يقول لما أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع، و لا بنداء (نداء خ ل) يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا، لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصّفات المحدثات (صفات المحدثات خ ل)، و لا يكون بينها و بينه فصل و لا له عليها فضل فيستوي الصّانع و المصنوع، و يتكافأ المبتدع و البديع، خلق الخلايق على غير مثال خلا من غيره، و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه. و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها على غير قرار و أقامها بغير قوائم، و رفعها بغير دعائم، و حصّنها من الأود و الاعوجاج و منعها من التّهافت و الانفراج، أرسى أوتادها، و ضرب أسدادها، و استفاض عيونها، و خدّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، و لا ضعف ما قوّاه. هو الظّاهر عليها بسلطانه و عظمته، و هو الباطن لها بعلمه و معرفته و العالي على كلّ شي ء منها بجلاله و عزّته، لا يعجزه شي ء منها طلبه و لا يمتنع عليه فيغلبه، و لا يفوته السّريع منها فيسبقه، و لا يحتاج إلى ذيمال فيرزقه، خضعت الأشياء له، و ذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره، فتمتنع من نفعه و ضرّه، و لا كفوء له فيكافئه، و لا نظير له فيساويه. هو المفنى لها بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها
المعنى
و الثاني و الخمسون أنّه (يقول لما أراد كونه كن فيكون) قال الشارح البحراني: فارادته لكونه هو علمه بما في وجوده من الحكمة و المصلحة، و قوله: كن، إشارة إلى حكم قدرته الأزلية عليه بالايجاد و وجوب الصدور عن تمام مؤثريته و قوله: فيكون إشارة إلى وجوده، و دلّ على اللّزوم و عدم التأخر بالفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة.
و في مجمع البيان في قوله «إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» و التقدير بأن يكوّنه فيكون فعبّر عن هذا المعنى بكن لأنّه أبلغ فيما يراد، و ليس هنا قول و إنما هو إخبار بحدوث ما يريده.
و قال عليّ بن عيسى: الأمر ههنا أفخم من الفعل، فجاء للتفخيم و التعظيم قال: و يجوز أن يكون بمنزلة التسهيل و التهوين، فانّه إذا أراد فعل شي ء فعله بمنزلة ما يقول للشي ء كن فيكون في الحال و أنشد:
- فقالت له العينان سمعا و طاعةو حدرتا كالدّر لمّا يثقّب
و انما أخبر عن سرعة دمعه دون أن يكون ذلك قولا على الحقيقة و في الكشاف إنّما أمره أى شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه و لا صارف أن يقول له كن أن يكوّنه من غير توقّف فيكون فيحدث أى فهو كائن موجود لا محالة.
فان قلت: ما حقيقة قوله كن فيكون قلت: هو مجاز من الكلام و تمثيل، لأنّه لا يمتنع عليه شي ء من المكوّنات و أنّه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الامر المطاع، و المعنى أنّه لا يجوز عليه شي ء ممّا يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئا ممّا تقدر عليه من المباشرة بمحال المقدور و استعمال الالات و ما يتبع ذلك من المشقّة و التعب و اللّغوب، و إنما أمره و هو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل فيتكون.
و أنت بعد الخبرة بما ذكرنا تعرف أن قوله عليه السّلام (لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع) من باب الاحتراس، فانّ ظاهر قوله عليه السّلام: يقول لما أراد كونه كن، لما كان موهما أنّ قوله و كلامه تعالى من قبيل الحروف و الأصوات أتى بذلك دفعا لما يسبق إلى و هم العوام و تنبيها على أنّ قول كن منه ليس بلفظ مركب من الكاف و النّون متضمّن بصوت يقرع الأسماع، و لا خطاب قابل للسّماع و الاستماع.
و ذلك لأنّ الصوت كيفيّة حادثة في الهواء حاصلة من تموّجه المعلول للقرع الذي هو أساس عنيف أو القلع الذي هو تفريق عنيف بشرط مقاومة المقروع للقارع و المقلوع للقالع، و يعرض له أى للصّوت كيفيّة مميّزة له عن غيره من الأصوات المماثلة له يسمّى باعتبار تلك الكيفيّة حرفا، فالحرف هي تلك الكيفيّة العارضة عند بعضهم، و ذلك الصوت المعروض عند آخر و مجموع العارض و المعروض عند غيرهم.
و على أىّ تقدير فالحروف الملفوظة المركبة منها الكلام هي من خصايص الانسان يخرج من الحلق و الحنجرة و اللّسان، فيقرع الهواء المجاور لفم اللّافظ و يموّجه صدما بعد صدم مع سكون بعد سكون حتّى يقع و يقرع العصبة المفروشة في سطح صماخ السامع فيحصل به السماع و الاستماع.
