و إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شي ء أخفى من الحقّ، و لا أظهر من الباطل، و لا أكثر من الكذب على اللَّه و رسوله، و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته، و لا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، و لا في البلاد شي ء أنكر من المعروف، و لا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب حملته، و تناساه حفظته، فالكتاب يومئذ و أهله طريدان منفيّان، و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يئوبهما مؤو، فالكتاب و أهله في ذلك الزّمان في النّاس و ليسا فيهم، و معهم و ليسامعهم، لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى و إن اجتمعا، فاجتمع القوم على الفرقة، و افترقوا عن الجماعة، كأنّهم أئمّة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلّا اسمه، و لا يعرفون إلّا خطّه و زبره، و من قبل ما مثلوا بالصّالحين كلّ مثلة، و سمّوا صدقهم على اللَّه فرية، و جعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة. و إنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم، و تغيّب آجالهم، حتّى نزل بهم الموعود الّذي تردّ عنه المعذرة، و ترفع عنه التّوبة، و تحلّ معه القارعة و النّقمة
اللغة
(بار) الشي ء يبور من باب قال إذا فسد و (زبرت) الكتاب زبرا كتبته فهو زبور فعول بمعنى مفعول كرسول و الجمع زبر قال سبحانه: «وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» و الزّبر بالكسر الكتاب و جمعه زبور مثل قدر و قدور.
و (مثلوا) يروى بالتخفيف و التشديد معا أى نكلوا و (القارعة) الدّاهية تفجؤ الانسان و قال الشّارح المعتزلي: المصيبة تقرع أى تلقى بشدّة و قوّة، و قوله. فانّ رفعة الذين، لفظة رفعة في بعض النّسخ بضمّ الرّاء و في أكثرها بالفتح و ضبط القاموس بالكسر قال: رفع ككرم رفاعة صار رفيع الصّوت و رفعة بالكسر شرف و علا قدره فهو رفيع كذا في الاوقيانوس.
الاعراب
قوله: ليس فيه شي ء أخفى لفظة أخفى إمّا بتقدير الرّفع صفة لشي ء و يؤيّده رفع لفظ أظهر و أكثر المعطوفين عليه كما في بعض النسخ، و إمّا بتقدير النّصب على أنّه خبر ليس و يكون فيه متعلقا به، و على الأوّل فهو خبر مقدّم و ليس مع اسمه و خبره فى محل الرّفع صفة لزمان، و على تقدير نصب أخفى فيكون ما عطف عليه منصوبا كما في نسخة الشّارح المعتزلي و غيره، و مثله لفظ أبور و أنفق و أنكر و أعرف، و تروى جميعا بالرّفع و النّصب معا.
و قوله: و من قبل ما مثلوا بالصّالحين، لفظة ما مع الفعل بعدها في حكم المصدر و محلّه الرّفع بالابتداء، و من قبل خبرها أى مثلهم أو تمثيلهم بالصّالحين من قبل ذلك. و لا يجوز جعل ما موصولة و الجملة بعدها صلتها الخلوّها من الرّبط و على في قوله: و سمّوا صدقهم على اللَّه فرية، متعلّقة بفرية لا بصدقهم قال الشّارح المعتزلي، فان امتنع أن يتعلّق حرف الجرّ به لتقدّمه عليه و هو مصدر فليكن متعلّقا بفعل مقدّر دل عليه هذا المصدر الظّاهر.
و قوله: و جعلوا في الحسنة عقوبة السّيئة، باضافة العقوبة و في بعض النّسخ العقوبة السّيئة قال الشّارح المعتزلي: و الرّواية الاولى بالاضافة أكثر و أحسن.
المعنى
و هو قوله: (و أنّه سيأتي عليكم من بعدى زمان) الأظهر أنّ المراد به زمان بني اميّة و أيّام خلافتهم لاتّصافه بما وصفه من أنّه (ليس فيه شي ء أخفى من الحقّ و لا أظهر من الباطل و لا أكثر من الكذب على اللَّه و رسوله) و هو ظاهر للخبير بالسير و الأخبار.
