و الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسيّ، أو عرش، أو سماء، أو أرض، أو جانّ، أو إنس، لا يدرك بوهم، و لا يقدّر بفهم، و لا يشغله سائل، و لا ينقصه نائل، و لا ينظر بعين، و لا يحدّ بأين، و لا يوصف بالأزواج، و لا يخلق بعلاج، و لا يدرك بالحواسّ، و لا يقاس بالنّاس، الّذي كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات، و لا نطق و لا لهوات. بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك، فصف جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين في حجرات القدس مرجحنّين، متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين، و إنّما يدرك بالصّفات ذووا الهيئات و الأدوات، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء، فلا إله إلّا هو، أضاء بنوره كلّ ظلام، و أظلم بظلمته كلّ نور.
اللغة
(اللّهوات) و اللّهيات جمع اللّهاة و هي اللّحمة المشرفة على الحلق أو بين منقطع اصل اللّسان و منقطع القلب من أعلى الفم و (ارجحنّ) يرجحنّ كاقشعرّ مال و اهتزّ و عن الجزرى أرجحنّ الشي ء إذا مال من ثقله و تحرّك.
الاعراب
و في قوله: أو عرش و ما بعدها بمعنى الواو، و قوله: لا يحدّ بأين قال الشارح المعتزلي: لفظة أين في الأصل مبنيّة على الفتح فاذا نكرتها صارت اسما متمكّنا من الاعراب، و إن شئت قلت بأنّه عليه السّلام تكلّم بالاصطلاح الحكمى و الأين عندهم حصول الجسم في المكان و هو أحد المقولات العشر و قوله: في حجرات القدس، إمّا متعلّق بالمقرّبين أو بمرجحتين، و الأوّل أقرب لفظا و الثاني معني، و الاضافة في قوله: أمد حدّه، بيانيّة و قوله: بالفناء متعلّق بقوله: ينقضي
المعنی
ثمّ عاد إلى حمد اللّه سبحانه باعتبار تقدّم وجوده على ساير مخلوقاته فقال (و الحمد للّه الكائن) أى الموجود (قبل أن يكون كرسيّ أو عرش أو سماء أو أرض أو جانّ أو انس) لا يخفى ما في هذه العبارة من حسن التأدية.
و المراد بالجانّ إما إبليس أو أبو الجنّ، و بهما فسّر قوله تعالى: وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ، قال الرازى في تفسير هذه الاية: اختلفوا في أنّ الجانّ من هو قال عطا عن ابن عباس: يريد إبليس و هو قول الحسن و مقاتل و قتادة و قال ابن عباس في رواية اخرى: الجانّ هو أبو الجنّ و هو قول الأكثرين و سمّى جانا لتواريه عن الأعين كما سمّى الجنّ جنّا لهذا السّبب و الجنين متوار في بطن أمّه و معنى الجانّ في اللّغة الساتر من جنّ الشي ء إذا ستر فالجانّ المذكور هنا يحتمل أن يكون جانا لانه يستر نفسه عن بني آدم، أو يكون الفاعل يراد به المفعول كما في ماء دافق و عيشة راضية.
و في البحار من العلل و العيون عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال: سأل الشاميّ أمير المؤمنين عليه السّلام عن اسم أبى الجنّ فقال شومان و هو الّذى خلق من مارج.
قال الطبرسي: من مارج من نار أى نار مختلط أحمر و أسود و أبيض عن مجاهد و قيل المارج الصافي من لهب النار الّذي لا دخان فيه.
و قال البيضاوي في تفسير قوله: مِنْ نارِ السَّمُومِ، من نار شديد الحرّ النافذ في المسام و لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيط كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة فضلا عن الاجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء النارى فانها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الارضي، و قوله: مِنْ نارٍ، باعتبار الغالب كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ.
