منها و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزى، و يستوجبوا الغير حتّى إذا اخلولق الأجل، و استراح قوم إلى الفتن، و اشتالوا عن لقاح حربهم، لم يمنّوا على اللَّه بالصّبر، و لم يستعظموا بذل أنفسهم في الحقّ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم، و دانوا لربّهم بأمر واعظهم، حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب، و غالتهم السّبل، و اتّكلوا على الولائج، و وصلوا غير الرّحم، و هجروا السّبب الّذي أمروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة، و أبواب كلّ ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، و ذهلوا في السّكرة، على سنّة من آل فرعون، من منقطع إلى الدّنيا راكن، أو مفارق للدّين مباين.
اللغة
(الغير) بكسر الغين المعجمة و فتح الياء المثنّاة قال في مجمع البحرين:في الحديث: الشكر أمان من الغير، و مثله من يكفر باللَّه يلقى الغير، أى تغيّر الحال و انتقالها عن الصّلاح إلى الفساد و (شالت) النّاقة ذنبها و أشالته رفعته فشال الذّنب نفسه لازم متعدّ و (اللقاح) بالفتح اسم ماء الفحل لقحت النّاقة من باب سمع لقاحا أى قبلت اللّقاح فهى لاقح أى حامل و (غاله) السّيل أهلكه كاغتاله و (الرّص) مصدر من رصّ الشي ء ألصق بعضه ببعض و ضمّ كرصّصه قال تعالى: «كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» و تراصّوا في الصفّ تلاصقوا و انضمّوا و (مار) الشي ء من باب قال تحرّك بسرعة قال سبحانه: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً»
الاعراب
قوله: حتّى اذا اخلولق الأجل، جواب اذا محذوف بقرينة جواب اذا الآتية أعنى قوله: حملوا بصائرهم، و جملة لم يمنّوا حال من فاعل اشتالوا، و قوله: معادن كلّ خطيئة، خبر لمبتدأ محذوف و الجملة في محلّ الرّفع صفة لقوم. و قوله: على سنّة من آل فرعون من منقطع آه ظرف مستقرّ حال من فاعل ذهلوا، و من الاولى نشويّة ابتدائيّة و الثّانية أيضا للابتداء، و مجرور الثانية بدل من مجرور الاولى بدل اشتمال نظير قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» قال ابن هشام: من فيهما للابتداء و مجرور الثانية بدل من مجرور الأولى بدل اشتمال لأنّ الشّجرة كانت نابتة بالشّاطى ء، انتهى. و ربّما يعترض عليه بانّه لا بدّ على ذلك من تقدير ضمير يعود على المبدل منه، و اجيب عنه بأنّ تكرار من يغنى عن تقدير الضّمير، هذا. و يحتمل كون من الثانية للتّبيين فهى إمّا بيان لمجرور من الاولى على حدّ قوله تعالى: «وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا». أو بيان لمعادن كلّ خطيئة، و الأوّل أقرب لفظا و الثّاني معنى، فافهم.
المعنى
الفصل الثاني
(منها) قوله عليه السّلام (و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزى و يستوجبوا الغير) قال الشارحان البحراني و المعتزلي: هذا الفصل من كلامه يتّصل بكلام قبله لم يذكره الرّضيّ قد وصف فيه فئة ضالّة قد استولت و ملكت و املى لها اللَّه سبحانه انتهى.
ان قيل: كيف ساغ جعل طول الأمد علّة لاستكمال الخزى قلت: اللّام هنا ليست على التّعليل حقيقة بل هى على العلّية المجازيّة كما في قوله سبحانه «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا و حزنا» حيث شبّه ترتّب كونه عدوّا و حزنا على الالتقاط بترتّب العلّة الغائية على معلولها، فاستعمل فيه اللّام الموضوع خطبه 150 نهج البلاغه بخش 3ة للعليّة، و فيما نحن فيه أيضا لمّا كان طول المدّة سببا لتماديهم في الغيّ و الغفلة، و فعلهم للآثام و المعاصي بسوء اختيارهم، و كان فعل المعاصى جالبا لكمال الخزى، و موجبا لتغيّر النّعم، فجعلوا بفعلهم للمعاصي بمنزلة الطّالبين لكمال الخزى، ثمّ رتّب استكمال الخزى على طول الأمد و استعمل اللّام الموضوع خطبه 150 نهج البلاغه بخش 3ة للعليّة فيه و مثله قوله تعالى: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ».
و محصّل المرام أنّهم بطول بقائهم في الدّنيا ركبوا الذّنوب و المعاصي، فاستحقّوا بذلك الخزى و النّكال، و استوجبوا تغير النّعمة بسوء الأعمال لأنّ «اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» قال «فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ، وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا».
