فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنّهم عيش العلم، و موت الجهل، هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدّين، و لا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، و صامت ناطق.
و قوله: إنّه من استنصح، الضمير الشأن قال الشيخ عبد القاهر: إنّ لضمير الشأن مع إنّ حسنا ليس بدونها بل لا يصحّ بدونها نحو: إنّه من يتّق و يصبر، و إنّه من يعمل سوء، و انّه لا يفلح الكافرون، قال الشّارح المعتزلي: ما في قوله: ما عظمته بمعنى أىّ شي ء، و من روى بالنّصب جعلها زائدة
المعنى
و ذلك لما نبّه أمير المؤمنين عليه السّلام على التنفير عن الفرقة الاولى بمعرفتهم و معرفة ما هم عليه من الخطاء و الجهل و الشبّه أمر باتّباع الفرقة الاخرى و الرجوع اليهم بقوله: (فالتمسوا) و اطلبوا (ذلك) أى ما سبق ذكره يعني الحقّ و الرشد و ميثاق الكتاب و كيفية التمسّك به (من عند أهله) أراد به نفسه الشريف و الطيّبين من أولاده أعنى الأئمة المعصومين و ينابيع العلم و اليقين (فانهم عيش العلم و موت الجهل) أى بهم حياة العلم و ممات الجهل و استعار لهم هذين الوصفين باعتبار أنّ بهم ينتفع بالعلم و يحصل ثمراته و آثاره كما أنّ بحياة الشي ء يوجد آثاره و ينتفع به، و كذلك بهم يبطل الجهل و يضمحلّ كما أنّ بالموت يبطل حياة الحىّ و يفنى.
(هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم) يجوز أن يراد بالحكم ما صدر عنهم من الأحكام الشرعية و التكاليف الالهية، و أن يراد به القضاء و فصل الخصومات في الوقائع الشخصيّة، و على أيّ تقدير يدلّ ما صدر عنهم من القضاء و الأحكام على غزارة علمهم و جمّ معرفتهم عليهم السّلام، و ينبئك بذلك ما قدّمناه في شرح قوله عليه السّلام: و عندنا أهل البيت أبواب الحكم، في شرح الكلام المأة و التاسع عشر فتذكّر.
(و صمتهم من منطقهم) فانّ لصمت اللّسن ذي الحكمة الغزيرة هيئة و حالة و وقارا يدل على حسن منطقه و علمه بما يقول (و ظاهرهم عن باطنهم) أي حسن أفعالهم و حركاتهم الظاهريّة يكشف عن كمالاتهم و ملكاتهم النفسانيّة (لا يخالفون الدّين) لأنهم قوامه و أولياؤه و ملازمون له، معصومون من الذنوب، مبرّؤون من العيوب (و لا يختلفون فيه) أى لا يختلف أحدهم للآخر فيما يؤدّونه من أحكام اللَّه و يبلّغونه من أوامره، لأنّ علومهم كلّها من نبع واحد ملقاة عن مهبط الوحى و معدن الرّسالة، و بعد اتّحاد المنبع لا يتصوّر الاختلاف لمكان العصمة المانعة عن تعمد الكذب و الغلط و السّهو و الخطاء النّاشي منها الاختلاف.
روى في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال اللَّه عزّ و جلّ في ليلة القدر: فيها يفرق كلّ أمر حكيم، يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، و المحكم ليس بشيئين، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللَّه عزّ و جلّ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطّاغوت، الحديث و قد مرّ بتمامه في شرح الفصل التّاسع من الخطبة الاولى.
و في البحار من معاني الأخبار عن الحسين الأشقر قال: قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم: إنّ الامام لا يكون إلّا معصوما قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن ذلك فقال: المعصوم هو الممتنع باللَّه من جميع محارم اللَّه، و قال اللَّه تبارك و تعالى: «وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ».
قال المحدّث العلّامة المجلسيّ: قال الصّدوق في معاني الأخبار بعد خبر هشام: الدّليل على عصمة الامام أنّه لما كان كلّ كلام ينقل عن قائله يحتمل وجوها من التأويل كان أكثر القرآن و السنّة مما اجتمعت الفرقة على أنّه صحيح لم يغيّر و لم يبدّل و لم يزد فيه و لم ينقص منه محتملا لوجوه كثيرة من التّأويل، وجب أن يكون مع ذلك مخبر صادق معصوم من تعمّد الكذب و الغلط منبى ء عمّا عنى اللَّه عزّ و جلّ في الكتاب و السّنّة على حقّ ذلك و صدقه، لأنّ الخلق مختلفون في التّأويل، كلّ فرقة تميل مع القرآن و السّنة إلى مذهبها، فلو كان اللَّه تبارك و تعالى تركهم بهذه الصّفة من غير مخبر عن كتابه صادق فيه لكان قد سوّغهم الاختلاف في الدّين و دعاهم اليه إذ أنزل كتابا يحتمل التأويل و سنّ نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم سنّة تحتمل التأويل و أمرهم بالعمل بهما، فكأنّه قال: تأوّلوا و اعملوا، و في ذلك إباحة العمل بالمتناقضات و الاعتماد للحقّ و خلافه، فلمّا استحال ذلك على اللَّه عزّ و جلّ وجب أن يكون مع القرآن و السّنّة في كلّ عصر من يبيّن عن المعاني الّتي عناها اللَّه عزّ و جلّ في القرآن بكلامه دون ما يحتمل ألفاظ القرآن من التأويل، و يبيّن عن المعاني الّتي عناها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في سنّته و أخباره دون التأويل الّذي يحتمله الأخبار المرويّة عنه المجمع على صحّة نقلها، و إذا وجب أنّه لا بدّ من مخبر صادق وجب أن لا يجوز عليه الكذب تعمّدا، و لا الغلط فيما يخبر به عن مراد اللَّه عزّ و جلّ و عن مراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في اخباره و سنّته، و إذا وجب ذلك وجب أنّه معصوم، انتهى كلامه رفع مقامه.
فقد ظهر بذلك أنّه لا يتصوّر منهم الاختلاف في شرائع الدّين لا من أحدهم للآخر و لا من كلّ منهم فيما يصدر عنه من الأحكام المتعدّدة كما ظهر به وجوب الرجوع في فهم مرادات الكتاب و السّنّة إليهم حسب ما نبّه عليه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله آنفا: فالتمسوا ذلك من عند أهله، فافهم و اغتنم.
(فهو) أى الدّين بينهم (شاهد صادق) أى شاهد صدق يشهد على اتّفاقهم فيه و عدم اختلافهم و خلافهم له (و صامت ناطق) أى ساكت باعتبار كونه أمرا عرضيّا اعتباريّا لا وجود له في الأعيان، و ناطق باعتبار افادته لكونهم ملازمين له و متّفقين عليه و إنبائه عن أنّهم على الحقّ و الحقّ معهم، هذا.
