إنّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبيّ، و لكنّك وزير، و إنّك لعلى خير. و لقد كنت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتاه الملاء من قريش، فقالوا له: يا محمّد إنّك قد إدّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك و لا أحد من بيتك و نحن نسئلك أمرا إن أجبتنا إليه و أريتناه علمنا أنّك نبيّ و رسول و إن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: و ما تسئلون قالوا: تدع لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها و تقف بين يديك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه على كلّ شي ء قدير فإن فعل اللّه ذلك بكم أ تؤمنون و تشهدون بالحقّ قالوا: نعم. قال: فإنّي ساريكم ما تطلبون، و إنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير، و أنّ فيكم من يطرح في القليب، و من يحزّب الأحزاب. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أيّتها الشّجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر و تعلمين أنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفى بين يديّ بإذن اللّه. و الّذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دويّ شديد و قصف كقصيف أجنحة الطّير، حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرفرفة، و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ببعض أغصانها على منكبي، و كنت عن يمينه صلّى اللّه عليه و آله. فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا و استكبارا: فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويّا، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا كفرا و عتوّا فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرجع. فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه فإنّي أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه و أوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقا لنبوّتك و إجلالا لكلمتك، و قال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب عجيب السّحر خفيف فيه و هل يصدّقك في أمرك إلّا مثل هذا- يعنونني
اللغة
(القليب) البئر يذكّر و يؤنّث أو العاديّة القديمة منها و (الأحزاب) جمع الحزب الطائفة و جماعة الناس و تحزّبوا صاروا أحزابا و حزّبتهم تحزيبا جعلتهم حزبا حزبا و (القصف و القصيف) الصوت، و في بعض النسخ قصف كقصف أجنحة الطير، و الجميع بمعنى واحد و (رفرف) الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شي ء يحوم عليه ليقع فوقه
الاعراب
قوله: مرفرفة بالنصب حال من فاعل وقفت، و قوله: و ألقت عطف على وقفت، و علوّا و استكبارا منصوبان على المفعول لأجله، و دويّا منصوب على التميز، و كفرا و عتوّا أيضا منصوبان على المفعول له، و كذلك تصديقا و اجلالا
المعنی
التاسعة- ما أشار إليه بقوله (إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى) ظاهر هذا الكلام يفيد أنّ الامام يسمع صوت الملك و يعاينه كالرّسول.
أمّا سماع الصوت فلا غبار عليه و يشهد به أخبار كثيرة.
و أمّا المعاينة فيدلّ عليه بعض الأخبار.
مثل ما فى البحار من أمالى الشيخ باسناده عن أبى حمزة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ منّا لمن ينكت فى قلبه و إنّ منّا لمن يؤتي في منامه و إنّ منّا لمن يسمع الصّوت مثل صوت السلسلة فى الطّشت و أنّ منّا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل و ميكائيل و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: منّا من ينكت في قلبه، و منّا من يخاطب، و قال عليه السّلام: إنّ منّا لمن يعاين معاينة و إنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت و كيت، و إنّ منّا لمن يسمع كوقع السّلسلة في الطشت، قال: قلت: و الّذى يعاينون ما هو قال: خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل.
و لكن الظاهر من الأخبار الكثيرة أنّ الامام يسمع الصّوت و لا يعاين، و من ذلك اضطرّ المحدّث العلّامة المجلسي «ره» بعد رواية هذه الرّواية إلى تأويلها بقوله: و المراد بالمعاينة معاينة روح القدس و هو ليس من الملائكة مع أنّه يحتمل أن يكون المعاينة في غير وقت المخاطبة، انتهى.
و تمام الكلام إنشاء اللّه فى التّنبيه الثاني من التنبيهات الاتية، هذا.
و لما كان ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله انّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى موهما للسماوات بينه عليه السّلام و بينه صلّى اللّه عليه و آله استدرك ذلك بقوله (إلّا أنّك لست بنبيّ) و نظير هذا الاستدراك قد وقع في كلام الصادق عليه السّلام و هو: ما رواه في البحار من البصاير بسنده عن عليّ السائي قال: سألت الصادق عليه السّلام عن مبلغ علمهم، فقال: مبلغ علمنا ثلاثة وجوه: ماض، و غابر، و حادث، فأمّا الماضي فمفسّر، و أمّا الغابر فمزبور، و أمّا الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع و هو أفضل علمنا و لا نبيّ بعد نبيّنا.
فانّ النّكث و النّقر لما كانا مظنّة لأن يتوهّم السائل فيهم النّبوّة قال عليه السّلام: و لا نبيّ بعد نبيّنا، و يتّضح لك معني هذا الحديث ممّا نورده في التّنبيه الثاني إنشاء اللّه.
ثمّ إنّه لمّا نفي عنه النّبوة أثبت له الوزارة و هي عاشر المناقب فقال (و لكنّك لوزير و إنّك لعلى خير) بشّره بالوزارة و نبّه به على أنّه الصّالح لتدبير أمور الرّسالة و المعاون له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نظم امور الدّين و تأسيس قواعد شرع المبين و اصلاح امور الاسلام و المسلمين، ثمّ شهد به أنّه على خير و أشار به على استقراره و ثباته على ما هو خير الدّنيا و الاخرة، و أنّه مجانب لما هو شرّ الدّنيا و الاخرة.
و هذا معني عام متضمّن لكونه عليه السّلام جامعا لجميع الكمالات و المكارم الدّنيويّة و الاخرويّة و المحامد الصّوريّة و المعنويّة و كونه راسخا فيها غير متزلزل و لا متكلّف، هذا.
و اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة الشريفة لمّا كان متضمّنا لجلّ مسائل الرّسالة و الامامة حسبما عرفته أتيت في شرحه من الرّوايات الشّريفة و التحقيقات اللطيفة بما هو مقتضي مذهب الفرقة النّاجية الاماميّة، و أضربت عن روايات عاميّة ضعيفة أوردها الشّارح المعتزلي في بيان عصمة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالملائكة.
و العجب من مبالغة الشّارح البحراني له في ايراد بعض هذه الأخبار مع أنّها مضافة إلى أنّها خلاف اصول الاماميّة ممّا تشمئزّ عنها الطباع و تنفر عنها الأسماع كما هو غير خفيّ على من لاحظ الشرحين بنظر الدّقة و الاعتبار.
ثمّ لما بقي هنا بعض مطالب محتاجة إلى بسط من الكلام أردت ايرادها و تحقيق ما هو محتاج إلى التحقيق في ضمن تنبيهات ثلاثة فأقول و باللّه التوفيق:
التنبيه الاول
اعلم أنّا قد قلنا في شرح قوله عليه السّلام في فاتحة هذا الفصل: ألا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغى: إنّ من جملة الأوامر الامرة بقتاله لهم قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».
لكن جمعا من العامّة العمياء المتعصّبين من المعتزلة و الأشاعرة زعموا أنّ الاية ناظرة إلى أبي بكر و دالّة على صحّة إمامته، و قد أفرط في هذا المعنى النّاصب المتعصّب فخر المشكّكين و المضلّين خذله اللّه تعالى و حشره مع أوليائه المرتدّين فأحببت أن اورد مقالهم و اعقّبه بالتنبيه على خطائهم و ضلالهم فأقول: قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا الفصل: و اعلم أنّ أصحابنا قد استدلّوا على صحّة إمامة أبي بكر بهذه الاية، قال قاضي القضاة في المغنى: و هذا خبر من اللّه تعالى و لا بدّ أن يكون كائنا على ما أخبر به، و الذين قاتلوا المرتدّين هم أبو بكر و أصحابه فوجب أن يكونوا هم الّذين عناهم اللّه سبحانه بقوله: يحبّهم و يحبّونه، و ذلك يوجب أن يكون على صواب، انتهى و قال الفخر الرّازي في تفسير الاية: اختلفوا في أنّ اولئك القوم من هم، فقال عليّ بن أبي طالب و الحسن و القتادة و الضحاك و ابن جريح: هم أبو بكر و أصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الرّدّة، قالت عايشة: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارتدّت العرب و اشتهر النفاق و نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الرّاسيات لهاضها.
