فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم، و جمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها، و أسالت لهم جداول نعيمها، و التفّت الملّة بهم عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، و عن خضرة عيشها فكهين، و قد تربّعت الامور بهم في ظلّ سلطان قاهر، و أوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة.
اللغه
(تفكّه به) تمتّع بأكله و الفاكهة التّمر و العنب و الثّمر كلّه، و في بعض النسخ فاكهين بدل فكهين أى ناعمين، و بها قرء قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و قال الاصمعى فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة.
(و تربّعت) الامور بهم اعتدلت من قولهم: رجل ربعة و امرأة ربعة أى معتدل و حذف الهاء في المذكر لغة و فتح الباء فيهما أيضا لغة و قال الشارح المعتزلي و غيره: تربّعت بمعنى أقامت من قولك ربع بالمكان أى أقام به (الذّرى) جمع ذروة بالضمّ و الكسر و هى أعلى الشي ء و (الغمز) العصر و الكبس باليد قال الشاعر:
- و كنت إذا غمزت قناة قومكسرت كعوبها أو تستقيما
و (القناة) الرّمح و (الصّفاة) الصّخرة و الحجر الأملس.
الاعراب
قوله: في عوائد بركتها، قال الشّارح المعتزلي و البحراني: متعلّق بمحذوف و موضعه نصب على الحال أى جمعتهم الملّة كائنة في عوائد بركتها أقول: و يجوز تعلّقه بقوله و التفّت فيكون مفعولا بالواسطة.
و قوله: و عن خضرة عيشها قال الشّارح المعتزلي: عن متعلّقة بمحذوف تقديره، فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أى خضرة عيش النّعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه أقول: لا حاجة إلى تقدير المحذوف لجواز تعلّقها بقوله فاكهين و كونها بمعنى من النشوية أو بمعنى اللّام كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ.
المعنى
و لمّا ذكر ما كانت العرب عليه قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الضّيم و الذّل و الفقر و الجهل، أردفه بالتّنبية على أعظم ما أنعم اللّه سبحانه به عليهم من بعث النّبى الكريم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم و تبديل سوء حالهم بحسن الحال ببركة هذه النعمة العظيمة فقال: (فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا) كريما (فعقد) أى اللّه سبحانه أو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (بملّته طاعتهم) لأنّ طاعتهم قد كانت في الجاهليّة تابعة لأهوائهم الباطلة، متشتّتة بتشتّت الاراء المختلفة، فلذلك اتّخذوا لهم آلهة فأطاع كلّ منهم إلهه و صنمه فعقد الملّة طاعتهم للّه تعالى بعد الانتشار و عبادة الأصنام.
(و جمع على دعوته) أى الرّسول (الفتهم) بعد طول تضاغن القلوب و تشاحن الصّدور، و أشار إلى تفصيل مواقع نعم اللّه بقوله: (كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها) شبّه النعمة أى نعمة الاسلام الحاصلة بالبعثة فى انبساطها عليهم بالطاير الباسط لجناحه على فرخه على سبيل الاستعارة بالكناية و ذكر الجناح تخييل و النّشر ترشيح.
(و أسالت) أى أجرت (لهم جداول نعيمها) و الكلام في هذه القرينة مثله في سابقتها، فانّه عليه السّلام شبّه النعمة بالنّهر العظيم الّذي تسيل منه الجداول و الأنهار الصّغار إلى المحال القابلة و المواضع المحتاجة، فأثبت الجداول تخييلا و الاسالة ترشيحا، و وجه الشبّه أنّ جريان الجداول من النهر سبب لحياة الموات من الأرض و كذلك إفاضة أنواع النّعم و شئون الخيرات من نعمة الاسلام الّتي هي أعظم النعماء في الموادّ المستعدّة سبب لحياة القلوب الميّتة بموت الجهل و الضّلالة مضافة الى الثّمرات الدّنيويّة.
(و التقّت الملّة بهم عوائد بركتها) أى جمعتهم ملّة الاسلام بعد ما كانوا متفرّقين في منافعها و معروفاتها الحاصلة ببركتها، فكان تلك المنافع ظرفا لاجتماعهم حاوية لهم محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
(فأصبحوا) أى صاروا بحواية عوائدها لهم (في نعمتها غرقين) و التعبير به مبالغة في احاطة النعمة عليهم من جميع الجهات إحاطة الماء بالغرقى و الغائصين.