و لما كان سبحانه منزّها عن الالات البدنيّة و الجوارح الانسانيّة يستحيل أن يخرج منه صوت يصدر منه لفظ، فاذا لا يمكن أن يكون تكوينه للأشياء بكلام ملفوظ أو نداء مسموع و هذا معنى قوله عليه السّلام: لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع، هذا.
و العجب من الشارح البحراني أنّه قال في شرح لا بصوت يقرع: أى ليس بذي حاسّة فيقرعها الصوت، لأنّ الصّوت حال تعرض الأجسام فلو كان له تعالى آلة سمع لكان جسما لكن التالي باطل فالمقدّم مثله انتهى.
و أنت خبير بأنّ هذا الكلام نصّ في أنّ الغرض منه نفى كون تكوينه للأشياء بالأوامر الملفوظة و الخطابات المنطوقة لا نفى كونه ذا سمع و تنزيهه من القوّة السّامعة، هذا.
و لما نفى كون تكوينه بكلام ملفوظ و نداء مسموع و كان المقام مقتضيا لبيان معنى كلامه عزّ و جلّ لا جرم عقّبه بقوله (و انما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله).
قال الشارح البحراني: أى أوجده في لسان النّبيّ و صوّره في لسانه و سوّى مثاله في ذهنه.
و قال الشارح المعتزلي: مثّل القرآن لجبرئيل أى صوّر مثاله بالكتابة في اللّوح المحفوظ فأنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
(لم يكن) كلامه (من قبل ذلك) الانشاء و الاحداث (كائنا) إذ لو كان كذلك لكان قديما لأنّ القديم ليس إلّا ما لا يكون مسبوقا بالعدم لا يفتقر الانشاء و التكوين (و لو كان قديما) كما زعمه الحنابلة حسبما عرفته في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين لكان واجب الوجود لذاته و لو كان واجب الوجود (لكان إلها ثانيا) لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.
و بيان الملازمة أنّه لو لم يكن واجبا بل ممكنا موجودا في الأزل لكان وجوده مفتقرا إلى المؤثّر فذلك المؤثّر إن كان غير ذاته تعالى فهو محال، لأنّه يلزم افتقاره تعالى في تحصيل صفته إلى غيره و هو واضح البطلان، و يلزم أيضا أن يكون في الأزل مع اللّه غيره يكون الاستناد إليه في حصول تلك الصفة فيكون إلها ثانيا بل هو أولى بالألوهيّة و هو محال، و إن كان المؤثّر فيه ذاته فهو محال أيضا لأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فتعيّن أنه لو كان قديما لكان واجب الوجود لذاته فكان إلها ثانيا.
و أما بطلان التالي فلقيام البراهين العقليّة و النقليّة على وحدانيّته تعالى حسبما مرّ كثير منها في تضاعيف الشرح، و نورد هنا حديث الفرجة الذي هو من غوامض الأحاديث لمناسبته بالمقام و نعقّبه بحلّه و شرحه فأقول: روى في الكافي عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد اللّه عليه السّلام و كان من قول أبي عبد اللّه عليه السّلام.
لا يخلو قولك إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا و الاخر ضعيفا، فان كانا قويّين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه و ينفرد بالتدبير و إن زعمت أنّ أحدهما قوىّ و الاخر ضعيف ثبت أنّه واحد بالربوبية كما نقول للعجز الظاهر في الثّاني و إن قلت إنّهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كلّ وجه أو مفترقين من كلّ جهة.
فلما رأينا الخلق منتظما و الفلك جاريا و التدبير واحدا و اللّيل و النهار و الشمس و القمر دلّ صحّة الأمر و التدبير و ايتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد ثمّ يلزمك ان ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك كلانة فان ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى يكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ تتناهي في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.
و رواه في البحار من توحيد الصّدوق مسندا عن هشام بن الحكم مثله.
و شرحه على ما شرحه صدر المتألهين في شرح الكافي بتلخيص منّا هو إنّه إشارة إلى حجّتين: إحداهما عامية مشهورة و الاخرى خاصيّة برهانيّة.
أما الاولى فقوله عليه السّلام «لا يخلو قولك- إلى قوله- للعجز الظاهر في الثاني» و معناه أنه لو فرض قديمان فلا يخلو أن يكون كلاهما قويّين أو كلاهما ضعيفين أو أحداهما قويّا و الاخر ضعيفا و الثلاثة بأسرها باطلة.
أمّا الأوّل فلأنه إذا كانا قويّين و كلّ منهما في غاية القوّة من غير ضعف و عجز كما هو المفروض و القوّة تقتضي القهر و الغلبة على كلّ شي ء سواه فما السبب المانع لأن يدفع كلّ واحد منهما صاحبه حتّى ينفرد بالتدبير و الرّبوبية و الغلبة على غيره، إذ اقتضاء القهر و الغلبة و الاستعلا مركوز في كلّ ذي قوّة على قدر قوّته و المفروض أنّ كلّا منهما في غاية القوّة.