و قال السدى: نزلت الاية فى الأنصار، لأنّهم هم الّذين نصروا الرّسول و أعانوه على اظهار الدّين.
و قال مجاهد: نزلت في أهل يمن و روى مرفوعا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما نزلت هذه الاية أشار إلى أبي موسى الأشعري و قال: هم قوم هذا. و قال آخرون: هم الفرس لأنه روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما سئل عن هذه الاية ضرب بيده على عاتق سلمان و قال: هذا و ذووه ثمّ قال: لو كان الدّين معلّقا بالثريّا لنا له رجال من أبناء فارس.
و قال قوم: إنها نزلت في عليّ عليه السّلام و يدلّ عليه وجهان: الوجه الأوّل أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما دفع الرّاية إلى عليّ عليه السّلام يوم خيبر قال: لأدفعنّ الرّاية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و هذا هو الصفة المذكورة فى الاية.
و الوجه الثاني أنه تعالى إنما ذكر بعد هذه الاية قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الاية، و هذه فى حقّ عليّ عليه السّلام فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا فى حقّه عليه السّلام، فهذه جملة الأقوال فى هذه الاية، و لنا فى هذه الاية مقامات: المقام الأول أنّ هذه الاية من أدلّ الدّلائل على فساد مذهب الاماميّة من الرّوافض.
و تقرير مذهبهم إنّ الّذين أقرّوا بخلافة أبى بكر و امامته كلّهم كفروا و صاروا مرتدّين، لأنّهم أنكروا النصّ الجليّ على إمامة عليّ عليه السّلام.
فنقول: لو كان كذلك لجاء اللّه تعالى بقوم يحاربهم و يقهرهم و يردّهم إلى الدّين الحقّ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، الاية، و كلمة من فى معرض الشرط للعموم، فهي تدلّ على أنّ كلّ من صار مرتدّا عن دين الاسلام فانّ اللّه يأتي بقوم يقهرهم و يردّهم و يبطل شوكتهم فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الاية أن يأتي اللّه بقوم يقهرهم و يبطل مذهبهم، و لما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضدّ فانّ الرّوافض هم المقهورون الممنوعون من إظهار مقالاتهم الباطلة أبدا منذ كانوا علمنا فساد مذهبهم و مقالتهم، و هذا كلام ظاهر لمن أنصف.
المقام الثاني إنّا ندّعي أنّ هذه الاية يجب أن يقال: إنّها نزلت في حقّ أبي بكر و الدّليل عليه وجهان: الوجه الأول أنّ هذه الاية مختصّة بمحاربة المرتدّين، و أبو بكر هو الذي تولّى محاربة المرتدّين، و لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنه لم يتّفق له محاربة المرتدّين، و لأنه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه، و هذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون ذلك القوم غير موجودين فى وقت نزول هذا الخطاب.
فان قيل: هذا لازم عليكم، لأنّ أبا بكر كان موجودا فى ذلك الوقت.
قلنا: الجواب من وجهين: الأول أنّ القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردّة ما كانوا موجودين فى الحال و الثّانى أنّ معنى الاية أنّ اللّه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه بقوم، قادرين متمكّنين من هذا الحراب، و أبو بكر و إن كان موجودا فى ذلك الوقت إلّا أنه ما كان مستقلّا فى هذا الوقت بالحراب و الأمر و النّهى، فزال السؤال فثبت أنه لا يمكن أن يكون هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يمكن أن يكون المراد هو علىّ عليه السّلام لأنّ عليا لم يتّفق له قتال مع أهل الردّة فكيف تحمل هذه الاية عليه.
فان قالوا: بل كان قتاله مع أهل الردّة، لأنّ كلّ من نازعه فى الامامة كان مرتدّا.
قلنا: هذا باطل من وجهين: الأول أنّ اسم المرتدّ إنما يتناول من كان تاركا للشرايع الاسلاميّة، و القوم الذين نازعوا عليّا ما كانوا كذلك فى الظاهر، و ما كان أحد يقول إنّهم خرجوا عن الاسلام و عليّ لم يسمّهم البتّة بالمرتدّين، فهذا الذى يقوله هؤلاء الرّوافض لعنهم اللّه بهت على جميع المسلمين و على عليّ عليه السّلام أيضا.
الثاني أنه لو كان كلّ من نازعه في الامامة مرتدّا لزم فى أبى بكر و فى قومه أن يكونوا مرتدّين، و لو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الاية أن يأتي اللّه بقوم يقهرونهم و يردّونهم إلى الدّين الصحيح، و لما لم يوجد ذلك البتّة علمنا أنّ منازعة عليّ فى الامامة لا يكون ردّة، و إذا لم تكن ردّة لم يمكن حمل الاية على عليّ لأنّها نازلة فيمن يحارب المرتدّين. و لا يمكن أيضا أن يقال: إنّها نازلة في أهل فارس أو في أهل اليمن، لأنّهم لم يتّفق لهم محاربة مع المرتدّين، و بتقدير أنّه اتّفقت لهم هذه المحاربة و لكنهم كانوا رعيّة و أتباعا و أذنابا، و كان الرئيس المطاع الامر في تلك الواقعة هو ابو بكر و معلوم أنّ حمل الاية على من كان أصلا في هذه العبادة و رئيسا مطاعا فيها أولى من حملها على الرّعية و الأتباع و الأذناب، فظهر بما ذكرنا من الدّليل الظاهر أنّ هذه الاية مختصّة بأبي بكر.
و الوجه الثاني في بيان أنّ هذه الاية مختصّة بأبي بكر هو: إنّا نقول: هب أنّ عليّا قد كان حارب المرتدّين، و لكن محاربة أبى بكر مع المرتدّين كانت أعلى حالا و أكثر موقعا فى الاسلام من محاربة عليّ مع من خالفه فى الامامة و ذلك لأنّه علم بالتواتر أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا توفّى اضطربت الأعراب و تمرّدوا و أنّ أبا بكر هو الّذي قهر مسيلمة و طليحة، و هو الذى حارب مانعي الزّكاة، و لمّا فعل ذلك استقرّ الاسلام و عظمت شوكته و انبسطت دولته.
أمّا لما انتهى الأمر إلى علىّ فكان الاسلام قد انبسط فى الشّرق و الغرب و صار ملوك الدّنيا مقهورين و صار الاسلام مستوليا على جميع الأديان و الملل، فثبت أنّ محاربة أبى بكر أعظم تاثيرا فى نصرة الاسلام و تقويته من محاربة عليّ عليه السّلام.
و معلوم أنّ المقصود من هذه الاية تعظيم قوم يسعون فى تقوية الدّين و نصرة الاسلام، و لما كان أبو بكر هو المتولّى لذلك وجب أن يكون هو المراد بالاية.
المقام الثالث فى هذه الاية و هو أنّا ندّعى دلالة هذه الاية على صحّة إمامة أبى بكر، لما ثبت بما ذكرنا أنّ هذه الاية مختصّة به، فنقول: إنّه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الاية بصفات: أوّلها أنّهم يحبّهم اللّه، فلمّا ثبت أنّ المراد بهذه الاية هو أبو بكر ثبت أنّ قوله يحبّهم و يحبّونه وصف لأبى بكر، و من وصفه اللّه تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالما، و ذلك يدلّ على أنه كان محقّا في إمامته.
