الفصل الثاني
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ألبسكم الرّياش، و أسبغ عليكم المعاش، و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام الّذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس مع النّبوّة و عظيم الزّلفة، فلمّا استوفى طعمته، و استكمل مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الدّيار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون، و إنّ لكم في القرون السّالفة لعبرة، أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مداين الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين، و أطفئوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين، و أين الّذين ساروا بالجيوش، و هزموا الالوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المداين.
اللغة
(الرياش) و الريش ما ظهر من اللباس، و قيل: الرياش جمع الريش و هو اللباس الفاخر و (المعاش) و المعيشة مكتسب الانسان الّذى يعيش به و (السلّم) كسكّر ما يرتقى عليه و (القسىّ) جمع القوس«» و (النبل) السّهام العربيّة لا واحد لها من لفظها و (العمالقة) و العماليق أولاد عمليق وزان قنديل أو عملاق كقرطاس و هو من ولد نوح عليه السّلام حسبما تعرف و (الفراعنة) جمع فرعون و (الرّسّ) بتشديد السّين نهر عظيم بين آذربيجان و ارمينية و هو المعروف الان بالأرس مبدؤه من مدينة طراز و ينتهى إلى شهر الكرّ فيختلطان و يصبّان في البحر، و قال في القاموس: بئر كانت لبقيّة من ثمود كذّبوا نبيّهم و رسّوه في بئر و (مدّن) المداين تمدينا مصّرها.
الاعراب
الباء في قوله بنبال الموت زايدة في المفعول، و المداين مفعول لقوله مدّنوا لا فيه كما هو واضح.
المعنى
اعلم أنه لما افتتح الخطبة بتحميد اللّه سبحانه و تمجيده و ذكر جملة من صفات جلاله و نعوت جماله و أشار إلى عجائب قدرته و بدايع حكمته في ملكه و ملكوته في الفصل السابق منها، أتبعه بهذا الفصل تذكرة و موعظة للمخاطبين، فأوصى بما لا يزال يوصى به و قال: (أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه) الّتي هي الزاد و بها المعاد زاد مبلّغ و معاد منجح و هى أن لا يراك حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك.
و انما عقّب بالموصول أعني قوله (الّذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش) تأكيدا للغرض المسوق له الكلام، و تنبيها على أنّه سبحانه مع عظيم احسانه و مزيد فضله و انعامه حيث أنعم عليكم باللباس و الرياش و أكمل عليكم المعاش الّذين هما سببا حياتكم و بهما بقاء نوعكم، كيف يسوغ كفران نعمته بالعصيان، و مقابلة عطوفته بالخطيئة، بل اللّازم مكافاة نعمائه بالتقوى، و عطاياه بالحسنى.
ثمّ لما كان رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدّنيا و كان عمدة أسباب الغفلة و الضّلالة الركون اليها و طول الأمل فيها نبّه على فنائها و زوالها بقوله (و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما) و وسيلة (أو لدفع الموت سبيلا) و سببا (لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام) لأنّه (الّذي) اختصّ من ساير الخلق لكمال السّلطنة و الملك العظيم حيث (سخّر له ملك الجنّ و الانس) و الوحش و الطير فهم يوزعون حسبما تعرفه تفصيلا عن قريب (مع النبوّة و عظيم الزلفة) و القربى إلى الحقّ سبحانه.
و معلوم أنّ النّبوة و التقرّب و المنزلة من الوسائل إلى البقاء لاستجابة الدّعاء معهما فهما مظنّتان للتوصّل إليه في الباطن كما أنّ الملك و السلطنة مظنّة لأن تكون وسيلة إليه في الظاهر لكنّه مع نبوّته و عظم سلطانه و قدرته على ما لم يقدر عليه غيره لم يجد وسيلة إلى البقاء، فليس لأحد بعده أن يطمع في وجدانه أما انه عليه السّلام لم يجد وسيلة إلى ذلك (ف) لأنه (لما استوفى طعمته) أى رزقه المقدّر (و استكمل مدّته) المقرّرة (رمته قسيّ الفناء بنبال الموت) إسناد الرّمى إلى القسيّ من المجاز العقلي و النسبة إلى الالة، قال الشارح البحراني: و لفظ القسىّ و النبال استعارة لمرامى الأمراض و أسبابها الّتي هي نبال الموت (و أصبحت الدّيار منه خالية و المساكن معطّلة و ورثها قوم آخرون).
روى في البحار من العلل و العيون عن أحمد بن زياد الهمداني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام عن أبيه موسى بن جعفر «عن أبيه جعفر خ» بن محمّد عليهم السّلام قال إنّ سليمان بن داود عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك و تعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى سخّر لي الرّيح و الانس و الجنّ و الطير و الوحوش و علّمني منطق الطير و آتاني كلّ شي ء و مع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى اللّيل، و قد أحببت أن أدخل قصرى في غد فأصعد أعلاه و أنظر إلى ممالكي فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلّا يرد على ما ينقص على يومى، قالوا: نعم.
فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد إلى أعلى موضع من قصره و وقف متكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما أوتى فرحا بما أعطى، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه و اللّباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به سليمان عليه السّلام قال: من أدخلك إلى هذا القصر و قد أردت أن أخلو فيه اليوم فباذن من دخلت فقال الشاب: أدخلنى هذا القصر ربّه و باذنه دخلت، فقال عليه السّلام: ربّه أحقّ به منّى فمن أنت قال: أنا ملك الموت، قال: و فيما جئت قال: جئت لأقبض روحك قال: امض لما امرت به فهذا يوم سرورى و أبي اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سرورى دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه و هو متكئ على عصاه.
فبقى سليمان متكئا على عصاه و هو ميّت ما شاء اللّه و النّاس ينظرون إليه و هم يقدّرون أنّه حىّ، فافتتنوا فيه و اختلفوا فمنهم من قال: إنّ سليمان قد بقى متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم ياكل و لم يشرب إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده، و قال قوم: إنّ سليمان ساحر إنّه يرينا أنه واقف و متكئ على عصاه يسحر أعيننا و ليس كذلك، فقال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد اللّه و نبيّه يدبّر اللّه بما شاء.
فلما اختلفوا بعث اللّه عزّ و جلّ الارضة فدبت في عصاه، فلما أكلت جوفها انكسرت العصا و خرّ سليمان من قصره على وجهه فشكر الجنّ للارضة صنيعها فلأجل ذلك لا توجد الارضة في مكان إلّا و عندها ماء و طين، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، يعني عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ.
ثمّ نبّه عليه السّلام على الاعتبار بأحوال القرون الخالية و الامم الماضية فقال: (و انّ لكم في القرون السالفة لعبرة) و أشار إلى وجه العبرة على سبيل الاستفهام التقريرى قصدا للتذكير و التذكّر بقوله (أين العمالقة و أبناء العمالقة).
قال الشّارح المعتزلي: العمالقة أولاد لاوز بن ارم بن سالم بن نوح عليه السّلام كان الملك باليمن و الحجاز و ما تاخم ذلك من الأقاليم فمنهم عملاق بن لاوز، و منهم طسم بن لاوز أخوه، و منهم جديس بن لاوز أخوهما، و كان العزّ و الملك بعد عملاق بن لاور في طسم، فلما ملكهم عملاق بن طسم بغى و أكثر الفساد في الأرض حتّى كان يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها و إن كانت بكرا افتضّها قبل وصولها إلى البعل، ففعل ذلك بامرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار، فخرجت إلى قومها و هي تقول:
- لا أحد أذلّ من جديسأ هكذا يفعل بالعروس
فغضب لها أخوها الأسود بن غفار و تابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم و أهل بيته فصنع الاسود طعاما و دعى العملاق إليه ثمّ وثب به و بطسم فأتى على رؤسائهم و نجا منهم رباح بن مز فصار إلى ذى جيشان بن تبع الحميرى ملك اليمن، فاستغاث به على جديس فصار ذو جيشان في حمير فأتى بلاد جوّ و هي قصبة اليمامة و استأصل جديس كلّها و أخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية و لا لطسم إلّا اليسير منهم ثمّ ملك بعد طسم و جديس و باز بن ايم «بن ظ» لاوز بن ارم فسار بولده و أهله و نزل برمل عالج فبغوا في الأرض حينا حتّى أفناهم اللّه، ثمّ ملك الأرض بعد و باز عبد صحم بن اثيف بن لاوز فنزلوا بالطايف حينا ثمّ بادوا.
قال الشارح: و ممن يعدّ من العمالقة عاد و ثمود.
فأمّا عاد فهو ابن عويص بن ارم بن سام بن نوح كان يعبد القمر يقال إنّه كان رأى من صلبه أولادا و أولاد أولاد أربعة آلاف، و أنّه نكح ألف جارية و كان بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن«»، و هي من شجر عمّان إلى حضرموت، و من أولاده شدّاد ابن عاد صاحب المدينة المذكورة في سورة الفجر.
و أمّا ثمود فهو ابن عابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام، و كانت دياره بين الشام و الحجاز إلى ساحل بحر الحبشة.
(أين الفراعنة و أبناء الفراعنة) و هم ملوك مصر فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف عليه السّلام، و منهم الوليد بن مصعب فرعون موسى، و منهم فرعون بن الأعرج الّذي غزا بني إسرائيل و أخرب بيت المقدّس. (أين أصحاب مداين الرّس) و ستعرف انبائهم في التذييل الاتي، و هم (الّذين) جحدوا ربّ العالمين و (قتلوا النبيّين) مظلومين (و أطفئوا سنن المرسلين) و شرايع الدّين (و أحيوا سنن الجبّارين) و بدع الشياطين (و أين) الملوك (الّذين ساروا بالجيوش و هزموا الالوف) و فتحوا الأمصار (و عسكروا العساكر) و جمعوهم (و مدّنوا المداين) و بنوها.