و أما فساد الشقّ الثاني فهو ظاهر عند جمهور الناس لما حكموا بالفطرة من أنّ الضعف ينافي الالهيّة و لظهوره لم يذكره عليه السّلام.
و أيضا فساده يعلم بفساد الشقّ الثالث و هو قوله «و إن زعمت أنّ أحدهما قوىّ و الاخر ضعيف ثبت أنه» أى الاله «واحد كما» نحن «نقول للعجز الظاهر» في المفروض ثانيا، لأنّ الضعف منشأ العجز، و العاجز لا يكون إلها بل مخلوقا محتاجا لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوّة و الكمال و الخيريّة.
و أما الحجة البرهانية فأشار إليها بقوله «و إن قلت إنهما إثنان» و بيانه أنّه لو فرض موجودان قديمان فامّا أن يتّفقا من كلّ جهة أو يختلفا من كلّ جهة أو يتّفقا بجهة و يختلفا باخرى و الكلّ محال.
أمّا بطلان الأوّل فلأنّ الاثنينيّة لا تتحقّق إلّا بامتياز أحد الاثنين عن صاحبه و لو بوجه من الوجوه.
و أمّا بطلان الثاني فلما نبّه عليه بقوله «فلما رأينا الخلق منتظما» و تقريره أنّ العالم كلّه كشخص واحد كثير الأجزاء و الأعضاء مثل الانسان، فانا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصة و تباين صفاتها و أفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض و يفتقر بعضها إلى بعض، و كلّ منها يعين بطبعه صاحبه و هكذا نشاهد الأجرام العالية و ما ارتكز فيها من الكواكب النيّرة في حركاتها الدّوريّة و أضوائها الواقعة منها نافعة للسّفليات محصّلة لأمزجة المركبات التي يتوقّف عليها صور الأنواع و نفوسها و حياة الكاينات و نشوء الحيوان و النبات، فاذا تحقق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام و اتصال التدبير دلّ على أنّ إلهه واحد و إليه أشار بقوله «دلّ صحّة الأمر و التدبير و ائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».
و أمّا بطلان الشق الثالث و هو أنهما متّفقان من وجه و مختلفان من وجه آخر فبأن يقال كما أشار إليه بقوله «ثمّ يلزمك» أنّه لا بدّ فيهما من شي ء يمتاز به أحدهما عن صاحبه و صاحبه عنه، و ذلك الشي ء يجب أن يكون أمرا وجوديّا يوجد في أحدهما و لم يوجد في الاخر أو أمران وجوديّان يختصّ كلّ منهما بواحد، و أمّا كون الفارق المميّز بكلّ منهما عن صاحبه أمرا عدميّا فهو ممتنع بالضرورة، إذ الاعدام بما هي إعدام لا تمايز بينها و لا تميز بها، فاذا فرض قديمان فلا أقلّ من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما و يسلب عن الاخر، و هو المراد بالفرجة، إذ به يحصل الانفراج أى الافتراق بينهما لوجوده في أحدهما و عدمه في الاخر، و هو أيضا لا محالة قديم موجود معهما و إلّا لم يكونا اثنين قديمين، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة و قد فرض اثنان و هذا خلف، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة و هكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية و هو محال.
أقول: و لا يخفى عليك أنه يمكن جعل الحديث الشّريف إشارة إلى ثلاث حجج: إحداها ما أشار إليه بقوله: لا يخلو قولك إلى قوله: للعجز الظاهر في الثاني.
و ثانيها ما أشار إليه بقوله: و إن قلت إنهما اثنان إلى قوله: دلّ على أنّ المدبّر واحد.
و ثالثها ما أشار إليه بقوله: ثمّ يلزمك، إلى آخر الحديث، فعليك بالتأمل في استخراجها و اللّه الموفق.
الثالث و الخمسون أنّه عزّ و جلّ (لا يقال) في حقّه (كان بعد أن لم يكن) هو نظير قوله عليه السّلام في الفصل السّادس من المختار الأوّل: كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، أى ليس وجوده بمحدث مسبوق بالعدم، بل هو قديم أزليّ واجب الوجود لذاته أو توضح أن يقال في حقّه ذلك لاتّصف بالحدوث (فتجرى عليه الصّفات المحدثات) و في بعض النسخ صفات المحدثات بالاضافة و هو الأنسب الأحسن بعود الضميرين الاتيين في بينها و عليها إليها.
و على أىّ تقدير فالغرض أنّ وصفه بالكينونية بعد العدم أى وصفه بوصف الحدوث مستلزم لجريان الصّفات المحدثات أو صفات المحدثات عليه، لكن التالي أعني جريان تلك الصفات عليه باطل فالمقدّم مثله.
