لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا، و لم يلد فيكون موروثا هالكا، و لم يتقدّمه وقت و لا زمان، و لم يتعاوره زيادة و لا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن، و القضاء المبرم. فمن شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد، قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات، غير متلكّئات و لا مبطئات، و لولا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة، و إذعانهنّ بالطّواعية، لما جعلهنّ موضعا لعرشه، و لا مسكنا لملائكته، و لا مصعدا للكلم الطّيّب و العمل الصّالح من خلقه، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل المظلم، و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السّموات من تلالؤ نور القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج، و لا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات، و لا في يفاع السّفع المتجاورات، و ما يتجلجل به الرّعد في أفق السّماء، و ما تلاشت عنه بروق الغمام، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السّماء، و يعلم مسقط القطرة و مقرّها، و مسحب الذّرّة و مجرّها، و ما يكفى البعوضة من قوتها، و ما تحمل الانثى في بطنها.
اللغة
(العمد) جمع عماد على خلاف القياس قال سبحانه: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ و (تلكأ) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و (الطواعية) وزان ثمانية الطاعة و (المختلف) الاختلاف و التردّد أو موضعه أو من المخالفة و (الفجّ) الطريق الواسع بين الجبلين و(السجف) بالفتح و الكسر الستر و الجمع سجوف و أسجاف و (الحنادس) جمع الحندس وزان زبرج اللّيل شديد الظلمة و (اليفاع) و اليفع محرّكة التلّ و (السفع) بالضمّ جمع سفعة و هو من الألوان ما اشرب حمرة و (المسقط) اسم مكان كمقعد و مجلس. و (الأنواء) جمع نوء و هو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب من الفجر و طلوع رقيبه من المشرق مقابلا له من ساعته و ستعرف زيادة تحقيق له في بيان المعنى و (القطر) الجانب و الناحية
الاعراب
من في قوله: و العمل الصّالح من خلقه، ابتدائيّة نشويّة، و قوله: فى مختلف فجاج آه، متعلّق بالحيران أو بقوله: يستدلّ، قوله: لم يمنع ضوء نورها ادلهمام، في أكثر النسخ برفع ادلهمام على أنّه فاعل يمنع و نصب ضوء على أنّه مفعوله، و في بعض النسخ بالعكس قال الشارح المعتزلي: و هذا أحسن و ستعرف وجه الحسن في بيان المعنى.
المعنی
(راغبا مجتهدا) أى راغبا في الالجاء مجدّا في الرغبة و الالتجاء علما منه بأنّه الملاذ و الملجاء، هذا و لما حمد اللّه سبحانه و استعان منه و امن به أخذ في تنزيهه و تقديسه باعتبارات سلبيّة و إضافية هي غاية وصف الواصفين و منتهى درك الموحّدين فقال (لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا) أى ليس له والد حتّى يكون له شريك في العزّ و الملك لجريان العادة بكون والد العزيز عزيزا غالبا (و لم يلد فيكون موروثا هالكا) أى ليس له ولد حتّى يهلك و يرثه ولده كما هو الغالب عادة من موت الوالد قبل الولد و وارثة الولد عنه و برهان تنزّهه سبحانه عنهما أنهما من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسميّة فهو يفيد لنفي تولّده سبحانه عن شي ء و نفى تولّد شي ء عنه بالمعنى المعروف في الحيوان.