(و عن خضرة عيشها فكهين) أى اشربن فرحين بسعة المعاش و طيبه، أو ناعمين مازحين من خضرة العيش.
(و قد تربعت الامور بهم) أى اعتدلت امورهم و استقامت (في ظلّ سلطان قاهر) اى سلطان الاسلام الغالب على ساير الأديان (و آوتهم الحال) أى ضمّتهم حسن حالهم و أنزلتهم (الى كنف عزّ غالب) أى إلى جانبه و ناحيته أو كناية عن حرزه كما في قولك: أنت في كنف اللّه، أى حرزه و ستره (و تعطّفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت) أى أقبلت السعادات الدّنيويّة و الأخرويّة عليهم بعد إدبارها عنهم إقبال الشفيق العطوف على من يشفق و يتعطف عليه في أعالي السّلطنة الثّابتة المستقرّة.
(فهم حكّام على العالمين و ملوك فى أطراف الأرضين يملكون الامور) أى امور الملك و السلطنة (على من كان يملكها عليهم) من الكفرة الفجرة (و يمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم) من كفّار مكّة، و قريش و غيرهم من عبدة الأوثان (لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة) إشارة إلى قوّتهم و عدم تمكّن الغير من قهرهم و غلبتهم.
قال الشارح المعتزلي: و يكنّي عن العزيز الّذى لا يضام فيقال: لا يغمز له قناة، أى هو صلب و القناة إذا لم تكن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر، قال: و لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزّته و قوّته.
تبصرة
لمّا كان أوّل هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّنا للاشارة إلى ملك الأكاسرة، و آخرها متضمّنا للاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اقتصاص حال أهل الجاهليّة في دولة الأكاسرة و أيّام الفترة و حين البعثة و بعدها أحببت أن أورد هنا رواية متضمّنة لهذا المرام، مبيّنا فيها أسماء الملوك مفصّلا من زمن عيسى إلى زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسماء المبعوثين قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام لمزيد ارتباطها بالمقام فأقول: روى الصّدوق في كتاب اكمال الدّين عن أبيه و محمّد بن الحسن «رض» قالا: حدّثنا سعد بن عبد اللّه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى عن العبّاس بن معروف عن عليّ بن مهزيار عن الحسن بن سعيد عن محمّد بن اسماعيل القرشي عمّن حدّثه عن إسماعيل بن أبي رافع عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل نزل عليّ بكتاب فيه خبر الملوك ملوك الأرض قبلي، و خبر من بعث قبلي من الأنبياء و الرّسل- و هو حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إليه- قال: لمّا ملك اشبح بن اشجان و كان يسمى الكيس و كان قد ملك مأتي و ستّا و ستّين سنة.
ففي سنة إحدى و خمسين من ملكه بعث اللّه عزّ و جل عيسى بن مريم عليه السّلام و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الانجيل، و بعثه إلى بيت المقدس الى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته و إلى الايمان باللّه و رسوله، فأبى أكثرهم إلّا طغيانا و كفرا، فلمّا لم يؤمنوا به دعا ربّه و عزم عليه، فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا و كفرا، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند اللّه ثلاثا و ثلاثين سنة حتّى طلبه اليهود و ادّعت أنّها عذّبته و دفنته في الأرض، و ادّعا بعضهم أنّهم قتلوه و صلبوه، و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه و إنّما شبّه لهم و ما قدروا على عذابه و دفنه و على قتله و صلبه لقوله عزّ و جلّ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ و لم يقدروا على قتله و صلبه لأنّهم لو قدروا على ذلك كان تكذيبا لقوله تعالى: و لكن رفعه اللّه اليه بعد أن توفّاه عليه السّلام.
فلمّا أراد أن يرفعه أوحى إليه أن استودع نور اللّه و حكمته و علم كتابه شمعون ابن حمّون الصّفا خليفة على المؤمنين، ففعل ذلك فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر اللّه عزّ و جلّ و يهتدى بجميع مقال عيسى في قومه من بني إسرائيل و جاهد الكفّار، فمن أطاعه و آمن به فيما جاء به كان مؤمنا، و من جحده و عصاه كان كافرا حتّى استخلص ربّنا تبارك و تعالى و بعث في عباده نبيّا من الصّالحين و هو يحيى بن زكريّا عليه السّلام و قبض شمعون.
