و من خطبة له عليه السّلام في الاستسقاء
و هي المأة و الثالثة و الاربعون من المختار في باب الخطب.
ألا و إنّ الأرض الّتي تحملكم، و السّماء الّتي تظلّكم، مطيعتان لربّكم، و ما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم، و لا زلفة إليكم، و لا لخير ترجوا له منكم، و لكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، و أقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا
اللغة
(الأرض) مؤنثة و الجمع أرضون بفتح الرّاء (و السّماء) المظلّة للأرض قال ابن الأنباري: تذكّر و تؤنّث و قال الفراء: التذكير قليل و هو على معنى السّقف و السّماء أيضا المطر قال الفيومى: مؤنّثة لأنّها في معنى السّحابة و كلّ عال مظلّ سماء حتّى يقال اظهر الفرس سماء و (جاد) بالمال بذله و جادت السّماء أمطرت و الأرض أنبتت و (توجّع) لفلان رثاه
الاعراب
جملة تجودان، منصوبة المحلّ على أنّه خبر أصبحت أو أصبح بمعنى صار قال نجم الأئمة ما محصّله: إنّ من خصائص كان ما ذهب إليه ابن درستويه، و هو أنّه لا يجوز أن يقع الماضي خبر كان فلا يقال كان زيد قام، و فعل ذلك لدلالة كان على المضىّ فيقع المضىّ في خبره لغوا فينبغي أن يقال كان زيد قائما أو يقوم، و كذا ينبغي أن يمنع يكون زيد يقوم لتلك العلّة إلى أن قال: و منع ابن مالك و هو الحقّ من مضىّ خبر صار و ليس و ما دام و كلّ ما كان ماضيا من ما زال و لا زال و مراد فاتها، لدلالة صار على الانتقال في الزمن الماضي إلى حالة مستمرّة و هي مضمون خبرها، و كذا ما زال و أخواتها موضوع خطبه 143 نهج البلاغه بخش 1ة لاستمرار مضمون اخبارها في الماضي و ما يصلح الاستمرار هو الاسم الجامد نحو هذا أسد أو الصفّة نحو زيد قائم أو غنيّ أو مضروب أو الفعل المضارع نحو زيد يقدم في الحرب و يسخو بموجوده، فناسبت الثلاثة لصلاحيتها للاستمرار أن يقع خبرا لصار و أخواتها من أصبح و أمسى و ظلّ و بات و كذا ما زال و أخواتها بخلاف الماضي فانّه لا يستعمل في استمرار هذه الثلاثة فلم يقع خبرا لهذه الأفعال.
و توجّعا، مفعول لأجله و العامل فيه تجودان
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة خطبها في الاستسقاء و طلب السّقياء كالخطبة المأة و الرابعة عشر، و قد قدّمنا في شرح تلك الخطبة كيفية الاستسقاء و ما يناسب شرحها من الأخبار.
و أقول هنا: انّه عليه السّلام لما كان بصدد الدعاء و طلب الرحمة من اللَّه سبحانه و تعالى و كانت استجابة الدّعاء موقوفة على وجود المقتضى و انتفاء الموانع، قدّم أمورا مهمّة أمام الدّعاء تنبيها للسامعين و من كان معه عليه السّلام من المستسقين على ماله مدخلية في استجابة دعائهم و انجاح مقصدهم كى لا يردّوا خائبين و لا ينقلبوا و اجمين.
فنبّه أوّلا على أنّ الأرض و السّماء مخلوقان مقهوران تحت قدرة اللَّه سبحانه و النّفع و الضّرر الحاصلان منهما بالجود و الامساك لا ينشآن منهما بنفسهما و بالاستقلال و إنّما ينشآن منهما بتعلّق مشيّة الفاعل المختار و تدبير الحكيم المدبّر سبحانه و على ذلك فاللّازم على العباد في الدّاهية و النّاد أن تقرعوا بأيدى السّؤال و الذلّ و الابتهال بابه، و يتوجّهوا في انجاح الآمال إلى جنابه عزّ و جلّ.
و هو قوله: (ألا و إنّ الأرض الّتي تحملكم و السّماء الّتي تظلّكم) أى تعلوكم و تشرف عليكم أو تلقى اليكم ظلّها و المراد بالسّماء إمّا معناها المجازى أعنى السّحاب، أو الحقيقي باعتبار أنّ زوال المطر من السّماء لا لكون السّماوات بحركاتها أسبابا معدّة لكلّ ما في هذا العالم من الحوادث كما زعمه الشّارح البحراني.
و يؤيّد الثّاني ظواهر الآيات التي تدلّ على نزول المطر من السّماء مثل قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» و قوله: «وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» و نحوها مما يقرب عشرين آية.
