و سيق الّذين اتّقوا ربّهم إلى الجنّة زمرا، قد أمن العذاب، و انقطع العتاب، و زحزحوا عن النّار، و اطمأنّت بهم الدّار، و رضوا المثوى و القرار، الّذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية، و أعينهم باكية، و كان ليلهم في دنياهم نهارا، تخشّعا و استغفارا، و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا، فجعل اللّه لهم الجنّة مابا، و الجزاء ثوابا، و كانوا أحقّ بها و أهلها، في ملك دائم و نعيم قائم. فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم، و بإضاعته يخسر مبطلكم و بادروا اجالكم بأعمالكم، فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم، و مدينون بما قدّمتم، و كأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، و لا عثرة تقالون. استعملنا اللّه و إيّاكم بطاعته و طاعة رسوله، و عفا عنّا و عنكم بفضل رحمته
اللغة
(المثوى) بفتح الميم و العين المنزل و المقام من ثوى بالمكان و فيه أقام و (زكا) الرّجل يزكو إذا صلح فهو زاك. و قوله (فلا رجعة تنالون) قال الشارح المعتزلي: الرواية بضمّ التاء أى تعطون يقال أنلت فلانا مالا منحته، و قد روى تنالون بفتح التاء.
الاعراب
قوله: و كان ليلهم في دنياهم نهارا، الموجود في النسخ برفع ليل و نصب نهار على أنهما معمولان لكان الناقصة قال الشارح البحراني: و في نسخة الرضي بخطه كأنّ ليلهم نهار برواية كأنّ للتشبيه و نصب ليل و رفع نهار، و كذا في القرينة الثانية أعنى قوله: و كأنّ نهارهم ليلا برواية كأنّ نهارهم ليل. قوله و كأن قد نزل، كأن مخفّفة من المثقّلة و اسمها ضمير شأن مستتر، و قوله فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون، كلمة لا لنفى الجنس، و رجعة و عثرة في بعض النسخ بالبناء على الفتح و في بعضها بالنصب على الغاء لا التّبرية عن العمل و جعلهما مفعولين مقدمين على فعليهما.
المعنى
و لما ذكر سوء حال المجرمين أردفه بشرح حال المتقين حثّا على اقتفاء آثارهم و اقتباس أنوارهم فقال: (و سيق الذين اتّقوا ربهم إلى الجنّة زمرا) اقتباس من الاية الشريفة في سورة الزمر و آخرها حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ أى يساقون المتّقون إسراعا بهم إلى دار الكرامة مكرمين زمرة بعد زمرة أى أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض على تفاوت مراتبهم في الشرف و علوّ الدّرجة و يساقون راكبين كما عرفت في شرح الفصل التاسع من المختار الأول حتّى إذا جاؤها و قد فتحت أبواب الجنّة لهم قبل مجيئهم انتظارا بهم، و قال لهم خزنتها عند استقبالهم: سلام عليكم أى سلامة من اللّه عليكم يحيّونهم بالسلامة ليزدادوا بذلك سرورا، طبتم أى طبتم بالعمل الصّالح في الدّنيا و طابت أعمالكم الصّالحة أو طاب مواليدكم لا يدخل الجنّة إلّا طيب المولد، فادخلوا الجنّة خالدين مخلّدين و قد مضى فصل واف في وصف الجنّة و أوصاف أهلها في شرح الفصل التّاسع من المختار الأوّل و شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الثمانية.
و قوله (قد أمن العذاب و انقطع العتاب و زحزحوا عن النار و اطمأنّت بهم الدّار و رضوا المثوى و القرار) أراد أنهم يساقون إلى الجنّة حالكونهم مأمونين من العقاب و العذاب، منقطعا عنهم خطاب العتاب، مبعدين عن النّار، مطمئنين بالدّار راضين بالمثوى و القرار، أى بالمقام و المقرّ.
و نسبة مطمئنة إلى الدار من المجاز العقلي و الاسناد إلى المكان أو من الكلام من باب الاستعارة بالكناية فانّ الدّار لما كانت مخلوقه لأجلهم معدّة لهم كما قال عزّ من قائل «وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ» شبّهها بالمنتظر لقدوم محبوبة، حتّى إذا قدم إليه ارتفع عنه الانتظار و حصل له الاطمينان، فتكون الدّار استعارة بالكناية و ذكر الاطمينان تخييلا للاستعارة.
و أما كونهم راضين بالمثوى و القرار فلأجل ما اعدّ لهم فيها من جميع ما تشتهيه أنفسهم و تلذّ أعينهم مما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
قال سبحانه فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ و قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ و هم (الذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية) أى طيبة طاهرة من شوب الشرك و الرّياء أو متّصفة بالصلاح و السداد (و أعينهم باكية) من خشية اللّه و الخوف من عذابه و الاشفاق من عقابه.
