الّذي لا يحول و لا يزول، و لا يجوز عليه الأفول، لم يلد فيكون مولودا، و لم يولد فيصير محدودا، جلّ عن اتّخاذ الأبناء، و طهر عن ملامسة النّساء، لا تناله الأوهام فتقدّره، و لا تتوهّمه الفطن فتصوّره، و لا تدركه الحواسّ فتحسّه، و لا تلمسه الأيدي فتمسّه، لا يتغيّر بحال، و لا يتبدّل بالأحوال، و لا تبليه اللّيالي و الأيّام، و لا تغيّره الضّياء و الظّلام، و لا يوصف بشي ء من الأجزاء، و لا بالجوارح و الأعضاء، و لا بعرض من الأعراض، و لا بالغيريّة و الأبعاض، و لا يقال له حدّ و لا نهاية، و لا انقطاع و لا غاية، و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله. ليس في الأشياء بوالج، و لا عنها بخارج، يخبر لا بلسان و لهوات، و يسمع لا بخروق و أدوات، يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر، يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض و يغضب من غير مشقّة
اللغة
(اللهوات) جمع لهات بفتح الّلام فيهما و هي اللحمة في سقف أقصى الفم.
المعنى
و الرابع و العشرون أنه (الذى لا يحول و لا يزول) أى لا يمضى و لا يكون زائلا من مكان إلى مكان و من حال إلى حال لاستحالة التغيّر و الانتقال عليه عزّ و جلّ.
(و) الخامس و العشرون أنه (لا يجوز عليه) الغيبة و (الأفوال) لاستلزامه الانتقال و الحركة الدالة على الحدوث.
و لذلك استدلّ به إبراهيم عليه السّلام على عدم ربوبيّة الكوكب و الشمس و القمر كما حكاه سبحانه عنه في كتابه العزيز بقوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا. أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ». قال الطبرسي «ره» و إنما استدلّ إبراهيم بالأفول على حدوثها لأنّ حركتها بالأفول أظهر و من الشبهة أبعد، و إذا جازت عليها الحركة و السّكون كانت مخلوقة محدثة محتاجة إلى المحدث.
السادس و العشرون (لم يلد فيكون مولودا و لم يولد فيصير محدودا) أما أنه سبحانه لم يلد شيئا و لم يولد من شي ء فقد مرّ بيانه في شرح الخطبة التي رواها عنه نوف البكالي و هي الخطبة المأة و الاحدى و الثمانين.
و أما الملازمة بين مقدم القضية الاولى و تاليها.
فأما بناء على ما هو المتعارف المعتاد بحسب الاستقراء من أنّ كلّ ما له ولد فانه يكون مولودا و إن لم يجب ذلك عقلا كادم أبي البشر أنه عليه السّلام والد و ليس بمولود و كاصول أنواع الحيوان الحادثة.
أو بناء على ما قاله الشارح المعتزلي من أنه ليس معنى الكلام أنّه يلزم من فرض وقوع أحدهما فرض وقوع الاخر، و إنما المراد أنه يلزم من فرض صحّة كونه والدا صحّة كونه مولودا و التالى محال وجهة التلازم أنه لو صحّ أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية و هو أن يتصوّر من بعض أجزائه حىّ آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقل في النطفة المنفصلة من الانسان المستحيلة إلى صورة اخرى حتّى يكون منها بشر آخر من نوع الأوّل لصحّ عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله. و ذلك لأنّ الأجسام متماثلة في الجسميّة و قد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح و كلّ مثلين فانّ أحدهما يصح عليه ما يصحّ على الاخر، فلو صحّ كونه والدا صحّ كونه ولدا.
و أمّا بطلان التالي فلأنّ كلّ مولود متأخّر بالزّمان عن والده و محدث و الحقّ الأوّل عزّ و جلّ قديم فلا يجوز عليه أن يكون مولودا، و أيضا لو كان مولودا لكان محدودا كما صرّح به في القضية الثانية و الثاني باطل فالمقدّم مثله و وجه الملازمة أنّه لو كان مولودا لكان محاطا و محدودا بالمحلّ المتولّد منه و أيضا الشي ء المتولّد من شي ء لا بدّ له من مادّة و صورة و غيرهما من شرايط وجوده و تركيبه و من جزئين بأحدهما يشارك أفراد نوعه و بالاخر يتميّز عنهم و هي أجزاؤه التي يقف عندها و ينتهى عند التحليل إليها، فثبت أنّه لو كان مولودا لكان محدودا.
و أمّا بطلان التالي فلما قد مرّ في تضاعيف الشرح غير مرّة و في شرح هذه الخطبة بخصوصها عند تفسير قوله: لا يشمل بحدّ، من أنّه سبحانه منزّه عن الحدّ مطلقا اصطلاحيّا كان أعنى القول الشارح لمهيّة الشي ء لاستلزامه التركيب المستحيل عليه أو لغويا أعني غاية الشي ء و نهايته، لأنّه سبحانه غاية الغايات و منتهى النهايات لا غاية له و لا نهاية.