و ما ذكرناه في تفسير هاتين الفقرتين أظهر و أولى ممّا قاله الشارح البحراني حيث قال: و قوله: شاهد صادق أى شاهد يستدّلون به على الأحكام و الوقائع النّازلة بهم و بغيرهم لا يكذّب من حيث هو شاهد، و صامت ناطق لكونه حروفا و أصواتا، و إنما ينطق بألسنتهم فهو بمنزلة النّاطق، انتهى.
قال الشّارح المعتزلي: فالدّين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه كما يأخذ بحكم الشاهد الصادق، و صامت ناطق لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بدّ له من مترجم فهو صامت في الصّورة و في المعنى أنطق النّاطقين، لأنّ الأوامر و النواهي و الآداب كلّها مبنيّة عليه و متفرّعة عنه، انتهى.
و أنت خبير بما فيما قالاه من الضّعف و الفساد و كونه أجنبيّا على تقدير صحّته من مساق كلام الامام عليه السّلام فافهم و تأمّل.
تنبيه
لمّا كانت هذه الخطبة الشريفة متضمنة للأمر بالتواضع و النّهى عن التكبّر و اشرنا إلى فضل التّواضع و حسنه أحببنا أن نشرح صفة الكبر و نبيّن ما ورد فيه من الأدلّة الدّالة على قبحه و خسّته و كونه من الموبقات، و الكلام فيه في مقامات
المقام الاول في الآيات و الأخبار الواردة في النّهى عن تلك الصّفة
و المتضمّنة لقبحها و ذمّها و ما يترتّب عليه من الخزى و العقاب.
فأقول: قال اللَّه تعالى في سورة الزّمر: «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ». و في سورة المؤمن: «الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ». و في سورة المؤمن أيضا: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» أى صاغرين ذليلين.
و في سورة بني اسرائيل: «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» قال الطبرسي: معناه لا تمش على وجه الأشر و البطر و الخيلاء و التكبّر و قوله: إنّك لن تخرق الأرض، هذا مثل ضربه اللَّه تعالى، قال:
إنّك أيّها الانسان لن تشقّ الأرض من تحت قدمك بكبرك، و لن تبلغ الجبال بتطاولك، و المعنى أنّك لن تبلغ ممّا تريد كثير مبلغ كما لا يمكنك أن تبلغ هذا فما وجه المنابذة على ما هذا سبيله مع أنّ الحكمة زاجرة عنه، و انّما قال ذلك، لأنّ من النّاس من يمشى فى الأرض بطرا يدقّ قدميه عليها ليرى بذلك قدرته و قوّته و يرفع رأسه و عنقه، فبيّن سبحانه أنه ضعيف مهين لا يقدر أن يخرق الأرض بدقّ قدميه عليها حتّى ينتهى إلى آخرها، و أنّ طوله لا تبلغ طول الجبال و إن كان طويلا، هذا.
و الآيات الناهية في الكتاب العزيز كثيرة لا حاجة إلى ايرادها.
و اما الاخبار ففي الكافي باسناده عن أبي حمزة الثمالي قال. قال عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما: عجبا للمتكبّر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثمّ هو غدا جيفة.
و عن عيسى بن ضحاك قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: عجبا للمختال الفخور و إنّما خلق من نطفة ثمّ يعود جيفة و هو فيما بين ذلك لا يدرى ما يصنع به.
و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفليّ عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجل فقال: يا رسول اللَّه أنا فلان بن فلان حتى عدّ تسعة.
فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: أما أنّك عاشرهم في النّار.
و عن حكيم قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن أدنى الالحاد، قال عليه السّلام: إنّ الكبر أدناه.
و عن العلاء بن الفضيل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: العزّ رداء اللَّه، و الكبر ازاره، فمن تناول منه شيئا أكبّه اللَّه في جهنّم.
و عن عبد الأعلا بن أعين قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: إنّ أعظم الكبر غمس الخلق و سفه الحقّ، قلت: و ما غمس الخلق و سفه الحقّ قال: يجهل الحقّ و يطعن على أهله، فمن فعل ذلك فقد نازع اللَّه ردائه.
و عن أعظم بن كثير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر شكى إلى اللَّه شدّة حرّة و سأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفّس فأحرق جهنّم.
و عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ما من عبد إلّا و في رأسه حكمة و ملك يمسكها فاذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك اللَّه، فلا يزال أعظم النّاس في نفسه و أصغر النّاس في أعين الناس، و إذا تواضع رفعها اللَّه عزّ و جلّ ثمّ قال له: انتعش نعشك اللَّه فلا يزال أصغر الناس في نفسه و أعظم النّاس في أعين النّاس.
و في احياء العلوم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر، و لا يدخل النّار من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من ايمان.
و قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: يقول اللَّه تعالى: الكبرياء ردائى و العظمة ازاري فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في جهنّم و لا ابالي.
و قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: بئس العبد عبد تجبّر و اعتدى و نسى الجبّار الأعلى، بئس العبد عبد تجبّر و اختال و نسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد غفل و سهى و نسى المقابر و البلى، بئس العبد عبد عتا و بغى و نسى المبدأ و المنتهى.
و قال أبو هريرة قال النّبي صلّى اللَّه عليه و آله: يحشر الجبّارون و المتكبّرون يوم القيامة في صور الذّر تطؤهم النّاس لهوانهم على اللَّه تعالى.
و عن محمّد بن واسع قال: دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له: يا بلال إنّ أباك حدّثني عن أبيه عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ في جهنّم واديا يقال له هبهب حقّ على اللَّه أن يسكنه كلّ جبار فايّاك يا بلال أن تكون ممّن يسكنه.
الثاني في حقيقة الكبر و ماهيته
و هو الانتفاخ و التعزّز الحاصل من استعظام النّفس و استحقار الغير، و بعبارة اخرى هو أن يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال فيحصل من ذلك فيه نفخة و اهتزاز و تلك النفخة هي الكبر، و لذلك قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: أعوذ بك من نفخة الكبرياء، و هذه الحالة إذا حصلت في النفس اقتضت أعمالا في الظاهر تصدر عن الجوارح هي ثمرات تلك الخصلة الرّذيلة، فالكبر هي الحالة النّفسانيّة و الخلق الباطني، و ثمرات تلك الخضلة و آثارها في الظّاهر تسمّى تكبّرا كالترفّع في المجالس و التقدّم على الغير و توقع السّلام و النظر بعين التحقير، فان حاجّ أو ناظر أنف أن يردّ عليه، و إن وعظ استنكف من قبول الحقّ، و إن وعظ أعنف في النّصح، و إن ردّ عليه شي ء من قوله غضب، و إن علّم لم يرفق بالمتعلّمين و استذلّهم و امتنّ عليهم، و إن نظر إلى العامّة نظر إليهم بعين الاحتقار كأنه ينظر إلى الحمير استجهالا لهم و استحقارا.