و يدلّ على تنزّهه سبحانه عن ذلك مطلقا ما رواه في البحار و الصافى من كتاب التوحيد للصّدوق بسنده عن وهب بن وهب القرشي قال: حدّثنى الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه الباقر عن أبيه عليهم السّلام أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علىّ عليه السّلام يسألونه عن الصّمد، فكتب إليهم: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فلا تخوضوا فى القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده في النار، و أنه سبحانه قد فسّر الصمد فقال اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ثمّ فسّره فقال لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، لم يلد لم يخرج منه شي ء كثيف كالولد و ساير الأشياء الكثيفة الّتى تخرج من المخلوقين و لا شي ء لطيف كالنفس و لا ينشعب منه البدوات كالسنّة و النوم و الخطرة و الهمّ و الحزن و البهجة و الضحك و البكاء و الخوف و الرجاء و الرغبة و السّامة و الجوع و الشبع تعالى أن يخرج منه شي ء و أن يتولّد منه شي ء كثيف، أو لطيف، و لم يولد لم يتولّد من شي ء و لم يخرج من شي ء كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشي ء من الشي ء و الدابّة من الدابّة، و النبات من الأرض، و الماء من الينابيع، و الثمار من الأشجار، و لا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين، و السّمع من الاذن، و الشمّ من الانف، و الذوق من الفم، و الكلام من اللسان، و المعرفة و التميز من القلب، و كالنار من الحجر، لا بل هو اللّه الصّمد الّذى لا من شي ء و لا في شي ء و لا على شي ء، مبدع الأشياء و خالقها و منشي ء الأشياء بقدرته يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته و يبقي ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم اللّه الصمد الّذى لم يلد و لم يولد عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال، و لم يكن له كفوا أحد (و لم يتقدّمه وقت و لا زمان) قال الشارح المعتزلي: الوقت هو الزمان و إنما خالف بين اللفظين و أتى بحرف العطف تفنّنا، و قال الشارح البحراني: الوقت جزء الزمان، و قال العلّامة المجلسي ره: و يمكن حمل أحدهما على الموجود و الاخر على الموهوم، و على أىّ تقدير فهو خالقهما و مبدعهما و مقدّم عليهما فكيف يتصوّر تقدّمهما عليه تعالى.
(و لم يتعاوره) أى لم يختلف و لم يتناوب عليه (زيادة و لا نقصان) لاستلزامهما التغير المستلزم للامكان المنزّه قدسه عزّ و جلّ عنه.
فان قلت: كان اللّازم أن يقال زيادة و نقصان لأنّ التعاور يقتضي الضدّين معا كما أنّ الاختلاف كذلك تقول: لم يختلف زيد و عمرو و لا تقول لم يختلف زيد و لا عمرو.
قلت: أجاب عنه الشارح المعتزلي بأنّ مراتب الزيادة لما كانت مختلفة جاز أن يقال: لا يعتوره الزيادة، و كذلك القول في جانب النقصان و جرى كلّ واحد من النوعين مجرى أشياء متنافية يختلف على الموضع الموصوف بها. (بل ظهر للعقول) و تجلّى للبصائر (بما أرانا من علامات التدبير المتقن) المحكم (و) آيات (القضاء المبرم) في الأنفس و الافاق في أصناف الموجودات و أنواع المصنوعات المبدعة على أحسن نظام و أتقن انتظام على ما عرفت تفصيلا و تحقيقا في شرح المختار التاسع و الأربعين. و نزيد عليه ايضاحا و تاكيدا ما قاله الصادق عليه السّلام للمفضل بن عمر في حديثه المعروف: يا مفضّل أوّل العبر و الأدلّة على البارى جلّ قدسه تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هى عليه، فانّك إذا تأمّلت العالم بفكرك و ميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنىّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسّماء مرفوعة كالسّقف و الأرض ممدودة كالبساط، و النجوم منضودة كالمصابيح، و الجواهر مخزونة كالذخائر، و كلّ شي ء فيها لشأنه معدّ، و الانسان كالمملك ذلك البيت و المخوّل جميع ما فيه، و ضروب النبات مهيّأة لماربه، و صنوف الحيوان مصروفة فى مصالحه و منافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير و حكمة و نظام و ملايمة و أنّ الخالق له واحد، و هو الّذى ألفه و نظمه بعضا إلى بعض جلّ قدسه و تعالى جدّه و كرم وجهه و لا إله غيره، تعالى عمّا يقول الجاحدون و جلّ و عظم عما ينتحله الملحدون، هذا.
و لما ذكر اجمالا أنّه تعالى تجلّي للعقول بما أظهر من آيات القدرة و علامات التدّبر أراد أن يشير إلى بعض تلك الايات تفصيلا و هو خلق السماوات.