(حتّى إذا اخلولق الأجل) قال الشّارح البحراني: أى صار خليقا، و ليس بشي ء، لأنّ اخلولق لم يذكر له إلّا الفاعل فهو فعل تامّ بمعنى قرب، و ما ذكره معنى اخلولق إذا ذكر له اسم و خبر و كان فعلا ناقصا مثل: اخلولق السّماء أن تمطر أى صار خليقا للأمطار، و كيف كان فالمراد أنّه قرب انقضاء مدّة هؤلاء الضّالين المستكملين للخزى و المستوجبين للغير.
(و استراح قوم إلى الفتن) أى مال و صبا قوم من الشّيعة و أهل البصرة إلى فتن تلك الفئة الضّالّة، و وجدوا الرّاحة لأنفسهم في توجّههم إليها (و اشتالوا عن لقاح حربهم) أى رفع هؤلاء المستريحون أنفسهم عن تهيّج الحرب بينهم و بين هذه الفئة، و شبّه الحرب بالنّاقة اللّاقح و أثبت لها اللّقاح تخييلا، و المراد أنّهم تركوا محاربتهم و رفعوا أيديهم عن سيوفهم إمّا لعجزهم عن القتال أو لعدم قيام القائم بالأمر فهادنوهم و ألقوا اليهم السّلم.
حالكونهم (لم يمنّوا على اللَّه بالصّبر) على مشاقّ القتال، و في رواية: بالنّصر، أى بنصرهم للَّه (و لم يستعظموا بذل أنفسهم في) طلب (الحقّ) و نصرته (حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء) أى ورد القضاء الالهي بانقطاع بلاء هذه الفئة الضّالة و انقضاء ملكهم و أمارتهم و أذن اللَّه في استيصالهم بظهور من يقوم بنصر الحقّ و دعوته اليه (حملوا) أى هؤلاء المستريحون إلى الفتن (بصائرهم على أسيافهم) لحرب أهل الضّلال، قال الشّارح المعتزلي: و هذا معنى لطيف، يعني أنّهم أظهروا بصائرهم و عقايد قلوبهم للنّاس و كشفوها و جرّدوها من أجفانها مع تجريد السّيوف من أجفانها فكأنها شي ء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف، فترى في غاية الجلاء و الظهور كما ترى السيوف المجرّدة (و دانوا لربّهم بأمر و اعظهم) أشار به إلى الامام القائم عجّل اللَّه ظهوره، هذا.
و للشّراح في شرح هذا الفصل من كلامه عليه السّلام اضطراب عظيم، و تحيّروا في مراجع الضمائر الموجودة فيه، و اضطرّوا في إصلاح نظم الكلام إلى التأويلات الباردة التي يشمئزّ عنها الأفهام، و نحن شرحناه بحمد اللَّه على ما لا يخرجه من السلاسة و النظم بمقتضى سليقتنا، و العلم بعد موكول إلى صاحب الكلام عليه السّلام
الفصل الثالث
في اقتصاص حال المرتدّين بعد قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و ظاهر هذا الفصل يعطى أن يكون قبله كلام أسقطه الرّضىّ حتى يكون هذا الكلام غاية له، و إلّا فلا ارتباط له بالفصل المتقدّم.
يقول عليه السّلام: (حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب) و تركوا ما كانوا عليه من الانقياد للشريعة و امتثال أوامر اللَّه و رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و المراد بهؤلاء القوم الغاصبون للخلافة و متّبعوهم و المقتفون اثرهم (و غالتهم السبل) أى أهلكتهم سبل الضلال و عدو لهم عن سبيل الحقّ قال سبحانه: «وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ».
و قد فسّر السبيل في هذه الآية و في غير واحد من الآيات بالأئمة و ولايتهم، و فسّر السبل بأئمة الضلال و ولايتهم و قد مضى طرف من الأخبار في هذا المعنى في شرح الفصل الثاني من الكلام السابع عشر و أقول هنا: روى في البحار من تفسير فرات بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد الفزارى معنعنا عن حمران، قال سمعت أبا جعفر يقول في قول اللَّه: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ». قال: عليّ بن أبي طالب و الأئمة من ولد فاطمة عليهم السّلام هم صراط اللَّه، فمن أتاهم سلك السبيل و من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن أبي بصير عن أبي جعفر في قوله: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ».
قال: طريق الامامة فاتّبعوه.
«وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ».
أى طرقا غيرها.
و عن محمّد بن القاسم عن السيارى عن محمّد بن خالد عن حماد عن حريز عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنه قال قوله عزّ و جلّ: «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا».