الثالث في المتكبر عليه
و الفرق بين الكبر و العجب بذلك، فانّ العجب لا يستدعى غير المعجب بل لو لم يخلق الانسان إلّا وحده يمكن أن يكون معجبا، بخلاف الكبر فانّه يتوقّف على أن يكون هنا غير فيرى نفسه فوق هذا الغير في صفات الكمال، و ذلك الغير هو المتكبّر عليه، و ينقسم الكبر باعتبار المتكبّر عليه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الاول التكبّر على اللَّه سبحانه
و هو من أفحش أنواع الكبر و أقبحها و أوبقها، و لا منشأ له إلّا محض الجهل و الحمق و الطّغيان، و ذلك مثل ما كان في نمرود حيث كان يحدّث نفسه بأنّه يقاتل ربّ السّماء، و في فرعون حيث قال أنا ربّكم الأعلى و في شدّاد حيث بنى إرم ذات العماد، و نحو ذلك ممّا صدر عن المدّعين للرّبوبيّة و المترفّعين عن درجة العبودية، وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً.
القسم الثاني التكبّر على الأنبياء و الرّسل و الأوصياء عليهم السّلام
من حيث تعزّز النفس و ترفّعها عن الانقياد لبشر مثل سائر النّاس، و ذلك تارة يصرف عن الفكر و الاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره و هو ظانّ أنّه محقّ فيه، و تارة يمنع مع المعرفة و لكن نفسه لا تطاوع الانقياد للحقّ و التّواضع للرّسل كما حكى اللَّه عن قولهم: «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا» و قوله: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» «وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ».
و قال سبحانه فيما اخبر عن كفّار قريش في رسول اللَّه: «وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» استبعدوا أن يكون من يأكل الطعام و يطلب المعاش في الأسواق رسولا مطاعا و استحقروه لفقره حتّى تمنّوا له الكنز لينفق منه و يستغني به عن النّاس و تمنّوا له البستان ليأكل من ثمارها.
و أخبر عنهم أيضا بقوله: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» يعنون بالقريتين مكّة و الطّائف و بالرّجل العظيم الوليد بن المغيرة من مكة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، و انما قالوا ذلك لأنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ذوى الأموال الجسيمة فزعموا أنّ من كان كذلك أولى بالنّبوّة من غلام يتيم لا مال له فردّ اللَّه عليهم بقوله: «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» أى النّبوة بين الخلق يعني أ بأيديهم مفاتيح الرسالة يضعونها حيث شاءوا، بل هى بيد اللَّه سبحانه يعطيها من يشاء.
و من هذا القسم تكبّر المتخلّفين على أمير المؤمنين عليه السّلام و تكبّر امراء بنى امية و بني مروان و بني العبّاس لعنهم اللَّه أجمعين على أئمّة الدّين.
القسم الثالث التكبّر على العباد
و ذلك بأن يستعظم نفسه و يستحقر غيره، فيدعوه ذلك إلى التّرفع عليه و يأباه عن الانقياد إليه و هذا أيضا قبيح من وجهين: أحدهما أنّ الكبر و العزّ و العظمة و الجلال لا يليق إلّا بالملك القادر المتعال فمن أين يليق هذا الوصف بالعبد الضّعيف الذّليل المهين، فمتى تكبّر فقد نازع اللَّه في جلاله و انتحل وصف كماله، و ما أشدّ جرئته على مولاه، و ما أقبح ما ادّعاه و تعاطاه، و لذلك قال عزّ من قائل: العظمة ازاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته، أراد أنّهما مختصّان بي اختصاص الازار و الرّداء و المنازع فيهما منازع في الصفّة المخصوصة بي.
و ثانيهما أنّه ربما يدعو إلى مخالفة أمر اللَّه و نهيه، لأنّ المتكبّر إذا سمع الحقّ من أحد استنكف من قبوله، و لذلك ترى اكثر المناظرين في المسائل العلمية يزعمون أنّهم يتباحثون للافادة و الاستفادة فمهما اتّضح الحقّ على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله و ركب مركب العصبية و العناد، و يتجاحد تجاحد المنكر، و يحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس، لئلّا يظهر للنّاس مغلوبيّته، و من ذلك كان علماء الآخرة يتجنّبون عن المناظرة في المجالس.
و قد روى السيّد المحدّث الجزائري أنّ المولى الصّالح العالم عبد اللَّه التستري كان إذا سأل مولانا المقدّس الأردبيلي عطّر اللَّه مرقده عن مسألة و تكلّما فيها سكت الأردبيلي في أثناء الكلام، و قال حتّى اراجعها في الكتب، ثمّ أخذ بيد التّسترى و يخرجان من النّجف الأشرف إلى خارج البلد فاذا انفردوا قال المولى الأردبيلي: هات يا أخي تلك المسألة فيتكلّم فيها و يحقّقها الأردبيلي على ما يريد المولى التسترى، فسأله و قال يا أخي هذا التحقيق هلّا تكلّمت به هناك حيث ما سألتك فقال: إنّ كلامنا كان بين النّاس و عسى أن يكون فيه تنافس و طلب الظفر منك أو منّى و الآن لا أحد معنا سوى اللَّه سبحانه.
و كيف كان فهذا الخلق من أخلاق الكافرين و المنافقين الّذين حكى اللَّه عنهم بقوله: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» فكلّ من يناظر للافحام و الغلبة لا يغتنم الحقّ إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق و تبعهم عليه.
و أوّل من صدر عنه التّكبر على أمر اللَّه تعالى هو ابليس اللّعين حيث إنّه لما دعى إلى السّجود لآدم عليه السّلام قال: أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين، فحمله الكبر على الاباء من السّجود الّذي أمره اللَّه به، و كان مبدؤه الكبر على آدم و الحسد له فجرّه ذلك إلى التكبّر على أمر اللَّه فكان ذلك سبب الطّرد و الابعاد، و اهلاكه أبد الآباد.
الرابع في ما به التكبر
فاعلم أنّ أسباب الكبر سبعة:
الاول العلم
و ما أسرع الكبر إلى العلماء و لذلك قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم آفة العلم الخيلاء فلا يلبث العالم أن يتعزّز بعزّ العلم و يستشعر في نفسه جمال العلم و كماله و يستعظم نفسه و يستحقر النّاس و يستجهل و يتوقّع أن يبدءوه بالسّلام، فان بدء واحدا منهم بالسّلام أو ردّ عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة يمتنّ به عليه و رأى ذلك صنيعة عنده و اعتقد أنّه أكرمه و فعل به ما لا يستحقّه.