ثمّ نزهه تعالى باعتبارات سلبيّة أحدها أنّه (لا يدرك بوهم) كما نقل عن الباقر عليه السّلام من قوله: كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم. (و) الثاني أنه (لا يقدّر بفهم) أى لا يحدّ بفهم العقول، و المراد به و بسابقه تنزيهه سبحانه عن إدراك العقول و الأوهام لذاته و قصورها عن الوصول إلى حقيقته، و قد مرّ برهان ذلك في شرح الفصل الثاني من الخطبة الأولى و غيره أيضا.
و أقول هنا إنّ الجملة الثّانية يحتمل أن تكون تأكيدا للجملة الأولى، و يحتمل أن تكون تأسيسا.
أما التأسيس فعلى أن يراد بالجملة الاولى عدم إمكان إدراك القوّة الوهميّة له و هى قوّة جسمانيّة للانسان محلّها آخر التجويف الأوسط من الدّماغ من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلّقة بالمحسوسات كشجاعة زيد و سخاوته، و هذه القوّة هي الّتي تحكم في الشاة بأنّ الذئب مهروب عنه و أنّ الولد معطوف عليه، و هى حاكمة على القوى الجسمانية كلّها مستخدمة إياها استخدام العقل للقوى العقليّة، و يراد بالجملة الثانية عدم امكان تقديره و تحديده بالقوّة العقلية.
أمّا عدم إمكان إدراك الأوهام له فلأنّ مدركاتها منحصرة على عالم المحسوسات و الأجسام و الجسمانيات، و اللّه سبحانه متعال عن ذلك.
و أمّا عدم إمكان تحديد العقول فلأنّه«» لا جزء له و ما لا جزء له لا حدّ له حتّى يمكن تحديده.
و أيضا فهو سبحانه غاية الغايات فليس لذاته حدّ و نهاية حتّى يكون له حدّ معيّن و قدر معلوم يمكن تقديره و تحديده كما لساير الممكنات، قال عزّ من قائل: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له مروية عن التوحيد لما شبهه العادلون بالخلق المبعض المحدود في صفاته ذي الأقطار و النواحى المختلفة في طبقاته و كان عزّ و جل الموجود بنفسه لا بأداته انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الانداد و ارتفاعها عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. فقد علم بذلك أنّه لا يقدّر بالحدود و النهايات الجسمانيّة كما أنه لا يقدّر و لا يحدّ بالحدّ العقلى المركّب من الجنس و الفصل و أما التأكيد فعلى أن يراد بالوهم في الجملة الأولى المعنى الأعمّ من القوّة الوهميّة المتعلّقة بالمحسوسات جميعا و القوّة العقليّة المتعلّقة بالمعقولات و اطلاق الوهم على ذلك المعنى شايع في الاستعمال وارد فى كثير من الأخبار.
قال بعض المحققين: اعلم أنّ جوهر الوهم بعينه هو جوهر العقل و مدركاته بعينه هو مدركات العقل، و الفرق بينهما بالقصور و الكمال، فما دامت القوّة العقليّة ناقصة كانت ذات علاقة بالموادّ الحسيّة منتكسة النظر إليها لا تدرك المعاني إلّا متعلّقة بالموادّ مضافة إليها، و ربما تذعن لأحكام الحسّ لضعفها و غلبة الحواسّ و المحسوسات عليها، فتحكم على غير المحسوس حكمها على المحسوس، فما دامت في هذا المقام اطلق عليها اسم الوهم، فاذا استقام و قوى صار الوهم عقلا و خلص عن الزيغ و الضلال و الافة و الوبال، انتهى.