و بعبارة اخرى كونه مولودا يلزمه الحواية و احاطة المحلّ المتولّد منه به و هو يستلزم كونه ذا نهاية و حدّ و هو محال، لأنّ النهاية و الحدّ من عوارض الأجسام و ذات الأوضاع و المقادير تعرض لها بالذات و للواحقها كالأزمنة و الحركات و للأمور المتعلّقة بها كالقوى و الكيفيّات بالعرض، و الأوّل تعالى ليس بجسم و لا جسماني و لا متعلّق به ضربا من التعلّق فهو منزّه عن الحدّ و النهاية.
فظهر بذلك كله أنه سبحانه ليس بمحدود، فليس بمولود فليس بذي ولد بل هو الواحد الأحد الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.
السابع و العشرون انّه (جلّ عن اتّخاذ الأبناء) و هو تأكيد لما سبق لأنّه لما ذكر آنفا أنه ليس بذى ولد أكدّه بذلك تنبيها على جلالة شأنه من اتّخاذ الولد لأنّ من اتّخذ ولدا فانما يتّخذه لدواعى تدعوه إليه من العطوفة و الشفقة و المعاونة في حياته و الوراثة عنه و الخلافة في مقامه بعد مماته إلى غير ذلك من الدواعي التي هي من عوارض الممكن، و الواجب تعالى منزّه عن ذلك كلّه.
(و) الثامن و العشرون انّه (طهر عن ملامسة النساء) لأنّ ملامستهنّ من مقتضيات القوّة البهيميّة الحيوانيّة المنزّه قدسه عنها مع أنّ الملامسة من صفات القوّة اللّامسة التي هي من خواصّ الأجسام.
و التاسع و العشرون أنه (لا تناله الأوهام فتقدّره) قال الشارح البحراني أى لو نالته الأوهام لقدرته لكن التالي باطل فالمقدّم كذلك.
بيان الملازمة أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني المتعلّقة بالمادّة و لا ترفع إدراكه عن المحسوسات و شأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار مخصوص و كمّية معيّنة و هيئة معيّنة و يحكم بأنّها مبلغه و نهايته فلو أدركته الأوهام لقدّرته بمقدار معيّن و في محلّ معيّن.
فأما بطلان التالي فلأنّ المقدّر محدود مركب و محتاج إلى المادّة و التعلّق بالغير و قد سبق بيان امتناعه.
(و) الثلاثون أنّه (لا تتوهّمه الفطن فتصوّره) فطن العقول هو حذقها وجودة استعدادها لتصوّر ما يرد عليه، و بعبارة اخرى هو سرعة حركتها في تحصيل الوسط لاستخراج المطالب.
قال: و إنّما لا تتوهّمه الفطن، لأنّ القوّة العاقلة عند توجّهها لتحصيل المطالب العقلية المجرّدة لا بدّ لها من استتباع الوهم و المتخيلة و الاستعانة بها في استثباتها بالنسج و التصوير بصورة تحطها إلى الخيال كما علمته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل فظهر بذلك أنها لو أدركته لكان ذلك بمشاركة الوهم فكان يلزمه أن يصوّره بصورة خيالية، لكنه تعالى منزّه عن الصّورة فاستحال لها إدراكه و تصويره.
(و) الاحد و الثلاثون أنّه (لا تدركه الحواسّ فتحسّه) أي لا يمكن لها إدراكه سبحانه فيوجب ذلك كونه تعالى محسوسا لأنّ إدراكاتها مقصورة على ذوات الأوضاع و الأجسام و الجسمانيات، و اللّه سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و لا ذي وضع و أيضا لا يمكن حضور الأنوار الحسيّة في مشهد نور عقلي بل يضمحلّ و يفنى فكيف في مشهد نور الأنوار العقلية.
(و) الثاني و الثلاثون انه (لا تلمسه الأيدي فتمسّه) ربما يستعمل اللّمس و المسّ بمعنى واحد، و قد يفرق بينهما بأنّ المسّ ايصال الشي ء بالبشرة على وجه تأثر الحاسّة به و اللّمس كالطلب له قاله البيضاوي يعني اللّمس ينبى ء عن اعتبار الطلب سواء كان داخلا في مفهومه أو لازما له، و على الأوّل فالمراد به أنّ الأيدي لا يمكن لها لمسه فيوجب ذلك كونه ملموسا ممسوسا، و على الثاني فالمراد أنها لا يمكن لها الطلب به فتصل إليه لاستلزامه الجسميّة على التقديرين.
كما يدلّ عليه صريحا ما رواه في البحار من عقايد الصّدوق باسناده عن عبد اللّه بن جوين العبدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه كان يقول: الحمد للّه الذي لا يحسّ و لا يجسّ و لا يمسّ و لا يدرك بالحواسّ الخمس و لا يقع عليه الوهم و لا تصفه الألسن و كلّ شي ء حسّسته الحواسّ أو لمسته الأيدي فهو مخلوق، الحمد للّه الذي كان و لم يكن شي ء غيره و كوّن الأشياء فكانت كما كوّنها و علم ما كان و ما هو كائن.