فقال (فمن شواهد خلقه) أى آيات الابداع و علامات التدبّر المحكم أو ما يشهد من الخلق بوجوده سبحانه و تدبيره و علمه أو ما حضر من خلقه أى ظهر وجوده بحيث لا يمكن لاحد إنكاره من آيات تدبيره تعالى (خلق السماوات) و تخصيصها من بين ساير الشواهد بالبيان لكونها من أعظم شواهد القدرة، و أظهر دلايل الرّبوبيّة، و أوضح علائم التدبير حيث خلقت (موطدات) أى محكمات الخلقة مثبتات في محالها على وفق النظام و الحكمة (بلا عمد) ترونها و لا دسار ينتظمها (قائمات) في الجوّ (بلا سند) يكون عليه استنادها و به اعتمادها (دعاهنّ) سبحانه فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً (فأجبن طائعات) كما قال حكاية عنها و عن الأرض: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ و لفظ الدّعا و الاجابة في كلام الامام عليه السّلام إمّا محمولان على حقايقهما نظرا إلى أنّ للسّماوات أرواحا مدبّرة عاقلة كما هو قول بعض الحكماء و المتكلّمين أو نظرا إلى أنّه تعالى خاطبها و أقدرها على الجواب.
و إمّا محمولان على المجاز و الاستعارة تشبيها لتأثير قدرته تعالى فيها و تأثّرها عنها بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله: كُنْ فَيَكُونُ، و هذا هو الأظهر و يؤيّده ما حكي عن ابن عباس في تفسير الاية المتقدّمة أعني قوله: أَتَيْنا طائِعِينَ، أنه قال أتت السماء بما فيها من الشمس و القمر و النجوم، و أتت الأرض بما فيها من الأنهار و الأشجار و الثمار، و ليس هناك أمر ما بقول حقيقة و لا جواب لذلك القول بل أخبر سبحانه عن اختراعه للسماوات و الأرض و إنشائه لهما من غير تعذّر و لا كلفة و لا مشقّة بمنزلة ما يقال افعل فيفعل من غير تلبّث و لا توقّف و لا تأنّ و هو كقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
و من ذلك علم أنّ قوله: (مذعنات غير متلكّئات و لا مبطئات) أراد به انقيادهنّ من غير توقّف و لا إبطاء في الاصابة و خضوعهنّ في رقّ الامكان و الحاجة و اعترافهنّ بلسان الذّل و الافتقار بوجوب وجود مبدعها و عظمة سلطان مبدئها.
(و لولا) اعترافهنّ و (اقرارهنّ له بالربوبيّة) و القدرة و العظمة و لأنفسهنّ بالامكان و الذلّ و الحاجة (و اذعانهنّ بالطواعية) و الامتثال لبارئهنّ (لما جعلهنّ موضعا لعرشه) قال الشارح البحراني إقرارهنّ بالرّبوبيّة راجع إلى شهادة لسان الحال الممكن بالحاجة إلى الرّب و الانقياد لحكم قدرته، و ظاهر أنه لو لا امكانها و انفعالها عن قدرته و تدبيره لم يكن فيها عرش و لم يكن أهلا لسكنى الملائكة و صعود الكلم الطيّب المشار اليه بقوله (و لا مسكنا لملائكته) و لعلّ المراد بهم المقرّبون أو الأكثر لأنّ منهم من يسكن الهواء و الأرض و الماء (و لا مصعدا للكلم الطيّب) و هو شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و العمل الصالح) الصادر (من خلقه) و هو الخيرات و الحسنات من الفرائض و المندوبات.
و المراد لصعودهما صعود الكتبة بصحايف الأعمال إليها و إليه الاشارة بقوله سبحانه و تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، هذا و قد تقدّم في تذييلات الفصل الثامن من الخطبة الأولى و في شرح الفصل الرابع من الخطبة التسعين فصل واف في عجائب خلقة السماء و ما أبدعه اللّه سبحانه فيها من دلائل القدرة و آيات التدبير و الحكمة فانظر ما ذا ترى، و لشرافتها و كون مادّتها أقبل خصّ عليه السّلام هنا طاعتها بالذكر و إن كانت الأرض مشاركة لها في الطاعة مذكورة معها في الاية.