و السّبب لكبره هو خوضه في تحصيل العلوم و هو ردىّ النّفس خبيث الدّخلة سيّ ء الأخلاق فانّه لم يشتغل أوّلا بتهذيب نفسه و تزكية قلبه بالمجاهدات و الرياضات فبقى خبث الجوهر فاذا خاض في العلم أىّ علم كان صادف العلم من قبله منزلا خبيثا فلم يطب ثمره و لم يظهر في الخير أثره.
و لذلك قال عيسى بن مريم عليه السّلام: بالتّواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر و كذلك في السّهل ينبت الزرع لا في الجبل.
و قال وهب: العلم كالغيث ينزل من السّماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المرّ مرارة و الحلو حلاوة، فكذلك العلم يحفظه الرّجال فتحوله على قدر هممها و أهوائها فيزيد المتكبّر كبرا و المتواضع تواضعا، لأنّ من كان همّته الكبر و هو جاهل إذا حفظ العلم وجد ما يتكبّر به فازداد كبرا، و إذا كان الرّجل خائفا مع جهله و ازداد علما علم أنّ الحجّة قد تأكّدت في حقّه فيزداد خوفا و إشفاقا و ذلّا و تواضعا.
الثاني العمل و العبادة
و كثيرا ما ترى العبّاد و الزّهاد يترشّح الكبر منهم على غيرهم بسبب زعمهم أنّهم ناجون و النّاس هالكون فيرى نفسه ناجيا و هو الهالك حقيقة، و لذلك قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إذا سمعتم الرّجل يقول هلك النّاس فهو أهلكهم
الثالث النّسب
فترى من له نسب شريف يتكبّر على من ليس له ذلك النّسب.
الرابع التفاخر بالحسن و الجمال
و ذلك أكثر ما يجرى بين النّسوان.
الخامس الثروة و المال
و ذلك يجرى بين الملوك في خزائنهم و بين التجار في بضايعهم و بين الدّهاقين في أراضيهم و بين المتجمّلين في لباسهم و خيولهم و مراكبهم فيستحقر الغنى الفقير و يتكبّر عليه.
السادس القوّة و شدّة البطش
فيتكبّر بها على أهل الضّعف.
السابع الملك و السّلطنة و كثرة الأتباع و الخدم و الجنود و الجيوش
و ذلك يجري بين الملوك في الافتخار بكثرة العساكر و الرعيّة و الخدم، و بالجملة فكلّ ما هو نعمة و أمكن أن يعتقد كمالا و إن لم يكن كمالا في نفسه أمكن أن يتكبّر به حتّى أنّ المخنّث ليتكبّر على أقرانه بزيادة معرفته و قدرته في صنعة المخنّثين، لأنّه يرى ذلك كمالا يفتخر به، و إن لم يكن فعله إلّا نكالا، و كذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشّرب و الفجور و يتكبّر به لزعمه أنّ ذلك كمال و إن كان خزيا و وبالا و نكالا.
الخامس في معالجة الكبر
فاعلم وفّقك اللَّه تعالى و ألهمك الخير أنّ الكبر من أعظم المهلكات، و قلّما ينفكّ عن شي ء منه أحد و إزالته فرض عين و لا يزول بمجرّد التمنّى بل بالمعالجة و استعمال الأدوية القامعة له، و علاجه انّما يحصل بامور أربعة: الاول معرفة الرّب تعالى الثاني معرفة النّفس الثالث معرفة الغرض الدّاعى إلى خلقته الرابع معرفة المفاسد المترتّبة على الكبر.
أما الاول
فانّ من عرف ربّه و أنّه القادر الّذي لا يعجزه شي ء، و القوىّ الّذي لا يضعفه شي ء، و الأزليّ الّذي ليس له بداء، و الدّائم القيّوم بأمر الأشياء، و الفّعال لما يريد أو يشاء، و الممسك للسّموات و الأرض من الزّوال، و المستولى على الخلايق في كلّ حال، إلى غير ذلك من صفاته الحسنى و أمثاله العليا عرف أنّ العزّ و العظمة و الجلال و الجمال و الجبروت و الكبرياء لا تليق إلّا بجنابه، و أنّها إزاره و رداءه، و أنّ غيره مقهور تحت قدرته، ضعيف تحت قوّته، مسخّر تحت ارادته، منقاد لمشيّته ذليل مهين مستكين لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياتا و لا نشورا.
و اما الثاني
فقد أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: ابن آدم أنّى لك و الفخر فان أوّلك جيفة و آخرك جيفة و في الدّنيا حامل الجيف، و نشرح حال هذه الجيف فانها ليست كجيف الحيوانات.
اما الجيفة الاولى و هى المني فقد أوجب الشّارع الغسل بخروجها من الانسان و أغلظ نجاسته حتّى فهم بعض الأصحاب من تغليظه وجوب تطهير الثياب و البدن منه مرّتين كما في البول.
و اما الجيفة الاخيرة فانّه بعذر هوق روحه يكون ميتة أخبث و أنجس و أوحش من ميتة الكلب و الخنزير، و ذلك لأنّ مسّ ميتة الكلب بالرّطوبة لا يوجب إلّا غسل اليد و تطهيرها بخلاف مسّ ميتة الانسان فقد أوجب الشارع فيه مضافا إلى تطهير الملاقي غسل المسّ مبالغة في خبث جيفته و قذارته، و ترى الأحياء أوحشوا جانب الميّت و تجنّبوا عنه و خافوا منه و لا يخافون من ميتة سائر الحيوانات و لا يستوحشون منها و اما كونه حامل الجيف فهو أظهر من أن يذكر لأنّه أخسّ من جمار يحمل العذرة، لأنّ الحمار يحملها اضطرارا و بالاجبار و الانسان يحملها بالرّضا، و الاختيار و هو يحملها على الظّهر و هذا على البطن، و إلى هذه الحالات الثلاث و ما بعدها اشير في قوله سبحانه: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» فقد أشارت الآية إلى أوّل خلق الانسان و إلى آخر أمره و إلى وسطه، فليفهم معناها و ليتفكّر في مغزاها.
فقد أتى عليه حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا، و قد كان في حيّز العدم و أيّ شي ء أخسّ و أقلّ من المحو و العدم، فبدء اللَّه بخلقه من أرذل الأشياء ثمّ من أقذرها إذ خلقه من سلالة من طين ثمّ من ماء مهين ثمّ من علقة ثمّ من مضغة ثمّ جعله عظاما فكسى العظام لحما، فهذا بداية وجوده.
