و يقول: إنّ واحدا منها أيّها كان فهو من لذّة العيش و إن لم يحصل له كلّ أشخاص و ذلك النوع و مراده عليه السّلام تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس أى متى حصل للانسان فوز بأيّها فقد حصل له الشّرف، و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز بالألف و اللّام إذا قصد بها الجنسيّة إلّا أنّه قد يسبق إلى الذّهن منها الاستغراق لا الجنسية فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق و هى اللّفظة المنكرة، و هذا دقيق و هو من لباب علم البيان، انتهى.
و فيه أوّلا أنّ الذّوق السّليم يحكم بأنّ القصد في التنكير هنا إلى التقليل لا إلى الافراد كما في جاء رجل من أقصى المدينة و في قوله: و اللّه خلق كلّ دابّة من ماء، أى كلّ فرد من أفراد الدّواب من فرد من أفراد الماء أى النطفة المختصّة به فتأمّل تعرف.
و ثانيا أنّ قوله: و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز ممنوع، لظهور أنّ النكرة هو الفرد المنتشر، و البعض الغير المعيّن المعرّف بلام الجنس موضوع خطبه 142 نهج البلاغه لماهيّة من حيث هى و بينهما بون بعيد.
و ثالثا أنّ قوله: قد يسبق إلى الذّهن منها الاستغراق لا الجنسية، يدفعه أنّ المتبادر من المعرّف باللّام المفرد هى الماهية لا بشرط، و بعبارة اخرى المتبادر السّابق إلى الذّهن من المفرد المحلّى باللّام هى نفس الحقيقة، من دون نظر إلى الافراد كلّا أو جزء، فمن أين يسبق إلى الذّهن الاستغراق إن هو إلّا توهّم فاسد و به يظهر فساد ما زعمه الشّارح البحراني أيضا حيث قال: و إنّما نكّر الفوز لأنّ تنكيره يفيد نوع الفوز فقط الّذي يحصل بأىّ شخص كان من أشخاصه و هذا و إن كان حاصلا مع الألف و اللّام لتعريف تلك الطبيعة إلّا أنّ ذلك التعريف مشترك بين تعريف الطبيعة و المعهود الشخصي فكان موهما لفوز شخصىّ، و ذلك كان الاتيان به منكرا أفصح و أبلغ انتهى.
وجه ظهور الفساد منع اشتراك المعرّف بلام الحقيقة بين تعريف الطّبيعة و المعهود الشخصى ذهنيّا كان أو خارجيّا، بل هو حقيقة في الأوّل فقط، و مجاز في غيره، و انفهامه منه محتاج إلى القرينة، و ليست فليس، مضافا إلى ما استظهرناه من افادة التنكير للتقليل لا النوع في ضمن أىّ شخص فافهم و تبصّر.
تذنيب في الاخبار الواردة فى ذمّ وضع المعروف فى غير موضعه و مع غير أهله
ففي الوسائل من الكافي باسناده عن سيف بن عميرة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لمفضّل بن عمر: يا مفضّل إذا أردت أن تعلم أشقىّ الرّجل أم سعيد فانظر سيبه و معروفه إلى من يصنعه فان كان يصنعه إلى من هو أهله فاعلم أنّه إلى خير و إن كان يصنعه إلى غير أهله فاعلم أنّه ليس له عند اللّه خير.
و من الكافي عن العدّة عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن سنان عن مفضّل ابن عمر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا أردت أن تعرف إلى خير يصير الرّجل أم إلى شرّ فانظر أين يضع معروفه فان كان يضع معروفه عند أهله فاعلم أنّه يصير إلى خير، و إن كان يضع معروفه مع غير أهله فاعلم أنّه ليس له في الآخرة من خلاق.
و في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن قتادة بن عمرو و أنس بن مالك عن أبيه جميعا في وصيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام قال: يا عليّ أربعة تذهب ضياعا: الأكل على الشّبع، و السّراج في القمر، و الزّرع في السبخة، و الصّنيعة عند غير أهلها.
و فيه من مجالس ابن الشّيخ عن أبيه عن أبي محمّد الفحام عن المنصورى عن عمّ أبيه عن الامام عليّ بن محمّد عن أبيه عن آبائه واحدا واحدا عليهم السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: خمس تذهب ضياعا: سراج تفسده في شمس، الدّهن يذهب و الضّوء لا ينتفع به، و مطرجود على أرض سبخة المطر يضيع و الأرض لا ينتفع بها، و طعام يحكمه طاهيه يقدم إلى شبعان فلا ينتفع به، و امرأة تزف إلى عنين فلا ينتفع بها، و معروف يصطنع إلى من لا يشكره.
|