و الثالث و الثلاثون أنّه (لا يتغيّر بحال) من الأحوال و بوجه من الوجوه أى أبدا، لأنّ التغيّر من عوارض الامكان.
(و) الرابع و الثلاثون انّه (لا يتبدّل بالأحوال) أى لا ينتقل من حال إلى حال لما عرفت سابقا من امتناع الحركة و الانتقال عليه.
(و) الخامس و الثلاثون أنّه (لا تبليه اللّيالي و الأيام) لاستلزام الابلاء للتغيّر المستحيل عليه، و لأنّ البلى إنما يعرض للأمور الماديّة و كلّ ذي مادّة مركب فاستحال عروضه عليه سبحانه.
(و) السادس و الثلاثون أنه (لا تغيّره الضياء و الظلام) لتنزّهه من التغيّر و أمّا غيره سبحانه من ذوى الحواس فالضياء سبب لابصارهم المبصرات من الألوان و الأشكال و المقادير و الحركات و غيرها و الظلام مانع عنه، فبهما يتغيّر حالهم بالادراك و عدم الادراك و الحقّ الأوّل جلّ شأنه لما كان منزّها عن الحواسّ بصيرا لا بالاحساس فلا يوجب الضياء و الظلام تفاوتا و تغيّرا في إدراكه.
(و) السابع و الثلاثون أنه (لا يوصف بشي ء من الأجزاء) الذّهنية و العقليّة و الخارجيّة بل هو سبحانه أحدىّ الذات بسيط الهوية، لأنّ المركّب من الأجزاء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره و الافتقار من صفات الامكان.
(و) الثامن و الثلاثون أنه (لا) يوصف (بالجوارح و الأعضاء) لأنّ كلّ ذى جارحة و عضو فهو جسم مصوّر بصورة مخصوصة و هو تعالى منزّه عن الجسمية و التركيب و التجزية و الصورة.
روى في الكافي عن محمّد بن الحسن عن سهل بن زياد عن حمزة بن محمّد قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام أسأله عن الجسم و الصورة، فكتب: سبحان من ليس كمثله شي ء لا جسم و لا صورة.
قال صدر المتألّهين: نفى الجسم و الصورة عنه تعالى بوجه الاشارة إلى برهانه و هو أنّ اللّه لا مثل له، إذ لا مهية له و كلّ جسم له مثل فلا شي ء من الجسم بإله.
و فيه أيضا باسناده عن محمّد بن الحكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم عليه السّلام قول هشام ابن سالم الجواليقي و حكيت قول هشام بن الحكم أنه جسم، فقال: إنّ اللّه لا يشبهه شي ء أىّ فحش أو خناء أعظم عن قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو بصورة أو بخلقة أو بتحديد أو باعضاء تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
حكى في شرح الكافي من كتاب الملل و النحل عن هشام أنه قال: إنه تعالى على صورة الانسان أعلاه مجوف و أسفله مصمت و هو ساطع يتلاءلاء، له حواسّ خمس و يد و رجل و أنف و اذن و عين و فم، و له وفرة سوداء هو نور أسود لكنه ليس بلحم و لا دم (و) التاسع و الثلاثون انه (لا) يتّصف (بعرض من الأعراض) التسعة و هي الكم و الكيف و المضاف و الأين و متى و الوضع و الملك و الفعل و الانفعال، و تسمي هذه الاقسام مع القسم العاشر و هو الجوهر بالمقولات العشر و الاجناس العالية.
و انما لا يجوز اتّصافه سبحانه بشي ء منها، لأنّها كلّها مخلوقات محدثة و اتّصاف القديم بالحادث محال لأنّ ذلك الحادث إن كان صفة كمال يلزم أن يكون الواجب ناقصا بدونه مستكملا به بعد وجوده و النقص ممتنع عليه سبحانه، و ان لم يكن صفة كمال فله الكمال المطلق بدونه و حينئذ كان إثباته عليه و توصيفه به نقصا، لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان حسبما قلناه سابقا.
و أيضا وصفه تعالى بصفات زايدة على ذاته يوجب التجزية و التركيب المستحيل عليه كما عرفته في شرح الفصل الرابع من الخطبة الاولى و غيره أيضا.
(و) الاربعون انه (لا) يتّصف (بالغيريّة و الأبعاض) أى ليس له أبعاض و أجزاء يغاير بعضها بعضا، لأنه وحدانيّ الذات بسيط الهوية و إلّا فيلزم عليه التركيب و التجزية الممتنعان عليه.
(و) الاحد و الاربعون أنه (لا يقال له حدّ و لا نهاية) أى ليس لأوّليته حدّ و نهاية لأنّ الحدود و النهايات من عوارض الأجسام و ذوات الأوضاع و المقادير و هو سبحانه ليس بجسم و جسماني، و لا في قوله: و لا نهاية، زايدة أو تأكيد للنفى السابق (و) الثاني و الاربعون أنّه (لا انقطاع له و لا غاية) أى ليس لاخريّته انقطاع و غاية، بل هو سبحانه أزليّ أبديّ لا ابتداء لوجوده و لا انقطاع لبقائه.