و ما صار شيئا مذكورا إلّا و هو على أخسّ الأوصاف و أرذلها إذ لم يخلق كاملا بل خلقه جمادا ميّتا لا يسمع و لا يبصر و لا يحسّ و لا يشعر و لا ينطق و لا يبطش و لا يدرك و لا يفهم و لا يميّز و لا يعلم فبدء بموته قبل حياته، و بضعفه قبل قوّته، و بعجزه قبل قدرته، و بجهله قبل علمه، و بعماه قبل بصره، و بصممه قبل سمعه، و ببكمه قبل نطقه، و بضلاله قبل هداه، و فقره قبل غناه.
فهذا معنى قوله «مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» ثمّ امتنّ عليه فقال: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» أى يسّر له سبيل الخير و الشرّ و أرشده إلى طريق الضّلال و الهدى يسلك الأوّل و يترك الثّاني كما قال: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً» و قال: «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ».
فانظر إلى عظم ما أنعم اللَّه سبحانه به عليه حيث نقله من حالة الذّلة و القلّة و الخسّة و القذارة إلى رتبة العزّ و الشّرف و الرّحمة و الكرامة، فصار موجودا بعد العدم، و حيّا بعد الموت، و ناطقا بعد البكم، و بصيرا بعد العمى، و قويّا بعد الضّعف و عالما بعد الجهل، و مهديّا بعد الضّلال، فكان في ذاته لا شي ء و أيّ شي ء أخسّ و أحقر من لا شي ء، و أىّ قلّة أقلّ من العدم المحض، ثمّ صار باللَّه شيئا و إنّما خلقه من التراب الذّليل الّذي يوطأ بالأقدام، و النطفة القذرة ليعرّفه خسّة نفسه و مهانة ذاته، و أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربّه، و يعلم عظمة بارئه و جلالة مبدئه و أنّه لا يليق الكبرياء و الجلال إلّا بحضرة ربوبيّته.
فمن كان هذا بدؤه و هذا حاله كيف يسوغ له البطر و الكبر و الخيلاء و الفخر نعم هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسّته شمخ بأنفه و تعظّم.
و لو أكمله و فوّض إليه اموره و أدام له الوجود باختياره لكان أكثر من ذلك يطغى و نسى المبدأ و المنتهى، و لكنّه سلّط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة و الأسقام العظيمة، و الآلام المختلفة، و الطّبائع المتضادّة من الصّفراء و السّوداء و البلغم و الدّم يهدم بعضها بعضا شاء أم أبى، رضى أم سخط، فيجوع كرها، و يعطش كرها، و يمرض كرها، و يموت كرها، لا يملك لنفسه خيرا و لا شرّا و لا نفعا و لا ضرّا، يريد أن يعلم الشي ء فيجهله، و يريد أن يذكر الشي ء فينساه، و يريد أن ينسى الشي ء و يغفل عنه فلا يغفل عنه، و يريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمّه فيحول في أودية الوساوس و الأفكار بالاضطرار فلا تملك قلبه قلبه و لا نفسه نفسه، و يشتهى الشي ء فربما يكون هلاكه فيه، و يكره الشي ء و ربّما يكون حياته فيه، يستلذّ الأطعمة و هى تهلكه و ترديه، و يستبشع الأدوية و هى تنفعه و تحييه، و لا يأمن في لحظة من ليله و لا نهاره أن يسلب سمعه و بصره و تفلج أعضائه و يختلس عقله و يختطف و يسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطّر ذليل إن ترك بقي و إن اختطف فنى، عبد مملوك لا يقدر على شي ء من نفسه و لا على شي ء من غيره، فأىّ شي ء أذلّ منه لو عرف نفسه و انّي يليق الكبر لو لا جهله، فهذا أوسط أحواله و أمّا آخره فهو الموت المشار إليه بقوله: «ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» و معناه انّه يسلب روحه و سمعه و بصره و علمه و قدرته و حسّه و إدراكه و حركته فيعود جمادا كما كان أوّل مرّة، لا يبقى إلّا شكل أعضائه و صورته، لا حسّ فيه و لا حركة، ثمّ يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأوّل نطفة مذرة.
ثمّ تبلى أعضاؤه، و تتفتت أجزاؤه، و تنخرّ عظامه، و تصير رميما رفاتا، و يأكل الدّود أجزائه فيبتدى ء بحدقتيه فيقلعهما، و بخديّة فيقطعهما، و بسائر أجزائه فيصير روثا في أجواف الدّيدان، و يكون جيفة يهرب منه الحيوان، و يتنفّر منه كلّ انسان، و يكرهه لشدّة الانتان، و أحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا يعمل منه الكيزان، و يعمر منه البنيان، فيصير مفقودا بعد ما كان موجودا و صار كأن لم يغن بالأمس حصيدا، كما كان في أوّل أمره أمدا مديدا.
و ليته بقى كذلك، و يأمن ممّا يتلوه من المعاطب و المهالك، فما أحسنه لو ترك ترابا لابل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شدّة البلاء، و إليه أشار بقوله: «ثمّ إذا شاء أنشره» فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرّقة، و أعضائه المتفتّتة، و يسرع إلى أهوال القيامة، فينظر إلى قيامة قائمة و سماء مشقّقة، و أرض مبدّلة و جبال مسيّرة، و نجوم منكدرة، و شمس منكسفة. و أحوال مظلمة و كثرة عرق ملجمة، و ملائكة غلاظ شداد، و أهوال تتفتّت منها الأكباد.
و يرى الصّحائف منشورة فيقال له: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فيقرأ فيه مساويه الّتى كان افتخاره بها، و استكباره بأسبابها، فعند ذلك يقول: «يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» فيقال له: هلّم إلى الحساب و استعدّ للجواب أو تصير إلى أليم العذاب فينقطع قلبه من قول ذلك الخطاب.
فما لمن هذا حاله و التكبّر و التعزز و الكبرياء و الخيلاء، بل ماله و للفرح في لحظة واحدة فضلا عن البطر و الأشر مدّة متمادية، و لو ظهر آخره و العياذ باللَّه أحبّ أن يكون ترابا، و لا يكون إنسانا يسمع خطابا، و لا يشاهد الجحيم له مآبا و لو رأى أهل الدّنيا العبد المذنب في النّار لصعقوا من وحشة خلقته و قبح صورته، و لو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه، و لو وقعت قطرة من شرابه في بحار الدّنيا لصارت أشدّ عفونة من الجيفة.
فمن هذا حاله في العاقبة كيف يفرح و يبطر، و كيف يتجبّر و يتكبّر، و كيف يرى نفسه شيئا، و يعتقد له فضلا، و أىّ عبد لم يذنب ذنبا استحقّ به العقوبة إلّا أن يعفو له الكريم بفضله، و يغفره باحسانه و منّه.