و ثانيها قوله: أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، و هو صفة أبي بكر أيضا للدّليل الّذي قدّمناه.
و يؤكّده ما روى في الخبر المستفيض أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أرحم امّتي بامّتي أبو بكر، فكان موصوفا بالرّحمة و الشفقة على المؤمنين، و بالشدّة مع الكفّار.
ألا ترى أنّ في أوّل الأمر حين كان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة و كان في غاية الضعف كيف كان يذبّ عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف كان يلازمه، و يخدمه، و ما كان يبالي بجبابرة الكفّار و شياطينهم و في آخر الأمر أعنى وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد و أصرّ على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعى الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده حتى جاء أكابر الصحابة و تضرّعوا إليه و منعوه من الذهاب.
ثمّ لما بلغ بعث العسكر إليهم انهرموا و جعل اللّه ذلك مبدء لدولة الاسلام، فكان قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ، لا يليق إلّا به.
و ثالثها قوله: يجاهدون فى سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم، فهذا مشترك فيه بين أبى بكر و علىّ إلّا أنّ حظّ أبى بكر فيه أتمّ و أكمل.
و ذلك لأنّ مجاهدة أبى بكر مع الكفار كان فى أوّل البعث، و هناك الاسلام كان فى غاية الضعف، و الكفر كان فى غاية القوّة، و كان يجاهد الكفار بمقدار قدرته و يذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغاية وسعه.
و أما عليّ عليه السّلام فانه إنما شرع فى الجهاد يوم بدر و أحد، و فى ذلك الوقت كان الاسلام قويّا و كانت العساكر مجتمعة.
فثبت أنّ جهاد أبى بكر كان أكمل من جهاد عليّ عليه السّلام من وجهين: الأوّل أنه كان متقدّما عليه فى الزّمان لقوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ و الثاني جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرّسول و جهاد علىّ كان في وقت القوّة.
و رابعها قوله: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، و هذا لايق بأبي بكر لأنّه متأكّد بقوله تعالى: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ، و قد بيّنا أنّ هذه الاية في أبي بكر و ممّا يدلّ على أنّ جميع هذه الصّفات لأبي بكر أنا بيّنا بالدّليل أنّ هذه الاية لا بدّ و أن تكون في أبي بكر، و متى كان الأمر كذلك كانت هذه الصّفات لا بدّ و أن تكون لأبي بكر، و إذا ثبت هذا وجب القطع بصحّة امامته، إذ لو كانت باطلة لما كانت هذه الصّفات لائقة به.
فان قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان موصوفا بهذه الصّفات حال حياة الرّسول ثمّ بعد وفاته لما شرع في الامامة زالت هذه الصّفات و بطلت.
قلنا: هذا باطل قطعا، لأنّه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم و يحبّونه، فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصّفات حال اتيان اللّه بهم في المستقبل، و ذلك يدلّ على شهادة اللّه بكونه موصوفا بهذه الصّفات حال محاربته مع أهل الرّدة، و ذلك هو حال امامته، فثبت بذلك الاية دلالة الاية على صحّة امامته.
أمّا قول الرّوافض لعنهم اللّه إنّ هذه الاية في حقّ عليّ عليه السّلام بدليل أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و كان ذلك هو عليّ عليه السّلام.
فنقول: هذا الخبر من باب الاحاد و عندهم لا يجوز التّمسك به في العمل فكيف يجوز التّمسك به في العلم.
و أيضا إنّ اثبات هذه الصفة لعليّ عليه السّلام لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر و بتقدير أن يدلّ على ذلك لكنّه لا يدلّ على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر و من جملة تلك الصفات كونه كرّارا غير فرّار فلمّا انتفى ذلك عن أبى بكر لم يحصل مجموع تلك الصّفات له فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب، فأمّا انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة فى اللّفظ عليه فهو تعالى إنّما أثبت هذه الصّفة المذكورة فى هذه الاية حال اشتغاله بمحاربة المرتدّين بعد ذلك، فهب أنّ تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت فلم يمنع ذلك من حصولها في الزّمان المستقبل.
و لأنّ ما ذكرناه تمسّك بظاهر القرآن و ما ذكروه تمسّك بالخبر المذكور المنقول بالاحاد.
و لأنّه معارض بالأخبار الدّالة على كون أبى بكر محبّا للّه و رسوله و كون اللّه محبّا له و راضيا عنه، قال تعالى فى حقّ أبى بكر: وَ لَسَوْفَ يَرْضى و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه يتجلّى للناس عامّة و يتجلّى لأبى بكر خاصّة، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما صبّ اللّه شيئا فى صدرى إلّا و صبّه فى صدر أبى بكر، و كلّ ذلك يدلّ على أنّه كان يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و أما الوجه الثاني و هو قولهم: الاية التي بعد هذه الاية دالّة على امامة عليّ عليه السّلام فوجب أن تكون هذه الاية نازلة في عليّ.
فجوابنا أنا لا نسلّم دلالة الاية التي بعد هذه الاية على امامته، و سنذكر الكلام فيه، فهذا ما فى هذا الموضع من البحث و اللّه أعلم، انتهى كلامه هبط مقامه.
و يتوجّه عليه وجوه من الكلام و ضروب من الملام: الوجه الاول- أنّ نسبته كون المراد بقوم يحبّهم و يحبّونه هو ابو بكر و أصحابه إلى عليّ عليه السّلام بهت و افتراء، و إنما المرويّ عنه عليه السّلام و عن حذيفة و عمّار و ابن عباس حسبما تعرفه أنّ المراد به هو عليه السّلام و أصحابه.
الثاني- ما ذكره من الوجه الثاني من استدلال الامامية بأنّ الاية الواقعة بعد هذه الاية عنى قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ، فى حقّ عليّ عليه السّلام فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا فى حقّه فاسد، لأنّ أصحابنا و إن قالوا بكون انما وليّكم اللّه فى حقّه لكنّهم لم يستدلّوا بذلك على كون هذه الاية أعني: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، فيه عليه السّلام و إنّما استدلّوا على ذلك بالوجه الأوّل الّذى حكاه عنهم و يأتي توضيحه، و بما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله يوم البصرة و اللّه ما قوتل أهل الاية حتّى اليوم و تلاها، و بما روي عن وجوه الصحابة مثل حذيفة و عمّار و ابن عبّاس من نزولها فيه عليه السّلام كما قاله المرتضى في الشافي، و مثلهم الثعلبى قال فى تفسير قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ الاية، هو عليّ بن أبي طالب.
الثالث- أنّ استدلاله على فساد مذهب الاماميّة بقوله: و تقرير مذهبهم إلى قوله: و لما لم يكن كذلك علمنا فساد مذهبهم، سخيف جدّا، لأنّا لا ننكر ارتداد أبي بكر و من تبعه حسبما نشير اليه، و لكن نمنع دلالة الاية على أنّ كلّ من صار مرتدّا عن دين الاسلام، فانّ اللّه يأتي بقوم يردّهم إلى الاسلام و إفادة من للشرط و العموم لا يقتضى ذلك.
و ذلك لأنه سبحانه لم يقل من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يجاهدهم و يقهرهم و يردّهم الى الدّين الحقّ كما زعمه هذا الناصب، و إنما قال فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم و يحبّونه آه.
و لا دلالة فيها على أنّ القوم المأتيّ بهم يجاهدون هؤلاء المرتدّين بل ظاهر معنى الاية و مساقها مع قطع النظر عن الأخبار أنّ من يرتدّ منكم عن دينه فلن يضرّ دينه شيئا و لا يوجب ارتداده ضعفه و وهنه لأنّه سبحانه سوف يأتي بقوم لهم هذه الصّفات ينصرونه على أبلغ الوجوه، و بهم يحصل كمال قوّته و شوكته.