قال صدر المتألّهين: و مما يجب أن يعلم أنّه تعالى و إن سلب عنه النهاية فليس بحيث يوصف باللّانهاية بمعنى العدول، بل كلاهما مسلوبان عنه، لأنّ اللّانهاية أيضا كالنهاية من عوارض الكميّات، فاذا وصف بأنه غير متناه كان بمعنى السّلب البسيط التحصيلي كما يوصف بسلب الحركة بمعنى السّلب السازج لا الذي يساوق السّكون، فاذا قيل: إنّه أزليّ باق ليس يراد به أنّ لوجوده زمانا غير منقطع البداية و النهاية، إذ الزمان من مخلوقاته المتأخّرة عن الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن المادّة و الصّورة المتأخّرين عن الجوهر المفارق المتأخّر ذاته عن ذاته تعالى بل الزمان بجميع أجزائه كالان الواحد بالقياس إلى سرمديّته كما أنّ الأمكنة و المكانيّات كلّها بالقياس إلى عظمته و وجوده كالنقطة الواحدة.
و الثالث و الاربعون ما أشار إليه بقوله (و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه) أى لا يحويه شي ء من الأشياء و لا يحيط به فيحمله كما تحمل الريح السحاب، قال تعالى «أقلّت سحابا ثقالا» أى حملت الريح سحابا ثقالا بالماء (أو تهويه) أو تجعله هاويا إلى جهة تحت و هابطا به. (أو) لا (أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله) أى يميله من جانب إلى جانب أو يعدله إلى جميع الجوانب كما يميل الريح السّحاب و يسوقه من صقع إلى صقع.
و المراد أنّه ليس في شي ء أو على شي ء يرتفع بارتفاعه و ينخفض بانخفاضه و يحرّك به من جهة إلى جهة.
روى في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من زعم أنّ اللّه من شي ء أو في شي ء أو على شي ء فقد كفر، قلت: فسّر لي، قال: أعني بالحواية من الشي ء له أو بامساك له أو من شي ء سبقه.
و في رواية أخرى من زعم أنّ اللّه من شي ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شي ء فقد جعله محصورا، و من زعم أنه على شي ء فقد جعله محمولا.
أى من زعم أنّه سبحانه من مادّة أو من أجزاء بأن يزعم أنّه ذو مادّة أو ذو أجزاء أو من أصل له مدخل في وجوده كالأبوين أو من مبدء مفيض لوجوده كالفاعل أو في شي ء كالصفة في الموصوف و الصّورة في المادّة و العرض في المحلّ و الجزء في الكلّ و الجسم في الهواء المحيط به و المظروف في الظرف أو على شي ء بالاستقرار فيه و الاعتماد عليه كالملك على السّرير و الراكب على المركوب و السقف على الجدران و الجسم على المكان، أو بالاستقرار و الاعتماد عليه كالهواء على الماء و السّماء على الهواء، فقد كفر، لاستلزامه التجسيم حيث وصفه بصفات المخلوقين و أنكر وجوده لأنّ ما اعتقده ليس بإله العالمين.
ثمّ فسّر عليه السّلام الألفاظ لا على ترتيب اللّف فقوله «أعني بالحواية من الشي ء» تفسير لمعنى في شي ء، لأنّ كلّ ما هو في شي ء فيحويه ذلك الشي ء، و قوله «أو بامساك له». تفسير لمعنى على شي ء، لأنّ كلّما هو على شي ء فذلك الشي ء ممسك له، و قوله عليه السّلام «أو من شي ء سبقه» تفسير لمعنى من شي ء لأنّ ما كان من شي ء فذلك الشي ء مبدؤه و سابق عليه.
و لذلك قال عليه السّلام في الرّواية الأخيرة: من زعم أنّ اللّه من شي ء فقد جعله محدثا، لأنّ معنى المحدث هو الموجود بسبب شي ء سابق عليه في الوجود، و قال: من زعم أنه في شي ء فقد جعله محصورا أى محويّا فيلزمه الحواية من ذلك الشي ء و قال: و من زعم انّه على شي ء فقد جعله محمولا، فاذا له حامل يمسكه.
و الرابع و الاربعون أنّه (ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج) لأنّ الدخول و الخروج من صفات الأجسام و هو سبحانه ليس بجسم و لا جسماني.
و لأنّه لو دخل في شي ء فإمّا أن يكون مع افتقاره إلى ذلك الشي ء أو بدونه و الأوّل مستلزم للامكان، و على الثاني فهو غنيّ عنه مطلقا، و الغنيّ المطلق يستحيل دخوله في شي ء و وجوده في ضمنه و اتباعه له في الوجود.
و لأنّ دخوله فيه إن كان من صفات الكمال لزم اتّصافه بالنقص قبل وجود ذلك الشي ء، و إن لم يكن من صفات كماله كان دخوله فيه مستلزما لاتّصافه بالنقص حسبما قلناه سابقا.