فقد روى عن شعبة و هو امام المحدّثين عند العامّة أنّه قال: تسعة أعشار الحديث كذب، و عن الدّارقطنى ما الحديث الصحيح إلّا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، و قد كان جعل الأخبار الكاذبة و اشتهارها في زمن بني اميّة.
قال ابن عرفة المعروف بنفطويه و هو من أكابر محدّثى العامّة و أعلامهم في تاريخه: إنّ أكثر الأحاديث الموضوع خطبه 147 نهج البلاغه بخش 2ة في فضائل الصّحابة افتعلت في أيّام بني اميّة تقرّبا اليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنف بني هاشم.
و يشهد بذلك ما تقدّم روايته في شرح الكلام السّابع و التّسعين من الخبر الذي رويناه من البحار عن كتاب سليم بن قيس الهلالي.
(و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب) أى متاع أكسد و أفسد من كتاب اللَّه سبحانه (إذا تلى حقّ تلاته) و فسّر على الوجه الذى انزل عليه و على المعنى الذي اريد منه، و ذلك لمنافاة المعنى المراد و الوجه الحقّ لأغراض أهل ذلك الزّمان الغالب على أهله الباطل و اتّباع الهوى.
(و لا أنفق منه) بيعا و أكثر رواجا (إذا حرّف عن مواضعه) و مقاصده الأصليّة و ذلك لموافقة أغراضهم الفاسدة (و لا في البلاد شي ء أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر) لما ذكرناه في شرح الكلام السابع عشر من أنّ المعروف لما خالف أغراضهم و مقاصدهم طرحوه حتّى صار منكرا بينهم يستقبحون فعله، و المنكر لما وافق دواعيهم لزموه حتّى صار معروفا بينهم يستحسنون أخذه.
(فقد نبذ الكتاب) وراء ظهره (حملته) أي أعرض عنه و ترك التدبّر فيه و العمل به قرّاؤه الحاملون له كمثل الحمار يحمل أسفارا (و تناساه حفظته) أى تغافلوا عن اتّباعه و عن امتثال أوامره و نواهيه (فالكتاب يومئذ و أهله) الّذين يتلونه حقّ تلاوته و هم أئمّة الدّين و أتباعهم الّذين يعملون به و يتّبعونه (طريدان منفيان) لأنّ أهل ذلك الزّمان برغبتهم إلى الباطل و عدولهم عن الحقّ معرضون عن الكتاب الهادي إلى الحقّ و عن أهله الأدلّاء اليه، بل مؤذون لهم فيما يخالفونهم فيه مما يقتضيه أحكام الكتاب، فكان إعراضهم عنه و عنهم إبعادا لهما و نفيا و طردا (و صاحبان مصطحبان في طريق واحد) أى متلازمان متّفقان على الدلالة في طريق الحقّ (لا يؤويهما مؤو) أى لا يضمّهما أحد من ذلك الزّمان إليه و لا ينزلهما عنده لنفرته عنهما و مضادّتهما لهواه.
(فالكتاب و أهله في ذلك الزّمان في النّاس) و بينهم ظاهرا (و ليسا فيهم) حقيقة لعدم اتّباعهما و الغاء فائدتهما فأشبها ما ليس بموجود و معهم بالمصاحبة الاتفاقية في الوجود، و ليسا معهم لانتفاء ثمرتهما و منافعهما عنهم (لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى) يعني ضلالتهم لا توافق هدى الكتاب و أهله فكانا مضادّين لهم (و إن اجتمعا) في الوجود. (فاجتمع القوم على الفرقة) أي اتّفق أهل ذلك الزّمان على الافتراق من الكتاب و تركه و طرده (و افترقوا عن الجماعة) أى الجماعة المعهودة و هم أهل الكتاب العاملون به.