يعني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و من تفسير الامام قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ما من عبد و لا أمة اعطى بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام في الظاهر و نكثها في الباطن و أقام على نفاقه إلّا و إذا جاءه ملك الموت لقبض روحه تمثّل له إبليس و أعوانه، و تمثّلت النيران و أصناف عفاريتها لعينيه و قلبه و مقاعده مقاعد الناكث من مضايقها، و تمثّل له أيضا الجنان و منازله فيها لو كان بقى على ايمانه و وفي بيعته فيقول له ملك الموت: انظر إلى تلك الجنان التي لا يقادر قدر سرّائها و بهجتها و سرورها إلّا اللَّه ربّ العالمين كانت معدّة لك، فلو كنت بقيت على ولايتك لأخى محمّد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان يكون إليها مصيرك يوم فصل القضاء، و لكن نكثت و خالفت فتلك النيران و أصناف عذابها و زبانيتها و أفاعيها الفاغرة أفواهها و عقاربها الناصبة أذنابها و سباعها الثائلة مخالبها و ساير أصناف عذابها هو لك و إليها مصيرك فعند ذلك يقول:
«وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ».
و قبلت ما أمرني به و التزمت من موالاة عليّ عليه السّلام ما ألزمنى.
(و اتكلوا على الولايج) أى اعتمدوا في آرائهم الفاسدة و بدعهم المبتدعة على أهلهم و خواصّهم في نصرة ذلك الرّأى و ترويج تلك البدعة (و وصلوا غير الرّحم) أى رحم آل محمّد و اللّام عوض عن المضاف إليه يعني أنّهم قطعوا رحم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله بحسبانهم أنّها لا تنفع، و وصلوا غيرها لانتفاعهم في دنياهم بها.
و هؤلاء هم الّذين أشار إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في الحديث المرويّ في البحار من أمالي الشّيخ و ابنه عن المفيد معنعنا عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول على المنبر: ما بال أقوام يقولون إنّ رحم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا ينفع يوم القيامة، بلى و اللَّه إنّ رحمي لموصولة في الدّنيا و الآخرة، و إنّي أيّها النّاس فرطكم يوم القيامة على الحوض، فاذا جئتم قال الرّجل يا رسول اللَّه أنا فلان بن فلان فأقول: أمّا النّسب فقد عرفته و لكنّكم أخذتم بعدى ذات الشّمال و ارتددتم على أعقابكم القهقرى.
و فيه منه باسناده عن حمزة بن أبي سعيد الخدرى أيضا عن أبيه عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: أ تزعمون أنّ رحم نبيّ اللَّه لا ينفع قومه يوم القيامة بلى و اللَّه إنّ رحمي لموصولة في الدّنيا و الآخرة، ثمّ قال: يا أيّها النّاس أنا فرطكم على الحوض فاذا جئت و قام رجال يقولون يا نبيّ اللَّه أنا فلان بن فلان، و قال آخر يا نبيّ اللَّه أنا فلان بن فلان، و قال آخر يا نبيّ اللَّه أنا فلان بن فلان، فأقول: أمّا النّسب فقد عرفت و لكنّكم أحدثتم بعدى و ارتددتم القهقرى قال العلّامة المجلسيّ بعد رواية هذا الحديث: الظّاهر أنّ المراد بالثلاثة الثّلاثة.
(و هجروا السبب الّذى أمروا بمودّته) أراد بهم آل محمّد عليهم السّلام أيضا لكونهم سببا لمن اهتدى بهم في الوصول إلى اللَّه سبحانه.
و يدلّ عليه ما رواه في البحار من أمالى الشّيخ و ابنه بسنده عن محمّد بن المثنى الأزدي أنّه سمع أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول. نحن السّبب بينكم و بين اللَّه عزّ و جلّ و قد أمرنا اللَّه بمودّتهم في قوله: «ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا».
و قال رسول اللَّه في مروىّ البحار من كتاب العمدة من مناقب الفقيه ابن المغازلي الشّافعي باسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: لمّا خلق اللَّه الخلق اختار العرب فاختار قريشا و اختار بني هاشم فأنا خيرة من خيرة، ألا فأحبّوا قريشا و لا تبغضوها فتهلكوا، ألا كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سببى و نسبي، ألا و إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من نسبى و حسبي فمن أحبّه فقد أحبّني و من أبغضه فقد أبغضني.
قال الشّارح المعتزلي في شرح قوله: و هجروا السّبب: يعني أهل البيت، و هذا إشارة إلى قول النّبي صلّى اللَّه عليه و آله: خلفت فيكم الثقلين: كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السّماء إلى الأرض لا يفترقان حتّى يردا علىّ الحوض فعبّر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السّبب لما كان النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: حبلان، و السبب في اللغة الحبل، انتهى.
أقول: و قد استعير لهم عليهم السّلام لفظ الحبل في غير واحد من الآيات، قال شيخنا أبو عليّ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» قيل في معنى حبل اللَّه أقوال: أحدها أنّه القرآن ثانيها أنّه دين الاسلام و ثالثها ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: نحن حبل اللَّه الذي قال: و اعتصموا بحبل اللَّه جميعا، و الأولى حمله على الجميع.
و الّذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدرى عن النّبيّ أنّه قال: يا أيّها النّاس إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أحدهما اكبر من الآخر كتاب اللَّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي ألا و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في هذه الآية قال: التّوحيد و الولاية و في رواية أبي الجارود في قوله تعالى: «وَ لا تَفَرَّقُوا»، قال: إنّ اللَّه تبارك و تعالى علم أنّهم سيفترقون بعد نبيّهم و يختلفون، فنهاهم اللَّه عن التفرّق كما نهى من كان قبلهم، فأمرهم أن يجتمعوا على ولاية آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و لا يتفرّقوا.
و في البحار أيضا من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات رواية عن صاحب نهج الايمان، عن الحسين بن جبير باسناده إلى أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ».
قال: حبل من اللَّه كتاب اللَّه، و حبل من النّاس عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و فيه من الكتاب المذكور أيضا مسندا عن حصين بن مخارق عن أبي الحسن موسى عن آبائه عليهم السّلام في قوله عزّ و جلّ: «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ».
قال: مودّتنا أهل البيت.
و في الصّافي من معاني الأخبار عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى الّتي لا انفصام لها فليستمسك بولاية أخي و وصيّي عليّ بن أبي طالب فانّه لا يهلك من أحبّه و تولاه، و لا ينجو من أبغضه و عاداه.
(و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه) أى نقلوا بناء الدّين و الايمان عن أساسه المرصوص المستحكم اللّاصق بعضه ببعض، فبنوه في غير موضعه و هو اشارة إلى عدو لهم بالخلافة عن أصلها و مكانها اللّايق به إلى غيره، و هو توبيخ و تفريع آخر لأولئك المنافقين بعد و لهم عن أولياء المؤمنين و أئمة الدّين، كما و بخّ اللَّه اخوانهم في هذا المعنى بقوله:
«أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ».
يعني أنّ المحقّ اسّس بنيان دينه على قاعدة محكمة و أساس وثيق و هو الحقّ الّذي هو التّقوى من اللَّه و طلب مرضاته بالطّاعة، و المبطل أسّس بنيانه على قاعدة هي أضعف القواعد و هو الباطل و النّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلّة الثّبات فهوى به الباطل في نار جهنّم.
ثمّ وصفهم، بأوصاف اخرى فقال (معادن كلّ خطيئة) قال الشّارح البحراني أى إنّهم مستعدّون لفعل كلّ خطيئة و مهيّؤن لها، فهم مظانّها، و لفظ المعادن استعارة، انتهى.
أقول: و الظّاهر أنّ المراد أنّهم معدن كلّ خطيئة صدرت من هذه الامّة و أصل كلّ ذنب واقع منهم و منشاه و مبدء الشّرور و المساوى، و ذلك باغتصابهم للخلافة إذ لو استقرّت في أهلها أعنى أهل بيت العصمة و الطهارة لحملوا النّاس على الحنيفيّة البيضاء، و جرى الامور على وفق الحقّ فضّلوا و أضلّوا.
«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» روى في الصّافى عن العيّاشي عن الباقر عليه السّلام ما ذا أنزل ربّكم في عليّ قالوا: أساطير الأوّلين سجع أهل الجاهليّة في جاهليّتهم ليحملوا أوزارهم ليستكملوا الكفر ليوم القيامة و من أوزار الّذين يضلّونهم يعني كفر الّذين يتولّونهم و عن عليّ بن إبراهيم القمّي قال: يحملون آثامهم يعني الّذين غصبوا امير المؤمنين و آثام كلّ من اقتدى بهم، و هو قول الصّادق عليه السّلام: و اللَّه ما اهريقت محجمة من دم و لا قرع عصا بعصا و لا غصب فرج حرام و لا اخذ مال من غير حلّه إلّا و زر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العاملين شي ء.
و في حديث مفضّل بن عمر الوارد في الرّجعة عن الصّادق عليه السّلام بعد اقتصاصه مسير المهدي عليه السّلام إلى قبر جدّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و إخراجه بضجيعيه و أمره بصلبهما قال: فيأمر المهدى ريحا فتجعلهم كأعجاز نخل خاوية، ثمّ يأمر بانزالهما فينزلان فيحييهما باذن اللَّه تعالى و يأمر الخلايق بالاجتماع، ثمّ يقصّ عليهم قمص أفعالهم في كلّ كور و دور حتّى يقصّ عليهم قتل هابيل بن آدم عليه السّلام، و جمع النّار لابراهيم، و طرح يوسف في الجبّ، و حبس يونس في بطن الحوت، و قتل يحيى، و صلب عيسى، و عذاب جرجيس، و دانيال، و ضرب سلمان الفارسى، و اشعال النّار على باب أمير المؤمنين و فاطمة و الحسنين عليهم السّلام و إرادة إحراقهم بابها، و ضرب صديقة الكبرى فاطمة الزّهراء بسوط، و رفس بطنها و إسقاطها محسنا، و سمّ الحسن عليه السّلام، و قتل الحسين و ذبح أطفاله و بني عمّه و أنصاره و سبى ذرارى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و إراقة دماء آل محمّد، و كلّ دم مؤمن، و كلّ فرج نكح حراما، و كلّ ربا اكل، و كلّ خبث و فاحشة و ظلم منذ عهد آدم إلى قيام قائمنا، كلّ ذلك يعد ده عليهما و يلزمهما إيّاه و يعترفان به ثمّ يأمر بهما فيقتصّ منهما في ذلك الوقت مظالم من حضر، الحديث.