و لو خرج عن شي ء لزم خلوّ ذلك الشي ء عنه و اختصاصه سبحانه بغيره و هو باطل لأنّه تعالى مع كلّ شي ء لا بمقارنة و غير كلّ شي ء لا بمزايلة، و هذه الفقرة نظير قوله عليه السّلام في الفصل الخامس من الخطبة الاولى: و من قال فيم فقد ضمنه و من قال على م فقد اخلى منه.
و محصل المراد أنّه تعالى ليس داخلا في شي ء من الأشياء و حالّا فيه كما يقوله المجسّمة و الحلوليّة، و لا خارجا عنها بأنّ يعزب شي ء منها عن علمه، بل هو سبحانه القيّوم المحيط بكلّ شي ء.
الخامس و الاربعون أنّه (يخبر لا بلسان و لهوات) أى لحمات متصلة بأقصى الفم من فوق. أمّا إخباره فلانّه قد أطبقت الشرائع و اتّفقت الملل على كونه متكلّما و الخبر من أقسام الكلام.
و أمّا أنّ إخباره ليس باللّسان و اللهوات فلأنّ النطق باللهات و اللسان مخصوص بنوع الانسان فيعود معنى إخباره سبحانه إلى إيجاده الخبر في جسم من الأجسام كالملك و الشجر و قد مرّ«» نظير هذه العبارة في الخطبة المأة و الحادية و الثمانين و مرّ تحقيق الكلام في كونه سبحانه متكلّما في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين.
(و) السادس و الاربعون انّه (يسمع لا بخروق و أدوات) أمّا أنّه عزّ و جلّ يسمع فلشهادة الكتاب العزيز في غير واحدة من الايات بكونه تعالى سميعا بصيرا و أمّا أنّ إدراكه بالمسموعات ليس بالاذان و الصماخات فتنزّهه سبحانه عن الافتقار إلى الالات الجسمانية فيعود معنى سمعه إلى علمه بالمسموعات إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
و السابع و الاربعون أنّه (يقول و لا يلفظ) هذا الكلام صريح في جواز نسبة القول إليه سبحانه دون اللّفظ.
أمّا الأوّل فالكتاب الكريم ملؤ منه قال تعالى وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى إيراده.
و أمّا الثّاني فلعلّه مبنيّ على أنّ اللفظ هو خصوص القول الصادر عن اللسان ففهم من ذلك و مما تقدّم قبيل ذلك أنّ القول يساوق الكلام في جواز استنادهما إلى اللّه سبحانه، و النطق و اللفظ يساوقان في عدم جواز الاستناد إليه (و) الثامن و الاربعون انّه (يحفظ و لا يتحفّظ) قال الشارح البحراني حفظه يعود إلى علمه بالأشياء، و لما كان المعروف من العادة أنّ الحفظ يكون بسبب التحفظ و كان ذلك في حقّه محالا لاستلزامه الالات الجسمانيّة لا جرم احترز عنه. قال: و قال بعض الشارحين: إنما يريد بالحفظ أنّه يحفظ عباده و يحرسهم و لا يتحفّظ منهم أى لا يحتاج إلى حراسة نفسه منهم و هو بعيد الارادة هنا، انتهى.
أقول: الحفظ قد يطلق على الحفظ عن ظهر القلب يقال حفظ القرآن إذا وعاه على ظهر قلبه. و قد يطلق على الحراسة و الوقاية من المكاره يقال حفظه أي حرسه و التحفّظ هو قبول الحفظ عن الغير على كون تاء التفعل للمطاوعة أو تكلّف الحفظ كما في قولك تحلّم زيد، أي استعمل الحلم و كلّف نفسه إيّاه ليحصل، فمعنى التكلّف هو أن يتعانى الفاعل ذلك الفعل ليحصل بمعاناته فيقتضي أن يكون الفعل غير ثابت للفاعل و يكون الفاعل طالبا لتحصله بالممارسة، و قال في القاموس التحفّظ هو الاحتراز و فسّر الاحتراز كالتحرّز بالتوقّى و لعلّه مبنيّ على جعل تاء للاتّخاذ فمعنى التحفظ هو اتّخاذ الحفظ أى اتّخاذ الحرز و الوقاية.
إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ الحفظ قد استند إلى اللّه سبحانه في غير واحدة من الايات قال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ و قال هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ و قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و قال إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ و قال وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره.
و الحفيظ و الحافظ من جملة اسمائه الحسنى فلا غبار في وصفه سبحانه بالحفظ على المعنى الثّاني أعني الوقاية و الحراسة، و هو المراد به في الاية الاولى و الثانية و الثالثة أيضا و في غيرها احتمالا، و أمّا على المعنى الأوّل أعنى الحفظ عن ظهر القلب فلا، لأنّه سبحانه منزّه عن القلب و الجوارح اللّهم إلّا أن يراد به العلم مجازا، لأنّه بهذا المعنى مستلزم للعلم، فالحفيظ هو العليم و الحافظ هو العالم اطلق اسم الملزوم على اللّازم تجوّزا.
