و من كلام له عليه السّلام قبل موته
و هو المأة و التاسع و الاربعون من المختار فى باب الخطب.
و هو مرويّ في الكافي على اختلاف تطلع عليه أيّها النّاس كلّ امرء لاق ما يفرّ منه في فراره و الأجل مساق النّفس، و الهرب منه موافاته، كم
اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه إلّا إخفائه، هيهات علم مخزون
اللغة
(الطّرد) الابعاد و تقول طزدته أى نفيته عنّي، و الطريدة ما طردته من صيد و غيره، و الطّريدان اللّيل و النهار، و أطردت الرّجل على صيغة الافعال، إذا أمرت باخراجه
الاعراب
قوله: في فراره متعلّق بقوله لاق، و جملة أبحثها منصوبة المحلّ على الحالية و علم مخزون خبر لمبتدأ محذوف أى ذلك العلم علم مخزون
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام قد قاله عليه السّلام لما ضربه ابن ملجم المرادي عليه لعائن اللَّه و هو مسوق فى معرض التوصية و التّذكير، فأيّة بالنّاس و نبّههم على لحوق ضرورة المنفور منه طبعا بقوله: (أيّها النّاس كلّ امرء لاق ما يفرّ منه في فراره) يعنى أنّ الانسان يفرّ من الموت ما دام حيّا، فهو في مدّة الفرار و هى الحياة الدّنيا يلاقي ما يفرّ منه البتّة كما قال تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» (و الأجل مساق النّفس) يجوز أن يراد بالأجل غاية العمر كما في قوله تعالى «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ» فيكون المساق بمعنى ما يساق إليه، و أن يراد به المدّة المضروبة لبقاء الانسان أعني مدّة العمر فيكون المساق بمعنى زمان السّوق، فانّ مدّة بقاء النّفس في هذا البدن مساق إلى غايتها.
(و الهرب منه) أى من الأجل بالمعنى الأوّل أو ممّا يفرّ منه إن اريد به المعنى الثاني (موافاته) لأنّ الهرب منه إنّما يكون بعلاج و حركة يفنى بهما بعض المدّة، و إفناء المدّة يلزمه الموافاة فأطلق لفظ الموافاة على الهرب من باب اطلاق اسم اللّازم على الملزوم، أو لأنّه إذا قدّر زوال عمر أو دولة فكلّ تدبير يدبّره الانسان يصير سببا لحصول ما يهرب منه كما أنّ كلّ دواء و معالجة إذا صادف قرب مجي ء الأجل يكون مضرّا بالبدن و إن كان بحيث اذا لم يصادفه كان نافعا مجرّبا عند الأطباء مع أنّ المرض و المزاج في كلتا الصّورتين واحد بناء على إبطال أفعال الطبيعة و أنّ نفع الأدوية إنّما هو فعل اللَّه تعالى عند الدّواء، و مع قطع النظر عن ذلك إذا صادف الدّواء الأجل يصير أحذق الأطباء عاجزا غافلا عمّا ينفع المريض، فيعطيه ما يضرّه و إذا لم يصادفه يلهم أجهل الأطبّاء بما ينفعه كما هو المجرّب. و كيف كان فقوله عليه السّلام: و الهرب منه موافاته، جار مجرى المبالغة في عدم كون الفرار منجيا من الموت و عاصما عنه حتّى جعل نفس الهرب منه ملاقاة له و لم يقل و الهارب منه يوافيه.
(كم اطّردت الأيام) أى صيّرتها طريدة قال الشارح المعتزلي فالاطّراد أدلّ على العزّ و القهر من الطرد (أبحثها) و افتّشها (عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه إلّا إخفائه) قال الشّارح المعتزلي: كأنه عليه السّلام جعل الأيّام أشخاصا يأمر باخراجهم و ابعادهم عنه، أى ما زلت أبحث عن كيفية قتلي و أىّ وقت يكون بعينه و في أىّ أرض يكون يوما يوما، فاذا لم أجده في اليوم اطردته و استقبلت يوما آخر فأبحث فيه أيضا فلا أعلم فأبعده و اطرده و أستأنف يوما آخر، و هكذا حتّى وقع المقدور.
قال الشّارح: و هذا الكلام يدلّ على أنه عليه السّلام لم يكن يعرف حال قتله مفصّلة من جميع الوجوه، و أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أعلمه بذلك مجملا، لأنّه قد ثبت أنّه صلّى اللَّه عليه و آله قال له: ستضرب على هذه و أشار إلى هامته فتخضب منها هذه، و أشار إلى لحيته و ثبت أنّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال له: أتعلم من أشقى الأوّلين قال: نعم عاقر النّاقة فقال له: أتعلم من أشقى الآخرين قال: لا، فقال: من يضرب ههنا فتخضب هذه و كلام أمير المؤمنين عليه السّلام يدلّ على أنّه بعد ضرب ابن ملجم له لا يقطع على أنّه يموت من ضربته، ألا تراه يقول: إن ثبتت الوطأة في هذه المزّلة فذاك آه.
