و من خطبة له عليه السّلام في ذمّ أصحابه
و هى المأة و التاسعة و السبعون من المختار في باب الخطب
أحمد اللّه على ما قضى من أمر، و قدّر من فعل، و على ابتلائي بكم أيّتها الفرقة الّتي إذا أمرت لم تطع، و إذا دعوت لم تجب، إن أمهلتم خضتم، و إن حوربتم خرتم، و إن اجتمع النّاس على إمام طعنتم، و إن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم، لا أبا لغيركم، ما تنتظرون بنصركم، و الجهاد على حقّكم، الموت أو الذّلّ لكم، فو اللّه لئن جاء يومي- و ليأتينيّ- ليفرّقنّ بيني و بينكم و أنا لصحبتكم قال، و بكم غير كثير
اللغة
(أمهله) اى رفق به و أخّره و في بعض النسخ أهملتم أى تركتم و (خرتم) بالخاء المعجمة و الراء المهملة من الخور بمعنى الضعف أو من خوار الثور و هو صياحه قال تعالى: «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ»، و عن بعض النسخ جرتم بالجيم من جار أى عدل عن الحقّ و (طعنتم) في بعض النسخ بالظاء المعجمة ارتحلتم و فارقتم و (أجبتم) بالجيم و الباء المعجمة على البناء على المعلوم من أجاب إجابة، و في نسخة الشارح المعتزلي اجئتم بالهمزة الساكنة بعد الجيم المكسورة و البناء على المجهول أى الجئتم قال تعالى: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ». و (النكوص) الرجوع إلى ما وراء قال تعالى: «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ»
الاعراب
يحتمل أن يكون ما في قوله: على ما قضا، مصدريّة و موصولة فيكون العايد محذوفا. و قوله: لا أبا لغيركم قال الشارح البحراني: أصله لا أب و الالف زايدة إمّا لاستثقال توالى أربع فتحات، أو لانّهم قصدوا الاضافة و أتوا باللّام للتأكيد. أقول: و يؤيّد الثاني ما حكاه نجم الأئمة عن سيبويه من زيادة اللّام في لا أبالك و قال الشارح المعتزلي: الأفصح لا أب بحذف الألف، و أمّا قولهم لا أبالك باثباته فدون الأوّل في الفصاحة، كأنّهم قصدوا الاضافة و أقحموا اللّام مزيدة مؤكدة كما قالوا: يا تيم تيم عدىّ«» و هو غريب لأنّ حكم لا أن تعمل في النكرة فقط و حكم الألف أن تثبت مع الاضافة و الاضافة تعرف فاجتمع حكمان متنافيان فصار من الشواذ و قال أبو البقاء يجوز فيها وجهان آخران: أحدهما أنه أشبع فتحة الباء فنشأت الالف و الاسم باق على تنكيره و الثاني أن يكون أبا لغة من قال لها أبا في جميع أحوالها، مثل عصا و منه: إنّ أباها و أبا أباها. و قوله: الموت أو الذّل لكم، في أكثر النسخ برفعهما و في بعضها بالنّصب أمّا الرفع فعلى الابتداء و لكم خبر و الجملة دعائيّة لا محلّ لها من الاعراب، و أمّا النصب فبتقدير أرجو و أطلب فتكون دعائية أيضا، و تحتمل الاستفهام أى أ تنتظرون. و قوله: فو اللّه لئن جاء يومى و ليأتيّنى ليفرقنّ آه، جملة ليفرقنّ جواب للقسم و استغنى بها عن جواب الشرط، و جملة و ليأتينّى معترضة بين القسم و الشرط و جوابيهما المذكور و المحذوف و تعرف نكتة الاعتراض في بيان المعنى و جملة: و أنا لصحبتكم قال، منصوبة المحلّ على الحال، و بكم متعلّق بغير كثير قدّم عليه للتوسّع.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام كما نبّه عليه السيّد (ره) وارد في ذمّ أصحابه و التوبيخ لهم، و الأشبه أنه عليه السّلام قاله بعد التّحكيم و انقضاء أمر الحكمين تقريعا لأصحابه على القعود عن قتال معاوية، فافتتح كلامه بحمد اللّه تعالى و ثنائه على ما جرى عليه سيرته في أغلب كلماته الواردة في مقام الخطابة فقال: (الحمد للّه على ما قضا من أمر و قدر من فعل) يحتمل أن يريد بقوله قضا و قدر معنى واحدا و كذلك الأمر و الفعل فيكونان مترادفين كالفعلين، و أن يريد بالقضاء الحكم الالهى بوجود الأشياء، و بعبارة اخرى هو عالم الأمر و لذا فسّره بقوله: من أمر، و بالقدر ما قدره من الخلق و الايجاد و بعبارة اخرى هو عالم الخلق و لذا بيّنه بقوله: من فعل، فيكون المعنى الثناء للّه على قضائه و قدره أى على أمره و فعله أو على ما قضاه و قدره على مقتضياته من الأوامر و الأحكام، و على مقدراته من الصنائع و الأفعال و قد مضى تفصيل الكلام مشبعا في معنى القضاء و القدر في شرح الفصل
التاسع من الخطبة الأولى.
