و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السادسة و الثمانون من المختار فى باب الخطب تختصّ بذكر الملاحم
ألا بأبى و أمّي هم من عدّة أسمائهم في السّماء معروفة، و في الأرض مجهولة، ألا فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم، و انقطاع وصلكم، و استعمال صغاركم، ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حلّه، ذاك حيث يكون المعطي أعظم أجرا من المعطي، ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النّعمة و النّعيم، و تحلفون من غير اضطرار، و تكذبون من غير إحراج (إحواج خ ل)، ذلك إذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير، ما أطول هذا العناء، و أبعد هذا الرّجاء.
اللغة
(الملاحم) جمع الملحمة و هي الوقعة العظيمة و (الوصل) جمع الوصلة و زان غرفة يقال ما بينهما و صلة أى اتّصال (و المعطي) الأوّل بصيغة المفعول، و الثاني بصيغة الفاعل و (النعمة) في بعض النسخ بفتح النون و هي غضارة العيش، و في بعضها بالكسر و هي الخفض و الدّعة و المال و (النعيم) هو النعمة بالمعني الثاني و (أحرجه) أى ألجأه و أوقعه في الحرج و الضيق و في بعض النسخ من غير إحواج بالواو أى من غير أن يحوجكم أحد إليه و (عصنضت) اللقمة من باب سمع و منع أمسكتها بأسناني و عضّ بصاحبه لزمه، و عضّ الزمان و الحرب شدّتهما و (القتب) بالتحريك معروف و (الغارب) ما بين العنق و السّنام
الاعراب
قوله: بأبي و أمّي الباء للتفدية و الجار و المجرور خبر مقدّم و هم مبتدأ، و من في قوله من عدّة يحتمل التبعيض و التبيين و الزيادة على ما قاله الأخفش و الكوفيّون من جواز زيادتها في الاثبات، و مثله في الاحتمال الأوّل و الأخير من في قوله من إدبار، و قوله: ما أطول هذا العناء قد مرّ اعرابه في شرح الفصل الأوّل من المختار المأة و الثامن مفصّلا فليراجع هناك
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما قاله السيّد «ره» واردة في ذكر الملاحم الاتية في غابر الزمان، و من جملة اخباره الغيبيّة، و الغرض منه الاخبار بما سيكون من ذلّ الشيعة و ما يجرى عليهم و ذكر العدّة للأسف عليهم و التحزّن بما يصيبهم من الظلم و الجور.
و قوله (ألا بأبي و أمّي هم) أى هم مفدى بأبي و أمّي أى يكون أبى و امّى فداء لهم و اختلف في المشار إليهم بالضمير فقال الشارح البحراني: المراد بهم أولياء اللّه فيما يستقبل من الزمان بالنسبة إلى زمانه عليه السّلام.
و قال الشارح المعتزلي: الاماميّة تقول هذه هم الأئمة الأحد عشر من ولده، و غيرهم يقول إنّه عني الأبدال الّذين هم أولياء اللّه، و ظاهر أنّ ذكر انتظار فرج الشيعة كما اعترف الشارح به بعد ذلك لا ارتباط له بحكاية الأبدال.
و قوله (من عدّة أسماؤهم في السماء معروفة و في الأرض مجهولة) أى هؤلاء أشخاص معدودة أو من أشخاص معدودة معروفة أسماؤهم في السماء مشهورة عند الملائكة المقرّبين و في الملاء الأعلى لعلوّ درجاتهم و سمّو مقاماتهم، و كون طينتهم مأخوذة من علّيّين، و كون أهل الملاء الأعلى مخلوقا من فاضل طينتهم فكانوا أعرف بهم من أهل الأرض. و أمّا أهل الأرض فهم عند أكثرهم مجهولون لاستيلاء الضّلال على أكثر السّتر «البشرظ» و غلبة الجهال يعني أنّ أكثر الناس لا يعرفونهم و لا يعرفون قدرهم و منزلتهم، فلا ينافي معرفة الخواص لهم و إن كانوا أيضا لا يعرفونهم حقّ معرفتهم، أو أراد به جهالة اسمائهم في وقت ايراد الكلام و التخصيص فيه أقلّ من الاحتمال الأوّل كما لا يخفى.
ثمّ خاطب عليه السّلام أصحابه بذكر الملاحم و الفتن الحادثة في مستقبل الزّمان فقال (ألا فتوقّعوا من إدبار اموركم و انقطاع وصلكم و استعمال صغاركم) أى تفرّق اموركم المنتظمة و انقطاع الاتصالات و الانتظامات الحاصلة في أمر المعاش و المعاد من أجل تشتّت الاراء و اختلاف الأهواء و تفرّق الكلمات، و تقديم الصّغار سنّا على المشايخ و أرباب التجارب في الأعمال و الولايات، أو تقديم الأوغاد و الأراذل و الصّغار قدرا على الأشراف و الأكابر و ذوى البيوتات، فانّ استعمال هؤلاء و توليتهم موجب لفساد النظام و اختلال الانتظام.
و قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، و استعملوا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم إلى الشتات و نظامهم إلى البتات.
و لذلك كتب عليه السّلام للأشتر في عهده إليه حين استعمله على مصر حسبما يأتي من باب المختار من كتبه عليه السّلام إنشاء اللّه تعالى: ثمّ انظر في أمور عمالك و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام المتقدّمة فانهم أكرم أخلاقا و أصحّ أغراضا و أقلّ في المطامع اشرافا و أبلغ في عواقب الامور نظرا- إلى آخر ما يأتي في مقامه بتوفيق اللّه و عنايته.
(ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حلّه) أى ذلك المذكور من انقطاع الوصل و ادبار الامور حيثما يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقلّ مشقّة من احتمال مشقة اكتساب الدّرهم الحلال لأجل اختلاط المكاسب و اشتباه الحرام بالحلال و غلبة الحرام فيها.
(ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي) أى يكون المحسن إليه أعظم أجرا من المحسن، لأنّ أكثر الأموال فى ذلك الزمان يكون من الحرام، و أيضا لا يعطونها على الوجه المأمور به بل يعطونها للأغراض الفاسدة من الرياء و السمعة و هوى النفس الأمارة، و أما المحسن إليه فلكونه فقيرا يأخذ المال لسدّ خلّته و خلّة عياله الواجب النفقة لا يلزمه البحث عن المال و حليّته، و حرمته فكان أعظم أجرا من المعطي.
قال الشارح المعتزلي: و قد خطر لي فيه معني آخر، و هو أنّ صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر الأحوال في الفساد، فاذا أخذه الفقير منه على وجه الصّدقة فقد فوّت عليه صرفه في القبايح فقد كفه الفقير بأخذه المال من ارتكاب القبيح.
و تبعه على ذلك الشارح البحراني، و لا يخلو عن بعد و كيف كان فأفعل التفضيل أعني قوله: أعظم أجرا مثل ما في قوله تعالى «أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ».
(ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة و النعيم) استعار لفظ السكر لغفلتهم عما يلزم عليهم من صلاح امورهم، و لما كان المعني الحقيقي للسّكر ما كان عن الشراب فأتى بقوله: من غير شراب، ليكون صارفا عن الحقيقة إلى المجاز، و قد قيل: سكر الهوى أشدّ من سكر الخمر. (و تحلفون من غير) إجبار و (اضطرار) أى تتهاونون باليمين و قد نهى اللّه سبحانه عنه بقوله «و لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم».
(و تكذبون من غير احراج) أى تكذبون من غير ضرورة توقعكم في الضيق و الحرج و تلجئكم إلى الكذب بل لكونه عادة و ملكة لكم و اعتيادكم به تكذبون.
(ذلك إذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير) أى يشتدّ عليكم البلاء و يؤذيكم كما يؤذى القتب غارب البعير، فاستعار لفظ العضّ للأذيّة من باب الاستعارة التبعيّة، أو شبّه البلاء بالجمل الصعب الشموس على سبيل الاستعارة المكنيّة و ذكر العضّ تخييلا، ثمّ شبه عضّ البلاء بعضّ القتب من باب تشبيه المعقول بالمعقول. قال الشارح المعتزلي: هذا الكلام غير متّصل بما قبله، و هذه عادة الرضى يلتقط الكلام التقاطا و لا يتلو بعضه بعضا.
قال: و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدّم من الأجزاء الاول، و قبل هذا الكلام ذكر ما ينال شيعته من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج.
قال: و قوله (ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرّجاء) حكاية كلام شيعته عليه السّلام انتهى كلام الشارح.
فيكون المراد بالرجاء رجاء ظهور القائم عليه السّلام فعلى هذا يكون المعنى أنهم في غيبته عليه السّلام يصابون بالبلاء و يمتدّ زمن ابتلائهم و مشقّتهم حتّى يقولوا ما أطول هذا التعب و المشقة و ما أبعد رجاء ظهور الدّولة الحقّة القائميّة و الخلاص من العناء و الرزيّة.
و قال الشارح البحراني: و يحتمل أن يكون الكلام متّصلا و يكون قوله: ما أطول آه كلاما مستأنفا في معنى التوبيخ لهم على إعراضهم عنه و إقبالهم على الدّنيا و إتعابهم أنفسهم في طلبها، و تنفير لهم عنها بذكر طول العناء في طلبهم و بعد الرجاء لما يرجى منها، أى ما أطول هذا العناء اللّاحق لكم في طلب الدّنيا و ما أبعد هذا الرجاء الّذى ترجونه منها.
|