و أشار إلى بطلان التّالي بقوله (و لا يكون بينها) أى الصّفات المحدثات«» أو نفس المحدثات (و بينه) تعالى شأنه (فصل) لاشتراكهما في الحدوث و الامكان (و لا له عليها فضل) لاستوائهما في الافتقار و الحاجة إلى المحدث (فيستوى) إذا (الصانع و المصنوع و يتكافأ المبتدع) أى يتماثل المخترع من الموجودات (و البديع) أى المبدع الصانع سبحانه.
فالفعيل بمعنى فاعل قال تعالى: بديع السّموات و الأرض، و عن نسخة الرضي و يتكافا المبدع و البديع و معناه كما ذكرنا و عن نسخة أخرى المبدع بكسر الدّال و البديع، فالمراد بالأوّل الصّانع، و بالثاني المصنوع المبدع فالفعيل على ذلك بمعنى المفعول.
و على أىّ تقدير فالغرض أنّ اتّصافه بصفات المحدثات مستلزم لاشتراكه معها في وصف الحدوث و هو ظاهر البطلان، بيّن الاستحالة.
و الرابع و الخمسون أنّه (خلق الخلايق على غير مثال خلا) أى مضى و سبق (من غيره) يعني فعله و صنعه بعنوان خطبه 186 نهج البلاغه بخش 3 الابداع و الاختراع فهو الخالق للأشياء على غير مثال امتثله، و لا مقدار احتذى عليه من معبود خالق كان قبله، و قد عرفت تحقيقه في شرح الفصل السّابع من المختار الأوّل و شرح الفصل الثّاني من المختار التّسعين.
و الخامس و الخمسون أنّه (لم يستعن على خلقها) أى الخلايق (بأحد من خلقه) و إلّا لكان ناقصا بذاته مفتقرا إلى من هو مفتقر إليه و هو محال.
(و) السادس و الخمسون أنّه عزّ و جلّ خالق الأرض و باسطها مشتملة على ما فيها من بدايع الصنع، و عجائب القدرة و دلائل الكبرياء و العظمة، و قد مضى شرح واف لهذا المعنى في شرح الفصل الثالث و الثامن من المختار الأوّل و شرح الفصل السادس من المختار التسعين و أشار هنا إلى بعض ما فيها من شواهد الربوبيّة و براهين التوحيد و التفريد فقال: (أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال) أى أمسكها على بين الماء «كذا» بقدرته الكاملة من غير أن يشتغل بامساكها عن ساير أفعاله و صنايعه، فانّه لا يشغله شأن عن شأن و هو تنزيه له عن الصّفات البشرية، فانّ الواحد منّا إذا أمسك جسما ثقيلا اشتغل به عن ساير اموره.
(و أرساها على غير قرار) أي أثبتها على غير قرار يعتمد عليه و لا مقرّ يتمكّن عليه.
(و أقامها بغير قوائم) أى أقامها على مور أمواج مستفحلة، و لجج بحار زاخرة بغير قوائم يقوم عليها.
(و رفعها بغير دعائم) أى رفعها على الماء بغير عماد و دعامة تعلو عليها و تستند إليها.
(و حصّنها من الاود و الاعوجاج) أى جعلها حصينة منيعة من أن تميل عن مركزها الحقيقي و تعوج إلى أحد جوانب العالم.
(و منعها من التهافت و الانفراج) أى جعلها كرة واحدة ثابتة في حيّزها و منعها من أن تتساقط قطعا و ينفرج بعض أجزائها عن بعض.
(أرسى أوتادها) أى أثبت فيها الجبال الراسيات التي هي لها بمنزلة الأوتاد المانعة لها من الميدان و الاضطراب على ما عرفت تحقيقه في شرح الفصل الثّالث من المختار الأوّل.
(و ضرب أسدادها) أى نصب بين بقاعها و بلادها على اقتضاء الحكمة و المصلحة أسدادا حاجزة و حدودا مايزة من الجبال الراسية و الأنهار الجارية و نحوها قال تعالى «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا».
(و استفاض عيونها) أى أفاض العيون و أجرى منها الماء الذي هو مادّة حياة الأحياء (و خدّأ أوديتها) أى شقّها و جعلها مراتع للبهائم و مزارع للناس لعلّهم يعقلون و لما عدّ عليه السّلام عددا من بدايع الصّنع و آثار العظمة فرّع عليه قوله: (فلم يهن ما بناه و لا ضعف ما قواه) تنبيها على عظمة صانعها و مبدعها، لأنّ عدم تطرّق الوهن و الضعف على تلك الاثار مع طول الزمان و مرور الدهور كاشف عن كمال قدرة المؤثّر و قوّته و عظمته.