و أقول هنا: إنّ قوله عليه السّلام هذا مؤيّد لما ذهب إليه اتباع الاشراقيّين من أنّ القضاء عبارة عن وجود الصور العقلية لجميع الموجودات فايضة عنه تعالى على سبيل الابداع دفعة بلا زمان، لكونها عندهم من جملة العالم و من أفعال اللّه تعالى المباينة و ذاتها لذاته، خلافا لاتباع المشّائين كالشيخ الرئيس و من يحذو حذوه فانه عندهم عبارة عن صور علمية لازمة لذاته بلا جعل و تأثير و تأثّر، و ليست من أجزاء العالم، إذ ليست لها جهة عدمية و لا إمكانات واقعية.
و أمّا القدر فهو عبارة عن وجود صور الموجودات في العالم السماوى على الوجه الجزئي مطابقة لما في موادّها الخارجية الشخصيّة مستندة إلى أسبابها و عللها لازمة لأوقاتها المعيّنة و أمكنتها المشخّصة هذا.
و على ما استظهرناه من ورود هذا الكلام عنه عليه السّلام بعد التحكيم فيجوز أن أن يراد بما قضاه و قدره خصوص ما وقع من أمر الحكمين و إفضاء الأمر إلى معاوية، فإنّ كل ما يقع في العالم فلا يكون إلّا بقضاء من اللّه و قدر، فيكون مساق هذا الكلام مساق قوله عليه السّلام في الخطبة الخامسة و الثلاثين: الحمد للّه و ان أتى الدّهر بالخطب الفادح و الحدث الجليل.
فان قلت: فما معنى حمده على وقوع هذا الأمر مع أنه ليس نعمة موجبة للثناء قلت: اللّازم على العبد الكامل في مقام العبوديّة و البالغ في مقام العرفان أن يحمد اللّه على بلاء اللّه سبحانه كما يحمد على نعمائه حسبما عرفت توضيحه في شرح قوله: نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه في الخطبة المأة و الاحدى و الثلاثين، و لما كان وقوع ما وقع بليّة له عليه السّلام في الحقيقة لا جرم حمد اللّه سبحانه على ذلك.
و يفيد ذلك أيضا قوله (و على ابتلائى بكم) خصوصا ما يروى في بعض النسخ على ما ابتلانى بكم (أيّتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع و اذا دعوت لم تجب) و الاتيان بالموصول لزيادة التقرير أعنى تقرير الغرض المسوق له الكلام، فانه لما بيّن ابتلائه بهم إجمالا عقّبه بتفصيل جهات الابتلاء، و هو كونهم مخالفين له في جميع الأحوال متمرّدين عن طاعته عند الأمر بالقتال، متثاقلين عن إجابته عند الدّعوة إلى الحرب و الجدال.
(إن امهلتم) و عن بعض النسخ إن اهملتم أى تركتم على حالكم (خضتم) في لهو الحديث و فى الضلالة و الأهواء الباطلة (و إن حوربتم خرتم) أى ضعفتم و جبنتم أو صحتم ضياح الثور، و عن بعض النسخ جرتم بالجيم أى عدلتم عن الحرب فرارا (و إن اجتمع الناس على إمام) أراد به نفسه (طعنتم) على المجتمعين (و إن اجبتم الى مشاقة) عدوّ أى مقاطعته و مصارمته (نكصتم) على أعقابكم و رجعتم محجمين (لا أبا لغيركم) دعاء بالذّل و فيه نوع تلطّف لهم حيث قال لغيركم و لم يقل لكم (ما تنتظرون) استفهام على سبيل التقريع و التوبيخ أى أىّ شي ء تنتظرونه (بنصركم) أى بتأخير نصرتكم لدين اللّه (و) بتأخير (الجهاد على حقكم) اللّازم عليكم و هو إعلاء كلمة اللّه (الموت أو الذّل لكم) قال الشارح المعتزلي: دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين كأنّه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلّى و هو الموت ثمّ استدرك فقال أو الذّل، لأنّه نظير الموت في المعنى لكنه في الصّورة دونه، و لقد اجيب دعائه عليه السّلام بالدعوة الثانية فانّ شيعته ذلّوا بعده في الأيام الأمويّة.