قال في القاموس: و الحفيظ في الأسماء الحسنى الذي لا يعزب عنه شي ء في السماوات و لا في الأرض تعالى شأنه. فظهر بذلك ضعف ما قاله الصّدوق في التوحيد في شرح الأسماء الحسنى حيث قال: الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل، و معناه أنه يحفظ الأشياء و يصرف عنها البلاء و لا يوصف بالحفظ على معنى العلم لأنّا نوصف بحفظ القرآن و العلوم على المجاز، و المراد بذلك أنا إذا علمناه لم يذهب عنا كما إذا حفظنا الشي ء لم يذهب عنا، انتهى، فتأمّل جيّدا.
و أمّا التحفظ فلا يوصف به سبحانه على أحد من معانيه الثلاثة أمّا على المعنى الأوّل و الثاني فواضح، لأنّ المطاوعة و التكلّف مستلزمان للانفعال و التغيّر اللذين هما من صفات الأجسام.
و أمّا على الثالث فلأنّه تعالى لا مضادّ و لا مضارّ له في ملكه و لا منازع و لا معاند له في سلطانه فلا حاجة له إلى التوفّى و الاحتراز بل هو العزيز الغالب و القوىّ القاهر على كلّ شي ء.
(و) التاسع و الاربعون انّه تعالى (يريد و لا يضمر) يعنى أنه يريد الأشياء فيوجدها على وفق مشيّته و إرادته و لا يحتاج في ايجادها كواحد منّا إلى الاضمار أى إلى عزم القلب يقال: أضمر في ضميره شيئا عزم عليه و ضمير الانسان قلبه و باطنه و هو سبحانه ليس بذي ضمير حتّى يتصوّر فيه الاضمار، و قد مرّ تحقيق الكلام بما لا مزيد عليه في إرادته سبحانه في شرح الفصل الثالث من المختار التسعين، و قدّمنا هناك عن المفيد رواية صفوان بن يحيى الناصّة بالفرق بين إرادة اللّه سبحانه و إرادة العبد.
و ينبغي إعادة تلك الرواية هنا و اتّباعها بشرح ما تضمّنته من المرام لمزيد ارتباطها المقام و ايضاحها لكلام الامام عليه السّلام فأقول: روى في الكافى عن أحمد بن إدريس عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى، و في البحار من توحيد الصّدوق (ره) و العيون عن ابن إدريس عن أبيه عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبى الحسن عليه السّلام أخبرنى عن الارادة من اللّه عزّ و جلّ و من الخلق، فقال: الارادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ فارادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروّي«» و لا يهمّ و لا يتفكّر هذه الصّفات منفيّة عنه و هى من صفات الخلق، فارادة اللّه هى الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك كما أنّه بلا كيف.
قال صدر المتألّهين في شرح الكافي: الارادة فينا كيفيّة حادثة تحدث عقيب تصوّر الشي ء الملائم و التّصديق بثبوته و نفعه تصديقا علميّا أو جهليا أو ظنيّا أو تخييليّا راجحا، و ربما يحصل ذلك التصديق الراجح بعد تردّد و استعمال رويّة، فاذا بلغ حدّ الرجحان وقع العزم الذي هو الارادة، فاذا حصلت الارادة سواء كانت مع شوق حيواني كالشهوة أو الغضب أم لا، يصدر الفعل لا محالة و يبدو في الوجود.
و أمّا إرادة اللّه الحادثة فليست صفة له لاستحالة حدوث صفة أو كيفيّة في ذاته و هي ليست إلّا إضافة إحداثه لأمر كاين لا غير لتعاليه عن الرّوية و الهمّة و الفكر لما علمت أنّ هذه منفية عنه تعالى لكونها صفات المخلوقين و كما لا مثل لذاته لا شبه لصفاته، بل صفاته الحقيقية ذاته.
و قال العلّامة المجلسي (ره) في البحار في بيان معنى الحديث: إنّ إرادة اللّه كما ذهب إليه أكثر متكلّمي الامامية هي العلم بالخير و النفع و ما هو الأصلح و لا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا، و لعلّ المراد بهذا الخبر و أمثاله من الأخبار الدالة على حدوث الارادة هو أنّه يكون في الانسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النّفع فيه ثمّ الرّويّة ثمّ الهمّة ثمّ انبعاث الشوق منه ثمّ تأكّده إلى أن يصير إجماعا باعثا على الفعل، و ذلك كلّه إرادة فينا متوسّطة بين ذاتنا و بين الفعل و ليس فيه تعالى بعد العلم القديم بالمصلحة من الامور المقارنة للفعل سوى الاحداث و الايجاد، فالاحداث في الوقت الذي تقتضى المصلحة صدور الفعل فيه قايم مقام ما يحدث من الامور في غيره تعالى، فالمعنى أنّ ذاته تعالى بصفاته الذاتية الكمالية كافية في حدوث الحادث من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل.
و قال الشارح المازندراني للكافي في شرحه: إنّ الراوى سأل عن الفرق بين إرادة اللّه و إرادة الخلق و طلب معرفتهما فقال عليه السّلام: «الارادة من الخلق الضمير» أى تصوّر الفعل و توجّه الذّهن إليه «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل» من صلة لبيد و لا بيان لما لأنّ الفعل هو المراد دون الارادة، اللهمّ إلّا أن يراد بالفعل مقوّمات الارادة مثل تصوّر النفع و الاذعان به و الشوق إليه و العزم له و تحريك القدرة إلى تحصيل الفعل المراد.