و على ذلك فيكون المقصود بالفهم في الجملة الثانية المعنى الأعمّ أيضا، و يكون حاصل المراد بالجملتين عجز الأوهام أى القوّة الوهميّة و العقليّة جميعا عن إدراك ذاته و تعقّل حقيقته، لأنّ تعقّله إمّا بحصول صورة مساوية لذاته تعالى، أو بحضور ذاته المقدّسة و شهود حقيقته، و الأوّل محال إذ لا مثل لذاته و كلّ ما له مثل أو صورة مساوية له فهو ذو ماهيّة كلّية و هو تعالى لا ماهيّة له، و الثاني محال أيضا إذ كلّ ما سواه من العقول و النفوس و الذّوات و الهويّات فوجوده منقهر تحت جلاله و عظمته و سلطانه القهار عين الخفاش في مشهد نور الشمس، فلا يمكن للعقول لقصورها عن درجة الكمال الواجبى إدراك ذاته على وجه الاكتناه و الاحاطة بنعوت جلاله و صفات جماله.
فاتّضح من ذلك كلّه أنّه سبحانه لا يدرك بالأوهام، و لا يقدّر بالأفهام جلّ شأنه و عظم سلطانه.
(و) الثالث أنّه (لا يشغله سائل) عن سائل آخر كما يشغل السائل من المخلوق عن توجّهه إلى سائل آخر، و ذلك لقصور ذواتنا و قدرتنا و علمنا، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فلكمال ذاته و عموم قدرته و إحاطته فلا يمنعه سؤال عن سؤال و لا يشغله شأن عن شأن.
ألا ترى أنّه يرزق الخلايق جميعا على قدر استحقاقهم في ساعة واحدة، و كذا يحاسبهم يوم القيامة دفعة كما قال عزّ من قائل في سورة النحل: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، أي كرجع الطرف على الحدقة إلى أسفلها أو هو أقرب لأنه يقع دفعة و قال في سورة القمر: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، قال القمّى: يعنى يقول كن فيكون.
(و) الرابع أنه (لا ينقصه نائل) و عطاء كملوك الدّنيا إذ مقدوراته تعالى غير متناهية فكرمه لا يضيق عن سؤال أحد، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد، و هو نظير قوله في الفصل الأوّل من المختار التسعين: لا يعزّه المنع و الجمود و لا يكديه الإعطاء و الجود، و قد مرّ في شرحه رواية الحديث القدسى و هو قوله سبحانه: يا عبادى لو أنّ أوّلكم و آخركم و انسكم و جنّكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا تنقصه شيئا فانّ المخيط و إن كان يرجع بشى ء محسوس قليل، لكنّه لقلّته لا يعدّ شيئا فكأنّه لم ينقص منه شي ء (و) الخامس أنّه (لا ينظر بعين) أى ليس إدراكه بحاسّة البصر و إن كان بصيرا لتنزّهه عن المشاعر و الحواسّ.
(و) السادس أنه (لا يحدّ بأين) لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان و هو سبحانه منزّه عن ذلك لبرائته عن التحيّز روى في البحار من التوحيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يهودى يقال له شجت فقال: يا محمّد جئت أسألك عن ربّك فان أجبتنى عما أسألك عنه و إلّا رجعت، فقال له: سل عما شئت، فقال: أين ربّك فقال: هو في كلّ مكان و ليس هو في شي ء من المكان بمحدود، قال: فكيف هو فقال: و كيف أصف ربّى بالكيف و الكيف مخلوق و اللّه لا يوصف بخلقه.
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أيضا من زعم أنّ اللّه من شي ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنّه في شي ء فقد جعله محصورا، و من زعم أنه على شي ء فقد جعله محمولا قوله عليه السّلام: محصورا أى عاجزا ممنوعا عن الخروج عن المكان، أو محصورا بذلك الشي ء و محوّيا به فيكون له انقطاع و انتهاء فيكون ذا حدود و أجزاء و قوله: محمولا أى محتاجا إلى ما يحمله.