و ينبغي
تذييل هذا الفصل من الخطبة بامرين
الاول في نوادر أخبار ملك سليمان بن داود عليه السّلام
المشار إليه في هذا الفصل قال تعالى في سورة النمل: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. و في سورة سبأ: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.
قوله سبحانه: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قال الصّادق عليه السّلام في رواية اكمال الدين إنّ داود عليه السّلام أراد أن يستخلف سليمان لأنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إليه يأمره بذلك فلما أخبر بني إسرائيل ضجّوا من ذلك و قالوا: يستخلف علينا حدثا و فينا من هو أكبر منه، فدعى أسباط بني إسرائيل فقال لهم: قد بلغنى مقالتكم فأرونى عصيّكم فأىّ عصا أثمرت فصاحبها وليّ الأمر بعدي، فقالوا: رضينا، و قال: ليكتب كلّ واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا ثمّ جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه ثمّ ادخلت بيتا و اغلق الباب و حرسه رءوس أسباط بني إسرائيل: فلما أصبح صلّى بهم الغداة ثمّ أقبل ففتح لهم الباب فأخرج عصيّهم و قد ورقت عصا سليمان و قد أثمرت، فسلّموا ذلك لداود عليه السّلام.
و في البحار من محاسن البرقي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: استخلف داود سليمان و هو ابن ثلاثة عشر سنة، و مكث في ملكه أربعين سنة.
و قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» قيل: إنّ النّطق عبارة و هو مختصّ بالانسان إلّا أنّ سليمان لما فهم معنى صوت الطير سمّاه منطقا مجازا، و قال عليّ بن عيسى إن الطّير كانت تكلّم سليمان عليه السّلام معجزة له كما أخبر عن الهدهد، و منطق الطير صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطق الناس الّذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة، و لذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها و لم يفهم هي عنا، لأنّ أفهامها مقصورة على تلك الامور المخصوصة، و لمّا جعل سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها.
قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ أى من كلّ شي ء تؤتى الأنبياء و الملوك، و قيل: من كلّ شي ء يطلبه طالب لحاجته اليه و انتفاعه به.
و قوله: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ قال الطبرسي أى و سخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح المسخّرة مسير شهر و مسير رواحها مسير شهر، و المعنى أنها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للرّاكب قال قتادة: كانت تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار و يروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، و قال الحسن: كانت تغدو من دمشق فيقبل باصطخر من أرض اصفهان و بينهما مسيرة شهر للمستريح، و تروح من اصطخر فتبيت بكابل و بينهما مسيرة شهر تحمله الرّيح مع جنوده أعطاه اللّه الرّيح بدلا من الصافنات الجياد.
«وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» أى أذبنا له عين النحاس و أظهرناها له.
«وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ» المعنى و سخّرنا له من الجنّ من بحضرته و امام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الادمى بين يدي الادمى بأمر ربّه تعالى، و كان يكلّفهم الأعمال الشاقّة، و فيه دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له.
«وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» أى من يعدل من هؤلاء الجنّ الّذين سخّرناهم لسليمان عما أمرناهم به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار في الاخرة عن أكثر المفسرين، و قيل: نذقه العذاب في الدّنيا و أنّ اللّه سبحانه وكّل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم من طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.
«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ» و هى البيوت الشريفة الشريعة قيل: و هى القصور و المساجد يتعبّد فيها عن قتادة و الجبائي، قال: و كان مما عملوا بيت المقدّس و قد كان اللّه عزّ و جلّ سلّط على بني اسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد فأمرهم داود أن يغتسلوا و يبرزوا الى الصّعيد بالذّرارى و الأهلين و يتضرّعوا إلى اللّه تعالى لعلّه يرحمهم، و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد، و ارتفع داود عليه السّلام فوق الصّخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه سبحانه و سجدوا معه، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف اللّه عنهم الطاعون.
فلما أن شفع اللّه داود في بني اسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم: إنّ اللّه تعالى قد منّ عليكم و رحمكم فجدّدوا شكرا بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا ففعلوا، و أخذوا في بناء بيت المقدس فكان داود عليه السّلام ينقل الحجارة لهم على عاتقة، و كذلك خيار بني اسرائيل حتّى رفعوه قامة و لداود عليه السّلام يومئذ سبع و عشرون و مأئة سنة، فأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام أنّ تمام بنائه يكون على يد ابنه سليمان.
فلما صار داود ابن أربعين و مأئة سنة توفّاه اللّه تعالى و استخلف سليمان فأحبّ إتمام بيت المقدس فجمع الجنّ و الشياطين فقسم عليهم الأعمال يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل، فأرسل الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها الأبيض الصافي من معادنه و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفاح و جعلها اثنا عشر ربضا و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط. فلما فرغ من بناء المدينة ابتدء في بناء المسجد فوجّه الشياطين فرقا فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها، و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها، و فرقة يأتونه بالمسك و العنبر و ساير الطيب، و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار فاوتى من ذلك بشي ء لا يحصيه إلّا اللّه تعالى ثمّ احضر الصناع و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى يصيروها ألواحا و معالجة تلك الجواهر و اللالي.