و السابع و الخمسون ما أشار إليه بقوله (هو الظاهر عليها بسلطانه و عظمته) أى الغالب القاهر على الأرض و ما فيها باستيلاء قدرته و قوّته و سلطنته القاهرة و عظمته الباهرة.
و الثامن و الخمسون ما أشار إليه بقوله (و هو الباطن لها بعلمه و معرفته) أى الخبير عليها و على ما فيها بعلمه الذى لا يعزب عنه شي ء و لما كان المتبادر من الظهور و البطون الظهور و البطون الحسّيّين قيّد الأوّل بالسلطان و العظمة و الثّاني بالعلم و المعرفة تنبيها على أنّ المراد بهما إذا نسبتا إلى اللّه سبحانه ليس معناهما المتعارف لاستحالته في حقّه تعالى و اختصاصه بالأجسام و الجسمانيّات بل معنى آخر يليق بذاته و لا ينافي قدسه.
(و) التاسع و الخمسون أنّه (العالي على كلّ شي ء منها) لا بالعلوّ الحسّي المتصوّر في الأجسام كما يزعمه المجسّمة القائلون بأنه على العرش متشبّثين بقوله: الرّحمن على العرش استوى، لما عرفت مرارا فساد هذا الزعم كما عرفت تأويل الاية الشريفة بل بالعلوّ المعنوىّ و هو العلوّ (بجلاله و عزّته) و المراد بجلاله تنزّهه عن صفات النقصان و تقدّسه عن عوارض الامكان، فهو باعتبار تنزّهه عنها في أوج الكمال الأعلى، و المراد بعزّته قهره و غلبته و سلطانه.
الستون أنّه (لا يعجزه شي ء منها طلبه) لتمام سلطانه و قدرته و افتقار جميع من سواه إليه في وجوده و بقائه و تقلّباته فكيف يتصوّر أن يعجز من هو محتاج في ذاته و صفاته و حركاته و سكناته و جميع حالاته إليه قال عزّ من قائل: «و ما كان اللّه ليعجزه من شي ء في السموات و لا في الأرض إنّه كان عليما قديرا» (و) الواحد و الستون (لا يمتنع عليه شي ء فيغلبه) لما قلناه من تمام سلطانه و كمال قدرته و افتقار كلّ إليه، فلا رادّ لقضائه و لا دافع لحكمه كما قال في كتابه العزيز: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» و في آية أخرى «وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً».
(و) الثاني و الستون أنّه (لا يفوته السريع منها فيسبقه) أى لا يفوته سريع السير و الحركة من الأشياء فيسبقه بقوّة حركته، لاستلزام ذلك نقصا في قدرته و عجزا في ذاته و لاستواء نسبة الأمكنة و المكانيّات و الأزمنة و الزمانيّات إليه سبحانه قال تعالى: «كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ.
قال الطبرسيّ: يعني أنا نقدر على أن نهلكهم و نأتي بدلهم بقوم آخرين خيرا منهم و أنّ هؤلاء الكفار لا يقوون بأن يتقدّموا على وجه يمنع من لحاق العذاب بهم فانهم لم يكونوا سابقين و لا العقاب مسبوقا منهم، و التقدير و ما نحن بمسبوقين لفوت عقابنا إيّاهم فانهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.
(و) الثالث و الستون أنّه (لا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه) لأنّه الغنيّ المطلق و ما سواه مفتقر إليه فكيف يفتقر إلى ما هو محتاج إليه، و المقصود بذلك و بما سبق كلّه تنزيهه من الصّفات البشريّة.
و الرابع و الستون أنّه (خضعت الأشياء) كلّها (له و ذلّت مستكينة) خاضعة مهانة (لعظمته) لكونها جميعا أسيرة في قيد الامكان مقهورة في سلسلة الحدوث و الافتقار و النقصان.
فحيث كانت بهذه المثابة من الذّلّ و الانقهار ف (لا تستطيع الهرب) و الفرار (من سلطانه الى غيره) لأنّ الهارب و المهروب إليه سيّان في جهة التّذلل و الافتقار و كلّ شي ء خاشع له، و كلّ قوىّ ضعيف عنده، و كلّ عزيز ذليل لديه.
و على ذلك (ف) لا يمكن للهارب أن (يمتنع) بالهرب إلى الغير و الاعتصام به (من نفعه و ضرّه) أى مما قضاه اللّه سبحانه في حقّه و قدّره من النفع و الضرر.