و لما ذكر خلق السماوات و كونها من شواهد الرّبوبيّة و أدلّة التوحيد استطرد إلى ذكر النجوم و الكواكب لما فيها من بدايع التدبير و عجايب التقدير، و قد مرّ في الفصل الثامن من فصول المختار الأوّل و الفصل الرابع من المختار التسعين و شرحيهما منه عليه السّلام و منّا جملة وافية من الكلام عليها و أشار هنا إلى بعض منافعها فقال: (جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران) أى جعلها علامات يهتدى بها المتحيّرون كما قال عزّ من قائل: وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (في مختلف فجاج الأقطار) أى يستدلّ بها الحيارى في اختلاف فجاج الأقطار و تردّدها، أو في محلّ اختلافها أو في حال مخالفة الفجاج الموجودة في أقطار الأرض و نواحيها و ذهاب كلّ منها إلى جهة غير ما يذهب إليه الاخر.
(لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم) أى شدّة ظلمة ستر اللّيل ذى الظلمة لم تكن مانعة من إضاءة النجوم، و على رواية ادلهمام بالنصب فالمعنى أنّ ضوء نورها لم يمنع من ظلمة الليل.
(و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس) أى أثواب سواد الليال المظلمة شديدة الظلمة لم تكن مستطيعة من (أن تردّ ما شاع) و ظهر (في السماوات من تلألؤ نور القمر) و لمعانه.
قال الشارح المعتزلي بعد روايته عن البعض نصب لفظ الادلهمام: و هذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج أى لا القمر و الكواكب تمنع الليلة من الظلمة، و لا الليل يمنع الكواكب و القمر من الاضاءة أقول: و محصّل مقصود الامام عليه السّلام إنّ اللّه سبحانه لما قدّر بلطيف حكمته أن يجعل الليل سباتا و راحة للخلق جعلها مظلمة لأنّ كثيرا من الناس لو لا ظلمتها لم يكن لهم هدء و لا قرار حرصا على الكسب و الجمع و الادخار مع عظم حاجتهم إلى الهدؤ و الراحة لسكون أبدانهم و جموم حواسّهم و انبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء و لما كان شدّة ظلمتها و كونها داحية مدلهمة مانعة عن جميع الأعمال و ربما كان الناس محتاجين إلى العمل فيها لضيق الوقت عليهم في تقضى الأعمال بالنهار أو شدّة الحرّ و إفراطه المانع من الزرع و الحرث و قطع الفيافي و الأسفار جعل ببديع صنعه فيها كواكب مضيئة و قمرا منيرا و ليهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر و الطرق المجهولة، و يقام بالأعمال من الزرع و الغرس و الحرث و غيرها عند مسيس الحاجة، و جعل نورها ناقصا من نور الشمس كيلا يمنع من الهدؤ و الراحة.
(فسبحان من) جعل النور و الظلام على تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه و سبحان من هو بكلّ شي ء محيط حتّى لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء و (لا يخفى عليه سواد غسق داج) أى ظلمة مظلمة و العطف للمبالغة من قبيل شعر شاعر (و لا ليل ساج) أى ساكن و فى الاسناد توسّع باعتبار سكون الناس و هدؤهم فيها (في بقاع الأرضين المتطاطئات) المنخفضات (و لا في يفاع السفع المتجاورات) أى في مرتفع الجبال المتجاورة و انما عبر عن الجبال بالسفع لأنّ لونها غالبا مشرب حمرة، و لا يخفى ما فيما بين لفظ البقاع و اليفاع من جناس الخط و هو من محاسن البديع حسبما عرفته في ديباجة الشرح. (و) لا يخفي عليه عزّ و جلّ أيضا (ما يتجلجل) و يصوت (به الرّعد في افق السماء) و أراد بتجلجله تسبيحه المشار إليه في قوله تعالى: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ قال الطبرسى: تسبيح الرّعد دلالته على تنزيه اللّه تعالى و وجوب حمده فكأنه هو المسبّح، و قيل: إنّ الرّعد هو الملك الّذى يسوق السحاب و يزجره بصوته فهو يسبّح اللّه و يحمده.