و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر و عمده بأساطين المها الصافي و سقفه بألواح الجواهر و فضض سقوفه و حيطانه باللالي و اليواقيت و الجواهر و بسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض بيت أبهى منه و لا أنور من ذلك المسجد كان يضي ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
فلما فرغ منه جمع إليه خيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه اللّه تعالى و اتّخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا.
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بخت نصر بني اسرائيل فخرب المدينة و هدمها و نقض المسجد و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذّهب و الدّر و اليواقيت و الجواهر، فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق.
قال سعيد بن المسيّب لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتّى قال في دعائه بصلوات أبي داود عليه السّلام إلّا فتحت الأبواب ففرغ له عشرة آلاف من قراء بني اسرائيل خمسة آلاف بالليل و خمسة آلاف بالنهار و لا يأتي ساعة من ليل و نهار إلّا و يعبد اللّه فيها.
«وَ تَماثِيلَ» يعني صورا من نحاس و شبه و زجاج كانت الجنّ تعملها، ثمّ اختلفوا فقال بعضهم كانت صورا للحيوانات، و قال آخرون كانوا يعملون صور السّباع و البهايم على كرسيّه ليكون أهيب له.
فذكروا أنّهم صوّروا أسدين أسفل كرسيّه و نسرين فوق عمودى كرسيّه فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي بسط الأسدان ذراعيهما، و إذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما فظلّلاه من الشّمس، و يقال: إنّ ذلك كان مما لا يعرفه أحد من النّاس.
فلما حاول بخت نصر صعود الكرسي بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان، فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدّها فوقع مغشيّا عليه فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسي.
قال الحسن و لم يكن يومئذ التصاوير محرمة و هى محظورة في شريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فانه قال: لعن اللّه المصوّرين، و يجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن، و قد بيّن اللّه سبحانه أنّ المسيح عليه السّلام كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطّير و قال ابن عبّاس كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد ليقتدى بهم.
و روى عن الصّادق عليه السّلام انه قال: و اللّه ما هى تماثيل النساء و الرجال و لكنها الشجر و ما أشبهه.
«وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ» أى صحاف كالحياض الّتي يجبى فيها الماء أى يجمع و كان سليمان عليه السّلام يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان، فانه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم، و قيل: انه كان يجمع على كلّ جفنة ألف رجل يأكلون من بين يديه.
«وَ قُدُورٍ راسِياتٍ» أى ثابتات لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ، عن قتادة و كانت باليمن و قيل كانت عظيمة كالجبال يحملونها مع أنفسهم و كان سليمان عليه السّلام يطعم جنده.
و فى البحار عن صاحب الكامل قال: لما توفّى داود ملك بعده ابنه سليمان عليه السّلام على بني إسرائيل و كان عمره ثلاث عشر سنة، و أتاه مع الملك النبوّة و سخّر له الجنّ و الانس و الشياطين و الطير و الريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير و قام الانس و الجنّ متى يجلس فيه، قيل: أنه سخر له الريح و الجنّ و الشياطين و الطير و غير ذلك بعد أن زال ملكه و أعاده اللّه إليه و كان أبيض جسيما كثير الشعر يلبس البياض، و كان يأكل من كسبه، و كان كثير الغزو، و كان إذا أراد الغزو أمر فعمل بساط من خشب يسع عسكره فيركبون عليه هم و دوابهم «ج 21» و ما يحتاجون إليه، ثمّ أمر الريح فسار في غدوته مسيرة شهر و في روحته كذلك، و كان له ثلاثمأة زوجة و سبعمائة سرية و أعطاه اللّه أخيرا أنه لا يتكلّم أحد بشي ء إلّا حملته الريح فيعلم ما يقول.
و فيه من كتاب قصص الأنبياء بالاسناد عن أبي حمزة عن الأصبغ بن نباته قال: خرج سليمان بن داود من بيت المقدّس مع ثلاثمائة ألف كرسى عن يمينه عليها الانس و ثلاثمأة ألف كرسى عن يساره عليها الجنّ، و أمر الطير فأظلّتهم و أمّا الريح فحملتهم حتّى وردت بهم المداين، ثمّ رجع و بات في اصطخر، ثمّ غدا فانتهى إلى جزيرة بركاوان، ثمّ أمر الريح فخفضتهم حتّى كادت أقدامهم يصيبها الماء، فقال بعضهم لبعض: هل رأيتم ملكا أعظم من هذا فنادى ملك: لثواب تسبيحة واحدة أعظم مما رأيتم.
و فيه منه عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان ملك سليمان ما بين الشامات إلى بلاد اصطخر.