فيكون مساق هذه الاية مساق قوله تعالى وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ».
و قد روى ابن شهر آشوب من طريق العامّة باسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الاية يعني بالشاكرين عليّ بن أبي طالب و بالمرتدّين على أعقابكم هم الذين ارتدّوا عنه عليه السّلام.
فقد علم بما ذكرنا أنّ الاية لا تقتضى أنّ كلّ من ارتدّ لا بدّ و أن يأتي اللّه بمن يردّه عن ارتداده إلى دين الاسلام كما توهّمه الرّازى، كيف و لو كان مفهومها ذلك لوجب أن لا يوجد مرتدّ إلّا و له قاهر يقهره و رادّ يردّه إلى دين الاسلام، و المعلوم المشاهد بالتجربة و الوجدان عدمه، فانّ العالم ملاء من المرتدّين و ليس لهم دافع و لا رادع.
و قد اعترف الرازى بخبطه من حيث لا يشعر، فانّه نقل قبل ما حكينا عنه من كلامه في جملة كلام نقله عن صاحب الكشّاف و ارتضاه أنّ من جملة المرتدّين غسّان قوم جبلة بن الايهم على عهد عمر، و ذلك أنّ جبلة أسلم على يد عمر و كان ذات يوم جارّا رداءه فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه، فتظلّم الرّجل إلى عمر فقضي له بالقصاص عليه إلّا أن يعفو عنه فقال: أنا اشتريها«» بألف فأبى الرّجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرّجل إلّا القصاص، فاستنظر عمر فأنظره فهرب إلى الرّوم و ارتدّ، انتهى.
فأقول للرّازى: إنّ هؤلاء كانوا مرتدّين بعد إسلامهم فلم لم يأتي اللّه بقوم يقهرونهم و يردّونهم إلى الاسلام على ما زعمت، فعلم فساد ما قاله في معني الاية.
الرابع- قوله: إنّ هذه الاية مختصّة بمحاربة المرتدّين و أبو بكر هو الّذى تولّى محاربتهم، قد علمت عدم دلالة الاية على محاربتهم فضلا عن اختصاصها بها.
و على التنزّل و تسليم الدّلالة و الاختصاص فنمنع اختصاص أبي بكر بمحاربتهم لأنّ من جملة المرتدّين الناكثين و القاسطين و المارقين و قد حاربهم أمير المؤمنين عليه السّلام.
و من جملتهم بنو مدلج و رئيسهم ذو الحمار و هو الأسود العنسي و كان كاهنا ادّعا النبوّة في اليمن و استولى على بلادها و أخرج عمّال رسول اللّه منها فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى معاذ بن جبل و سادات اليمن فأهلكه اللّه على يد فيروز الدّيلمي فقتله و اخبر رسول اللّه بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الغد، و أتى خبره في آخر شهر ربيع الأوّل روى ذلك في الكشّاف و حكاه عنه الرّازى أيضا.
و إذا لم يكن المحاربة مختصّة بأبي بكر فلم لا يجوز أن يكون المقصود بالاية هؤلاء المحاربون بالمرتدّين لا أبو بكر و أصحابه.
الخامس- قوله: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يتّفق له محاربة المرتدّين قد علمت بطلانه.
فان قلت: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يتولّ بنفسه جهاد بني مدلج، و إنّما أنفذ إليهم سريّة قلت: أبو بكر أيضا لم يتولّ بنفسه.
السادس- قوله: و لأنه تعالى قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، و هذا للاستقبال لا للحال فوجب أن يكون هذا القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فيه أنّه مسلّم و لكنّه لا ينافي كون المراد بالمرتدّين بنو مدلج أو قوم مسيلمة فانّ محاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم كان بعد مضيّ نزول الخطاب و في آخر عمره الشريف، أمّا بنو مدلج فقد عرفت، و أمّا مسيلمة فقد ادّعى النّبوة فأنفذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقتله جماعة من المسلمين و أمرهم أن يفتكوا به إن أمكنهم غيلة، و استقرّ عليه قبايل من العرب و قتل على يدي وحشي قاتل حمزة بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
السابع- قوله: إنّ القوم الّذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردّة ما كانوا موجودين في الحال.
فيه أوّلا أنّه رجم بالغيب فمن أين له إثبات عدم وجودهم، بل بيّن الفساد لأنّ المرتدّين هم الذين كانوا في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل خالد بن الوليد و أبو قتادة الأنصارى و نظرائهم و جلّهم كان جيش اسامة كما يظهر من كتب السّير.
و ثانيا بعد التنزّل أنّ عدم وجودهم لا ينفع بحال أبي بكر على ما زعم مع كونه موجودا بل يدخل المقاتلون معه في عموم الاية لعدم كونهم موجودين و يخرج هو بنفسه عنه لكونه موجودا، فافهم جيّدا.
الثامن- قوله: إنّ معنى الاية إنّ اللّه قال: فسوف يأتي اللَّه بقوم قادرين متمكّنين من هذا الحرب «إلى قوله» و الأمر و النهي.
فيه إذا كان البناء في معنى الاية على ذلك فلنا أن نقول: إنّ أمير المؤمنين أيضا كان موجودا في ذلك الوقت و فى زمان أبى بكر لكنّه لم يكن متمكّنا من الحرب و الأمر و النهي إلى أن استقلّ بالأمر، فقاتل المرتدّين من النّاكثين و القاسطين و المارقين، غاية الأمر إنّ عدم استقلال أبي بكر بوجود الرئيس الحقّ و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عدم استقلال أمير المؤمنين عليه السّلام بوجود رئيس الباطل أعني الغاصبين للخلافة مع عدم المعاون التاسع- قوله: فثبت أنّه لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت فساده و امكان إرادته.
العاشر- قوله: اسم المرتدّ إنما يتناول من كان تاركا للشرايع الاسلاميّة اه.
فيه أنّه إن أراد به تركه لجميعها فيتعرض عليه بأنّ مانعي الزكاة لم يكونوا تاركين للجميع و انّما منعوا الزّكاة فحسب فكيف حكمتم بارتدادهم، و يدلّ على ما ذكرنا من عدم تركهم للجميع، مضافا إلى ما يأتي قول قاضي القضاة في المغني حيث قال: فان قال قائل فقد كان مالك يصلّي، قيل له: و كذلك ساير أهل الرّدة و الكفر و إنّما كفروا بالامتناع من الزّكاة و اعتقاد إسقاط وجوبها دون غيره.
و إن اراد به تناول الاسم و لو بترك بعضها فنقول: إنّ المحاربين لأمير المؤمنين عليه السّلام قد كانوا تاركين للبعض، حيث انّهم قد كانوا يستحلّون قتاله و قتله و قتل ساير المؤمنين التابعين له عليه السّلام فضلا عن إنكارهم النصّ الجليّ و نقضهم لبيعته.
و استحلال قتل المؤمنين و سفك دمائهم فضلا عن أكابرهم و أفاضلهم أشدّ من استحلال الخمر و شربه قطعا، فيكونوا كفّارا مرتدّين.
مع أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له عليه السّلام بلا خلاف بين أهل النقل: يا عليّ حربك حربي و سلمك سلمي، و نحن نعلم أنّ المقصود به ليس إلّا التشبيه في الأحكام، و من أحكام محاربي النّبي الكفر و الارتداد بالاتّفاق.
و ملخّص الكلام و محصّل المرام أنّ الرّدة الّتي نقولها في حقّ محاربي عليّ عليه السّلام هي بعينها مثل الرّدة الّتي تقولونها في حقّ مانعي الزكاة حرفا بحرف.
