و هو المأة و السادس و السبعون من المختار في باب الخطب فأجمع رأي ملإكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن و لا يجاوزاه، و تكون ألسنتهما معه، و قلوبهما تبعه، فتاها عنه، و تركا الحقّ و هما يبصرانه، و كان الجور هواهما، و الاعوجاج رأيهما، و قد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل و العمل بالحقّ سوء رأيهما، و جور حكمهما، و الثّقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحقّ، و أتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم.
اللغة
(الملاء) أشراف النّاس و رؤساهم و مقدّموهم الّذين يرجع إلى قولهم قال في محكىّ النهاية: في حديث عليّ عليه السّلام أن (يجعجعا عند القرآن) أى يقيما عنده يقال: جعجع القوم إذا أناخوا بالجعجاع، و هى الأرض و الجعجاع أيضا الموضع الضيق الخشن و (التبع) محرّكة التابع يكون مفردا و جمعا و يجمع على أتباع مثل سبب و أسباب.
الاعراب
سوء رأيهما بالنّصب مفعول استثنائنا أو سبق أيضا على سبيل التنازع و الأوّل أظهر و قوله: في الحكم، متعلّق بقوله: سبق.
المعنى
قال الشارح البحراني: هذا الفصل من خطبة خطبها لما بلغه أمر الحكمين.
أقول: و الظاهر أنه ره توهّم من قول السيّد ره و من كلام له في معنى الحكمين أنّه تكلّم به حين بلغه أمرهما، فان كان ظفر بتمام الخطبة و اطلع على أنه خطبها حين بلوغ أمرهما فهو، و إلّا فالظاهر أنّ هذا الكلام من فصول الاحتجاجات الّتي كانت له مع الخوارج و قد مرّ نظير هذا الكلام منه في ذيل الكلام المأة و السابع و العشرين.
و بالمراجعة إلى شرح الكلام المذكور و شرح الكلام المأة و الخامس و العشرين المتضمّنين لاحتجاجاته معهم يظهر لك توضيح ما ذكره في هذا المقام و تعرف أنه ناظر إلى ردّ احتجاجهم الّذي احتجّوا به عليه و هو: أنك قد حكمت الرّجال في دين اللّه و لم يكن ذلك إليك ثمّ أنكرت حكمهما لما حكموا عليك.
فأجابهم عليه السّلام بقوله (فأجمع رأى ملإكم) أى عزم رؤساءكم و كبراءكم و اتّفق آراءهم (على أن اختاروا رجلين) هما أبو موسى الأشعرى و عمرو بن العاص لعنهما اللّه تعالى من غير رضى منّى بتحكيمهما بل على غاية كره منّى بذلك.
كما يدلّ قوله لابن الكوا في النهروان في الرّواية الّتي رويناها من كشف الغمّة في شرح الخطبة السادسة و الثلاثين حيث إنّه لما اعترض عليه بأمر الحكمين قال عليه السّلام له: أ لم أقل لكم إنّ أهل الشام يخدعونكم بها«» فانّ الحرب قد عضتهم فذرونى اناجزهم فأبيتم ألم ارد نصب ابن عمّي- أى عبد اللّه بن العبّاس- و قلت انّه لا ينخدع فأبيتم إلّا أبا موسى و قلتم رضينا به حكما فأجبتكم كارها و لو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم.
(فأخذنا عليهما) أى على الرّجلين الحكمين (أن يجعجعا عند القرآن) أى يقفا دونه و يجب نفسهما عليه (و لا يجاوزاه) أى لا يتجاوزا عن أوامره و نواهيه (و يكون ألسنتهما معه و قلوبهما تبعه) أى يكونان تابعين له و يعملان بحكمه (فتاها) أى ضلّا (عنه و تركا الحقّ و هما يبصرانه) أى عدلا عن القرآن و عن حكمه الحقّ الّذي هو خلافته مع علمهما و معرفتهما بحقيته كما عرفت تفصيل ذلك كلّه في شرح الخطبة الخامسة و الثلاثين.
و الحاصل أنّهما تركا الحقّ عمدا عن علم لا عن جهل و لم يكن ذلك فتنة منهما بل كان بنائهما من أوّل الأمر على ذلك (و كان الجور) و الحيف في الحكم (هواهما و الاعوجاج) عن الحقّ و الانحراف عن الدّين (رأيهما) و في بعض النسخ دأبهما و هو أولى أى لم يكن ذلك أوّل حيفهما بل كان ديدنا و عادة لهما و شيمة طبعت عليها قلوبهما.
ثمّ أجاب عمّا نقموا عليه من إنكاره التحكيم بعد رضاه به بقوله (و قد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل و العمل بالحقّ سوء رأيهما و جور حكمهما) أراد به ما كان شرطه على الحكمين حين عزموا على التحكيم أن يحكما بما حكم القرآن و بما أنزل اللّه فيه من فاتحته إلى خاتمته و إلّا فلا ينفذ حكمهما فيه و في أصحابه، فقد قدّم عليه السّلام إليهما أن لا يعملا برأيهما و هواهما و لا يحكما بشي ء من تلقاء أنفسهم الأمّارة بالسوء.
(و الثقة في أيدينا لأنفسنا) أى إنّا على برهان و ثقة من امورنا و ليس يلازم لنا اتباع حكمهما (حين خالفا سبيل الحقّ) و انحرفا عن سواء السبيل (و أتيا بما لا يعرف) أى لا يصدق به (من معكوس الحكم) يعني أنهما نبذا كتاب اللّه وراء ظهورهم و خالفاه و حكما بعكس حكم الكتاب و قد استحقّا به اللّؤم و العقاب يوم الحساب
|