و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و السابع و الثمانون من المختار فى باب الخطب
أوصيكم أيّها النّاس بتقوى اللّه، و كثرة حمده على آلائه إليكم، و نعمائه عليكم، و بلائه لديكم، فكم خصّكم بنعمة، و تدارككم برحمة أعورتم له فستركم، و تعرّضتم لأخذه فأمهلكم
اللغة
قال الفيومى (تدارك) القوم لحق آخرهم أوّلهم و استدركت ما فات و تداركته و أصل التدارك اللحوق يقال أدركت جماعة من العلماء إذا لحقتهم و (أعورتم له) أى أبديتم عورتكم له، و العورة كلّ شي ء يستره الانسان أنفة و حياء و النساء عورة و (تعرّض) لكذا إذا تصدّى له.
الاعراب
جملة أعورتم استيناف بياني قوله: فكفى واعظا بموتى، لفظ موتى في محلّ الرفع فاعل كفى، و الباء زايدة كما في قوله تعالى: كفى باللّه شهيدا.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة واردة في مقام النّصح و الموعظة و الأمر بتكميل الحكمة العمليّة و الوصيّة بالتقوى و ذكر الموت، و قدّم الوصيّة بالتقوى لأنّها العمدة الكبرى فيما يوصى به فقال: (اوصيكم أيّها النّاس بتقوى اللّه) التي هى الزاد و بها المعاد و زاد رابح و معاد منجح (و كثرة حمده على آلائه إليكم و نعمائه عليكم) لأنّ كثرة الحمد عليها موجبة لكثرتها و زيادتها (و بلائه لديكم) و قد مضى بيان حسن الثناء على البلاء كحسنه على الالاء في شرح الخطبة المأة و الثالثة عشر فتذكّر.
(فكم خصّكم بنعمة و تدارككم برحمة) لفظة كم للتكثير أتى بها تبيها على كثرة آلائه النازلة و ألطافه الواصلة.
و أشار إلى بعضا بقوله (اعورتم له فستركم) أى أظهرتم و كشفتم له سبحانه سوآتكم و عوراتكم و قبايح أعمالكم و فضايح أفعالكم فسترها لكم بمقتضى ستاريته و غفاريته تعالى، و هذه النعمة من أعظم النعماء و أجلّ الالاء.
و لجلالتها و كونها من عمدة النعم جعل سيّد العابدين و زين الساجدين سلام اللّه عليه و على آبائه و أولاده أجمعين من جملة أدعيّته في الصحيفة الكاملة دعاء طلب الستر و الوقاية و قال عليه السّلام هناك: و لا تبرز مكتومى، و لا تكشف مستورى، و لا تحمل على ميزان الانصاف عملى، و لا تعلن على عيون الملاء خبرى، و اخف عنهم ما يكون نشره علىّ عارا، و اطو عنهم ما يلحقني عندك شنارا. و قال عليه السّلام في دعائه بعد الفراغ من صلاة اللّيل: و تعدّيت عن مقامات حدودك إلى حرمات انتهكتها، و كبائر ذنوب اجترحتها، كانت عافيتك لي من فضايحها سترا «إلى أن قال» اللّهم و اذ سترتني بعفوك و تغمّدتني بفضلك في دار الفناء بحضرة الاكفاء فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الاشهاد من الملائكة المقرّبين و الرّسل المكرّمين و الشهداء و الصالحين، من جار كنت أكاتمه سيّاتي، و من ذي رحم كنت احتشم منه في سريراتي، لم أثق ربّ بهم في الستر علىّ، و وثقت بك ربّ في المغفرة لي، و أنت أولى من وثق به و أعطى من رغب إليه و أرءف من استرحم، فارحمني.
(و تعرّضتم لأخذه فأمهلكم) أى تعرّضتم للمعاصي الموجبة لمؤاخذته فأمهلكم و لم يعاجلكم بالعقوبة.
و هذه أيضا نعمة عظيمة و موهبة كبيرة منه سبحانه على عباده العاصين، لأنه سبحانه عفوه أعلى من عقابه، و رحمته سابقة على غضبه، فامهالهم للخاطئين ليس غالبا إلّا كرامة لهم، و تفضّلا منه سبحانه عليهم، فلا يعجل و لا يبادر في عقاب من عصاه، بل يحلم و يمهل ليتدارك المذنب ذنبه بالتوبة و نحوها.
و من أسمائه الحسنى: الحليم أى الذي لا يستخفّه شي ء من المعاصي و لا يستفزّه الغضب عليهم قال تعالى: «وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» و قال سيّد الساجدين عليه السّلام في دعاء الاستقالة من الذّنوب من أدعيّة الصحيفة الكاملة.
سبحانك ما أعجب ما اشهد به على نفسى و أعدوه من مكتوم أمرى، و أعجب من ذلك إناتك عنّي و إبطاؤك عن معاجلتي، و ليس ذلك من كرمي عليك، بل تأنّيا منك لي، و تفضّلا منك علىّ، لأن ارتدع عن معصيتك المسخطة، و أقلع عن سيّأتي المخلقة، و لأنّ عفوك عنّي أحبّ إليك من عقوبتي.
روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال اللّه تعالى: و عزّتي و جلالي لا اخرج عبدا من الدّنيا و أنا اريد أن أرحمه حتّى استوفي منه كلّ خطيئة عملها إما بسقم في جسده، و إما بضيق في رزقه، و إما بخوف، في دنياه، فان بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت.
و الأخبار في هذا المعني كثيرة، هذا.
|