و فيه عن الطبرسي قال: قال محمّد بن كعب بلغنا أنّ سليمان بن داود عليه السّلام كان عسكره مأئة فرسخ خمسة و عشرون للانس و خمسة و عشرون للجنّ و خمسة و عشرون للوحش و خمسة و عشرون للطير و كان له ألف بيت من القوارير على الخشب فيها ثلاثمأة مهيرة و سبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه و يأمر الرّخاء فتسير به، فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض أنى قد زدت في ملكك انّه لا يتكلّم أحد من الخلايق بشي ء إلّا جائت الريح فأخبرتك.
و قال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخ في فرسخ ذهبا في ابريسم و كان يوضع فيه منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه و حوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب و فضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة و حولهم الناس و حول الناس الجنّ و الشياطين و تظلّها الطّير بأجنحتها حتّى لا تقع عليهم الشمس، و ترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، و من الرواح إلى الصباح. و فيه من تفسير الثعلبي قال: و روى أنّ سليمان عليه السّلام لما ملك بعد أبيه أمر باتخاذ كرسىّ ليجلس عليه للقضاء و أمر بأن يعمل بديعا مهولا بحيث أن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع و تهيب.
قال: فعمل له كرسي من أنياب الفيلة و فصّصوه بالياقوت و اللّؤلؤ و الزّبرجد و أنواع الجواهر و حفظوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر و الزّمرّد الأخضر على رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب و على رأس الاخرين نسران من ذهب بعضها مقابلا لبعض، و جعلوا من جنبي الكرسي أسدين من الذهب على رأس كلّ واحد منهما عمود من الزّمرّد الأخضر و قد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر و اتّخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر بحيث يظلّ عريش الكروم النخل و الكرسي.
قال: و كان سليمان عليه السّلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كلّه بما فيه دوران الرحى المسرعة و تنشر تلك النسور و الطواويس أجنحتهما و تبسط الأسدان أيديهما فتضربان الأرض بأذنابهما، فكذلك كلّ درجة يصعدها سليمان عليه السّلام.
فاذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللّذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان ثمّ يستدير الكرسي بما فيه و يدور معه النسران و الطاوسان و الأسدان مايلات برءوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك و العنبر.
ثمّ تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة فيفتحها سليمان و يقرئها على الناس و يدعوهم إلى فصل القضاء، و يجلس عظماء بني إسرائيل على كراسيّ من الذهب المفصّصة بالجوهر و هي ألف كرسيّ عن يمينه، و تجي ء عظماء و تجلس على كراسيّ الفضّة على يساره و هي ألف كرسىّ حافّين جميعا به ثمّ يحفّ بهم الطير فتظلّهم و تتقدّم إليه الناس للقضاء.
فاذا دعى البيّنات و الشهود لإقامة الشهادات درا الكرسيّ بما فيه مع جميع ما حوله دوران الرحا المسرعة و يبسط الأسدان أيديهما و يضربان الأرض بأذنابهما و ينشر النسران و الطاوسان أجنحتهما فيفزع منه الشهود و يدخلهم من ذلك رعب و لا يشهدون إلّا بالحقّ.
و فى البحار من كتاب تنبيه الخاطر روى أنّ سليمان بن داود عليه السّلام مرّ في موكبه و الطير تظلّه و الجنّ و الانس عن يمينه و عن شماله بعابد من عبّاد بني إسرائيل فقال: و اللّه يا ابن داود لقد أتاك اللّه ملكا عظيما، فسمعه سليمان فقال: للتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما اعطى ابن داود و إنّ ما أعطى ابن داود تذهب و أنّ التسبيحة تبقى.
و كان سليمان إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء و الأشراف حتّى يجي ء إلى المساكين و يقعد معهم و يقول مسكين مع المساكين.
و من ارشاد القلوب كان سليمان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر و اذا جنّه اللّيل شدّ يديه إلى عنقه فلا يزال قائما حتّى يصبح باكيا و كان قوته من سفايف الخوص يعملها بيده و إنما سأل الملك ليقهر ملوك الكفر.
الثاني فى بيان مداين الرس و قصة اصحابها
قال تعالى في سورة الفرقان «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ» و في سورة ق «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ»«» قال الطبرسيّ: أي و أهلكنا عادا و ثمود و أصحاب الرّس، و هو بئر رسّوا فيها نبيّهم أى ألقوه فيها عن عكرمة و قيل انهم كانوا أصحاب مواش و لهم بئر يقعدون عليها و كانوا يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا عليه السّلام فكذّبوه فانهار البئر و انخسف بهم الأرض فهلكوا عن وهب. و قيل الرّس قرية باليمامة يقال لها فلج قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه عن قتادة.
و قيل كان لهم نبيّ يسمّى حنظلة فقتلوه فاهلكوا عن سعيد بن جبير و الكلبي.
و قيل هم أصحاب رسّ و الرّس بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار فنسبوا إليها عن كعب و مقاتل.
و قيل أصحاب الرّس كان نساؤهم سحّاقات عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
و في البحار من تفسير عليّ بن ابراهيم أصحاب الرسّ هم الّذين هلكوا لأنّهم استغنوا الرّجال بالرّجال و النّساء بالنّساء.