قال الصدوق ره: الدليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ لا في مكان إنّ الأماكن كلّها حادثة و قد قام الدّليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ قديم سابق للأماكن، و ليس يجوز أن يحتاج الغنى القديم إلى ما كان غنيّا عنه، و لا أن يتغيّر عما لم يزل موجودا عليه فصحّ اليوم أنه لا في مكان كما أنّه لم يزل كذلك و تصديق ذلك ما حدّثنا به القطان عن ابن زكريا القطان عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن أبيه عن سليمان المروزى عن سليمان بن مهران قال: قلت لجعفر ابن محمّد عليه السّلام: هل يجوز أن نقول إنّ اللّه عزّ و جلّ في مكان فقال: سبحان اللّه و تعالى عن ذلك إنه لو كان في مكان لكان محدثا، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان و الاحتياج من صفات الحدث لا القديم.
(و) السابع أنّه (لا يوصف بالأزواج) و هي نفى الكميّة المنفصلة عنه أى ليس فيه اثنينية و تعدّد.
و قال العلّامة المجلسى ره: أى لا يوصف بالأمثال أو الأضداد أو بصفات الأزواج أو ليس فيه تركب و ازدواج أمرين أو بأنّ له صاحبة.
(و) الثامن أنه (لا يخلق بعلاج) أى لا يحتاج في خلقه للمخلوقات إلى مزاولة و معالجة و آلة و حيلة كساير أرباب الصنائع، و إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. (و) التاسع أنه (لا يدرك بالحواسّ) لاختصاص إدراكها بالأجسام و الجسمانيّات و اللّه سبحانه منزّه عن الجسميّة و لواحقها.
روى في البحار من التوحيد عن عبد اللّه بن جوين العبدى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يقول: الحمد للّه الذي لا يحسّ و لا يجسّ و لا يمسّ و لا يدرك بالحواسّ الخمس و لا يقع عليه الوهم و لا تصفه الألسن و كلّ شي ء حسسته الحواسّ أو لمسته الأيدى فهو مخلوق.
(و) العاشر أنه (لا يقاس بالنّاس) أى لا يشبه شيئا من خلقه في جهة من الجهات كما يزعمه المشبّهة و المجسّمة.
روى في البحار من التوحيد بسنده عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي ء و كلّما وقع في الوهم فهو بخلافه.
قال الصّدوق (ره) الدّليل على أنّ اللّه سبحانه لا يشبه شيئا من خلقه من جهة من الجهات أنه لا جهة لشي ء من أفعاله إلّا محدثة، و لا جهة محدثة إلّا و هى تدلّ على حدوث من هى له، فلو كان اللّه جلّ ثناؤه يشبه شيئا منها لدلّت على حدوثه من حيث دلّت على حدوث من هى له، إذ المتماثلين في العقول يقتضيان حكما واحدا من حيث تماثلا منها و قد قام الدّليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ قديم، و محال أن يكون قديما من جهة حادثا من اخرى.
و من الدّليل على أنّ اللّه تبارك و تعالى قديم أنّه لو كان حادثا لوجب أن يكون له محدث، لأنّ الفعل لا يكون إلّا بفاعل و لكان القول في محدثه كالقول فيه و في هذا وجود حادث قبل حادث لا الى أوّل و هو محال، فيصح أنّه لابدّ من صانع قديم و إذا كان ذلك كذلك فالّذي يوجب قدم ذلك الصانع و يدلّ عليه يوجب قدم صانعنا و يدلّ عليه.
و الحادى عشر أنّه متكلّم لا كتكلّم المخلوقين و إليه أشار بقوله (الّذي كلّم «ج 20» موسى) عليه السّلام في شاطى ء الوادي الأيمن في البقعة المباركة (تكليما) أتى به تأكيدا و دفعا لتوهم السامع التجوّز في كلامه سبحانه، و قد عرفت تحقيق معنى كلامه و كونه متكلّما في شرح المختار المأة و الثّامن و السبعين.
و قوله (و أراه من آياته عظيما) يحتمل أن يراد بها الايات التسع المشار إليها في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ، قال الصادق عليه السّلام: هى الجراد و القمّل و الضفادع و الدّم و الطوفان و البحر و الحجر و العصا و يده، رواه في الصّافي من الخصال عنه عليه السّلام و من العياشي عن الباقر عليه السّلام مثله.
