و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التاسعة و الثمانون من المختار فى باب الخطب
أحمده شكرا لانعامه، و أستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند، عظيم المجد، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، دعا إلى طاعته و قاهر أعداءه، جهادا عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه و التماس لإطفاء نوره.
اللغة
(الوظائف) جمع الوظيفة و هو ما يقدّر للانسان من عمل و رزق و طعام و غير ذلك، و وظفت عليه العمل توظيفا قدّرته (و قاهر أعداءه) و في بعض النسخ قهر أعداءه يقال: قهره قهرا غلبه فهو قاهر و (ثنيت) الشي ء ثنيا من باب رمى إذا عطفته و رددته، و ثنيته عن مراده إذا صرفته عنه
الاعراب
قوله: شكرا لانعامه، منصوب على المصدر بغير لفظ فعله و هو أحمد لكون المراد بالحمد هنا الشكر بقرينة انعامه، و عزيز الجند و عظيم المجد، منصوبان على الحال من الضمير في أستعينه و ليس اضافتهما إلى المعرفة مانعة من حاليتهما لأنها اضافة لفظية لا تفيد إلا تخفيفا فلا يخرجان من النكارة الّتي هى شرط الحال و جهادا منصوب على الحال من فاعل قاهر لكونه بمعنى الفاعل أى مجاهدا و قال الشارح البحراني: إنّه انتصب نصب المصادر عن قوله قاهر من غير لفظه إذ في قاهر معنى جاهد، و عن دينه عن هنا بمعنى التعليل كما في قوله تعالى «وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ» و قوله «وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» و يجوز إبقاؤها على معناها الأصلي بتضمين جهادا معنى الذّب و الدّفع و الابعاد. و جملة لا يثنيه منصوب المحلّ على الحالية أيضا من فاعل دعا أو قاهر.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة من أعيان خطبة عليه السّلام و ناضع كلامه و رايقه و فيها من لطايف البلاغة و محاسن البديع و سهل التركيب و حسن السّبك خالية من التكلّف و العقادة ما لا يخفى، تكاد تسيل من رقّتها و تنحدر انحدار الماء في انسجامها، كيف و خطيبه سلام اللّه عليه و آله قطب البلاغة الذي عليه مدارها، و اليه ايرادها و اصدارها، إن ذكرت الرقة فهو عليه السّلام سوق رقيقها، أو الجزالة فهو صفح عقيقها.
و هى مسوقة في معرض النصح و الموعظة و الأمر بالتقوى و أخذ الزاد ليوم المعاد و النهى عن الرّكون إلى الدّنيا و الاغترار بزخارفها و التحذير عن الموت الذي هو هادم اللّذات و قاطع الامنيات، و التذكير بما بعده من شدائد البرزخ و ظلمات القبر و أهوال القيامة، و فورات السعير و سورات الزفير و غيرها مما تطلع عليها. و افتتح كلامه بما هو أحقّ أن يفتتح به كلّ كلام فقال: (أحمده شكرا لانعامه) أى لأجل كونه تعالى منعما و كون النعم كلّها من عنده صغيرها و كبيرها و حقيرها و خطيرها، فانّ الشكر عليها موجب للمزيد دافع للعذاب الشديد.
روى في الصافي من العيون عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه سئل عن تفسير الحمد للّه فقال إنّ اللّه عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا.
و قد مضى فصل واف في تحقيق معنى الشكر و ما يتعلّق به في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الثانية.
(و استعينه على وظائف حقوقه) أى أطلب منه التوفيق و الاعانة على حقوقه الواجبة و المندوبة التي وظيفتها علىّ و قدرها في حقّى من الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة و البرّ و الصدقات و حجّ بيت اللّه و الجهاد في سبيل اللّه و نحوها من العبادات الموظفة و الطاعات المقرّرة.
قال في تفسير الامام عند تفسير سورة الحمد للّه و إياك نستعين على طاعتك و عبادتك و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم و المقام على ما أمرت.
و في الاستعانة منه تعالى على وظائف حقوقه إشارة إلى أنّ القيام بمراسم حقوقه و تكاليفه لا يمكن إلّا باعانته و توفيقه سبحانه.
و ذلك لأنّ التكاليف الشرعية و الحقوق الالهية كلّها على كثرتها موقوفة على القدرة و الاستطاعة البدنية و المالية، و العبد من حيث وصف الامكان فيه عاجز ضعيف في ذاته لا يقدر على شي ء أصلا إلّا باقدار اللّه سبحانه و إفاضة القوى الظاهرة و الباطنة و الاعانة منه مالا و بدنا و هو مستلزم لاتّصافه تعالى بالقدرة و القوّة و العظمة و الجلال و هو معنى قوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أى الغنىّ المستقلّ في ذاته و الحميد المحمود في صفاته.
فهو القادر القاهر (عزيز الجند) و مالك الملك (عظيم المجد) فباعتبار قدرته و عزّة جنده يطلب منه الاعانة فى الجهاد، فانّ حزبه هم الغالبون، و باعتبار عظمته و مجده يطلب منه التوفيق و الامداد لاقامة مراسم حقوقه المؤدّية إلى الرشاد في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون، فعلم من ذلك أنه سبحانه بماله من صفة العزّة و العظمة مبدء الاستعانة به على القيام بوظايف التكاليف و لذلك عقّبه بذكر الوصفين و آثرهما على ساير أوصافه.
و لما كان أعظم حقوقه الموظفة و أهمّها بالقيام به معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاذعان برسالته اتبع ثنائه سبحانه بالشهادة برسالته قضاء لحقّه الأعظم و فرضه الأهمّ فقال: (و أشهد أنّ محمّدا) صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (عبده) المنتجب (و رسوله) المصطفى (دعا) عباده (إلى طاعته) بالحكمة و الموعظة الحسنة (و قاهر أعداءه جهادا عن دينه) أى قهرهم و غلبهم حالكونه مجاهدا لهم لأجل نصب قوائم الدّين و رفع دعائم الاسلام، أو جاهدهم جهادا طردا لهم و ابعادا عن هدم أركان الدّين و إطفاء أنوار اليقين (لا يثنيه من ذلك) أى لا يصرفه من الدعوة إلى الطاعة أو من جهاد الأعداء (اجتماع على تكذيبه) مع قلّة ناصريه و كثرة معانديه (و التماس لاطفاء نوره) أى طلبهم لابطال ما جاء به من من عند الحق مع اهتمامهم به و جدّهم فيه.
و استعار لفظ النور لما جاء به من دين الحقّ و قرنه بالاطفاء الملائم للمستعار منه فهو استعارة تحقيقية مرشّحة، و الجامع أنّ الدّين يهدى إلى الصّراط المستقيم و نضرة النعيم كما أنّ النور يهتدي به في الغياهب و الظلمات إلى نهج الرشاد و منهج الصّلاح و السّداد.
|