و من معاني الأخبار معنى أصحاب الرّس أنّهم نسبوا إلى نهر يقال له: الرّس من بلاد المشرق.
و قد قيل: إنّ الرّس هو البئر و إنّ أصحابه رسّوا نبيّهم بعد سليمان بن داود عليه السّلام و كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت كان غرسها يافث ابن نوح فانبتت لنوح عليه السّلام بعد الطوفان و كان نساؤهم يشتغلن بالنساء عن الرّجال فعذّبهم اللّه عزّ و جلّ بريح عاصف شديد الحمرة و جعل الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد و أظلّتهم سحابة سوداء مظلمة فانكفت عليهم كالقبّة جمرة تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النار.
و من العرايس للثعلبي قال: قال اللّه عزّ و جلّ «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ» و قال «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ» اختلف أهل التفسير و أصحاب الأقاصيص فيهم.
فقال سعيد بن جبير و الكلبي و الخليل بن أحمد دخل كلام بعضهم في بعض و كلّ أخبر بطائفة من حديث: أصحاب الرّسّ بقيّة ثمود و قوم صالح و هم أصحاب البئر الّتي ذكرها اللّه تعالى في قوله «وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ» و كانوا بفليج اليمامة نزولا على تلك البئر و كلّ ركيّة لم تطو بالحجارة و الاجر فهو بئر و كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان، و كان بأرضهم جبل يقال له فتح مصعدا في السماء ميلا، و كانت العنقاء تنتابه و هى كأعظم ما يكون من الطير و فيها من كلّ لون و سمّوها العنقاء لطول عنقها و كانت تكون في ذلك الجبل تنقض على الطير تأكلها، فجاعت ذات يوم فاعوزها الطّير فانقضت على صبيّ فذهبت به، ثمّ إنها انقضت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فشكوا إلى نبيّهم فقال: اللّهمّ خذها و اقطع نسلها و سلّط عليها آية يذهب بها، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر فضربتها العرب مثلا في أشعارها و حكمها و أمثالها ثمّ إنّ أصحاب الرّس قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه تعالى و قال بعض العلماء: بلغني أنه كان رسّان.
أما أحدهما فكان أهله بدد و أصحاب غنم و مواش فبعث اللّه إليهم نبيّا فقتلوه ثمّ بعث إليهم رسولا آخر و عضده بوليّ فقتلوا الرّسول و جاهدهم الوليّ حتّى أفحمهم و كانوا يقولون إلهنا في البحر و كانوا على شفيرة و كان يخرج إليهم شيطان في كلّ شهر خرجة فيذبحون و يتّخذونه عيدا فقال لهم الوليّ أرأيتم إن خرج إلهكم الّذي تدعونه إلىّ و أطاعني أ تجيبونني إلى ما دعوتكم إليه فقالوا: بلى، و أعطوه على ذلك العهود و المواثيق.
فانتظر حتّى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا أربعة أحوات و له عنق مستعلية و على رأسه مثل التاج، فلمّا نظروا إليه خرّوا له سجّدا و خرج الوليّ إليه فقال ائتني طوعا أو كرها بسم اللّه الكريم، فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الوليّ ائتني عليهنّ لئلّا يكون من القوم في أمري شكّ فاتى الحوت و اتين به حتّى افضين به الى البرّ يجرّونه.
فكذّبوه بعد ما رأوا ذلك و نقضوا العهد فأرسل اللّه تعالى إليهم ريحا فقذفهم في البحر و مواشيهم جميعا و ما كانوا يملكون من ذهب و فضّة، فأتى الوليّ الصالح إلى البحر حتّى أخذ التبر و الفضّة و الأوانى فقسّم على أصحابه بالسويّة على الصّغير منهم و الكبير و انقطع هذا النسل.
و أما الاخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه و كان فيهم أنبياء كثيرة قلّ يوم يقوم نبيّ إلّا قتل و ذلك النهر بمنقطع آذربيجان بينها و بين أرمنيّة فاذا قطعته مدبرا دخلت في حدّ ارمنيّة و إذا قطعته مقبلا دخلت في حدّ آذربيجان يعبدون النيران و كانوا يعبدون الجوارى «الفذاري» فاذا تمّت لإحديهنّ ثلاثون سنة قتلوها و استبدلوا غيرها و كان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ، و كان يرتفع في كلّ يوم و ليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتي حوله، و كان لا ينصب في برّ و لا بحر إذا خرج من حدّهم يقف و يدور ثمّ يرجع إليهم.
فبعث اللّه تعالى ثلاثين نبيّا في شهر واحد فقتلوهم جميعا، فبعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا و أيّده بنصره و بعث معه وليّا فجاهدهم في اللّه حقّ جهاده.
فبعث اللّه تعالى إليه ميكائيل حين نابذوه و كان ذلك في أوان وقوع الحبّ في الزرع، و كانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا من الماء، ففجر نهرهم في البحر فانصبّت ما في أسفله و أتى عيونه من فوق فسدّها و بعث إليه خمسمائة ألف من الملائكة أعوانا له ففرّقوا ما بقى فى وسط النهر.