(و) بما ذكرنا ظهر أيضا أنّهم (أبواب كلّ ضارب في غمرة) يعني أنّ كلّ من أراد الباطل و الضّلال فليقصد هؤلاء و ليرمق أعمالهم و ليتّبع آثارهم، إذ كلّ ضلال قد خرج منهم و انتشر في مشارق الأرض و مغاربها، فهم أبواب الضلال كما أنّ الأئمة عليهم السّلام أبواب الهدى. روى في البحار من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».
قال: هو الأوّل ثاني عطفه إلى الثّاني، و ذلك لما أقام رسول اللَّه أمير المؤمنين علما للناس و قال: و اللَّه لا نفى بهذه له أبدا (قد ماروا في الحيرة) أى تردّدوا في أمرهم، فهم حائرون تائهون لا يعرفون جهة الحقّ فيقصدونه، و ذلك بعدو لهم عن أئمة الدين و أدلّاء الشّرع المبين.
روى العلّامة المجلسيّ من كتاب المحاسن عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن العلا عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ من دان اللَّه بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام عادل من اللَّه فانّ سعيه غير مقبول، و هو ضالّ متحيّر، و مثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها و قطيعها فتاهت ذاهبة و جائية يومها، فلمّا أن جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها فجاءت إليها فباتت معها في ربضها ، فلمّا أن ساق الرّاعي قطيعه أنكرت راعيها و قطيعها فهجمت متحيّرة تطلب راعيها و قطيعها، فبصرت بسرح قطيع غنم آخر فعمدت نحوها و حنّت إليها، فصاح بها الرّاعي: ألحقى بقطيعك فانّك تائهة متحيّرة قد ضللت عن راعيك و قطيعك فهجمت زعرة متحيّرة لا راعى لها يرشدها إلى مرعاها أو يردّها، فبينا هى كذلك إذا اغتنم الذّئب ضيعتها فأكلها، و هكذا يا محمّد بن مسلم من أصبح من هذه الامّة لا إمام له من اللَّه عادل أصبح تائها متحيّرا إن مات على حاله تلك مات ميتة كفر و نفاق، و اعلم يا محمّد أنّ أئمة الحقّ و أتباعهم على دين اللَّه.
و قد تقدّمت هذه الرّواية في التّذنيب الثّالث من شرح الفصل الرّابع من الخطبة الاولى برواية الكافي و أوردتها هنا لاقتضاء المقام، و توضيح كلام الامام عليه السّلام (و ذهلوا في السّكرة) أى غابت أذهانهم في سكرة الجهل (على سنّة من آل فرعون) أى على طريقة اتباع فرعون الّذين قال اللَّه فيهم: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» كما أنّ الأئمة عليهم السّلام على سنّة آل موسى و شيعته، و المراد أنّهم على طريقة أهل الظلم و الضّلال كما أنّ الأئمة عليهم السّلام على طريقة أهل العدل و الهدى.
و قد صرّحوا بذلك في غير واحد من الرّوايات مثل ما في البحار عن العياشي عن أبي الصّباح الكناني قال: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد اللَّه عليهما السّلام فقال: هذا و اللَّه من الذين قال اللَّه: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ». الآية و قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام: و الذي بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ الأبرار منّا أهل البيت و شيعتهم بمنزلة موسى و شيعته، و إنّ عدوّنا و أشياعهم بمنزلة فرعون و أشياعه.
و فيه من تفسير فرات بن إبراهيم عن الحسين بن سعيد باسناده عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: من أراد أن يسأل عن أمرنا و أمر القوم فانا. و أشياعنا يوم خلق اللَّه السّموات و الأرض على سنّة موسى و أشياعه، و إنّ عدوّنا يوم خلق اللَّه السّموات و الأرض على سنّة فرعون و أشياعه، فنزلت فينا هذه الآيات: «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ».
و إنّي اقسم بالّذى خلق «فلق ظ» الحبّة و برى ء النّسمة ليعطفنّ عليكم هؤلاء عطف الضّروس على ولدها.
