إنّ اللَّه يبتلي عباده عند الأعمال السّيّئة بنقص الثّمرات، و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، و يقلع مقلع، و يتذكّر متذكّر، و يزدجر مزدجر، و قد جعل اللَّه سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرّزق، و رحمة الخلق، فقال:- استغفروا ربّكم إنّه كان غفارا، يرسل السّماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين- فرحم اللَّه امرء استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيّته.
اللغة
(أقلع) عن الأمر اقلاعا تركه
الاعراب
قوله ليتوب، تعليل ليبتلى و متعلّق به، و مدرارا، حال من السّماء و الفاء في قوله: فرحم اللَّه، فصيحة و الجملة دعائية لا محلّ لها من الاعراب.
المعنى
و لمّا نبّه على أنّ السّماء و الأرض مخلوقان مسخّران تحت قدرة الفاعل المختار و أنّ جودهما بالامطار و الانبات إنّما هو بتعلّق أمر اللَّه سبحانه و مشيّته و إرادته أردف ذلك بالتنبيه على أنّ المانع من نزول الخير و إفاضة الجود إنما هو أمر راجع إلى الخلق و حادث من جهة العبد و هو سوء فعله و ذنبه المانع من استعداده لقبول الرّحمة و فيضان الجود فقال (إنّ اللَّه يبتلي عباده عند الأعمال السّيئة) لأنّ البلاء للظالم أدب (بنقص الثمرات و حبس البركات و إغلاق خزائن الخيرات) كما قال سبحانه «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ».
و إنّما يبتليهم بذلك لطفا منه تعالى (ليتوب تائب) عن سوء عمله (و يقلع مقلع) أي يكفّ عن ضلاله و زلله (و يتذكّر متذكّر) بما أعدّ اللَّه سبحانه من النّعيم في دار القرار للمتقين الأبرار (و يزدجر مزدجر) بما أعدّ اللَّه تعالى من العذاب الأليم في دار البوار للفجّار و الأشرار.
ثمّ نبّه على ما به يرتفع المانع من الخير و الجود و يتأهّل لافاضة الرّحمة من واجب الوجود فقال (و قد جعل اللَّه سبحانه الاستغفار) ممحاة للذّنب و (سببا لدرور الرزق) و كثرته (فقال) في سورة نوح (استغفروا ربّكم انّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين) و يجعل لكم جنّات و يجعل لكم أنهارا.
قال الطّبرسي في تفسيره: أى اطلبوا منه المغفرة على كفركم و معاصيكم إنّه كان غفارا لكلّ من طلب منه المغفرة، فمتى رجعتم عن كفركم و معاصيكم و أطعتموه يرسل السّماء عليكم مدرارا، أى كثيرة الدّرور بالغيث، و قيل: إنّهم كانوا قد قحطوا و اسنتوا و هلكت أموالهم و أولادهم فلذلك رغّبهم في ردّ ذلك بالاستغفار مع الايمان و الرّجوع إلى اللَّه تعالى، و يمددكم بأموال و بنين، أي يكثر أموالكم و أولادكم الذّكور، و يجعل لكم جنّات، أي بساتين في الدّنيا و يجعل لكم أنهارا تسقون بها جنّاتكم، قال قتادة: علم نبيّ اللَّه نوح عليه السّلام أنّهم كانوا أهل حرص على الدّنيا فقال: هلمّوا إلى طاعة اللَّه فانّ فيها درك الدّنيا و الآخرة.
و روى الرّبيع بن صبيح أنّ رجلا أتى إلى الحسن عليه السّلام فشكى إليه الجدوبة فقال له الحسن عليه السّلام: استغفر اللَّه، و أتاه آخر فشكى إليه الفقر، فقال له: استغفر اللَّه و أتاه آخر فقال: ادع اللَّه أن يرزقني ابنا، فقال له: استغفر اللَّه، فقلنا: أتاك رجال يشكون أبوابا و يسألون أنواعا، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار، فقال عليه السّلام: ما قلت ذلك من ذات نفسي إنّما اعتبرت فيه قول اللَّه تعالى حكاية عن نبيّه نوح عليه السّلام أنّه قال لقومه: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» إلى آخره، هذا.