ثمّ أمر اللّه جبرئيل فنزل فلم يدع في أرضهم عينا و لا نهرا إلّا أيبسه بإذن اللّه عزّ و جلّ و أمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتهم ربضة واحدة، و أمر الرياح الأربع الجنوب و الشمال و الدّبور و الصّبا فضمت ما كان لهم من متاع و ألقى اللّه عزّ و جلّ عليهم السّبات، ثمّ حفت الرياح الأربع المتاع أجمع فنهبته في رءوس الجبال و بطون الأودية.
فأمّا ما كان من علي أو تبرأ أو آنية فانّ اللّه تعالى أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا و لا شاء عندهم و لا بقرة و لا مال يعودون و لا ماء يشربونه و لا طعام يأكلونه، فامن باللّه عند ذلك قليل منهم و هداهم إلى غار في جبل له طريق الى خلفه فنجوا و كانوا أحدا و عشرين رجلا و أربع نسوة و صبيّين و كان عدّة الباقين من الرّجال و النساء و الذراري ستّمأة ألف فماتوا عطشا و جوعا و لم يبق منهم باقية.
ثمّ عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يجيهم «ينجيهم» بزرع و ماء و ماشية و يجعله قليلا لئلّا يطغوا، فأجابهم اللّه تعالى إلى ذلك لما علم من صدق نيّاتهم و علم منهم الصّدق و آلوا أن لا يبعث رسولا ممن قاربهم إلّا أعانوه و عضدوه، و علم اللّه منهم الصّدق فأطلق اللّه لهم نهرهم و زادهم على ما سألوا، فأقام اولئك في طاعة اللّه عزّ و جلّ ظاهرا و باطنا حتّى مضوا و انقرضوا.
و حدث بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا اللّه في الظاهر و نافقوه في الباطن فأملى اللّه تعالى لهم و كان عليهم قادرا، ثمّ كثرت معاصيهم و خالفوا أولياء اللّه تعالى فبعث اللّه عزّ و جلّ عدوّهم ممن فارقهم و خالفهم فأسرع فيهم القتل و بقيت منهم شرذمة فسلّط اللّه عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحدا و بقى نهرهم و منازلهم مأتي عام لا يسكنها أحد ثمّ أتى اللّه بقرن بعد ذلك فنزلوها و كانوا صالحين سنين ثمّ أحدثوا فاحشة جعل الرجل بنته و اخته و زوجته فينيلها جاره و أخاه و صديقه يلتمس بذلك البرّ و الصّلة.
ثمّ ارتفعوا من ذلك إلى نوع آخر ترك الرّجال النساء حتّى شبقن و استغنوا بالرّجال فجاءت النساء شيطانهنّ في صورة و هى الدّلهاث بنت ابليس و هى اخت الشيصاء و كانت في بيضة واحدة فشهت إلى النساء ركوب بعضهنّ بعضا و علمهنّ كيف يصنعن فأصل ركوب النساء بعضهنّ بعضا من الدّلهاث، فسلّط اللّه على ذلك القرن صاعقة في أوّل اللّيل و خسفا في آخر اللّيل، و صيحة مع الشمس فلم يبق منهم باقية و بادت مساكنهم و لا احسب منازلهم اليوم تسكن.
و فى البحار من كتابي العيون و العلل عن الهمداني عن عليّ عن أبيه عن الهروي عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام قال: أتى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من أشراف تميم يقال له عمرو فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرّس في أىّ عصر كانوا و أين كانت منازلهم و من كان ملكهم و هل بعث اللّه عزّ و جلّ إليهم رسولا أم لا و بما ذا اهلكوا فانّى أجد في كتاب اللّه تعالى ذكرهم و لا أجد خبرهم.
فقال له عليّ عليه السّلام لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك و لا يحدثك به أحد بعدي إلّا عنّي، و ما في كتاب اللّه عزّ و جلّ آية إلّا و أنا أعرف تفسيرها و في أىّ مكان نزلت من سهل أو جبل و في أىّ وقت من ليل أو نهار و إنّ ههنا لعلما جمّا- و أشار إلى صدره- و لكن طلّابه يسير و عن قليل يندمون لو فقدوني.
كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها روشاب «دوشاب» كانت انبعت لنوح عليه السّلام بعد الطوفان، و إنما سمّوا أصحاب الرّس لأنهم رسّوا نبيّهم في الأرض و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام.
و كانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطى ء نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق و بهم سمّى ذلك النهر و لم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر منه و لا أعذب منه و لا قرى أكثر و لا أعمر منها تسمّى إحديهنّ أبان، و الثانية، آذر، و الثّالثة دى، و الرّابعة بهمن، و الخامسة اسفندار، و السادسة فروردين، و السابعة اردى بهشت، و الثامنة خرداد، و التاسعة مرداد، و العاشرة تير، و الحادى عشرة مهر، و الثاني عشرة شهريور.