قال شارح صحيح مسلم في المنهاج في كتاب الايمان كلاما استحسنه من الخطابي ما هذا لفظه قال بعد تقسيم أهل الرّدة إلى ثلاثة أقسام: فأمّا مانعوا لزكاة منهم المقيمون على أصل الدّين فانّهم أهل بغي و لم يسمّوا على الانفراد منهم كفارا و إن كانت الردّة قد اضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدّين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدّين، و ذلك انّ اسم الرّدة اسم لغوىّ و كلّ من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتدّ عنه، و قد وجد من هولاء القوم الانصراف و منع الحق و انقطع عنهم اسم الثناء و المدح بالدّين و علّق بهم اسم القبيح لمشاركتهم القوم الّذين كان ارتدادهم حقّا، انتهى.
و هذا الكلام كما ترى صريح في أنّ مانعي الزكاة كانوا مقيمين على أصل الدّين لكنّه اطلق عليهم اسم المرتدّ لترك بعض حقوق الدّين الواجبة، هذا.
و أما استبعاد الشّارح المعتزلي لارتدادهم أعنى الناكثين و القاسطين و المارقين بأنّهم لا يطلق عليهم لفظ الرّدة.
أمّا اللفظ فباالاتّفاق منّا و من الاماميّة و ان سمّوهم كفارا.
و أمّا المعنى فلأنّ فى مذهبهم أنّ من ارتدّ و كان قد ولد على فطرة الاسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدّة المتوفى عنها زوجها، و معلوم أنّ أكثر المحاربين لأمير المؤمنين قد ولدوا فى الاسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام.
ففيه منع أنّ الاماميّة لا يطلقون عليهم اسم المرتدّ و من أخبارهم المشهورة: ارتدّ النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا ثلاثة أو أربعة.
و أمّا ما حكاه عنهم من انّ مذهبهم أنّ من ارتدّ و كان قد ولد على الفطرة اه، فهو حقّ لكن نجيب عنه بأنّ أحكام الكفّار كما أنّها مختلفة و إن كان شملهم اسم الكفر، فانّ منهم من يقتل و لا يستبقى، و منهم من يؤخذ منهم الجزية و لا يقتل إلّا بسبب طار غير الكفر، و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين، فكذلك من الجايز اختلاف أحكام الارتداد و يرجع فى أنّ حكمهم مخالف لأحكام ساير الكفار و المرتدّين إلى فعله عليه السّلام و سيرته فيهم.
و لذلك قال الشافعي: أخذ المسلمون السيرة فى قتال المشركين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أخذوا السيرة فى قتال البغاة من عليّ عليه السّلام.
و بالجملة فلو لم يكن الباغون عليه عليه السّلام كفارا مرتدّين لما حاربهم أمير المؤمنين و لا استحلّ سفك دمائهم و لم يكن مأمورا من اللّه تعالى و من رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتالهم على ما صرّح به فى أوّل هذا الفصل من كلامه بقوله: و قد أمرنى اللّه بقتال أهل البغي اه.
إذ المسلم لا يجوز سفك دمه و استحلال قتله فلمّا حاربهم أمير المؤمنين عليه السّلام ثبت بذلك كفرهم و ارتدادهم.
و لمّا لم يسر فيهم بسيرة ساير الكفار من سبيهم و سبي ذراريهم و غنيمة أموالهم و اتّباع مولّيهم و إجهاز جريحهم، و لم يسر فيهم بسيرة ساير المرتدّين من إبانة امرأتهم و تقسيم أموالهم و غيرها من الأحكام، علمنا بذلك اختلاف أحكامهم مع أحكام ساير الكفار و المرتدّين، فانّ فعل الامام و سيرته كقوله حجّة متّبعة مثل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و ان شئت مزيد تحقيق لهذا المقام.
فأقول: إنّ ارتداد المنحرفين عنه عليه السّلام كائنا من كان من الغاصبين للخلافة أو الباغين عليه عليه السّلام و اطلاق اسم المرتدّ عليه قد ورد فى الرّوايات العاميّة كوروده فى أخبار الخاصّة.
ففى غاية المرام عن الثعلبى قال: أخبرنا عبد اللّه بن حامد بن محمّد أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن حدّثنا محمّد بن شبيب حدّثنا أبي عن يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيّب عن أبى هريرة أنّه كان يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يرد علىّ يوم القيامة رهط من أصحابى فيجلون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابى، فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا أنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.
و فيه من صحيح البخارى في الجزء الخامس على حدّ ثلثه الأخير فى تفسير قوله «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» قال: حدّثنا شعبة قال أخبرنا المغيرة بن النعمان قال سمعت سعيد بن جبير عن ابن عبّاس «رض» خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يا أيّها النّاس إنّكم محشورون إلى اللّه حفاة عزلا، ثمّ قال: كما بدئنا أوّل خلق نعيده وعدا علينا إنا كنّا فاعلين «إلى آخر الاية» ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألا و إنّ أوّل الخلايق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السّلام ألا و انه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا ربّ أصحابى، فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم و أنت على كلّ شي ء شهيد، فقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم. و رواه فيه من صحيح مسلم فى الجزء الثالث من أجزاء ثلاثة من ثلثه الأخير بسنده عن ابن عباس نحوه.
و فيه من البخارى من حديث الزّهرى عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة كان يحدّث عن بعض أصحاب النّبي قال: يرد على الحوض رجال من امّتي فيجلون عنه فأقول يا ربّ أصحابي، فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.
فان قلت: غاية ما يستفاد من هذه الرّوايات أنّ جماعة من امّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ارتدّوا بعده، و لا دلالة على أنّهم مبغضو أمير المؤمنين عليه السّلام و المخالفون له.
قلت: الجواب أولا أنّه قد ورد في النبوىّ المتّفق عليه بالنقل البالغ حدّ الاستفاضة: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه، و من جملة طرقه الزّمخشرى في ربيع الأبرار قال: استأذن أبو ثابت مولا عليّ عليه السّلام على امّ سلمة رضي اللّه عنها فقالت: مرحبا بك يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها قال: تبع عليّ، فقالت: و الّذي نفسي بيده سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليّ مع الحقّ و القرآن و الحقّ و القرآن معه و لن يفترقا حتّى يردا على الحوض و من المعلوم أنه عليه السّلام إذا كان معهما و كانا معه مصاحبين حتّى يردا على الحوض يكون مخالفوه المنحرفون عنه مخالفين للحقّ و القرآن، مفترقين عنهما البتة و ليس معنى الارتداد إلّا ذلك فيكون المرتدّون المجلون عن الحوض هم هؤلاء.
و بمعناه ما رواه إبراهيم بن محمّد الحمويني مسندا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة و الأسود قالا: أتينا أبا أيّوب الأنصارىّ و قلنا له: يا أبا أيّوب إنّ اللّه تعالى أكرمك بنبيّه حيث كان ضيفا لك فضيلة من اللّه فضّلك بها أخبرنا بمخرجك مع عليّ عليه السّلام تقاتل أهل لا إله إلّا اللّه، قال: اقسم لكما باللّه لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى هذا البيت الّذى أنتما فيه معى، و ما فى البيت غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ جالس عن يمينه و أنا جالس عن يساره و أنس قائم بين يديه، إذ حرّك الباب فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: افتح لعمّار الطيّب المطيّب، ففتح النّاس الباب و دخل عمار فسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرحّب به ثمّ قال لعمار: إنه سيكون في أمّتي بعدي هناة حتى يختلف السيف فيما بينهم و حتى يقتل بعضهم بعضا، فاذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني يعني عليّ بن أبي طالب، فاذا سلك الناس كلّهم واديا و سلك علىّ و اديا فاسلك وادى عليّ و خلّ عن النّاس، يا عمار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى و لا يدلّك على ردى، يا عمار طاعة عليّ طاعتي و طاعتي طاعة اللّه عزّ و جلّ.