و الآيات و الأخبار في فضيلة الاستغفار و كونه سببا لدرور الرزق و سائر ما يترتّب عليه من الثمرات كثيرة.
فمن الآيات مضافة إلى ما مرّ قوله تعالى في سورة هود عليه السّلام حكاية عنه انّه قال لقومه: «وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً». و من الأخبار في الكافي باسناده عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول إنّ العبد إذا أذنب ذنبا اجّل من غدوة إلى اللّيل فان استغفر اللَّه لم يكتب عليه و عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من عمل سيّئة اجلّ فيها سبع ساعات من النّهار، فان قال: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، ثلاث مرّات لم تكتب عليه.
و عن عبد الصّمد بن بشير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: العبد المؤمن إذا أذنب ذنبا أجّله اللَّه سبع ساعات و إن استغفر اللَّه لم يكتب عليه شي ء و إن مضت السّاعات و لم يستغفر كتب اللَّه عليه سيّئة و إنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربّه فيغفر اللَّه له و إنّ الكافر لينساه من ساعته.
و فيه مرسلا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ما من مؤمن يقارف في يومه و ليلته أربعين كبيرة فيقول و هو نادم: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلّا هو الحىّ القيوم بديع السّماوات و الأرض ذو الجلال و الاكرام و أسأله أن يصلّي على محمّد و آل محمّد و أن يتوب علىّ، إلّا غفرها اللَّه له عزّ و جلّ و لا خير في من يقارف في يوم أكثر من أربعين كبيرة.
و في ثواب الأعمال بسنده عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، عن أبيه عن آبائه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لكلّ داء دواء و دواء الذّنوب الاستغفار.
و فيه عن سلام الخيّاط عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من قال: أستغفر اللَّه مأئة مرّة حين ينام بات و قد تحاطت الذنوب كلّها عنه كما تتحاط الورق من الشّجر و يصبح و ليس عليه ذنب.
و عن مسعدة بن صدقة عن جعفر الصّادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: طوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة تحت كلّ ذنب أستغفر اللَّه و عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من استغفر اللَّه بعد صلاة الفجر سبعين مرّة غفر اللَّه له و لو عمل ذلك اليوم سبعين ألف ذنب، و من عمل أكثر من سبعين ألف ذنب فلا خير له.
و في الوسائل من الكافي عن ياسر الخادم عن الرّضا عليه السّلام قال: مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فتناثر، و المستغفر من ذنب و يفعله كالمستهزى ء بربّه و عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: إذا كثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته و هي تتلألأ.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عن آبائه عليهم السّلام في حديث قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: من كثرت همومه فعليه بالاستغفار.
و فيه من عدّة الدّاعى لأحمد بن فهد قال: قال عليه السّلام إنّ للقلوب صداء كصداء النّحاس فأجلوها بالاستغفار.
قال: و قال: من أكثر من الاستغفار جعل اللَّه له من كلّ همّ فرجا و من كلّ ضيق مخرجا و رزقه من حيث لا يحتسب.
و فيه من أمالي ابن الشّيخ مسندا عن أبي الحسن المنقري قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: عجبا لمن يقنط و معه الممحاة: قيل: و ما الممحاة قال: الاستغفار.
و فيه من كتاب ورّام بن أبي فراس قال: قال عليه السّلام أكثروا الاستغفار إنّ اللَّه لم يعلّمكم الاستغفار إلّا و هو يريد أن يغفر لكم، هذا.
و لمّا نبّه على كون الاستغفار سببا لدرور الرزق و استشهد عليه بالآية الشريفة أردفه بالدّعاء على المستغفرين التائبين بقوله (فرحم اللَّه امرء استقبل توبته) أي استأنفها (و استقال خطيئته) أي طلب الاقالة منها و من المؤاخذة بها قال الشّارح البحراني: و لفظ الاقالة استعارة و وجهها أنّ المخطى كالمعاهد و الملتزم لعقاب اخرويّة بلذّة عاجلة لما علم من استلزام تلك اللّذة المنهيّ عنها للعقاب، فهو يطلب للاقالة من هذه المعاهدة كما يطلب المشتري الاقالة من البيع (و بادر منيّته) أى سارع إليها بالتوبة، و الاستقالة قبل إدراكها له، هذا.
|