و يؤيّد الأوّل ظاهر قوله سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» و قوله: «وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ» الآية.
و يدلّ على الاحتمالين ما في البحار من علل الشّرائع للصّدوق عن أبيه عن الحميري عن هارون عن ابن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السّلام قال: كان عليّ عليه السّلام يقوم في المطر أوّل مطر يمطر حتّى يبتلّ رأسه و لحيته و ثيابه فيقال له: يا أمير المؤمنين الكنّ الكنّ فيقول: إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش ثمّ أنشأ عليه السّلام يحدّث فقال إنّ تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت به أرزاق الحيوانات و إذا أراد اللَّه أن ينبت به ما يشاء لهم رحمة منه أوحى اللَّه عزّ و جلّ فمطر منه ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى السّماء الدنيا، فتلقيه إلى السّحاب و السّحاب بمنزلة الغربال ثمّ يوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى السّحاب أن اطحنيه و اذيبيه ذوبان الملح في الماء ثم انطلقي به إلى موضع كذا و كذا و عبابا أو غير عباب، فتقطر عليهم على النحو الذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلّا و معها ملك حتّى تضعها بموضعها، الحديث. و رواه في الكافي عن هارون عن مسعدة بن صدقة نحوه.
قال الرّازي في تفسير قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» اختلف النّاس فيه: فقال الجبائي إنّه تعالى ينزل الماء من السّماء إلى السّحاب و من السّحاب إلى الأرض يقال لأنّ ظاهر النصّ يقتضي نزول المطر من السّماء و العدول عن الظاهر إلى التّأويل إنّما يحتاج إليه عند قيام الدّليل على أنّ إجراء اللّفظ على ظاهره غير ممكن، و في هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السّماء فوجب إجراء اللّفظ على ظاهره إلى أن قال: و القول الثّاني المراد انزل من جانب السّماء ماء.
و القول الثالث انزل من السّحاب ماء و سمّا اللَّه السّحاب سماء لأنّ العرب تسمّى كلّ ما فوقك سماء كسماء البيت، انتهى.
و رجّح في موضع آخر نزول المطر من السّحاب قال: لأنّ الانسان ربما كان واقفا على قلّة جبل عال و يرى الغيم أسفل فاذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماطرا عليهم، و إذا كان هذا الأمر مشاهدا بالبصر كان النزاع باطلا، هذا.
و قوله: (مطيعتان لربّكم) وصفهما بالاطاعة تنبيها على عظمة قدرته سبحانه و نفوذ امره فيهما كما قال تعالى: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (و ما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما) أى ما صارت السّماء تجود لكم بالأمطار و لا الأرض تجود لكم بالانبات (توجّعا لكم) أي تألّما لما أصاب بكم (و لا زلفة) و تقرّبا (اليكم و لا لخير ترجوانه منكم) كما هو المعهود المتعارف في جود النّاس بعضهم لبعض حيث إنّهم يبذلون المال للترحّم أو التقرّب أو لجلب الخير أو لدفع الضرّ أو نحو ذلك، و أمّا السّماء و الأرض فلا يتصوّر في حقوقهما ذلك لأنّهما أجسام جامدة غير شاعرة لا يوجد ما يوجد منهما بالارادة و الاختيار.
(و لكنّ) هما مسخّرتان تحت قدرة اللَّه و مشيّته تعالى (أمرتا بمنافعكم فأطاعتا و اقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا) و المراد بالأمر و الاقامة الأمر و الاثبات التكويني كما أنّ المراد بالقيام و الاطاعة الثبات و الجرى على وفق ما أراد اللَّه سبحانه منهما.
و في هاتين القرينتين تلميح إلى قوله سبحانه: «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ» أى يريكم البرق خوفا من الصّاعقة و للمسافر و طمعا في الغيث و للمقيم، و ينزل من السّماء مطر فيحيى به الأرض بالنّبات بعد موتها و يبسها و جدوبها، و قيام السّماء و الأرض بأمره باقامته لهما و إرادته لقيامهما.
قال الطبرسي: بلاد عامة تدعمها و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» و قيل بأمره أي بفعله و امساكه إلّا أنّ افعال اللَّه عزّ اسمه تضاف إليه بلفظ الأمر لأنّه أبلغ في الاقتدار فانّ قول القائل أراد فكان أو أمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان، و معنى القيام الثّبات و الدّوام انتهى.
و قد مضى تفصيل الكلام في منافع السّماء و الأرض و تحقيق ما يتعلّق بمصالحها في شرح الخطبة التّسعين فليراجع هناك هذا.
|