و دلالته على المدّعى غير خفيّة.
و ثانيا انه قد وقع التصريح منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ المرتدّين المطرودين عن الحوض مبغضوه عليه السّلام في ما رواه موفق بن أحمد أخطب خوارزم بسنده عن إبراهيم ابن عبد اللّه بن العلا عن أبيه عن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح خيبر: لو لا أن يقول فيك طوايف من أمّتي ما قالت النصارى فى عيسى بن مريم لقلت اليوم فيك مقالا بحيث لا تمرّ على ملاء من المسلمين إلّا أخذوا من تراب رجليك و فضل طهورك، يستشفعون به و لكن حسبك أن تكون منّي و أنا منك ترثني و أرثك و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي يا عليّ أنت تؤدّي ديني و تقاتل على سنّتي و أنت في الاخرة أقرب النّاس منّي و إنّك يا عليّ غدا على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين، و أنت أوّل من يرد على الحوض و أنت أوّل داخل في الجنّة من أمّتي، و إنّ شيعتك على منابر من نور رواء مرويّين مبيضّة وجوههم حولي أشفع لهم فيكونون في الجنّة غدا جيراني، و إنّ أعداءك غدا ظماء مظمئين مسوّدة وجوههم يتقحمون مقمعون يضربون بالمقامع و هى سياط من نار مقتحمين، حربك حربي و سلمك سلمي و سرّك سرّي و علانيتك علانيتي و سريرة صدرك كسريرة صدري و أنت باب علمى و انّ ولدك ولدي و لحمك لحمي و دمك دمى، و أنّ الحق معك و الحقّ على لسانك و في قلبك و بين عينيك، و الايمان خالط لحمك و دمك كما خالط لحمي و دمي، و انّ اللّه عزّ و جلّ أمرني أن أبشّرك أنّك أنت و عترتك في الجنّة، و عدّوك في النار لا يرد على الحوض مبغض لك، و لا يغيب عنه محبّ لك.
قال عليّ عليه السّلام فخررت ساجدا للّه تعالى و حمدته على ما أنعم به عليّ من الاسلام و القرآن و حبّبنى إلى خاتم النّبيّين و سيّد المرسلين.
و قد أوردت هذه الرّواية بطولها لتضمّنها وجوها من الدّلالة على المدّعى كما لا يخفى على المنصف المجانب عن العصبيّة و الهوى فقد علم بذلك كلّه أنّ المحاربين له عليه السّلام كالمنتحلين للخلافة مرتدّون على لسان اللّه و النبيّ و الوصيّ و منكر ارتدادهم منكر للنّص الجليّ.
الحاد يعشر- قوله: لو كان كلّ من نازعه في الامامة مرتدّا اه فيه إنّ ارتدادهم مسلّم حسبما عرفت و لكن وجوب إتيان اللّه بقوم يقهرونهم بحكم الاية غير لازم، لما عرفت أيضا من عدم اقتضاء الاية ذلك لأنه سبحانه قال فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و لم يقل يقهرونهم و يردّونهم إلى الدّين الصّحيح.
لا يقال: لو كان أبو بكر و قومه مرتدّين لحاربهم أمير المؤمنين عليه السّلام كما حارب النّاكثين و القاسطين و المارقين.
لأنّا نقول: نعم و لكن تركه لمحاربتهم لأنّه لم يجد عونا له على الحرب كما أشار عليه السّلام إلى ذلك في الخطبة الثالثة بقوله: و طفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى، و فى الفصل الثاني من الخطبة السّادسة و العشرين: فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت و أغضيت على القذى و شربت على الشّجى و صبرت على أخذ الكظم و على أمرّ من طعم العلقم.
و ممّا رواه عنه نصر بن مزاحم و كثير من أرباب السّير أنّه قال عقيب وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو وجدت أربعين ذوى عزم و قد سأل الرّماني عن الرّضا عليه السّلام قال: فقلته يا ابن رسول اللّه أخبرنى عن عليّ بن أبي طالب لم لم يجاهد أعداءه خمسا و عشرين سنة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ جاهد في أيّام ولايته فقال: لأنّه اقتدى برسول اللّه في تركه جهاد المشركين بمكّة ثلاثة عشر سنة بعد النبوّة و بالمدينة تسعة عشر شهرا، و ذلك لقلّة أعوانه عليهم.
فلمّا لم تبطل نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع تركه الجهاد لم تبطل ولاية عليّ عليه السّلام بتركه الجهاد خمسا و عشرين سنة إذ كانت العلّة المانعة لهما عن الجهاد واحدة.
الثاني عشر- قوله: و معلوم أنّ حمل الاية على الرئيس المطاع أولى.
فيه منع الأولوية أوّلا و منع اقتضاء الأولويّة على فرض تسليمه للاختصاص ثانيا.
الثالث عشر- قوله: و لكن محاربة أبي بكر مع المرتدّين كانت أعلى حالا «إلى قوله» وجب أن يكون هو المراد بالاية.
فيه أوّلا إنّ محاربة أبي بكر كانت عقيب وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان الأنصار و المهاجرون و ساير المسلمين رغباتهم متوافرة و أيديهم متناصرة و آرائهم متّفقة و أبدانهم مجتمعة و أهوائهم متّحدة و كلمتهم واحدة في حماية الدّين و في ذبّ الكفار عن شرع سيّد المرسلين، و كان المرتدّون شرذمة قليلين، فحارب أبو بكر هؤلاء الجماعة الكثيرة المتّفقة ذوي الحميّة و العصبيّة هذه الشرذمة القليلة مع ما بين الطرفين من عداوة الدّين و تضادّ المذهب على رأى المجاهدين المقتضى للجدّ و الثبات في الحرب و أما حرب أمير المؤمنين عليه السّلام فقد كان بعد السنين المتطاولة و تعوّد الناس على محدثات المتخلّفين الثلاثة و بدعاتهم مع كون سيرته عليه السّلام فيهم بخلاف سيرة الشيخين الموجب لتقاعدهم عنه و مخالفتهم له، و كون هوى أكثرهم فى الباطن خلاف هوى أمير المؤمنين عليه السّلام و رأيهم مخالفا لرأيه.
بل كان أكثرهم فى شكّ و تردّد من جواز قتال حرم رسول اللّه عايشة و جهاد قوم هم من أهل القبلة على ظاهر الاسلام و قوم لهم ثفنات فى مساجدهم كثفنات البعير أجهد منهم عبادة و أكمل قراءة. فقاتل بهؤلاء الجماعة المختلفة الأهواء و المشتّتة الاراء الضعفاء الاعتقاد المرتدّين على كثرتهم بمقتضى تصلّبه في الدّين من دون أن يأخذه لومة لائم غير هائب و لا محتشم.
فحارب مع من حالهم ذلك بالناكثين و قد بلغوا تسعة آلاف و بالقاسطين و قد كانوا زهاء مأتي ألف، و بالمارقين و كانوا اثنى عشر ألفا فى أوّل أمرهم و أربعة آلاف فى آخره فانظر ما ذا ترى.
هل كان محاربته عليه السّلام و الحال بما وصفت أولى و أحقّ بالتعظيم و أن تقصد بالاية الشريفة أم محاربة أبى بكر و ثانيا إنّ محاربة أبى بكر لم تكن إلّا بمحض الأمر و النهى و انهاض الجيش و السّرايا، و قد كان جالسا فى كسر بيته و حوله المهاجر و الأنصار فى أمن و راحة و طيب عيش و دعة على مصداق قوله:
- ألا طعان ألا فرسان عاديةألا تجشوكم حول التنانير
و أما أمير المؤمنين عليه السّلام فقد كان شاهرا سيفه واضعا له على عاتقه فى حروب يضطرب لها فؤاد الجليد، و يشيب لهو لها فود الوليد، و يذوب لتسعّر بأسها زبر الحديد، و يجب منها قلب البطل الصديد.