أ رأيت من جنى على ملك قاهر قادر، و استحقّ بجنايته القتل أو السيّاسة فجلس في السّجن و هو ينتظر أن يخرج إلى العرض و يقام عليه العقوبة على ملاء من الخلق، و ليس يدرى أ يعفى عنه أم يعاقب، كيف يكون ذلّه، أفترى أنه يتكبّر على من في السّجن، و ما من عبد مذنب إلّا و الدّنيا سجنه، و قد استحقّ العقوبة من اللَّه و لا يدرى كيف يكون آخر أمره فيكفيه لو تفكّر ذلك حزنا و خوفا و إشفاقا و مهانة و ذلّا.
و أما الثالث
فاعلم أنّ الغرض من خلقة الانسان هو العبوديّة و الاطاعة، قال تعالى: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» فاذا لا فضل لأحد أفراد هذا النّوع على الآخر إلّا بحصول ذلك الغرض منه أعنى القيام بوظائف العبوديّة، و به يترقّي إلى درجات الكمال، و يتقرّب إلى الربّ المتعال، و يكرم عنده كما قال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ».
يعني إنّ أكثركم عند اللَّه ثوابا و أرفعكم عند اللَّه منزلة أتقيكم لمعاصيه و أعملكم بطاعته.
روى الطبرسي في مجمع البيان في وجه نزول الآية أنّ ثابت بن قيس بن شماس كان في اذنه و قر، و كان إذا دخل تفسّحوا له حتّى يقعد عند النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فيسمع ما يقول، فدخل المسجد يوما و النّاس قد فرغوا من الصّلاة و أخذوا مكانهم، فجعل يتخطّى رقاب النّاس و يقول: تفسّحوا، حتّى انتهى إلى رجل، فقال له: اصبت مجلسا فاجلس، فجلس خلفه مغضبا، فلمّا انجلت الظّلمة قال: من هذا قال الرّجل: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة فنكس الرّجل رأسه حياء فقال صلوات اللَّه و سلامه عليه و آله: من الذّاكر فلانة فقام ثابت فقال: أنا يا رسول اللَّه، فقال: انظر في وجوه القوم، فنظر إليهم، فقال: ما رأيت يا ثابت قال: رأيت أبيض و أحمر و أسود، قال فانّك لا تفضّلهم إلّا بالتقوى و الدّين فنزلت هذه الآية.
و قيل لمّا كان يوم فتح مكّة أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بلالا حتّى علا ظهر الكعبة و أذّن، فقال عتاب بن اسيد: الحمد للَّه الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم، و قال الحارث بن هشام: أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا، و قال سهيل بن عمر: ان يرد اللَّه شيئا لغيّره، و قال أبو سفيان: إنّى لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به ربّ السّماوات، فأتى جبرئيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما قالوا فدعاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و سألهم عمّا قالوا فأقرّوا به، و نزلت الآية و زجرهم عن التّفاخر بالأنساب و الازراء بالفقر و التكاثر بالأموال.
فقد ظهر بذلك أنّ جهة الفضل في أفراد النّوع الانساني منحصرة في الورع و التقوى فقط.
و يدلّ عليه أيضا ما روى أنّ رجلا سأل عيسى بن مريم أىّ النّاس أفضل فأخذ قبضتين من التّراب فقال: أىّ هاتين أفضل، النّاس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقيهم.
و كان أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا عوتب على التّسوية في العطاء و عدم التفضيل لاولى السابقات و الشّرف من المهاجرين و الأنصار على غيرهم، و اعترض عليه بعدم ترجيح المولى على العبيد و عدم التّفرقة بين الأبيض و الأسود أجاب عليه السّلام بقوله: إنّى نظرت في كتاب اللَّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا. و كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم صعد المنبر يوما و ذكر ما كانوا يتفاخرون و يتكبّرون به في الجاهليّة، فقال: إنّه موضوع خطبه 147 نهج البلاغه بخش 4 تحت قدمى إلى يوم القيامة و لم ينزل من المنبر حتى زوّج بنت عمّته صفيّة ابنة عبد المطلب من المقداد مع كونه من أفقر النّاس حالا و أقلّهم مالا.
و قد سوّى بينهم أيضا في أعظم الأمور و أهمّها و هو أمر الدّماء فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المسلمون اخوة تتكافا دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم.
فاذا كان دم السّلطان مساويا لدم الكنّاس فأىّ مزيّة له عليه.
فقد علم بذلك أن لا تفضيل في غير الورع و التّقوى و الدّين و أنّه لا يجوز الافتخار و التفاخر به بل لا يجوز التفاخر بالتقوى أيضا و لا ينبغي المباهاة به.
و يؤمى إليه ما رواه الطبرسي عن ابن عباس قال قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: إنّ اللَّه عزّ و جلّ جعل الخلق قسمين: فجعلني في خيرهم و ذلك قوله: و أصحاب اليمين و أصحاب الشّمال فأنا من أصحاب اليمين و أنا خير أصحاب اليمين، ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلنى في خيرها ثلثا و ذلك قوله و أصحاب الميمنة و أصحاب المشئمة و السابقون السّابقون، فأنا من السابقين و أنا خير السابقين، ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلنى في خيرها قبيلة و ذلك قوله: «وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» الآية، فأنا أتقى ولد آدم و لا فخر و أكرمهم على اللَّه و لا فخر ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا و ذلك قوله عزّ و جلّ: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» فأنا و أهل بيتى مطهّرون من الذّنوب فانّ غرضه بذلك بيان شأنه للناس لا التفاخر، و لهذا قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في المقامين: و لا فخر، فبالغ في نفيه بلاء النافية للجنس.
و الى هذا المعنى ينظر ما جاء في الحديث من أنّ اللَّه سبحانه أوحى الى موسى اذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيرا منه، فجعل موسى عليه السّلام لا يعترض أحدا و هو لا يجسر أن يقول إنّى خير منه، فنزل عن الناس و شرع في أصناف الحيوانات حتى مرّ بكلب أجرب فقال: أصحب هذا، فجعل في عنقه حبلا ثمّ مرّ به، فلما كان به في بعض الطريق شمر الحبل و أرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرّبّ سبحانه قال تعالى: يا موسى أين ما أمرتك به قال: يا ربّ لم أجده، فقال تعالى: و عزّتي و جلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النّبوة.
فاذا كان مثل موسى مع كونه نبيّا أولى العزم و أفضل أهل زمانه كما هو اعتقادنا في الأنبياء و الرّسل لم يجسر أن يقول لأحد من آحاد النّاس و لفرد من أفراد الحيوان حتّى الكلب الأجرب أنا خير منه فكيف لغيره.