و فيه عن عليّ بن إبراهيم قال: حدّثني أبي عن النّضر عن ابن حميد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: لقى المنهال بن عمرو عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما فقال له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللَّه قال: ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبّحون أبنائنا و يستحيون نسائنا (من منقطع إلى الدّنيا راكن أو مفارق للدّين مباين) أو لمنع الخلوّ يعني أنّ صنفا منهم منقطع إلى الدّنيا منهمك في لذّاتها مكبّ على شهواتها، و الصّنف الآخر مفارق للدّين مزايل له و إن لم يكن له دنيا كما ترى كثيرا من أحبار النّصارى و رهبانهم، يتركون الدّنيا و يزهدون فيها و هم من أهل الضّلال.
تنبيه
قال الشّارح المعتزليّ في شرح هذا الفصل الأخير من الخطبة: فان قلت: أليس الفصل صريحا في تحقيق مذهب الاماميّة قلت: لا، بل نحمله على أنّه عنى عليه السّلام أعدائه الّذين حاربوه من قريش و غيرهم من افناء العرب في أيّام صفّين، و هم الّذين نقلوا البناء، و هجروا السّبب و وصلوا غير الرّحم، و اتّكلوا على الولايج، و غالتهم السّبل، و رجعوا على الأعقاب كعمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و مروان بن الحكم و الوليد بن عقبة و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة و عبد اللَّه بن الزّبير و سعيد بن العاص و جوشب، و ذى الكلاع و شرجيل بن الصمت و أبي الأعور السّلمى و غيرهم ممّن تقدّم ذكرنا لهم في الفصول المتعلّقة بصفين و أخبارها، فانّ هؤلاء نقلوا الامامة عنه عليه السّلام إلى معاوية، فنقلوا البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه.
فان قلت: لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأوّلته لأنّه عليه السّلام قال: حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب، فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و ما ذكرته أنت كان بعد قبض الرّسول بنيّف و عشرين سنة قلت: ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لمّا مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و أضمروا في أنفسهم مشاقّة أمير المؤمنين عليه السّلام و أذاه، و قد كان فيهم من يتحكّك به في أيام أبي بكر و عمر و عثمان و يتعرّض له و لم يكن أحد منهم و لا من غيرهم تقدّم على ذلك في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الاسلام بالكلّية، فانّ كثيرا من أصحابنا يطعنون في ايمان بعض من ذكرناه، و يعدّونهم من المنافقين، و قد كان سيف رسول اللَّه يقمعهم و يردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك خصوصا فيما يتعلّق بأمير المؤمنين الّذي ورد في حقّه: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هو خبر محقّق مذكور في الصّحاح.
فان قلت: يمنعك من هذا التّأويل قوله: و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فجعلوه في غير موضعه، و ذلك لأنّ إذا ظرف و العامل فيها قوله: رجع قوم على الأعقاب، و قد عطف عليه قوله: و نقلوا البناء، فاذا كان الرّجوع على الأعقاب واقعا في الظرف المذكور و هو وقت قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا، لأنّ أحد الفعلين معطوف على الآخر، و لم ينقل أحد وقت قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و إنّما نقل عنه إلى شخص آخر و في إعطاء العطف حقّه إثبات مذهب الاماميّة صريحا.
قلت: إذا كان الرّجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النّبي صلّى اللَّه عليه و آله فقد قلنا بما يجب من وجود عامل في الظرف، و لا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر إمّا بأن يكون الواو للاستيناف لا للعطف، أو بأن يكون العطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزّمان المخصّص كقوله تعالى:
«حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ».
فالعامل في الظرف استطعما، و يجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة، و لا يجب أن يكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الاتيان أيضا، ألا ترى أنّ من جملتها، فأقامه، و لم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما اللّهم إلّا أن يقول قائل أشار بيده إلى الجدار فقام، أو قال له قم فقام، لأنّه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للاتيان إلّا على هذا الوجه، و هذا لم يكن و لا قاله مفسّر، و لو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له: لو شئت لا تّخذت عليه أجرا لأنّ الأجر إنّما يكون على اعتمال عمل فيه مشقّة و إنّما يكون فيه مشقّة إذا بناه بيده و باشره بجوارحه و أعضائه.
قال الشّارح: و اعلم أنّا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على ما يقتضيه سودده الجليل و منصبه، و دينه القويم من الاغضاء عمّا سلف ممّن سلف، فقد صاحبهم بالمعروف برهة من الدّهر، فامّا أن يكون ما كانوا فيه حقّهم أو حقّه فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة أو لما رآه من المصلحة، و على تحمّلى التّقديرين فالواجب علينا أن نطبق بين آخر أفعاله و أقواله بالنّسبة اليهم و بين أوّلها، فان بعد تأويل من يتأوّل كلامه فليس بأبعد من تأويل أهل التّوحيد و العدل الآيات المتشابهة في القرآن، و لم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الاصول المقرّرة فكذلك ههنا، انتهى كلامه هبط مقامه.