و قال الرازى: في قوله تعالى وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أقوال: الاول أنّ الرّعد اسم ملك من الملائكة و الصّوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح و التهليل عن ابن عباس، أنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرّعد ما هو فقال: ملك من الملائكة موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء اللّه قالوا: فما الصّوت الّذى نسمع قال: زجره السحاب، و عن الحسن أنّه خلق من خلق اللّه ليس بملك فعلى هذا القول الرّعد هو الملك الموكّل بالسحاب و صوته تسبيح اللّه تعالى و ذلك الصّوت أيضا يسمى بالرّعد و يؤكّد هذا ما روى عن ابن عباس كان اذا سمع الرّعد قال: سبحان الّذى سبّحت له، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه ينشى ء السحاب الثقال فينطق أحسن المنطق و يضحك أحسن الضحك، فنطقه الرّعد و ضحكه البرق و اعلم أنّ هذا القول غير مستبعد، و ذلك لأنّ عند أهل السنّة البنية ليست شرطا لحصول الحياة، فلا يبعد من اللّه تعالى أن يخلق الحياة و العلم و القدرة و النطق في أجزاء السحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له.
و كيف يستبعد ذلك و نحن نرى أنّ السمندر يتولّد في النار، و الضفادع تتولّد في الماء البارد، و الدودة العظيمة ربما تتولّد في الثلوج العظيمة.
و أيضا فاذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السّلام و لا تسبيح الحصى في زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكيف يستبعد تسبيح السحاب.
و على هذا القول فهذا الشي ء المسمّى بالرّعد ملك أو ليس بملك فيه قولان: أحدهما أنّه ليس بملك لأنّه عطف عليه الملائكة فقال: و الملائكة من خيفته.
و الثاني أنّه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة و إنما حسن إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ، و في قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ.
القول الثاني أنّ الرّعد اسم لهذا الصوت المخصوص و مع ذلك فانّ الرّعد يسبّح اللّه سبحانه، لأنّ التسبيح و التقديس و ما يجرى مجراها ليس إلّا وجود لفظ يدلّ على حصول التنزيه و التقديس للّه سبحانه و تعالى، فلما كان هذا الصّوت دليلا على وجود موجود متعال عن النقص و الامكان كان ذلك في الحقيقة تسبيحا و هو معنى قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.
و القول الثالث أنّ المراد من كون الرّعد مسبّحا أنّ من يسمع الرّعد فانّه يسبّح اللّه تعالى، فلهذا المعنى اضيف هذا التسبيح إليه.
(و) لا يعزب عنه (ما تلاشت) و اضمحلّت عنه (بروق الغمام) يعني أنّه سبحانه عالم بالأقطار التي يضمحلّ عنها البرق بعد ما كانت مضيئة به، و تخصيص ما تلاشت عنه بالذكر مع اشتراك غير المتلاشية عنه معه في إحاطة علمه سبحانه به كالأوّل، لأنّ علمه بما ليس بمضيّ بالبرق أعجب و أغرب، و أمّا ما هو مضىّ به و لم يضمحل عنه فيمكن إدراك غيره سبحانه له من اولى الأبصار الصحيحة، هذا.
و أعجب من ذلك ما في نفس البرق من عظيم القدرة و دلالته على عظمة بارئه.
قال الفخر الرازي: و اعلم أنّ أمر الصاعقة عجيب جدّا، و ذلك لأنّها نار تتولّد من السحاب و إذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر و أحرقت الحيتان في قعر البحر و الحكماء بالغوا في وصف قوّتها، و وجه الاستدلال أنّ النار حارّة يابسة و طبيعتها ضدّ طبيعة السحاب، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة و اليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا، لكنه ليس الأمر كذلك، فانها أقوى نيران هذا العالم، فثبت أنّ اختصاصها بمزيد تلك القوّة لا بدّ و أن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار (و) لا يغيب عنه (ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السماء) أى الرياح الشديدة المنسوبة إلى الأنواء و انصباب الأمطار.
و النّوء سقوط نجم من منازل القمر الثمانية و العشرين الّتي عرفتها تفصيلا في شرح الفصل الرابع من فصول المختار التسعين في المغرب«» مع الفجر و طلوع رقيبه من المشرق من ساعته مقابلا له في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما، و هكذا كلّ نجم منها إلى انقضاء السنة إلّا الجبهة فانّ لها أربعة عشر يوما.