و فيه من قرب الاسناد عن الكاظم عليه السّلام و قد سأله نفر من اليهود عنها فقال: العصا و إخراجه يده من جيبه بيضاء و الجراد و القمّل و الضفادع و الدّم و رفع الطور و المنّ و السلوى آية واحدة و فلق البحر قالوا: صدقت و أن يراد بها الايات الّتي ظهرت عند التكليم من سماع الصوت من الجهات السّت و من رؤيته نارا بيضاء تتقد من شجرة خضراء لا خضروية الشجر تطفى النار و لا النار توقد الشجرة.
قال الباقر عليه السّلام فأقبل نحو النّار يقتبس فاذا شجرة و نار تلتهب عليها فلما ذهب نحو النّار يقتبس منها أهوت إليه ففزع و عدا و رجعت النار إلى الشجرة فالتفت إليها و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع الثانية ليقتبس فأهوت إليه فعدا و تركها ثمّ التفت و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع إليها الثالثة فأهوت إليه فعدا و لم يعقّب أى لم يرجع فناداه اللّه عزّ و جلّ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال موسى: فما الدّليل على ذلك قال عزّ و جلّ: ما في يمينك يا موسى قال: هى عصاى قال: ألقها يا موسى فألقيها فاذا هى حيّة تسعى، ففزع منها و عدا فناداه اللّه عزّ و جلّ خذها و لا تخف انّك من الامنين، هذا.
و يؤيّد الاحتمال الثاني أى كون المراد من الايات الايات الظاهرة عند التكلّم قوله عليه السّلام (بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات) إذ الظاهر تعلّقه بالتكليم و على الاحتمال الاوّل يلزم الفصل بين المتعلّق و المتعلّق بالأجنبيّ.
و المراد به أنّ كلامه مع موسى ليس ككلام البشر صادرا عن الحنجرة و اللسان و اللهوات أى اللحمات في سقف أقصى الفم و عن مخارج الحروف و غيرها بل كلّم معه بأن أوجد الكلام في الشجرة كما هو صريح قوله سبحانه: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى هذا.
و في كلامه دلالة على عدم جواز وصفه بالنطق و لعلّه لصراحة النطق في إخراج الحروف من المخارج، بخلاف الكلام.
و يستفاد من خطبة له عليه السّلام آتية في الكتاب و مرويّة في الاحتجاج أيضا عدم جواز وصفه باللّفظ أيضا بخلاف القول حيث قال فيها: يخبر لا بلسان و لهوات و يسمع لا بخروق و أدوات يقول و لا يلفظ و يحفظ و لا يتحفّظ.
و لعلّ السّر فيه أيضا صراحة التلفظ في اعتماد اللفظ على مقطع الفم و استلزامه للأدوات دون القول.
ثمّ نبّه على عجز القوى البشريّة عن وصف كماله تعالى بقوله (بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف) أى المتحمّل للكلفة و المشقّة (لوصف ربّك) في وصفه (فصف) بعض خلقه و هو (جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين) و الأمر للتعجيز كما في قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
قال الشّارح البحراني: هى صورة قياس استثنائى متّصل نبّه به على عجز من يدّعى وصف ربّه كما هو، و تقديره إن كنت صادقا في وصفه فصف بعض خلقه و ينتج باستثناء نقيض تاليه أى لكنّك لا يمكنك وصف هؤلاء بالحقيقة فلا يمكنك وصفه تعالى، بيان الملازمة أنّ وصفه تعالى إذا كان ممكنا لك فوصف بعض آثاره أسهل عليك، و أما بطلان التالي فانّ حقيقة جبرئيل و ميكائيل و سائر الملائكة المقرّبين غير معلومة لأحد من البشر، و من عجز عن وصف بعض آثاره فهو عن وصفه أعجز.