و يظهر منه أنّ الشارح زعم أنّ مراده عليه السّلام بمكنون هذا الأمر وقت قتله و مكانه المعينان بالتفصيل.
و حذا حذوه الشارح البحراني حيث قال: و ذلك المكنون هو وقته المعيّن بالتفصيل و مكانه، فان ذلك ممّا استأثر اللَّه بعلمه كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» و قوله «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ» و إن كان قد أخبره الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بكيفية قتله مجملا- إلى أن قال- و أمّا بحثه هو فعن تفصيل الوقت و المكان و نحوهما من القراين المشخصة و ذلك البحث إمّا بالسّؤال من الرّسول مدّة حياته و كتمانه ايّاه، أو بالفحص و التّفرّس من قراين أحواله في ساير أوقاته مع النّاس، فأبى اللَّه إلّا أن تخفى عنه تلك الحال انتهى.
اقول: و لا يكاد ينقضي عجبى من هذين الفاضلين كيف توهّما أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لم يكن عالما بزمان موته و لا مكانه إلّا اجمالا، و أنّه لم يكن يعرفهما تفصيلا إن هذا إلّا زعم فاسد و رأى كاسد.
أمّا الشّارح المعتزلي فمع روايته الأخبار الغيبيّة له عليه السّلام و إذعانه على صحّتها حسبما تقدّمت في التّنبيه الثاني من شرح الخطبة الثانية و التّسعين كيف خفى عليه وجه الحقّ و كيف يتصوّر في حقّ من هو عالم بما كان و ما يكون و من يقول: فاسألوني قبل أن تفقدوني فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينكم و بين السّاعة و لا عن فئة تهدى مأئة و تضلّ مأئة إلّا أنبئكم بناعقها و قائدها و سائقها و مناخ ركابها و محطّ رحالها و من يقتل من أهلها قتلا و يموت منهم موتا، الى آخر ما مرّ في الخطبة الّتي أشرنا اليها، أنّه لم يكن يعرف زمان موته و مكانه.
و أمّا الشّارح البحراني فمع كونه من فضلاء علماء الامامية قدّس اللَّه ضرايحهم كيف قصرت يده عن الأخبار العامية و الخاصية المفيدة لعلم الأئمّة عليهم السّلام بما كان و ما يكون و ما هو كائن و لمعرفتهم عليهم السّلام بوقت موتهم و موت شيعتهم، و أنّهم يعلمون علم المنايا و البلايا و الانساب، و هذه الأخبار قريبة من التواتر بل متواترة معنى و قد مضى جملة منها في تضاعيف الشّرح لا سيّما في شرح الفصل الثّاني من الخطبة المأة و الثّامنة و العشرين، و يأتي شطر منها في مواضعها اللّايقة، و قد روى المخالف و المؤالف قول أمير المؤمنين للحارث الأعور الهمداني:
- يا حار همدان من يمت يرنيمن مؤمن أو منافق قبلا
- يعرفني طرفه و أعرفه بنعته و اسمه و ما فعلا
فانّ من كان حاضرا عند كلّ ميّت، عارفا بوقت موته كيف لا يعرف وقت موت نفسه.
و كفاك دليلا على ما ذكرنا أنّ الكلينيّ قد عقد في الكافى بابا على ذلك، و قال: باب أنّ الأئمّة عليهم السّلام يعلمون متى يموتون و أنّهم لا يموتون إلّا باختيار منهم، و روى في ذلك الباب عن عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد عن محمّد بن عبد الحميد عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرّضا عليه السّلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد عرف قاتله و اللّيلة التّي يقتل فيها، و الموضع الّذي يقتل فيه، و قوله لما سمع صياح الأوز في الدّار: صوايح تتبعها نوايح، و قول امّ كلثوم: لو صلّيت اللّيلة داخل الدّار و أمرت غيرك يصلّي بالنّاس فأبى عليها، و كثر دخوله و خروجه تلك اللّيلة بلا سلاح، و قد عرف عليه السّلام ان ابن ملجم قاتله بالسّيف كان هذا ممّا لم يحسن «لم يجز لم يحلّ خ ل» تعرّضه فقال عليه السّلام: ذلك كان و لكنه عليه السّلام خيّر في تلك اللّيلة لتمضى مقادير اللَّه عزّ و جلّ.
و هذا الحديث و إن كان ضعيفا عند بعض لكنّه سهل عند آخرين معتضد بأخبار أخر.