و ملك عند ذلك اردشير بن اشكان «زار كان خ ل» أربع عشرة سنة و عشرة أشهر، و في ثمان سنين من ملكه قتلت اليهود يحيى بن زكريا عليه السّلام.
و لمّا أراد اللّه سبحانه أن يقبضه أوحى إليه أن يجعل الوصيّة في ولد شمعون و يأمر الحواريّين و أصحاب عيسى عليه السّلام بالقيام معه ففعل ذلك. و عندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتّى قتله اللّه و استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته في ذريّته يعقوب بن شمعون و معه الحواريّون من أصحاب عيسى عليه السّلام و عند ذلك ملك بخت نصر مأئة سنة و سبعا و ثمانين سنة، و قتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريّا و خرّب بيت المقدّس و تفرّقت اليهود في البلدان.
و في سبعة و أربعين سنة من ملكه بعث اللّه عزّ و جلّ العزيز نبيّا إلى أهل القرى الّتي أمات اللّه عزّ و جلّ أهلها ثمّ بعثهم له و كانوا عن قرى شتّى فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزيز و كانوا مؤمنين و كان عزير يختلف إليهم و يسمع كلامهم و إيمانهم و احبّهم على ذلك، و آخاهم عليه فغاب عنهم يوما واحدا ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى فحزن عليهم، و قال «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ» تعجّبا منه حيث أصابهم قد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه عزّ و جلّ عند ذلك مأئة عام فلبث «و هى خ ل» فيهم مأئة سنة ثمّ بعثه اللّه و ايّاهم و كانوا مأئة ألف مقاتل ثمّ قتلهم اللّه أجمعين لم يفلت منهم أحد على يدي بخت نصر.
و ملك بعده مهروية بن بخت نصر ستّ عشر سنة و ستّ و عشرين يوما.
و أخذ عند ذلك دانيال و حفر له جبّا في الأرض و طرح فيه دانيال عليه السّلام و أصحابه و شيعته من المؤمنين فالقى عليهم النّيران، فلمّا رأى أنّ النّار ليست تقربهم و لا تحرقهم استودعهم الجبّ و فيه الأسد و السّباع و عذّبهم بكلّ لون من العذاب حتّى خلّصهم اللّه عزّ و جلّ منه و هم الذين ذكرهم اللّه في كتابه العزيز فقال عزّ و جلّ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ.
فلمّا أراد اللّه أن يقبض دانيال أمره أن يستودع نور اللّه و حكمته مكيخا بن دانيال ففعل.
و عند ذلك ملك هرمز ثلاثة و ستّين «ثلاثين خ ل» سنة و ثلاثة أشهر و أربعة أيّام.
و ملك بعده بهرام ستّة و عشرين سنة. و ولّي أمر اللّه مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين و شيعته الصديقون غير أنّهم لا يستطيعون أن يظهروا الايمان في ذلك الزّمان و لا أن ينطقوا به.
و عند ذلك ملك بهرام بن بهرام سبع سنين، و في زمانه انقطعت الرّسل فكانت الفترة.
و ولّي الأمر مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى إليه في منامه أن استودع «يستودع» نور اللّه و حكمته ابنه انشو بن مكيخا و كانت الفترة بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعمائة و ثمانين سنة و أولياء اللّه يومئذ في الأرض ذرّية انشو بن مكيخا يرث ذلك منهم واحد بعد واحد ممّن يختاره الجبار عزّ و جل فعند ذلك ملك سابور بن هرمز اثنين و سبعين سنة، و هو أوّل من عقد التّاج و لبسه.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ انشو بن مكيخا.
و ملك بعد ذلك اردشير أخو سابور سنتين، و في زمانه بعث اللّه الفتية أصحاب الكهف و الرّقيم.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا «رشيحاء خ ل» بن انشوبن مكيخا.
و عند ذلك ملك سابور بن اردشير خمسين سنة.
و ولىّ امر اللّه يومئذ رسيحاء بن انشو.
و ملك بعده يزدجرد بن سابور احدى و عشرين سنة و خمسة أشهر و تسعة عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا عليه السّلام، و لما أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض رسيحا أوحى اليه أن استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته نسطورس بن رسيحا.