و الروايات في فضل البكاء من خشيته سبحانه كثيرة جدّا و نشير إلى بعضها فأقول: روى في الوسائل عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: و من ذرفت عيناه من خشية اللّه كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنة مكلّل بالدّر و الجواهر فيه ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
و فيه من ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس شي ء إلّا و شي ء يعدله إلّا اللّه فانه لا يعدله شي ء و لا إله إلّا اللّه لا يعد له شي ء و دمعة من خوف اللّه فانه ليس لها مثقال فان سالت على وجهه لم يرهقه قتر و لا ذلّة بعدها أبدا.
و عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية اللّه، و عين غضّت عن محارم اللّه و عين باتت ساهرة في سبيل اللّه.
و عن الرّضا عليه السّلام قال: كان فيما ناجي اللّه به موسى عليه السّلام أنّه ما تقرّب إلىّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي، و ما تعبّد لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي و لا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدّنيا عمايهم الغنى عنه، فقال موسى عليه السّلام يا أكرم الأكرمين فما أثبتهم على ذلك فقال: يا موسى أما المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشركهم فيه أحد، و أما المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فاني افتّش الناس عن أعمالهم و لا أفتّشهم حياء منهم، و أما المتزيّنون لي بالزهد في الدّنيا فاني ابيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤن منها حيث يشاؤن.
و فيه من العيون عن الحسن بن عليّ العسكري عن آبائه عليهم السّلام قال: قال الصادق عليه السّلام إنّ الرجل ليكون بينه و بين الجنّة أكثر مما بين الثرى إلى العرش لكثرة ذنوبه فما هو إلّا أن يبكى من خشية اللّه عزّ و جلّ ندما عليها حتّى يصير بينه و بينها أقرب من جفنه إلى مقلته.
و فيه من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ما من شي ء إلّا و له كيل و وزن إلّا الدّموع فانّ القطرة تطفي بحارا من نار، فاذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر و لا ذلّة، فاذا فاضت حرّمها اللّه على النار، و لو أنّ باكيا بكى في امة لرحموا و في عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي قال: و فيما أوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام يا عيسى ابن البكر البتول ابك على نفسك بكاء من قد ودّع الأهل و قلى الدّنيا و تركها لأهلها و صارت رغبته عند إلهه.
و فيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام قال: إلهي ما جزأ من دمعت عيناه من خشيتك قال: يا موسى أقي وجهه من حرّ النّار و آمنه يوم الفزع الأكبر.
و فيه عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام ما من قطرة أحبّ إلى اللّه من قطرة دموع في سواد اللّيل مخافة من اللّه لا يراد بها غيره.
و فيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبة الوداع: و من ذرفت عيناه من خشية اللّه كان له بكلّ قطرة من دموعه مثل جبل احد تكون في ميزانه من الأجر، و كان له بكلّ قطرة عين من الجنّة على حافّتها من المداين و القصور ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر بقلب بشر.
و فيه عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ إبراهيم النبىّ عليه السّلام قال: إلهى ما لعبد بلّ وجهه بالدّموع من مخافتك قال اللّه تعالى: جزاؤه مغفرتى و رضواني يوم القيامة- الى غير هذه مما لا نطيل بروايتها.
ثمّ وصف المتّقين بوصفين آخرين أحدهما قوله (و كان ليلهم في دنياهم نهارا تخشّعا و استغفارا) يعنى أنهم يسهرون لياليهم و يقومون من مضاجعهم و يتركون لذّة الرّقاد اشتغالا بمناجاة ربّ العباد، فيجعلون ليلهم بمنزلة النهار في ترك النوم و القرار: و يقومون بين يدي الرّب المتعال بالخضوع و الخشوع و التضرّع و الابتهال، و يواظبون على الدّعاء و الصلاة و الاستغفار إلى أن يذهب اللّيل و يؤب الفجر و النهار.
و قد مدحهم في كتابه العزيز بقوله وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ و قال تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا قام العبد من لذيذ مضجعه و النعاس في عينيه ليرضى ربّه عزّ و جلّ لصلاة ليله باهي اللّه به ملائكته فقال: أما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه إلى صلاة لم أفرضها عليه، اشهدوا أنّى غفرت له.
و قد مضى أخبار كثيرة في فضل صلاة اللّيل و قيامه في شرح الفصل السادس من الخطبة الثانية و الثّمانين و في شرح الخطبة المأة و الثانية و الثمانين.
و أقول هنا مضافا إلى ما مرّ: يكفى في فضل قيامه أمر اللّه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله به في قوله يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا.