و الحاصل أنّ إرادة الخلق عبارة عن تصوّر الفعل ثمّ تصوّر النفع سواء كان النفع عقليّا أو خياليّا أو عينيّا أو دنيويّا أو اخرويّا، ثمّ التصديق بترتّب ذلك النفع على ذلك الفعل و الاذعان به جازما أو غير جازم، ثمّ الشوق إليه، ثمّ العزم الراسخ المحرك للقوّة و القدرة المحرّكة للعضو إلى تحصيل الفعل على ما ينبغي.
فالفعل يصدر عن الخلق من هذه المبادي المترتّبة التي هي عبارة عن إرادتهم التامّة المستتبعة له.
«و أما من اللّه فارادته إحداثه لا غير ذلك» يعني أنّ إرادته بسيطة و هي إحداث الفعل و ايجاده على وجه يوافق القضاء الأصلي و يطابق العلم الأزلي من الكمال و المقدار و الخواص و الاثار، لا مركبة من الأمور المذكورة في إرادة الخلق و لا شي ء منها، «لأنّه تعالى لا يروّي» أى لا يفعل باستعمال الرّويّة أى النظر في الأمر و عدم التعجيل «و لا يهمّ» أى لا يقصده «و لا يتفكّر» ليعلم حسنه و قبحه.
و الحاصل انّه لا ينظر إلى الفعل ليعلم نفعه و وجه حسنه و لا يهمّه بالشوق و العزم المتأكّد و لا يتفكّر و لا يتأمّل فيه ليعلم حسن عاقبته لتنزّهه عن استعمال الرأى و إحالة الهمّة و تحريك الشوق و العزم و ارتكاب التعمّق في الامور و التفكّر في أمر عاقبتها.
«و هذه الصفات منفيّة عنه تعالى» لأنّها من لواحق النفوس البشريّة و توابع الجهل و نقصان العلم و هو سبحانه منزّه عن جميع ذلك «و هي من صفات الخلق» لاحتياجهم في تحصيل مقاصدهم و تكميل أفعالهم على وفق مطالبهم إلى حركات فكريّة و همّة نفسانية و أشواق روحانية و آلات بدنيّة بحيث لو فقدت إحداها بقوا متحيّرين جاهلين لا يجدون إلى وجه الصواب دليلا، و لا إلى طريق الفعل سبيلا.
«فارادة اللّه هي الفعل» أى الايجاد و الاحداث «لا غير ذلك» من الضمير المشتمل على المعاني المذكورة.
و الخمسون أنه (يحبّ و يرضى من غير رقّة) الرّضا و المحبّة قيل: إنهما نظيران و إنما يظهر الفرق بضدّيهما، فالمحبّة ضدّها البغض، و الرضا ضدّه السخط قال الشارح البحراني: الرّضا قريب من المحبّة و يشبه أن يكون أعمّ منها لأنّ كلّ محبّ راض عما أحبّه و لا ينعكس.
و كيف كان فالمراد أنه يحبّ المؤمنين و يرضى عنهم قال سبحانه «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ» و قال «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ». و قوله: من غير رقّة إشارة إلى أنّ المحبّة و الرّضا بالمعنى الذي يوصف به من اللّه سبحانه ليس بالمعنى الذي يوصف به المخلوق، فانّ المحبّة فينا هو الميل الطبيعي إلى المحبوب بسبب تصوّر اللذّة، و الرّضا هو سكون النفس بالنسبة إلى موافقة و ملائمة عند تصوّر كونه ملايما و موافقا.
و لما كان المحبة و الرّضا بهذا المعنى يستلزم الرّقة القلبيّة و الانفعال النفساني الناشي عن تصوّر المعنى الذي لأجله حصلت المحبّة و الميل إليه و الداعي إلى الرّضا عنه، و كان سبحانه منزّها عن الانفعالات النفسانية و التغيّرات الطبيعيّة لتنزّهه عن قوابلها، لا جرم قال: من غير رقّة.
فالمراد بمحبّته سبحانه إمّا إدراك الكمال في المحبوب أو إرادته سبحانه للثواب و الخير في حقّ العبد و للتكميل له.
فقد قيل في تفسير الاية السابقة أعنى قوله: «يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ» إنّ محبة اللّه صفة من صفات فعله فهى إحسان مخصوص يليق بالعبد، و محبّة العبد للّه حالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم و ايثار رضاه و الاستيناس بذكره.
و قيل: محبّته تعالى للعباد إنعامه عليهم و أن يوفقهم لطاعته و يهديهم لدينه الذي ارتضاه، و حبّ العباد أن يطيعوه و لا يعصوه.