و أىّ معنى للتعزّز و التكبّر و التّفاخر على عباد اللَّه و قد قال اللَّه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» مع أنّ الامور التي يتكبّر المتكبّر بها على غيره و يزعمها كمالا لنفسه ليست كمالا ذاتيا في الحقيقة، و لا تليق أن يتعزّز بها.
لان المتكبر به ان كان النسب ففيه أنّ التكبّر إن كان بالنسب البعيد «ففيه أن النّسب البعيد ظ» لكلّ إنسان هو الماء و الطّين لا تفاوت بين أفراده من هذه الجهة كما لا تفاوت بينهم في الجدّ و الجدّة قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الديوان المنسوب إليه:
- النّاس من جهة التّمثال أكفاءأبوهم آدم و الامّ حوّاء
- و إن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين و الماء
و إن كان بالنّسب القريب ففيه انّه إذا كان خسيسا في ذاته ذميما في صفاته فلا يجبر نقصانه كمال آبائه و أسلافه قال الشاعر:
- لئن فخرت بآباء ذوي شرفلقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا
و قال آخر:
- كن ابن من شئت و اكتسب أدبايغنيك مضمونه من النسب
- إنّ الفتى من يقول ها أنا ذاليس الفتى من يقول كان أبي
على أنّ التعزّز بالنسب تعزّز بكمال غيره و لا ينفعه ذلك في الدّنيا و لا في العقبى، و لذلك كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول بعد تلاوة «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ»: أ فبمصارع آبائهم يفخرون، أم بعديد الهلكى يتكاثرون، إلى آخر ما يأتي في الكلام المأتين و التاسع عشر، و قال سلمان (رض):
- أبي الاسلام لا أب لي سواهإذا افتخروا بقيس أو تميم
و قال صاحب بن عبّاد:
- لعمرك ما الانسان إلّا بدينهفلا تترك التّقوى اتّكالّا على نسب
- لقد رفع الاسلام سلمان فارس و قد وضع الشرك الشريف أبا لهب
ألا ترى إلى ابن نوح فانّه مع كونه ابن نبيّ مرسل من اولى العزم ما نجاه ذلك النّسب الشريف و لا نفعه، بل كان من المغرقين، و في جهنّم من الخالدين، «وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» فلم يستجب فيه دعوته و نفى عنه بنوّته لمخالفته لأبيه و عصيانه له.
و روى عن سيّد السّاجدين عليه السّلام أنّه قال: إنّما خلقت النّار لمن عصى اللَّه و لو كان سيّدا قرشيّا، و الجنّة لمن أطاع اللَّه و لو كان عبدا حبشيّا.
و ناهيك في المنع من التكبّر بالنّسب قوله عزّ من قائل: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ».
بل أقول: إنه إذا كان البناء على افتخاره بأصله و نسبه القريب فليفتخر بأقرب اصوله و أنسابه و هو النّطفة القذرة و الدّودة الّتي خرجت من مبال أبيه، فأين الافتخار بالدّودة و أنّى التعزّز بالعلقة و المضغة.
قال سبحانه: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً» فالأصل تراب يوطأ بالأقدام، و الفصل نجس تغسل منه الأبدان فمن كان هذا أصله و فصله كيف يسوغ له التكبّر بالأنام، و لنعم ما قيل:
- يا ابن التراب و ماكول التّراب غداأقصر فإنّك مأكول و مشروب
و أما العلم فهو إنّما يكون كمالا إذا أوجب ارتفاع درجة العالم و قربه من اللَّه سبحانه، و إلّا فالجهل منه أفضل البتّة، و قد مضى في شرح الفصل الثّاني من الخطبة السّادسة و الثّمانين ما فيه كفاية في ذم العلماء السّوء.
و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: من أنّ العالم مهما خطر بخاطره عظم قدره بالاضافة إلى الجاهل فليتفكّر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فانّ خطره أعظم من خطر غيره كما أنّ قدره أعظم من قدر غيره، فقد يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، و ذلك لمكان علمه.
و قد ضرب اللَّه مثلا للعالم العامل بغيره تارة بالحمار فقال: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» و أخرى بالكلب فقال: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» إلى قوله «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» نزلت في بلعم بن باعور فقد اوتى اسم الأعظم و قال ابن عبّاس اوتى كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض أى سكن حبّه اليها فمثّله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أى سواء أتيته الحكمة أو لم اوته لا يدع شهوته.
و يكفى العالم هذا الخطر فبعد معرفته بأنّ الكبر لا يليق إلّا بذات اللَّه سبحانه و أنّه مختصّ به و علمه بانّه إذا تكبّر يصير ممقوتا عنده تعالى بغيضا اليه محروما من قربه، و بأنّ المطلوب منه الذّل و التّواضع و هو موجب لمحبّته تعالى، فلا بدّ أن يكلّف نفسه ما يحبّه مولاه و ما فيه رضاه، فهذا يزيل التكبّر عن قلبه.
و يمكن ازالته أيضا بالتفكّر في امور ثلاثة.
أحدها أن يلتفت إلى ما سبق من ذنوبه و خطاياه حتّى يصغر قدره في عينيه.
الثّاني أن يلاحظ لما هو فيه من وصف العلم من حيث انه نعمة من اللَّه سبحانه في حقّه فيرى ذلك منه تعالى حتّى لا يعجب بنفسه، و إذا لم يعجب لم يتكبّر.
الثالث ملاحظة سوء الخاتمة فربما يمكن أن يختم عاقبته بالسّوء و عاقبة المتكبّر عليه بالحسنى حتّى يشغله الخوف عن التكبّر عليه.
و أما الحسن و الجمال فما أعجب التكبّر به مع كونه سريع الزّوال، و اللّازم على المتعزّز بجماله أن ينظر إلى قبح باطنه لا إلى حسن ظاهره، فلو لا حظ باطنه رأى فيه من القبائح و الخبائث ما يكدّر تعزّزه، فانه وكّل به الأقذار في جميع أجزائه الرّجيع في امعائه، و البول في مثانته، و المخاط في أنفه، و البزاق في فيه، و الوسخ في اذنيه، و الدّم في عروقه، و الصّديد تحت بشرئه، و يخرج منه في كلّ يوم من الأقذار ما يتأذّى بنفسه من رؤيته و من فضول ريحه إلى شامته فضلا عن غيره فانّما مثله كالقبور المجصّصة يرى ظاهرها مليحا و باطنها قبيحا، و لو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهّدها بالتنظيف و التّطهير لشارت منه الأنتان و الأقذار و صار أنتن من الدّواب المهملة التي لا تتعهّد نفسها قطّ فحسنه كخضراء الدّمن و كالأزهار في الرّبيع بينما تعجبها إذ صارت هشيما تذروه الرّياح.