قال العلّامة المجلسي (ره) في شرحه: منشا الاعتراض أنّ حفظ النّفس واجب عقلا و شرعا، و لا يجوز إلقاؤها الى التّهلكة، فقال عليه السّلام: ذلك كان و لكنّه خيّر أى خيّره اللَّه بين البقاء و اللّقاء فاختار لقاء اللَّه، و هو مبنيّ على منع كون حفظ النّفس واجبا مطلقا، و لعلّه كان من خصائصهم عدم وجوب ذلك عند اختيارهم الموت و حكم العقل في ذلك غير متّبع مع أنّ حكم العقل في مثل ذلك غير مسلّم.
و في بعض النّسخ أعني نسخ الكافي حيّن بالحاء المهملة و النّون أخيرا، بدل خير، قال الجوهريّ: حيّنه جعل له وقتا يقال: حيّنت النّاقة إذا جعلت لها في يوم و ليلة وقتا تحلبها فيه انتهى، فالمعنى أنّه كان بلغ الأجل المحتوم المقدّر و كان لا يمكن الفرار منه.
قال المحدّث العلّامة المجلسيّ: و حاصله أنّ من لا يعلم أسباب التّقديرات الواقعة يمكنه الفرار عن المحذورات و يكلّف به، و أمّا من كان عالما بجميع الحوادث، فكيف يكلّف الفرار و إلّا يلزم عدم وقوع شي ء من التّقديرات فيه، بل هم عليهم السّلام غير مكلّفين بالعمل بهذا العلم في أكثر التّكاليف.
فانّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام كانا يعرفان المنافقين و يعلمان سوء عقايدهم و لم يكونوا مكلّفين بالاجتناب عنهم و ترك معاشرتهم و عدم مناكحتهم أو قتلهم و طردهم ما لم يظهر منهم شي ء يوجب ذلك.
و كذا علم أمير المؤمنين عليه السّلام بعدم الظّفر بمعاوية و بقاء ملكه بعده لم يكن سببا لأن يترك قتاله، بل كان يبلغ في ذلك غاية جهده إلى أن استشهد صلوات اللَّه عليه مع أنّه كان يخبر بشهادته و استيلاء معاوية بعده.
و كذا الحسين عليه السّلام كان عالما بغدر أهل العراق به و أنّه سيستشهد هناك مع أولاده و أقاربه و أصحابه، و يخبر بذلك مرارا و لم يكن مكلّفا بالعمل بهذا العلم بل كان مكلّفا بالعمل بهذا الأمر حيث بذلوا له نصرتهم و كاتبوه و راسلوه و وعدوه البيعة و بايعوا مسلم بن عقيل رضى اللَّه عنه انتهى.
و قال المجلسيّ أيضا في موضع آخر من شرح الكافي: الظاهر من ساير الأخبار أنّه عليه السّلام كان عالما بشهادته و وقتها و كان ينتظرها و يخبر بوقوعها و يستبطئها في اللّيلة التي وعدها و يقول: ما منع قاتلي من قتلي انتهى.
فقد ظهر و اتّضح بذلك كلّه أنّه عليه السّلام كان يعرف تفصيلا زمان قتله و مكانه كما ظهر دفع الاشكال فيه و الاعتراض عليه بأنّه مع المعرفة التفصيليّة كان الواجب عليه حفظ نفسه و عدم إلقاءه لها إلى التهلكة.
فان قلت: سلّمنا هذا كلّه و لكن ما تصنع بقوله عليه السّلام كم اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه إلّا إخفاءه قلت: يمكن توجيهه بأن يكون المراد بهذا الأمر خفاء الحقّ و مظلوميّة أهله و ظهور الباطل و غلبة أصحابه و كثرة أعوانه، لأنّه عليه السّلام سعى في أوّل الأمر في أخذ حقّه غاية السّعى فلم يتيسّر و جرت امور لم يكن يخطر ببال أحد وقوع مثله، و في آخر الأمر لمّا انتهى إليه و حصل له الأنصار و الأعوان و جاهد في اللَّه حقّ الجهاد و غلب على المنافقين سنحت فتنه التحكيم الّتي كانت من غرايب الامور ثمّ بعد ذلك لمّا جمع العساكر و أراد الخروج إليهم وقعت الطامة الكبرى، فالمراد بالمكنون سرّ ذلك و سببه فظهر لي و أبى اللَّه إلّا إخفاءه عنكم لضعف عقولكم عن فهمه، إذ هي من غوامض مسائل القضاء و القدر.
و هذا التوجيه أورده المحدّث المجلسيّ في مرآت العقول نقلا عن بعضهم و استحسنه.
و محصّله أنّ المراد بالأمر المكنون في كلامه عليه السّلام سرّ غلبة الباطل على الحقّ و علّة مظلومية أهل الحقّ، و المراد باخفاء اللَّه إياه إخفاءه منهم لا منه عليه السّلام، فيكون هذا الكلام منه نظير قوله عليه السّلام في الكلام الخامس: بل اند مجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة.
قوله (هيهات علم مخزون) أى بعد الاطلاع على ذلك السّر فانه علم مخزون و من شأن المخزون أن يسرّ و يخفى.
|