فان قلت: الممتنع إنّما يمتنع من الضرر و الهارب يهرب منه دون المنفعة فما معنى قوله: من نفعه قلنا: المراد منه سلب القدرة على تقدير امتناعه منه و الاشارة الى أنه قادر على ردّ شي ء مما قدّره اللّه في حقّه مطلقا و أنه لا عاصم له من أمر اللّه أصلا، فهو نظير قوله سبحانه: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» أى من ذا الّذي يدفع عنكم قضاء اللّه و يمنعكم من اللّه إن أراد بكم عذابا و عقوبة أو أراد بكم رحمة فانّ أحدا لا يقدر على ذلك، و لا يجدون من دون اللّه وليّا يلي امورهم و لا نصيرا ينصرهم و يدفع عنهم.
(و) الخامس و الستون (لا كفوء له فيكافئه و لا نظير له فيساويه) أى ليس له سبحانه مكافى ء و مماثل إذ لو فرضنا له مكافئا في رتبة الوجود فذلك المكافئ لو كان ممكن الوجود كان محتاجا إليه متأخّرا عنه في الوجود فكيف يكون مكافئا له في رتبة الوجود.
و إن كان واجب الوجود فهو ينافي الأحديّة و يستلزم التركيب لأنّ كلّ ما له مثل فذاته مركب من جزئين أحدهما جهة الاتّحاد و المجانسة و الثاني جهة الامتياز و الاثنينيّة.
و أيضا لا يتشخّص المهيّة المشتركة بين شيئين أو الأشياء إلّا بواسطة المادّة الجسمانية و علائقها و هو سبحانه لبرائته من الأجسام و المواد و لكون إنيّته نفس مهيّته و ليس له مهيّة سوى الهويّة المحضة الوجوديّة كما اشير إليه في قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» لا يكون له مثل أصلا. و بتقرير أوضح نقول إنّه سبحانه واحد أحد أحدى الذات فلا يمكن أن يكون له مماثل و مكافي.
بيان ذلك أنّ كلّ مهيّة مركبة فهي مفتقرة إلى كلّ واحد من أجزائه، و كلّ واحد من أجزاء الشي ء غيره، فكلّ مركب مفتقر إلى غيره و كلّ مفتقر إلى غيره متأخّر عنه فهو ممكن محتاج في وجوده إلى ذلك الغير فلم يكن إلها واجب الوجود، و الإله الذى هو مبدء لجميع الممكنات يمتنع أن يكون مركبا ممكنا فهو في نفسه أحد و إذا ثبت كونه أحدا ثبت كونه واحدا فردا إذ لو لم يكن فردا لكان له مجانس أو مماثل يشاركه في الوجود و لكان امتيازه عنه بمميّز فصليّ فيعود التركيب هذا خلف.
السادس و الستون ما أشار إليه بقوله (هو المفني لها بعد و وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها) يعني أنه سبحانه يفني الأشياء و يعدمها حتّى يصير ما هو موجود كأن لم يكن موجودا أصلا أو الكاف زائدة أي يصير موجودها مفقودا معدوما.
و هو ظاهر بل صريح في فناء الجميع، و أصرح منه قوله الاتي: انه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي ء معه، و أصرح منهما قوله الذى يتلوه أعني: فلا شي ء إلّا اللّه الواحد القهار، لأنّ النكرة في سياق النّفي يفيد العموم مؤكّدا بالاستثناء و قد وقع خلاف عظيم فى هذه المسألة أعنى مسألة طريان العدم على الأشياء حتّى صارت معركة للاراء.
فذهب جمهور الحكماء إلى امتناع طريان العدم على أكثر أجزاء هذا العالم كالعقول المجرّدة و النفوس الناطقة و الأجسام الفلكيّة و المادّة العنصريّة، فانّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علّته و هذا لا ينافي الامكان لأنّ الممكن ما يجوز عليه أصل العدم و هو مما لا نزاع فيه، و انما نزاعهم فى طريان العدم.
و ذهب جمهور علماء الاسلام إلى جواز طريانه على جميع أجزائه و لكن اختلفوا فى وقوعه.
فمنهم من قال بعدم انعدام العرش قال الفخر الرازى في الأربعين: و اعلم أنّ كثيرا من علماء الشريعة و علماء التفسير قالوا إنّ فى وقت قيام القيامة ينخرق الأفلاك و ينهدم الكواكب إلّا أنّ العرش لا ينخرق، و التخصيص بالأكثر بالنسبة إلى عدم تخرّق العرش و إلّا فتخرق الأفلاك و انهدام الكواكب مما لا خلاف فيه.
و منهم من قال بتجرّد النفس الناطقة و عدم قبولها للفناء.
و ذهب الأكثرون إلى طريان العدم على جميع أجزائه أخذا بظواهر الايات و الأدلة المفيدة لذلك مثل قوله سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ و قوله: كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، و قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، و قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ، و معلوم أنّه تعالى مبدء لجميع الأشياء فيكون معيدا للجميع و لا يتصوّر الاعادة إلّا بعد الاعدام فلا بدّ من إعدام الجميع.