و فى البحار من معاني الأخبار مسندا عن الباقر عليه السّلام قال: ثلاثة من عمل الجاهلية: الفخر بالانساب، و الطعن في الأحساب، و الاستسقاء بالأنواء.
قال الصّدوق (ره) أخبرني محمّد بن هارون الزنجاني عن عليّ بن عبد العزيز عن أبي عبيد أنّه قال: سمعت عدّة من أهل العلم يقولون: إنّ الأنواء ثمانية و عشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلّها من الصّيف و الشتاء و الرّبيع و الخريف، يسقط منها في كلّ ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر و يطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، و كلاهما معلوم مسمّى و انقضاء هذه الثمانية و العشرين كلّها مع انقضاء السنة، ثمّ يرجع الأمر إلى النجم الأوّل مع استيناف السنة المقبلة و كانت في الجاهلية إذا سقط منها نجم و طلع آخر قالوا: لا بدّ أن يكون عند ذلك رياح و مطر، فينسبون كلّ غيث يكون عند ذلك إلى ذلك النجم الذي يسقط حينئذ فيقولون مطرنا بنوء الثريّا و الدّبران و السماك، و ما كان من هذه النجوم فعلى هذا فهذه هي الأنواء واحدها نوء و إنما سمّى نوء لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق بالطلوع و هو ينوء نوء، و ذلك النهوض هو النوء فسمّى النجم به و كذلك كلّ ناهض ينتقل بابطاء فانّه ينوء عند نهوضه، قال اللّه تبارك و تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ.
و فيه عن الجزرى في النهاية قال: قد تكرّر ذكر النوء و الأنواء في الحديث و منه الحديث: مطرنا بنوء كذا قال: و إنما غلّظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أمر الأنواء، لأنّ العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل اللّه و أراد بقوله مطرنا بنوء كذا أى في وقت كذا و هو هذا النوء الفلانى فانّ ذلك جايز، أى إنّ اللّه تعالى قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات، انتهى.
و قال ابن العربى من انتظر المطر منها على أنها فاعلة من دون اللّه أو يجعل اللّه شريكا فيها فهو كافر. و من انتظر منها على اجراء العادة فلا شي ء عليه هذا و من ذلك كلّه علم أنّ إضافته عليه السّلام العواصف إلى الأنواء من جهة أنّ العرب تضيف الاثار العلويّة من الرّياح و الأمطار و كذلك الحرّ و البرد إليها (و يعلم مسقط القطرة و مقرّها) أى محلّ سقوطها و موضع قرارها (و مسحب الذّرة و مجرّها) أى محلّ سحب صغار النمل و جرّها (و ما يكفى البعوضة من قوتها) قال الدّميرى في حياة الحيوان: البعوضة واحدة البعوض و البعوض على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و له مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومه مجوّف نافذ للجوف فإذا طعن به جسد الانسان استقى الدّم و قذف به جوفه فهو له كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ، و مما ألهمه اللّه أنّه اذا جلس على عضو من أعضاء الانسان لا يزال يتوخّى بخرطومه المسام الّتى يخرج منها العرق لأنّها أرقّ بشرة من جلد الانسان فاذا وجدها وضع خرطومه فيها، و فيه من الشره أن يمصّ الدّم إلى أن ينشقّ و يموت أو إلى أن يعجز عن الطيران و ذلك سبب هلاكه.
قال: و البعوضة على صغر جرمها قد أودع اللّه في مقدم دماغها قوّة الحفظ و في وسطه قوّة الفكر، و في مؤخّره قوّة الذكر، و خلق لها حاسّة البصر، و حاسّة اللّمس، و حاسّة الشم، و خلق لها منفذا للغذاء، و مخرجا للفضلة، و خلق لها جوفا و أمعاء و عظاما، فسبحان من قدّر فهدى، و لم يخلق شيئا من المخلوقات سدى.
(و) يعلم (ما تحمل الانثى) من البعوضة و من غيرها (في بطنها) كما قال عزّ من قائل: وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ.
|