أقول: و أنت خبير بما فيه من وجوه الكلام و ضروب الملام اما اولا فلأنّ قوله: لا بل نحمله على أنّه عنى أعداءه الّذين حاربوه من قريش و غيرهم في أيّام صفّين، فيه أنّه لا وجه لهذا الحمل بل ظاهر كلامه عليه السّلام بمقتضى الاطلاق يشمل كلّ من اتّصف بالأوصاف الّتي ذكره عليه السّلام، و من المعلوم أنّ اتّصاف المتخلّفين الثلاثة و متبعيهم بالأوصاف المذكورة أظهر و أشهر من اتّصاف أهل صفّين بها، لأنّهم أوّل من فتح باب غصب الخلافة و نقلوها عن أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أنفسهم و تبعهم أشياعهم فنقلوها عنه عليه السّلام إليهم.
بل أقول: انّه لو لا جسارة الثّاني على إحراق باب بيت النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و إخراج أمير المؤمنين عليه السّلام من البيت للبيعة ملبّبا و ضربه لفاطمة عليها السّلام و كسره ضلعها، و غصب فدك و قطعه لرحم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و هتكه لناموس أهل بيته، لم يجسر أحد على معارضة أمير المؤمنين عليه السّلام، و لم يخطر على قلب أحد نزع الخلافة عنه عليه السّلام إلى نفسه، و لو لا تولية معاوية للشّام و رضاه بظلمه و جوره و أفعاله المخالفة للشّريعة، و تشييده بصنعه لم يطمع معاوية في الأمارة و الخلافة و النّهوض لقتال عليّ عليه السّلام، فكلّ فتنة و فساد و أمر مخالف للدّين و لسنّة سيد المرسلين من فروع تلك الشجرة الملعونة على ما عرفته في شرح الكلام المأة و السّادس و العشرين.
و بالجملة فكلامه عليه السّلام بحكم الاصول و القواعد اللّفظية العموم و الاطلاق، و حمله على طائفة مخصوصة خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا بدليل و ليس فليس.
و أما ثانيا فلأنّ قوله: قلت ليس يمتنع أن يكون هولاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لمّا مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أضمروا في أنفسهم آه فيه إنّ هؤلاء إن كانوا رجعوا على الأعقاب حين موته و أضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين عليه السّلام و أذاه فالّذين ذكرناهم أعنى الثلاثة و أشياعهم قد رجعوا على الأعقاب أيضا و أبدوا مشاقته و أذاه عقيب موته صلوات اللَّه عليه و آله، يشهدك على ذلك إحراقهم بابه و إخراجهم له من بيته ملبّبا و تدبيرهم لقتله على يد خالد بن الوليد كما روته العامّة و الخاصّة.
و يشهد به أيضا ما رواه الشّارح في الشّرح في غير هذا المقام.
قال: روى كثير من المحدّثين أنّ عليّا عقيب يوم السّقيفة تظلّم و تألّم و استنجد و استصرخ حيث ساموه إلى الحضور و البيعة و أنّه قال و هو يشير إلى القبر: يا نبيّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني، و أنّه قال: وا جعفراه و لا جعفر لى اليوم وا حمزتاه و لا حمزة لى اليوم.
و بهذا كلّه يظهر لك أنّ رجوع من ذكرناه على الأعقاب مع نصبهم العداوة لأمير المؤمنين عليه السّلام و إعلانهم بالمشاقة و الأذى له أظهر من رجوع غيرهم ممّن ذكره الشّارح مع إخفائهم له، و مع هذا فصرف كلام الامام عليه السّلام إلى الآخرين دون الأوّلين لا وجه له.
و أما ثالثا فانّ قوله: و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الاسلام بالكليّة حقّ لا ريب فيه، و لكن قوله: فانّ كثيرا من أصحابنا يطعنون في ايمان بعض ما ذكرناه و يعدّونهم من المنافقين، فيه أنّ تخصيص الارتداد و النّفاق ببعض من ذكره لا وجه له، بل كلّ من ذكره و ذكرناه مطعون منافق ملعون.
و قد ورد في غير واحد من أحاديثنا و إن لم يكن حجّة على العامّة، ارتدّ النّاس إلّا ثلاثة نفر: سلمان، و أبو ذر، و المقداد.
و روى في غاية المرام عن ابن شهر آشوب من طريق العامّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ».
يعني بالشّاكرين عليّ بن أبي طالب، و المرتدّين على أعقابهم الّذين ارتدّوا عنه.
فقد ظهر بذلك أنّ الارتداد عن الاسلام في الحقيقة هو الارتداد عن أمير المؤمنين فكلّ من ارتدّ عنه فقد ارتدّ عنه، و التّخصيص بقوم دون قوم تعسّف و تعصّب.