فعند ذلك ملك بهرام جور ستّا و عشرين سنة و ثلاثة أشهر و ثمانية عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا.
و عند ذلك ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام سبعة و عشرين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا و أصحابه المؤمنين، فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى اليه في منامه أن استودع نور اللّه و حكمته و كتبه مرعيدا.
و عند ذلك ملك فلاس بن فيروز أربع سنين.
و ولىّ أمر اللّه عزّ و جل مرعيدا.
و ملك بعده قباد بن فيروز ثلاثا و اربعين سنة.
و ملك بعده جاماسف اخو قباد ستّا و أربعين «خ ل ستين» سنة و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض مرعيدا.
و عند ذلك ملك كسرى بن قباد ستّا و أربعين سنة و ثمانية أشهر و ولىّ أمر اللّه يومئذ مرعيدا عليه السّلام و اصحابه و شيعته المؤمنين، فلمّا أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض مرعيدا أوحى اليه في منامه ان استودع نور اللّه و حكمته بحيراء الرّاهب ففعل فعند ذلك ملك هرمز بن كسرى ثلاث و ثمانين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ بحيرا و أصحابه المؤمنون و شيعته الصدّيقون.
و عند ذلك ملك كسرى بن هرمز بن پرويز و ولىّ امر اللّه يومئذ بحيرا.
حتّى إذا طالت المدّة و انقطع الوحى و استخفّ بالنعم و استوجب الغير و درس الدّين و تركت الصلاة و اقتربت السّاعة و كثرت الفرق و صار النّاس في حيرة و ظلمة و أديان مختلفة و أمور متشتّتة و سبل ملتبسة و مضت تلك القرون كلّها و مضى صدر منها على منهاج نبيّها عليه السّلام و بدّل آخر نعمة اللّه كفرا و طاعته عدوانا فعند ذلك استخلص اللّه عزّ و جل لنبوّته و رسالته من الشجرة المشرفة الطيّبة و الجرثومة المتحيّزة «المتمرة خ ل» الّتى اصطفاها اللّه عزّ و جلّ في سابق علمه و نافذ قوله قبل ابتداء خلقه، و جعلها منتهى خيرته و غاية صفوته و معدن خاصيّته محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اختصّه بالنبوّة و اصطفاه بالرّسالة و أظهر بدينه الحق ليفصل بين عباد اللّه القضاء، و يعطي في الحقّ جزيل العطاء، و يحارب أعداء رب السّماء و جمع عند ذلك ربّنا تبارك و تعالى لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم الماضين و زاده من عنده القرآن الحكيم بلسان عربىّ مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فيه خبر الماضين و علم الباقين.
بيان
ما في هذه الرّواية من كون الفترة بين عيسى و محمّد أربعمائة و ثمانين سنة مخالف لما في البحار من كتاب كمال الدّين بسنده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبيّ و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا قال: كانوا متمسّكين بدين عيسى، قلت: فما كانوا قال: مؤمنين ثمّ قال عليه السّلام: و لا تكون الأرض إلّا و فيه عالم.
و فيه أيضا من الاحتجاج قال: سأل نافع مولى ابن عمر أبا جعفر عليه السّلام كم بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سنة قال: اجيبك بقولك أم بقولى قال: أجبني بالقولين قال عليه السّلام: أمّا بقولي فخمسمائة سنة، و أمّا قولك فستّمأة سنة.
قال المحدّث العلّامة المجلسي بعد نقل هذه الأخبار: و المعوّل على هذين الخبرين، ثمّ قال: و يمكن تأويل الخبر المتقدّم بأن يقال: لم يحسب بعض زمان الفترة من أوّلها لقرب العهد بالدّين.
أقول: أمّا أنّ التعويل على ما تضمّنه الخبران من كون المدّة بينهما خمسمائة عام فلا غبار عليه لشهرته، و أمّا التّأويل الّذى ذكره في الخبر فليس بذلك البعد و لكن في خصوص هذه الفقرة منه إلّا أنّ السنين المشخّصة فيه لكلّ من السلاطين بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزيد مجموعها على تسعمائة سنة و منافاته لكون المدّة بينهما خمسمائة سنة كما في الخبرين واضح و لا يمكن دفعه بالتّأويل المذكور، و الجمع بينهما محتاج إلى التأمل.
|