فتولى عليه السّلام الحرب بنفسه النفيسة فخاض غمارها و اصطلى نارها، و دوّخ أعوانها و أنصارها و أجرى بالدّماء أنهارها، و حكم فى مهج الناكثين و القاسطين و المارقين فجعل بوارها، فصارت الفرسان تتحاماه إذا بدر، و الشجعان تلوذ بالهزيمة إذا زأر عالمة أنه ما صافحت صفحة سيفه مهجة إلّا فارقت جسدها، و لا كافح كتيبة إلّا افترس ثعلب رمحه أسدها.
و هذا حكم ثبت له بطريق الاجمال و حال اتّصف به بعموم الاستدلال.
و أما تفصيله فليطلب من مظانه من الكتاب، فانه لا يخفى على ذوي البصاير و أولى الألباب.
فانشدك باللّه هل مجاهدة ذلك أجدر و أحرى بالمجمدة و الثناء أم محاربة هذا«» جزى اللّه خير الجزاء من تجنّب العصبيّة و الهوى الرابع عشر- قوله: فلما ثبت أنّ المراد بهذه الاية أبو بكر ثبت أنّ قوله: يحبّهم و يحبّونه وصف له.
فيه أنّ الاستدلال على اتّصاف أبي بكر بهذا الوصف و ما يتلوه من الأوصاف بسبب اختصاص الاية به أشبه شي ء بالأكل من القفاء، إذ المناسب لرسم المناظرة أن يقيم الدليل أولا على اتّصاف أبي بكر بهذه الأوصاف ثمّ يستدلّ بذلك على أنّ الاية فى حقّه لا بالعكس.
مع أنك قد علمت عدم دلالة الاية على خلافته فضلا عن الاختصاص فلم يثبت اتّصافه بها بما زعمه من الدليل، بل قد علمت بما ذكرناه و نذكره نزولها فى أمير المؤمنين عليه السّلام و أنه المتّصف بهذه الأوصاف لا غير.
الخامس عشر- قوله: و من وصفه اللّه بذلك يمتنع أن يكون ظالما.
هذا مسلّم لكن ظلمه محقّق فاتّصافه به ممتنع فمبطليّته في الامامة محقّقة لا غبار عليها.
أما تحقّق ظلمه فلأنّ أعظم الظلم الشرك باللّه و عبادة الأوثان كما قال عزّ من قائل «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» و أبو بكر قد كان مشركا مدّة مديدة و زمنا طويلا من عمره فيكون ظالما البتة، و من كان كذلك لا يستحقّ الإمامة بمقتضى قوله سبحانه: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ.
روى أبو الحسن الفقيه ابن المغازلي الشافعي مسندا- حذفت الاسناد للاختصار- عن مينا مولى عبد الرّحمن بن عوف عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنا دعوة أبي إبراهيم، قلت: يا رسول اللّه و كيف صرت دعوة أبيك إبراهيم قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه إنّى جاعلك للناس إماما، فاستخفّ إبراهيم الفرح قال عليه السّلام و من ذرّيتى أئمّة مثلي، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن يا إبراهيم إنّى لا اعطيك عهدا لا أفى لك به، قال: يا ربّ ما العهد الذي لا تفى لى به قال: اعطيك عهدا لظالم من ذرّيتك قال إبراهيم عندها: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانتهت إليّ و إلى عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتّخذنى نبيا و اتّخذ عليا وصيا.
و قال الواحدي في تفسير قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ: اعلمه أنّ في ذرّيته الظالم قال و قال السدى عهدى نبوّتى يعنى لا ينال ما عهدت إليك من النبوّة و الامامة فى الدّين من كان ظالما فى ولدك.
قال و قال الفراء: لا يكون للناس إمام مشرك.
و قد ظهر بذلك كون المشرك ظالما غير مستحقّ للامامة و لا كلام فى شرك أبي بكر فى أوّل أمره فظلمه فى بداية حاله ثابت، و أما ظلمه بعد إسلامه فكذلك، لأنه لم يكن معصوما بالاتّفاق حتى يكون له قوّة العصمة المانعة من الظلم على نفسه و على غيره، و قد قال على المنبر: إنّ لي شيطانا يعتريني فاذا ملت فسدّ دونى، فمن كان محتاجا إلى تسديد الغير عند الميل و الانحراف عن الرّشاد كيف يكون مسدّدا لغيره على ما هى وظيفة الامامة.
و من ظلمه العظيم غصبه للخلافة و حكمه باخراج أمير المؤمنين عليه السّلام من بيته ملبّبا للبيعة و انتزاع الفدك من يد الصدّيقة الطاهرة حسبما عرفت و تعرف فى تضاعيف الشرح ذلك كلّه بالأدلّة القاطعة و البراهين الساطعة.
و من عظيم ظلمه الذي صار عليه من أعظم المطاعن مضافا إلى مطاعنه الأخر محاربته مانعي الزكاة مع عدم كونهم مرتدّين و تركه إقامة الحدّ و القود على خالد بن الوليد و قد قتل مالك بن نويرة و ضاجع المرأة من ليلته و أشار إليه عمر بقتله و عزله، فقال: انّه سيف من سيوف اللّه سلّه اللّه على أعدائه و قال عمر مخاطبا لخالد: لان ولّيت الأمر لأقيدنّك له.
و قد روى تفصيل ذلك أرباب السير و رواه أصحابنا فى جملة مطاعن أبي بكر و لا حاجة بنا في هذا المقام إلى ذكر التّفصيل و إنّما نورد ما له مزيد مدخل في إثبات المدّعى فأقول: روى الطبري في تاريخه و رواه غيره أيضا في جملة ما رواه من تلك القضيّة أنّ من جملة السّرية المبعوثة إلى بني يربوع قوم مالك بن نويرة أبا قتادة الحارث ابن ربعي فكان ممّن شهد أنّهم قد أذّنوا و أقاموا و صلّوا، فحدث أبو قتادة الأنصاري خالد بن الوليد بأنّ القوم ماذوا بالاسلام و أنّ لهم أمانا، فلم يلتفت خالد إلى قوله و أمر بقتلهم و قسم سبيهم، فحلف أبو قتادة أن لا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا، و ركب فرسه شادّا إلى أبي بكر و أخبره بالقصّة و قال: إنّي نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي و أخذ بشهادة الأعراب الّذين غرضهم الغنائم، و أنّ عمر لمّا سمع ذلك تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر، و قال: إنّ القصاص قد وجب عليه، و لما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد و عليه قباء له عليه صداء الحديد معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها ثمّ قال: يا عديّ نفسه عدوت على امرء مسلم فقتلته ثمّ نزوت على امرأته و اللّه لنرجمنّك بأحجارك، و خالد لا يكلّمه و لا يظنّ إلّا أنّ رأي أبي بكر مثل ما راى عمر فيه، حتّى دخل إلى أبي بكر و اعتذر إليه فعذّره و تجاوز عنه.
و قد رواه الشّارح المعتزلي أيضا في الشّرح و في غير ذلك المقام و قال عقيب ذلك: فكان عمر يحرّض أبا بكر على خالد و يشير عليه أن يقتصّ منه بدل مالك، فقال أبو بكر إيها يا عمر ما هو بأوّل من أخطأ فارفع لسانك عنهم، ثمّ ودى ذلك من بيت مال المسلمين، انتهى.