و كانت أعظم مداينهم اسفندار و هي الّتي ينزلها ملكهم، و كان تركوز بن غابور بن يارش بن شازن بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم و بها العين و الصنوبرة و قد غرسوا في كلّ قرية منها حبّة من طلع تلك الصّنوبرة، و أجروا إليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة.
فنبتت الحبّة و صارت شجرة عظيمة و حرّموا ماء العين و الأنهار فلا يشربون منها و لا أنعامهم، و من فعل ذلك قتلوه و يقولون هو حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها و يشربون هم و أنعامهم من نهر الرّس الّذي عليه قراهم.
و قد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيدا يجتمع إليه أهلها، فيضربون علي الشجرة التي بها كلّة«» من حرير فيها من أنواع الصّور ثمّ يأتون بشاة و بقر فيذبحونهما قربانا للشجرة و يشعلون فيها النيران بالحطب فاذا سطع دخان تلك الذبائح و قتارها في الهواء و حال بينهم و بين النظر إلى السّماء خرّوا سجّدا يبكون و يتضرّعون إليها أن ترضى عنهم. فكان الشيطان يجي ء فيحرّك أغصانها و يصيح من ساقها صياح الصّبي أن قد رضيت عنكم فطيبوا نفسا و قرّوا عينا فيرفعون رؤوسهم عند ذلك و يشربون الخمر و يضربون بالمعازف و يأخذون الدستبند فيكون على ذلك يومهم و ليلتهم ثمّ ينصرفون.
و انما سمّت العجم شهورها بأبان ماه و آذرماه و غيرهما اشتقاقا من أسماء تلك القرى لقول أهلها بعضهم لبعض هذا عيد شهر كذا و عيد شهر كذا.
حتّى اذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليها صغيرهم و كبيرهم فضربوا عند الصنوبرة و العين سرادقا من ديباج عليه من أنواع الصور و جعلوا له اثنى عشر بابا كلّ باب لأهل قرية منهم و يسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق و يقرّبون لها الذّبايح أضعاف ما قرّبوا للشجرة الّتي في قراهم.
فيجي ء ابليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا و يتكلّم من جوفها كلاما جهوريّا و يعدهم و يمنّيهم بأكثر ما وعدتهم و منتهم الشياطين كلّها فيرفعون رؤوسهم من السجود و بهم من الفرح و النشاط ما لا يفيقون و لا يتكلّمون من الشرب و العزف.
فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما و لياليها بعدد أعيادهم ساير السّنة ثمّ ينصرفون.
فلما طال كفرهم باللّه عزّ و جلّ و عبادتهم غيره بعث اللّه عزّ و جلّ إليهم نبيّا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة اللّه عزّ و جلّ و معرفة ربوبيّته فلا يتّبعونه، فلما رأى شدّة تماديهم في الغىّ و الضلال و تركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد و النجاح و حضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلا تكذيبى و الكفر بك و غدوا يعبدون شجرة لا تنفع و لا تضرّ فأيبس شجرهم أجمع و أرهم قدرتك و سلطانك.
فأصبح القوم و قد يبس شجرهم كلّها فهالهم ذلك و فظع بهم و صاروا فرقتين فرقة قالت: سحر آلهتكم هذا الرجل الّذي زعم أنه رسول ربّ السماء و الأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى اللّه، و فرقة قالت: لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرّجل يعيبها و يقع فيها و يدعوكم إلى عبادة غيرها فحجبت حسنها و بهائها لكى تغضبوا لها فتنصروا منه.
فأجمع رأيهم على قتله فاتّخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلا الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرانج «اليراع خ» و نزحوا ما فيها من الماء ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة و أرسلوا فيها نبيّهم و ألقموا فاها صخرة عظيمة ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء و قالوا نرجو الان أن ترضى عنّا آلهتنا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها و يصدّ عن عبادتها و دفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لنا نورها و نضرتها كما كان.
فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه السّلام و هو يقول سيدي قد ترى ضيق مكاني و شدّة كربي فارحم ضعف ركنى و قلّة حيلتى و عجّل بقبض روحى و لا تؤخّر إجابة دعوتي حتّى مات عليه السّلام.
فقال اللّه جلّ جلاله لجبرئيل: يا جبرئيل أيظنّ عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى و امنوا مكرى و عبدوا غيرى و قتلوا رسولي أن يقوموا بغضبي و يخرجوا من سلطاني كيف و أنا المنتقم ممّن عصاني و لم يخش عقابي و اني حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة و نكالا للعالمين.
فلم يرعهم في يوم عيدهم ذلك إلّا ريح عاصفة شديدة الحمرة فتحيّروا فيها و ذعروا منها و تضام بعضهم إلى بعض، ثمّ صارت الأرض تحتهم حجر كبريت يتوقّد و أظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة جمرا يتلهّب «يلتهب خ» فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النّار، فنعوذ باللّه تعالى ذكره من غضبه و نزول نقمته و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.
|