أقول: و يشهد بما ذكره هنا من عدم امكان وصف الملائكة على ما هى عليه ما تقدّم منه عليه السّلام و منّا في الفصل الخامس من فصول المختار التسعين و شرحه، فقد مضى هناك أنموذج من وصف الملائكة يتحيّر فيه العقول و يدهش الافهام و يقشعرّ الجلود فكيف إذا أريد البلوغ إلى غاية أوصافهم.
و قوله (في حجرات القدس) أى منازل الطهارة عن العلاقات العنصريّة و مقارّ التنزّه عن تعلّقات النفس الأمّارة.
و قوله (مرجحنّين) أى خاضعين تحت سلطانه و عظمته و قال العلّامة المجلسي (ره) أى ما يلين إلى جهة التحت خضوعا لجلال البارى عزّ سلطانه، و يحتمل أن يكون كناية عن عظمة شأنهم و ازانة قدرهم أو عن نزولهم وقتا بعد وقت بأمره تعالى.
حالكونهم (متولّهة عقولهم) أى متحيّرة متشتّتة (أن يحدّوا أحسن الخالقين) أى يدركوا حقيقته بحدّ و يعرفوا كنه ذاته سبحانه و هو نظير قوله عليه السّلام في الفصل التاسع من المختار الأوّل: لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين، و لا يحدّونه بالأماكن، و لا يشيرون إليه بالنظاير.
و لما نبّه على عجز العقول عن وصف كماله أردفه بالتنبيه على ما يدرك من جهة الوصف فقال (و انما يدرك بالصفات) و يعرف بالكنه (ذوو الهيئات و الأدوات) و الجوارح و الالات الّتي يحيط بها الأفهام، فيدركون و يعرفون من جهتها.
(و) كذا يدرك (من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفنا) أى من ينقضي و يفنى إذا بلغ غايته، فانه تقف الأفهام عليه و تحلّله إلى أجزائه فتطلع على كنهه، فأمّا اللّه سبحانه فلتنزّهه عن الهيئات و الصّفات الزائدة و وجوب وجوده و عدم امكان تطرّق الفناء و العدم عليه، فيستحيل الاطلاع على كنه ذاته و حقيقة صفاته.
ثمّ عقّب ذلك التنزيه بالتوحيد و قال: (فلا إله إلّا هو أضاء بنوره كلّ ظلام و أظلم بظلمته كلّ نور) لا يخفى حسن المقابلة و التطبيق بين القرينتين.
و النور و الظلام في القرينة الاولى يحتملان المحسوس و غيره، فان اريد به الظلام المحسوس فالمراد إضاءته بأنوار الكواكب و النيرين، و إن اريد به الظلام المعقول أعنى ظلمة الجهل فالمراد إضاءته بأنوار العلم و الشرائع. و أمّا القرينة الثانية و المقصود بها أنّ جميع الأنوار المحسوسة أو المعقولة مضمحلّة في نور علمه و ظلام بالنسبة إلى نور براهينه في جميع مخلوقاته الكاشفة عن وجوده و كمال جوده هكذا قال الشارح البحراني.
و فيه إنه عليه السّلام لم يقل أظلم بنوره كلّ نور بل قال: أظلم بظلمته، و هو ينافي هذا المعنى فالأنسب أن يراد بالنور و الظلمة الوجود و العدم، و يصحّ ذلك التأويل في القرينة الاولى أيضا فيكون الاضاءة و الاظلام فيهما كنايتين عن الايجاد و الاعدام قيل: و يحتمل على بعد أن يكون الضمير في قوله: بظلمته، راجعا إلى كلّ نور لتقدّمه رتبة فيرجع حاصل الفقرتين حينئذ إلى أنّ النور هو ما ينسب إليه تعالى فتلك الجهة نور و أما الجهات الراجعة إلى الممكنات فكلّها ظلمة.
|