قال أمين الاسلام الطبرسى: المعنى يا أيّها المتزمّل بثيابه المتلفّف بها، قم اللّيل للصلاة إلّا قليلا من اللّيل نصفه، بدل من الليل أى قم نصف الليل أو انقص من النصف أو زد على النصف، و قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين.
و قوله: و رتّل القرآن ترتيلا- روى في الصافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن هذه الاية فقال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بيّنه بيانا و لا تهذّه هذّ الشعر و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن افرغوا قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة إنّا سنلقى عليك قولا ثقيلا- قيل أى القرآن، لأنّه لما فيه من التكاليف ثقيل على المكلّفين، قال عليّ بن إبراهيم القميّ: قولا ثقيلا قال عليه السّلام قيام الليل و هو قوله إنّ ناشئة الليل الاية، و قيل: أى النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أى تنهض أو العبادة التي تنشأ بالليل أى تحدث، و في المجمع عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام أنهما قالا: هى القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل.
هى أشدّ وطأ، أى أكثر ثقلا و أبلغ مشقة، لأنّ الليل وقت الراحة و العمل يشقّ فيه، و من قرء وطاء بالمدّ فالمعنى أشدّ مواطاة للسمع و البصر يتوافق فيه قلب المصلّى و لسانه و سمعه على التفكر و التفهّم إذ القلب غير مشتغل بشي ء من امور الدّنيا.
و أقوم قيلا- أى أسدّ مقالا و أصوب «خ اثبت» للقراءة، لفراغ البال و انقطاع ما يشغل القلب، هذا.
و في عدة الداعى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان له حاجة فليطلبها في العشاء فانّها لم يعطها أحد من الامم قبلكم، يعني العشاء الاخرة.
و في رواية في السّدس الأوّل من النصف الثاني من اللّيل، و يعضدها ما ورد من الترغيب و الفضل لمن صلّى اللّيل و النّاس نيام و في الذكر في الغافلين، و لا شكّ في استيلاء النوم على غالب الناس في ذلك الوقت، بخلاف النصف الأوّل، فانّه ربما يستصحب الحال فيه النهار، و آخر اللّيل ربما انتشروا فيه لمعايشهم و أسفارهم، و انّما مخّ«» اللّيل هو وقت الغفلة و فراغ القلب للعبادة، لاشتماله على مجاهدة النفس و مهاجرة الرقاد و مهاجرة وثير المهاد و الخلوة بمالك العباد و سلطان الدّنيا و المعاد، و هو المقصود من جوف الليل و هي ما رواه عمر بن اذينة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ في الليل ساعة ما يوافق فيها عبد مؤمن يصلّي و يدعو اللّه فيها إلّا استجاب له، قلت: أصلحك اللّه و أىّ ساعة الليل هي قال: إذا مضى نصف الليل، و بقي السّدس الأوّل من النصف الثاني.
و أمّا الثلث الأخير فمتواتر«» قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا كان آخر الليل يقول اللّه سبحانه و تعالى: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فاعطيه سؤاله، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه.
و روى ابراهيم بن محمود قال، قلت للرّضا عليه السّلام: ما تقول في الحديث الّذي يرويه النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ اللّه تعالى ينزل في كلّ ليلة إلى السماء الدّنيا فقال عليه السّلام: لعن اللّه المحرّفين الكلم عن مواضعه، و اللّه ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك إنما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى ينزل ملكا إلى السماء الدّنيا كلّ ليلة في الثلث الأخير و ليلة الجمعة من أوّل اللّيل فيأمره فينادى: هل من سائل فاعطيه سؤله، هل من تائب فاتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشرّ أقصر، فلا يزال ينادى بها حتّى يطلع الفجر، فاذا طلع عاد إلى محلّه من ملكوت السماء، حدّثني بذلك أبي عن جدّي عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
إذا عرفت ذلك فأقول: طوبى لعبد يتجافى جنبه عن المضجع و المهاد، و يسلب عن عينه لذّة الرقاد، و يشتغل بعبادة ربّ العباد، و يناجيه في غلس الظلام و الناس نيام، تارة بالقعود و السجود، و اخرى بالرّكوع و القيام، فيقوم بحضرة الملك الجليل قيام العبد الذّليل: و يجعل ذنوبه و خطاياه نصب عينيه فيبكى على حاله و يسأله أن يعفو عنه، و يرحم عليه، و يرفع إلى اللّه سبحانه يد المسكنة و السؤال، و يقول بالتضرّع و الذلّ و الابتهال:
- طرقت باب الرّجا و الناس قد رقدواو جئت أشكو إلى مولاى ما أجد
- و قلت ما املى في كلّ نائبةو من عليه بكشف الضرّ أعتمد
- أشكو إليك أمورا أنت تعلمهامالى على حملها صبر و لا جلد
- و قد مددت يدي بالذّل خاضعةإليك يا خير من مدّت إليه يد
- فلا تردّنها يا ربّ خائبةفبحر جودك يروى كلّ من يرد
- يا من يغيث الورى من بعد ما قنطواارحم عبيدا أتوا بالذلّ قد نكسوا
الوصف الثاني قوله عليه السّلام: (و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا) و هو من التشبيه البليغ المحذوف الأداة، و على رواية كأنّ بالتشديد فهو تشبيه اصطلاحى، و طرفاه حسيّان و قد أشير إلى وجه الشبه و هو التوحش و الانقطاع، فيكون من التشبيه المفصّل المذكور فيه أركان التشبيه بحذافيرها، و مثله القرينة السابقة أعنى قوله: و كان ليلهم نهارا اه و ما ذكرناه هنا آت ثمّة حرفا بحرف و كيف كان فالمراد إنّ المتقين جعلوا نهارهم بمنزلة اللّيل في التوحش من الخلق و الاعتزال منهم و الانقطاع عنهم إلى اللّه سبحانه و الفراغ للعبادة و الطاعة، و قد مضى تفصيل الكلام في فوايد الاعتزال و الانقطاع بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الثاني فليراجع ثمّة.