و قال بعض المحقّقين: محبّة اللّه للعبد كشف الحجاب عن قلبه و تمكنه من أن يطأ على بساط قربه فانما يوصف به سبحانه باعتبار الغايات لا المبادى، و علامة حبّه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور و الترقّي إلى عالم النور و الانس باللّه و الوحشة ممّن سواه و صيرورة جميع الهموم هما واحدا، و المراد رضاه عن العبد قال الشارح المعتزلي: هو أن يحمد فعله، و قال البحراني: رضاه يعود إلى علمه بموافقته لأمره و طاعته له.
و قال الطبرسيّ في تفسير قوله «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ» رضا اللّه سبحانه عنهم هو إرادته تعظيمهم و إثابتهم.
(و) الواحد و الخمسون أنّه (يبغض و يغضب من غير مشقّة) يظهر معنى هذه الفقرة مما قدّمناه في الفقرة السابقة، فانّ البغض ضدّ الحبّ و الغضب ضدّ الرضا فمعنى البغض فينا هو الكراهة للغير و ميل النفس عنه لتصوّر كونه مضرّا و مولما، و يلزم ذلك النفرة الطبيعية و ثوران القوّة الغضبيّة عليه و إرادة إهانته.
و معنى الغضب فينا هو ثوران النفس و حركة القوّة الغضبيّة عن تصوّر الموذي و المولم لإرادة دفعه و الانتقام منه.
و لما كانا مستلزمين لازعاج القلب و غليان دمه و أذى النفس و حصول التعب و المشقّة، و كان وصف اللّه سبحانه بهما بهذا المعنى مستحيلا لتنزّهه من صفات الأجسام لا جرم قيّدهما بقوله: من غير مشقّة.
فالمراد بهما إذا نسبا إلى اللّه سبحانه غاياتهما، و هي إرادة العقوبة و الاهانة و التعذيب.
قال الطبرسي (ره) في تفسير قوله «فلمّا آسفونا انتقمنا منهم» أى أغضبونا، و غضب اللّه سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم، و رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الذي يستحقّونه على طاعتهم.
و في رواية عمرو بن عبيد مع أبي جعفر عليه السّلام و قد قال له قوله تعالى «وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى » ما هذا الغضب فقال عليه السّلام: هو العقاب يا عمرو، إنّه من زعم أنّ اللّه قد زال من شي ء إلى شي ء فقد وصفه صفة المخلوقين.
و في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن العباس بن عمرو عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام أن قال له: فله رضى و سخط فقال: أبو عبد اللّه عليه السّلام: نعم لكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، و ذلك إنّ الرضا حالة تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال لأنّ المخلوق أجوف معتمل مركب للأشياء فيه يدخل، و خالقنا لا يدخل للأشياء فيه لأنّه واحد واحدى الذات واحدى المعنى، فرضاه ثوابه و سخطه عقابه من غير شي ء يتداخله فيهيّجه و ينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين.
يعني أنّ عروض تلك الحالات و التغيّرات إنّما يكون لمخلوق أجوف له قابلية ما يحصل فيه و يدخله- معتمل- بالكسر أى يعمل بأعمال صفاته و آلاته أو بالفتح أى مركب يعمل فيه الأجزاء و القوى، و الأوّل أولى ليكون تأسيسا، مركّب من أمور متباينة في الحقيقة مختلفة في الصّورة و الكيفيّة للأشياء من الصفات و الجهات و الكيفيّات النفسانيّة مثل الرّضا و الغضب و غيرهما فيه يدخل و خالقنا لا يدخل للأشياء فيه لاستحالة التركيب عليه، لأنه واحد ليس كمثله شي ء واحدى الذات لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا و لا خارجا، واحدى المعنى و الصّفات، فاذا لا كثرة فيه لا في ذاته و لا في صفاته الحقيقيّة، و انما الاختلاف في الفعل فيثيب عند الرّضا و يعاقب عند السّخط و الغضب من غير مداخلة شي ء فيه يهيجه أى يوجب لهيجانه و ثورانه، و ينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك ينافي وجوب الوجود فلا يكون من صفاته سبحانه بل من صفات المخلوقين العاجزين.
و الحاصل أنّه إذا نسب الرضا و السخط و الحبّ و البغض و الموالاة و المعاداة إلى اللّه سبحانه وجب تأويلها و صرفها إلى معنى يصحّ في حقّه، لأنّ نسبة معانيها المعروفة فينا إليه غير صحيحة.
إذ الرّضا فينا حالة للنفس توجب تغيّرها و انبساطها لايصال النفع إلى الغير أو الانقياد لحكمه.
و السخط حالة اخرى توجب تغيّرها و انقباضها و تحرّكها إلى ايقاع السوء به أو الاعراض عنه.
و المحبّة حالة لها توجب ميلها إليه أو نفس هذا الميل.
و البغض حالة لها توجب الاعراض عنه و ايصال الضرر إليه.
و قريب منهما الموالاة و المعاداة، و كلّ عليه سبحانه محال، فوجب التأويل و التأويل أنّ الرّضا و المحبّة و الموالاة بمعنى الاثابة و الاحسان و ايصال النفع و السخط و البغض و المعاداة بمعنى العقوبة و العذاب و عدم الاحسان و اللّه المستعان.
|