أقول: و قد مضي له معني آخر في بيان الاعراب و على ذلك المعني ففيه اشارة إلى أنّ تأخير الجهاد إمّا مؤدّ إلى الموت على الفراش أو الذّل العظيم على سبيل منع الخلوّ، و أهل الفتوّة و المروّة لا يرضي بشي ء منهما، و القتل بالسيف في الجهاد عندهم ألذّ و أشهى كما مرّ بيانه في شرح المختار المأة و الثاني و العشرين.
ثمّ اقسم بالقسم البارّ بأنه إذا جاء موته ليكون مفارقته لهم عن قلى و بغض فقال (فو اللّه لئن جاء يومي) الموعود (و ليأتينّى) جملة معترضة أتي بها لدفع ايهام خلاف المقصود.
بيان ذلك أنّ لفظة إن و إذا الشرطيّتين تشتركان في إفادة الشرط في الاستقبال لكن أصل إن أن يستعمل في مقام عدم الجزم بوقوع الشرط و أصل إذا أن يستعمل في مقام الجزم بوقوعه، و لذلك كان الحكم النادر الوقوع موقعا لان لكونه غير مقطوع به في الغالب، و الحكم الغالب الوقوع موردا لاذا و غلب لفظ الماضي معها لدلالته على الوقوع قطعا نظرا إلى نفس اللفظ و إن نقل ههنا الى معني الاستقبال قال سبحانه مبيّنا لحال قوم موسى عليه السّلام: «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ» جي ء في جانب الحسنة بلفظ الماضي مع إذا لأنّ المراد الحسنة المطلقة التي وقوعها مقطوع به و لذلك عرفت بلام الجنس لأنّ وقوع الجنس و الماهية كالواجب لكثرته و وسعته، و في جانب السيئة بلفظ المضارع مع إن لندرتها و قلّتها و لذلك نكرت لدلالة التنكير على التقليل.
اذا عرفت ذلك فنقول: إنّ موته عليه السّلام لما كان أمرا محقّقا معلوم الوقوع كان المقام مقتضيا للاتيان باذا، لكنه أتى بان الموهمة لعدم جزمه عليه السّلام به.
فاستدرك ذلك أوّلا بالعدول في الشرط عن الاستقبال إلى الماضي حيث قال: جاء يومي و لم يقل يجي ء إبرازا لغير الحاصل في معرض الحاصل و كون ما هو للوقوع كالواقع بقوّة أسبابه المعدّة له مع ما فيه من إظهار الرغبة و الاشتياق الى حصول الشرط، فانّ الطالب إذا عظمت رغبته في حصول أمر يكثر تصوّره إياه فربما يخيل ذلك الأمر إليه حاصلا فيعتبر عنه بلفظ الماضي.
و استدركه ثانيا بقوله: و ليأتينّي، فنبّه عليه السّلام بهذين الاستدراكين على أنّه جازم بمجي ء يومه الموعود قاطع به و أنّ مجيئه قريب الوقوع و هو مشتاق اليه و أشدّ حبّا له من الطفل بثدى امّه كما صرّح به في غير واحدة من كلماته، و هذا من لطايف البلاغة و محسّناتها البديعة الّتي لا يلتفت إليها إلّا مثله عليه السّلام هذا.
و قوله (ليفرقنّ بيني و بينكم و أنا بصحبتكم قال) يعني إذا جاء مماتى يكون فارقا بيننا و الحال أنى مبغض لكم مستنكف عن مصاحبتكم (و بكم غير كثير) أى غير كثير بسببكم قوّة و عدة لأنّ نسبتكم إلىّ كالحجر في جنب الانسان لا أعوان صدق عند مبارزة الشجعان، و لا إخوان ثقة يوم الكريهة و مناضلة الأقران (للّه أنتم) أى للّه درّكم و هو دار و في مقام التعجّب و المدح تلطفا قال العلّامة المجلسي ره: و لعلّه للتعجّب على سبيل الذمّ. أقول: إن أراد انفهام الذمّ منه بقرينة المقام فلا بأس و إلّا فهو خلاف ما اصطلحوا عليه من استعمالها في مقام المدح حسبما عرفته تفصيلا في شرح الاعراب.
|