و اما الغنى و كثرة المال و في معناه الملك و السلطنة فلأنّه أيضا سريع الزوال و في معرض الانتقال، بينا تراه غنيا إذ صار فقيرا، أو فقيرا إذ صار غنيّا، و ترى المغبوط مرحوما و المرحوم مغبوطا، فما أقبح التكبّر بشي ء ليس اختياره بيده، و ما أذلّ الغنى إذ انتزع ماله أو اختلسه سارق، و ما أذلّ السّلطان إذ انتزع من ملكه و غلب عليه في سلطنته، مع أنّ ما بيد الغنى ليس إلّا أقلّ قليل من مال الدّنيا قد كان قبله في يد غيره و سيصير في يد آخر، و الدّنيا كلّها عند اللَّه سبحانه لا تزن جناح بعوضة و الّا لما سقى الكافر شربة ماء، و عند نظر أولياء اللَّه أزهد من عرق خنزير في يد المجذوم.
فما هذا شأنه لا يليق التعزّز به، و ناهيك في ذلك الأخبار الواردة في ذمّ الدّنيا و أكثر خطب أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكتاب مسوق لهذا الغرض على أنّ الغنى لو تأمل لوجد في اليهود و النّصارى من يزيد عليه في الغنى و الثروة و التجمّل، فافّ لشرف يسبقك به الكافر و افّ لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلا مفلسا.
و اما القوة و شدة البطش فيكفى في المنع من التكبّر به أن يعلم ما سلّط عليه من العلل و الأمراض، و أنّه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كلّ عاجز و أذلّ من كلّ ذليل، و أنّه لو سلبه الذّباب شيئا لم يستنقذه منه، و أنّ بقّة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته، و أنّ شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، و أنّ حمى يوم تحلّل من قوّته ما لا ينجبر في مدّة، فمن لا يطيق شوكة و لا يقاوم بقّة و لا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن يفتخر بقوّته.
ثمّ إن قوى الانسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل، و أىّ افتخار في صفة يسبقه فيها البهائم.
و أمّا الزهد و العبادة فيزول التكبّر بهما على الفاسق بالتفكّر في سوء الخاتمة و حسنها، فربّما يموت الفاسق و يختم له بالخير، و يزلّ العابد فيختم له بالشرّ.
ألا ترى إلى برصيصاء عابد بني إسرائيل كيف سائت خاتمته على ما عرفت في شرح الفصل السّادس من الخطبة الثانية و الثمانين.
و إلى خليع بنى إسرائيل كيف حسنت عاقبته و كان من قصّته أنّه لكثرة فساده يسمّى خليع بني إسرائيل، فمرّ يوما برجل يقال له عابد بني إسرائيل، و كان على رأس العابد غمامة تظلّله فلمّا مرّ الخليع به قال الخليع في نفسه: أنا خليع بني إسرائيل و هذا عابد بني إسرائيل، فلو جلست إليه لعلّ اللَّه يرحمني، فجلس إليه فقال العابد: أنا عابد بني إسرائيل و هذا خليع بني إسرائيل فكيف يجلس إلىّ، فأنف منه و قال له: قم عنّي، فأوحى اللَّه إلى نبيّ ذلك الزّمان مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع و أحبطت عمل العابد، و في رواية اخرى فتحوّلت الغمامة إلى رأس الخليع.
و كيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأمور الّتي يزعمها المتكبّر كمالا له و يتعزّز بها على غيره ليست كمالا في الحقيقة، بل هى منقصة و وبال.
و يرشد إلى ما ذكرته ما روى عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إنّ اللَّه سبحانه أوحى إليه أن يقول لمن يتعزّز بالحسن و الجمال: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، و لمن يتعزّز بالفصاحة: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، و لمن يتعزّز بالنّسب: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، و لمن يتعزّز بالمال و الولد: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ، و لمن يتعزّز بالقوّة: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ، و لمن يتعزّز بالملك: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
و اما الامر الرابع
أعني معرفة معايب الكبر و مفاسده فنقول: إنّ هذه الصّفة الخبيثة لا منفعة فيها للمتكبّر البتة بل هي مضرّة له في الدّنيا و الآخرة.
أما في الدنيا فلا يجابها انحطاط درجته عند الخلايق و كراهتهم له و بعدهم عنه فهو لا يحبّهم و هم لا يحبّونه كما هو مشاهد بالعيان معلوم بالتجربة و الوجدان، و يبتليه اللَّه سبحانه في أغلب الأوقات بالذّل و الهوان.
و يدلّ عليه ما قدّمنا روايته في المقام الأوّل عن الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ما من عبد إلّا و في رأسه حكمة و ملك يمسكها فاذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك اللَّه فلا يزال أعظم النّاس في نفسه و أصغر النّاس في أعين النّاس الحديث.
و قد مثّل الصادقان عليهما السّلام الدّنيا ببيت سقفه مخفوض، فالدّاخل إليه لا بدّ من أن يطأطأ رأسه عند الدّخول و من رفع رأسه تلك الحالة شجّه السّقف و أخرج دمه و رمى بعمامته من فوق رأسه و فضحه بين الاقران الّذين كان يريد الترفّع عليهم.
و ناهيك في التنبيه على عظم ضرره ما رواه في الكافي عن عدّة من أصحابه عن أحمد بن محمّد عن مدرك بن عبيد عمّن حدّثه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ يوسف لما قدم عليه الشّيخ يعقوب عليه السّلام دخله عزّ الملك فلم ينزل إليه فهبط عليه جبرئيل فقال: يا يوسف ابسط راحتك، فخرج منها نور ساطع فصار في جوّ السّماء، فقال يوسف: يا جبرئيل ما هذا النّور الذي خرج من راحتي فقال: نزعت النبوّة من عقبك عقوبة لما لم تنزل إلى الشّيخ يعقوب فلا يكون من عقبك نبيّ.
و اما فى الاخرة فلا يجابها دخول النّار و سخط الجبّار جلّ جلاله كما يشهد به ما قدّمنا في المقام الأوّل من الآيات و الأخبار، و ناهيك في ذلك التذكر بحال ابليس اللّعين فانّه مع كونه خطيب الملائكة و قد عبد اللَّه في السّماء ستّة آلاف سنة كيف حبط أجره و انحط قدره و حزم الحضرة الرّبوبيّة و الألطاف الآلهيّة و استحقّ مقت الجبّار و الخلود في النّار بمحض الانائيّة و الاستكبار على ما يأتي مشروحا في الخطبة القاصعة و هي المأة و الحادية و التسعون من المختار في باب الخطب، و ما التوفيق إلّا باللَّه.
|