قال الشارح البحراني (ره) في شرح هذه القرينة و سابقته، أي اتّفقوا على مفارقة الاجتماع و ما عليه الجماعة، أمّا في وقته عليه السّلام فكالخوارج و البغاة، و أمّا فيما يستقبل بعده من الزّمان فكالآخذين بالآراء و المذاهب المتفرّقة المحدثة في الدّين و الاجتماع على الفرقة يلازم الافتراق عن الجماعة، انتهى.
و ما ذكرنا أقرب و أنسب بالسياق و أولى فافهم (كأنّهم أئمة الكتاب) يحرّفونه و يغيّرونه و يبدّلونه و يأوّلونه عن وجهه على ما يطابق أغراضهم الفاسدة و يجبرون على مخالفته كما هو شان الامام مع الماموم (و ليس الكتاب إمامهم) الواجب عليهم اتّباعه و اللّازم لهم اقتفاء اثره.
و حيث إنهم خالفوه و نبذوه وراء ظهورهم (فلم يبق عندهم منه) في مقام التّمسك و الاستناد (إلّا اسمه و لا يعرفون) من آثاره و شئونه (إلّا خطّه و زبره) أى رسمه و كتابته فقط دون اتّباع مقاصده (و من قبل ما مثلوا بالصّالحين كلّ مثلة) أى من قبل الحالات المتقدّمة التي اشير اليها تنكيلهم بالصّالحين غاية تنكيل و عقوبتهم أشدّ عقوبة.
و لعلّه اشارة إلى ما صدر من بني اميّة في أوائل سلطنتهم، فقد روى العلّامة الحلّي قدّس اللَّه روحه في كشف الحقّ عن صاحب كتاب الهاوية أنّ معاوية قتل من المهاجرين و الأنصار و أولادهم أربعين ألفا، و فعل ابنه يزيد اللّعين بالحسين عليه السّلام و أصحابه في الطّف غني عن البيان، و كذلك ما فعله عبد الملك بن مروان و عامله الحجّاج عليهما لعائن اللَّه سبحانه بالعراق و الحجاز و غيرهما مشهور و مأثور، هذا.
و يحتمل أن يكون الاشارة بالكلام السّابق أعنى قوله: و إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان، إلى قوله: و من قبل إلى ملك فراعنة الأمّة أعني بني العبّاس خذلهم اللَّه، و يكون المراد بقوله: و من قبل الاشارة إلى زمن بني اميّة الكائن قبل زمن بني العبّاس، فانّ اتّصاف كلا الزّمانين بالأوصاف المذكورة لا غبار عليه.
و قوله: (و سمّوا صدقهم على اللَّه فرية) أى سمّوا صدق الصّالحين افتراء على اللَّه سبحانه و نسبوهم فى ما يقولون إلى الكذب (و جعلوا في الحسنة عقوبة السيّئة) يعني أنّهم بغلبة الشّرور و الفساد على طباعهم رأوا حسنات الصّالحين سيئات، فعاقبوهم عليها و عذّبوهم بها كما يعاقب المسي ء بإسائته.
الفصل الثالث في النّصح و الموعظة و تنبيه المخاطبين
على وجوب قصر الآمال على مفاسد طول الأمل الذي هو من أعظم الموبقات و أخزى السيّئات حسب ما عرفته في الخطبة الثانية و الأربعين و شرحها قال عليه السّلام هنا: (و إنّما هلك) أراد به الهلاك الاخروى (من كان قبلكم) من القرون الماضية (بطول آمالهم) في الدّنيا الموجب للاستغراق في لذّاتها و الانهماك في شهواتها المبعدة عن اللَّه سبحانه (و تغيّب آجالهم) عنهم الموجب للغفلة عنها و عن أخذ الزّاد ليوم المعاد (حتّى نزل بهم الموعود) أى الموت (الذي تردّ عنه المعذرة) أى لا يقبل فيه اعتذار معتذر (و ترفع عنه التّوبة) لأنّ بابها تنسدّ حين نزوله.
قال تعالى: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (و تحلّ معه القارعة) و المصيبة التي تقرع النّاس بالإفزاع و الأهوال (و) تتبعها (النقمة) و النكال.
|