ثمّ وقع الخلاف بين هؤلاء القائلين باعدام الجميع في معنى الاعدام الواقع و أنّ المراد به هل هو إفناء الجواهر و الذوات بأسرها أو تفريق الأجزاء و إزالة الأعراض.
فمن جوّز إعادة المعدوم بعينه قال بالأوّل.
و من قال بامتناعه كما هو الحقّ الموافق للتحقيق و عليه المحقّقون حتّى ادّعى بعضهم أنّه من البديهيّات و قال الشيخ إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة و رفض عن نفسه الميل و العصبيّة شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع، فذهب إلى الثاني.
و إلّا امتنع القول بالمعاد الجسمانى لأنّ الغرض من المعاد هو ايصال الثواب على المطيع و العقاب على العاصى فمع إعدام الذوات و الجواهر و امتناع إعادة المعدوم يكون المعاد غير المطيع و العاصى السابقين المستحقين للمثوبة و العقوبة، فالعقاب على المعاد يكون عقابا على غير المستحقّ و هو خلاف العدل، فلا بدّ من المصير إلى أنّ المراد بالفناء و الهلاك و العدم الوارد في الايات و الأخبار هو تفرّق الأجزاء و زوال التأليف و التركيب عنها و خروجها عن حدّ الانتفاع.
قالوا: إنّ اللّه يفرّق الأجزاء و يزيل التأليف عنها و لكنه لا يعدمها فاذا أعاد التأليف إليها و خلق الحياة فيها مرّة اخرى كان هذا الشخص هو عين الشخص الذى كان موجودا قبل ذلك فحينئذ يصل الثواب إلى المطيع و العقاب على العاصى و تزول الاشكال.
و قال في التجريد: و الامكان يعطى جواز العدم و السمع دلّ عليه بتأوّل فى المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام يعنى كون العالم ممكنا يعطى جواز عدمه و الأدلة السمعية دلّت على وقوعه و لا ينافي ذلك امتناع إعادة المعدوم.
أما في غير المكلّفين فانّه يجوز أن يعدم بالكليّة و لا يعاد.
و أمّا بالنسبة إلى المكلّفين فانّه يتأوّل العدم بتفرّق الأجزاء و يتأوّل المعاد بجمع تلك الأجزاء و تأليفها بعد التفريق.
و الّذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه السّلام على ما حكى عنه الكتاب حيث قال «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى » قال اللّه تعالى فى جوابه «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً».
و لكن استشكل الفخر الرازى فيه أى فى القول بأنّ المراد بالعدم هو التفرّق بأنّ المشار إليه لكلّ أحد بقوله: أناء ليس مجرّد تلك الأجزاء و ذلك لأنّا لو قدرنا أنّ هذه الأجزاء تفرّقت و صارت ترابا من غير حياة و لا مزاج و لا تركيب و لا تأليف فانّ كلّ أحد يعلم أنّ ذلك القدر من التراب الصرف ليس عبارة عن زيد، بل الانسان المعبر بأنا إنما يكون موجودا إذا تركبت تلك الأجزاء و تألفت على وجه مخصوص ثمّ قام بها حياة و علم و قدرة و عقل و فهم، فثبت أنّ الشخص المعيّن ليس عبارة عن مجرّد تلك الأجزاء و الذّوات، بل هو عبارة عن ذلك الأجزاء الموصوفة بالصفات المخصوصة، و إذا كان كذلك كانت تلك الصفات أحد أجزاء ماهيّة ذلك الشخص من حيث إنه ذلك الشخص، و عند تفرّق الأجزاء يبطل تلك الصّفات و تفنى، فان امتنعت الاعادة على المعدوم امتنعت على تلك الصفات فيكون العائد صفات اخرى لا تلك الصفات الّتى باعتبارها كان ذلك الشخص، و على هذا التقدير لم يكن العائد ثانيا هو الّذى كان موجودا أوّلا، فلم يكن الزيد الثاني عين الزيد الأوّل، فثبت بما ذكرنا أنّا إن جوزنا إعادة المعدوم فلا حاجة إلى ما ذكروه، و إن منعنا إعادة المعدوم كان الاشكال المذكور باقيا، سواء قلنا إنه تعالى لا يفنيها أو قلنا إنّه يفنيها انتهى.
و وافقه ذلك الشارح البحراني حيث قال: إنّ بدن زيد مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة فقط، فانّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها مع ساير الأعراض و التأليفات المخصوصة و الأوضاع فإذا شذب البدن و تفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض و تفني و حينئذ يلزم فناء البدن من حيث إنّه هذا البدن، فعند الاعادة إن اعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، و إن لم يعد بعينه عاد غيره فيكون الثواب و العقاب على غيره و ذلك تكذب للقرآن الكريم و لا تزر وازرة وزر اخرى.
اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ الإنسان المثاب و المعاقب إنما هو النفس الناطقة، و هذا البدن كالالة فاذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله، لكن هذا إنما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة لا مذهب من يقول، بالتشذّب و تفرّق الأجزاء، و مذهب أكثر المحقّقين من علماء الاسلام يؤل إلى هذا القول، انتهى.
اقول: بعد القول بالمعاد الجسماني و كونه من ضروريّات الدّين، و بعد القول بامتناع إعادة المعدوم و كونه من البديهيّات حسبما اشرنا إليه، لا مناص من القول بالتفرّق.
و أمّا الاشكال المذكور فالجواب عنه بناء على نفى الجزء الصورى للأجسام و حصر أجزائها في الجواهر الفردة كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر.
و أمّا بناء على ثبوت الجزء الصورى فربما يجاب عنه بأنه يكفى فى المعاد الجسماني عود الأجزاء الماديّة بعينها، و لا يقدح تبدّل الجزء الصورى بعد أن كان أقرب الصور إلى الصورة الزايلة.
لا يقال: إنّ هذا يكون تناسخا.
لأنا نقول: الممتنع هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة لا إلى بدن يتألف من عين مادّة هذا البدن و صورة هى أقرب الصّور إلى الصورة الزايلة، فان سمّيت ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه فانّ النزاع إنما هو فى المعني لا في اللفظ، هذا.
و قد اشير إلى هذا الجواب في ما رواه في الاحتجاج عن الصادق عليه السّلام و هو أنّه سأله ابن أبي العوجاء عن قوله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» فقال: ما ذنب الغير قال عليه السّلام ويحك هي هي و هي غيرها، قال: فمثّل لي في ذلك شيئا من أمر الدّنيا قال عليه السّلام: نعم أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها فهي هي و هي غيرها.
ثمّ إن شئت مزيد توضيح لهذه المسألة أعني كون الاعدام و الافناء بالتفريق و التشذيب و الاعادة بالجمع و التركيب فعليك بالرّجوع الى آيات الكتاب و أخبار الأئمة عليهم السّلام الأطهار الأطياب.
قال سبحانه وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ و قد مضى تفسير الاية مفصّلا و تحقيق الكلام في اثبات المعاد الجسماني بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثالث من المختار الثاني و الثمانين.
و قال تعالى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ و قال أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ روى في الكافي عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام إنّ هؤلاء أهل مدينة من مداين الشام و كانوا سبعون ألف بيت قال لهم اللّه موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما يلوح، و كانوا على طريق المارّة فكنستهم المارّة فنحوّهم و جمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمّتهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ أن قل كذا و كذا، فقال الذي أمر اللّه عزّ و جلّ أن يقوله، فلما قال ذلك نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض- و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
و قال تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» أى انظر إلى عظامك كيف نرفع بعضها إلى بعض للتركيب، و قرء ننشرها بالراء المهملة من أنشر اللّه الموتى أحياهم.
روى عليّ بن إبراهيم القمّي في حديث طويل عن الصّادق عليه السّلام- و ساق الحديث إلى أن قال- فخرج ارميا على حمار و معه تين قد تزوّده و شي ء من عصير فنظر إلى سباع البرّ و سباع البحر و سباع الجوّ تأكل تلك الجيف«» ففكر في نفسه ساعة ثمّ قال: أنّى يحيى اللّه هؤلاء و قد أكلتهم السّباع، فأماته اللّه مكانه و هو قول اللّه تعالى «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» الاية، و بقى ارميا ميّتا مأئة سنة ثمّ أحياه اللّه فأوّل ما أحيا اللّه منه عينيه في مثل عزقي«» البيض فنظر فأوحى اللّه إليه كم لبثت قال لبثت يوما ثمّ نظر إلى الشّمس قد ارتفعت فقال أو بعض يوم فقال اللّه تعالى بل لبثت مأئة عام فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنّه أى لم يتغيّر، و انظر إلى حمارك و لنجعلك آية للنّاس و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطرة«» تجمع إليه و إلى اللحم الذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا و ههنا و يلتزق بها حتّى قام و قام حماره فقال: إنّ اللّه على كلّ شي ء قدير.
و في الاحتجاج في حديث عنه عليه السّلام قال: و أمات اللّه ارميا النّبيّ الّذي نظر إلى خراب بيت المقدّس و ما حوله حين غزاهم بخت نصر فقال أنّي يحيى هذه اللّه بعد موتها، فأماته اللّه مأئة عام ثمّ أحياه و نظر إلى أعصابه كيف تلتئم و كيف تلبس اللّحم و إلى مفاصله و عروقه كيف توصل، فلما استوى قاعدا قال أعلم انّ اللّه على كلّ شي ء قدير.
|