و لما وصف حال المتّقين و تمحيضهم العبادة للّه و خلوصهم في مقام العبودية و استيحاشهم من الخلق و استيناسهم بالخالق أراد أن ينبّه على ما منحه اللّه عليهم جزاء لعملهم فقال: (فجعل اللّه لهم الجنّة مابا) أى مرجعا و منزلا و مقيلا كما قال تعالى هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ. لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً و قال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ.
(و الجزاء ثوابا) كما قال عزّ من قائل إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً. حَدائِقَ وَ أَعْناباً.. وَ كَواعِبَ أَتْراباً. وَ كَأْساً دِهاقاً. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (و كانوا أحقّ بها و أهلها) أى بالجنّة و بأهلها من الحور العين و الولدان المخلّدين، أو أنّه من التقديم و التأخير و التقدير كانوا أهلها و أحقّ بها أى كان المتّقون أهل الجنّة و احتسابها من الفاسقين و الكافرين، أو المراد أنهم كانوا أحقّ بدخول الجنّة و أهلالها، و على أىّ احتمال ففيه إشارة إلى أنّهم بصالح أعمالهم استحقّوا بذلك الجزاء الجميل و الأجر الجزيل و كانوا أحقّ تبلك النعمة العظيمة.
و أشار إلى بقائها و عدم نفادها بقوله: (في ملك دائم و نعيم قائم) كما قال تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ثمّ أكدّ الحثّ على التقوى بعبارة أخرى مرغبة إلى أخذها محذرة من تركها فقال (فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم و باضاعته يخسر مبطلكم) أى حافظوا على ما بحفظه و مواظبته يفوز الفائزون و هو التقوى و صالح العمل كما نطق به كتاب اللّه عزّ و جلّ قال وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ و قال الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ.
و باضاعته و تركه يخسر المبطلون أى الاخذون بالباطل و سميّ ء العمل، و هم التاركون للتقوى و المنهمكون فى الزيغ و الزلل قال تعالى وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.
(و بادروا آجالكم) الموعودة (بأعمالكم) الصالحة أى استعدّوا للموت قبل حلول الفوت (فانّكم مرتهنون بما أسلفتم) من الذّنوب محتاجون إلى فكّ رهانتها.
قال الشارح البحراني: لفظ المرتهن مستعار للنفوس الاثمة باعتبار تقيّدها بالسيّئة و إطلاقها بالحسنة كتقيّد الرّهن المتعارف بما عليه من المال و افتكاكه بأدائه (و مدينون بما قدّمتم) أى مجزيّون به إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرا.
ثمّ نبّه على قرب الموت منهم بقوله (و كأن قد نزل بكم المخوف) أى أشرف عليكم و أظلكم (فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون) يعني أنّه إذا نزل فليس بعد نزوله رجعة تعطوها و لا عثرة تقالون منها، لأنّ إقالة العثرات بالتوبة إنما تكون فى دار الدّنيا، لأنها دار التكليف و العمل و أمّا الاخرة فهى دار الجزاء لا ينفع فيه الندّم و الاستقالة، و لو قال أحدهم ربّ ارجعوني لعلّى أعمل صالحا فيما تركت قيل له: كلا إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
(استعملنا اللّه و اياكم بطاعته و طاعة رسوله) هو دعاء للتوفيق و الاعانة منه سبحانه على القيام بوظائف تكاليفه و مراسم طاعته (و عفا عنّا و عنكم بفضل) ه الواسع و كرمه السابغ و (رحمته) الّتي وسعت كلّ شي ء، هذا.
|