و أما رابعا فانّ قوله: بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر، بعيد و جعل الواو للاستيناف سخيف، و العطف في مطلق الحدث خلاف الظّاهر، و القياس على الآية فاسد، لأنّ العاطف هنا هي الواو، و هى للجمع و التّشريك، و الكلام من باب التنازع، فيدلّ على وقوع الجملات المتعاطفة في زمان القبض إن قلنا إنّ العامل في إذا الشرطيّة هو الجواب دون الشّرط، و أمّا الآية فالعاطف فيها هي الفاء و هي تفيد التّرتيب و التّعقيب، فلا يلزم من عدم وقوع إقامة الجدار حين الاتيان هناك عدم وقوع نقل البناء حين القبض فيما نحن فيه.
و التّحقيق أنّ قوله: فأقامه، عطف على قوله: فوجدا، و ليس عطفا على استطعما، فلا يلزم عمله في الظّرف لأنّ المعطوف على المعطوف على الجواب لا يجب أن يكون مشتركا للجواب في جميع الأحكام و عاملا فيما يعمله، بخلاف المعطوف على نفس الجواب.
و هذا كلّه مبنيّ على التنزّل و المماشاة، و إلّا فنقول: إنّ إقامة الجدار قد كانت حال إتيان القرية و التراخى بزمان ما لا ينافيه، لأنّهم قد صرّحوا في إفادة الفاء للتعقيب أنّه في كلّ شي ء بحسبه، فيقال: تزوّج فلان فولد له ولد، إذا لم يكن بينهما إلّا مدّة الحمل، و دخلت البغداد فالبصرة إذا لم يقم في بغداد و لم يتوقّف بين البلدين.
هذا على قول بعض المفسّرين من أنّه نقض الجدار و بناه، و أمّا على قول من قال إنّه أقامه بيده، و كذا على قول من قال: إنّه مسحه بيده فقام، كما رواه في الكشّاف و غيره عن البعض الآخرين فلا يكون هناك تراخ أصلا، إذ لا فرق بين الاشارة باليد كما فرضه الشّارح و بين المسح بها كما رواه الزّمخشري.
ثمّ استبعاد الشّارح لذلك بأنّه لو كان على هذا الوجه لم يستحقّ اجرة لأنّ الاجرة إنّما يكون على اعتمال عمل فيه مشقّة، مدفوع بأنّ الاجرة إنّما هى على عمل فيه منفعة للغير سواء كان فيه مشقّة أم لا، لا سيّما عمل له منفعة عظيمة مثل إقامة الجدار، فقد قيل كما في الكشّاف: إنّ طوله في السّماء مأئة ذراع.
و أما خامسا فانّ قوله: و اعلم أنّا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام آه، تمويه باطل بصورة الحقّ، فانّ سودد أمير المؤمنين عليه السّلام و منصبه و حلمه إنّما كان مقتضيا للعفو و الصّفح و الاغضاء و الاغماض فيما يتعلّق بأمر الدّنيا، و قد كان عليه السّلام كذلك حسبما عرفت من مكارم أخلاقه في تضاعيف الشّرح و تعرفه بعد ذلك في مواقعه انشاء اللَّه أيضا، و أمّا أمر الدّين و ما فيه صلاح الشّرع المبين فلا يجوز له فيه الاغضاء و الاغماض أصلا، بل لا بدّ له من باب اللّطف و الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر التّنبيه على هفوات المتخلّفين الضالين المضلّين الغاصبين للخلافة من دون أن يأخذه في اللَّه لومة لائم، ليتنبّه النّاس من مراقد الغفلة، و يلتفتوا إلى سوء ما فعلوه من البدعات المبتدعة، و يرتدعوا عن حسن الاعتقاد و الظنّ لهم، و لا يتّخذوا من دون اللَّه و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة.
و أما سادسا فانّ قوله: فان بعد ذلك فليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد و العدل الآيات المتشابهة، فيه أنّ تأويلنا للآيات المتشابهة مثل قوله «وَ جاءَ رَبُّكَ» و «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» و «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » و نحوها إنما هو لقيام الأدلّة القاطعة و البراهين العقلية و النقلية و الاصول المحكمة الملجئة لنا على التأويل، و أما فيما نحن فيه فأيّ دليل و برهان و داع دعى إلى التأويل و أىّ أصل محكم اقتضى ذلك لو لم يقتض خلافه و غير خفيّ على الخبير المنصف المجانب للتعصّب و التعسّف أنّ أهل السّنّة حيث ضاق بهم الخناق لم يبق لهم إلّا التمسك بحسن الظنّ على السلف، و الحال أنّ الظنّ لا يغنى من الحقّ شيئا، و اللَّه الهادي إلى سواء السبيل.
|