فقد علم بذلك أنّ أبا بكر كان ظالما فكيف يكون محبوبا للّه سبحانه و محبّا له.
ثمّ لا يخفى عليك إنّ اللّه وصف القوم المأتىّ بهم بالمحبّة و لم يخصّ المحبّة بالرئيس فقط و من جملة المحاربين للمرتدّين على زعمهم خالد بن الوليد الّذي عرفت حاله من هتكه لناموس الاسلام و تضييعه لشرع سيّد الأنام أفترى من نفسك أن تحكم بأنّه محبوب اللّه و محبّه حاشا ثمّ حاشا.
السادس عشر- قوله: أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، صفة لأبي بكر للدّليل الّذي قدّمناه.
فيه أولا أنّك قد عرفت عدم تمامية الدّليل و عدم اختصاص الاية بأبي بكر، و الخبر الّذي رواه من قوله: أرحم أمّتي بامّتي أبو بكر. مما تفرّد العامّة بروايته لا يكون حجّة علينا.
و ثانيا أنّ قوله: ألا ترى انّ في أوّل الأمر كيف كان يذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه أنّه لم يسمع إلى الان ذبّ منه عنه صلّى اللّه عليه و آله و لم يكن له نسب معروف، و لا حسب مشهور، و لا فضل مأثور، و لا صيت مذكور، و لم يكن يومئذ ممّن يعتنى بشأنه و يعبأ به في عداد الرّجال حتّى يذبّ عن رسول اللّه، أ لم يكن يومئذ مثل شيخ بطحاء أبي طالب و أسد اللّه حمزة و ذي الجناحين جعفر و أسد اللّه الغالب أمير المؤمنين و ساير فتية بني هاشم و أنجاد بني عبد مناف محدقين حوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حامين له ذابّين عنه حتّى يكون الذّاب عنه مثل أخي تيم الجلف الجافي الرّذل، و لو كان له تلك المقام و المنزلة لم يعزله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن إبلاغ سورة برائة.
و ثالثا قوله: و في آخر الأمر أصرّ على المحاربة مع مانعي الزّكاة.
فيه أنك قد علمت أنّ مانعي الزّكاة لم يكونوا من المرتدّين بل كانوا مسلمين و لذلك صار محاربته معهم من أعظم المطاعن عليه فاستحقّ بذلك عقابا و نكالا، و صار له وزرا و وبالا.
و رابعا قوله حتى جاء أكابر الصحابة و تضرّعوا إليه و منعوه من الذّهاب النكّة في منعهم منه على تقدير صحّته أنّهم قد كانوا عارفين بجبنه، عالمين بضعف قلبه، مجرّبين له في المعارك و المهالك، و أنّه و صاحبه عمر عند منازلة الشجعان و مبارزة الأقران كان شيمتهما الفرار، و سجيّتهما عدم الحماية للذّمار، و قد فرّا يوم خيبر و احد و الأحزاب و غزوة ذات السلسلة و غيرها على أقبح الوجوه كما أثبتته أرباب السّير، و على لسان الشّعراء و المورّخين شاع و اشتهر قال الشّارح المعتزلي في اقتصاص غزوة خيبر يقصّ فرارهما في قصايد السّبع العلويّات:
- و ما أنس لا أنس اللّذين تقدّماو فرّهما و الفرّ قد علما حوب
- و للراية العظمى و قد ذهبا بهاملابس ذلّ فوقها و جلابيب
- يشلّهما من آل موسى شمر دلطويل نجاد السّيف أجيد يعبوب
- يمجّ منونا سيفه و سنانه و يلهب نارا غمده و الأنابيب
- احضرهما أم حضرا خرج خاضباذان هما ام ناعم الخدّ مخضوب
- عذرتكما أنّ الحمام لمبغض و انّ بقاء النفس للنّفس مطلوب«»
فكان تضرّع الصحابة له في الرّجوع و الاياب مخافة أن يذهب فيهرب بمجرى عادته و مجرب شيمته، فيبطل بالمرّة دين الاسلام و يضمحلّ شرع سيّد الأنام فتضرّعوا إليه بلسان المقال، و قالوا له بلسان الحال:
- دع المكارم لا ترحل لبغيتهاو اقعد فانك أنت الطاعم الكاسى
و يشهد بما ذكرنا أنه لو كان عرف فى نفسه البأس و النجدة لأصرّ على المضيّ و لم يصغ إلى تضرّعهم، و كان مثل أمير المؤمنين عليه السّلام لما عزم على المسير إلى البصرة تضرّع إليه ابنه الحسن بأن لا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتال و بكى و قال أسألك أن لا تقدم العراق و لا تقتل بمضيعة. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللّدم حتّى يصل إليها طالبها و يختلها راصدها، و لكنّي أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه، و بالسامع المطيع العاصى المريب أبدا حتى اتى علي يومي، على ما عرفت تفصيله في شرح سادس المختار في باب الخطب.
و لعمري إنّ هذه المنقبة الشريفة أعنى العزّة على الكافرين هو حظّ أمير المؤمنين عليه السّلام لا غير، و استمع ما قاله الأديب النحرير الشاعر الماهر و الاستاد الفاضل.
- بدر له شاهد و الشعب من احدو الخندقان و يوم الفتح إن علموا
- و خيبر و حنين يشهدان له و في قريظة يوم صيل قتم
- مواطن قد علت في كلّ نائبةعلى الصحابة لم اكتم و إن كتموا
و أما كونه عليه السّلام ذليلا على المؤمنين فلما عرفت فى تضاعيف الشرح و تعرفه أيضا من مكارم أخلاقه و محامد خصاله التي أقرّ بها المخالف كالمؤلف، و نقله المنحرف كالمعترف، و اعترف بها الخاصّة و العامّة و تصدقها المحبّ و المبغض
- له شرف فوق النجوم محلّهأقرّ به حتّى لسان حسوده
حدّث الزّبير بن بكار عن رجاله قال دخل محفن بن أبي محفن الضّبي على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين جئتك من عند ألأم العرب «و أبخل العرب ظ» و أعيى العرب و أجبن العرب قال: و من هو يا أخا بني تميم قال: عليّ بن أبي طالب، قال معاوية: اسمعوا يا أهل الشام ما يقول أخوكم العراقي، فابتدروه أيّهم ينزله عليه و يكرمه، فلمّا تصدّع النّاس عنه قال له: كيف قلت فأعاد عليه، فقال له: ويحك يا جاهل كيف يكون ألأم العرب و أبوه أبو طالب و جدّه عبد المطلب و امرأته فاطمة بنت رسول اللّه، و أنّى يكون أبخل العرب فو اللّه لو كان له بيتان بيت تبن و بيت تبر لأنفذ تبره قبل تبنه و أنّى يكون أجبن العرب فو اللّه ما التقت فئتان قطّ إلّا كان فارسهم غير مدافع، و أنّى يكون أعيى العرب فو اللّه ما سنّ البلاغة لقريش غيره، فو اللّه لو لا ما تعلم لضربت الّذى فيه عيناك فايّاك عليك لعنة اللّه و العود إلى مثل هذا.
فقد أقرّ بفضله العنود الحسود، و قيام الحجّة بشهادة الخصم أوكد و إن تعددت الشّهود.
- و مليحة شهدت لها ضرّاتهاو الفضل ما شهدت به الأعداء
السابع عشر- قوله: إلّا أنّ حظّ أبي بكر فيه أتمّ «إلى قوله» يوم بدر واحد.
أقول: لا يكاد ينقضي عجبي من هذا النّاصب المتعصّب كيف أعمته العصبيّة إلى أن جاوز حدّه و خرج عن زيّه و تكلّم فوق قدره حتّى رجّح ابن أبي قحافة على أبي تراب فوا عجبا عجبا كيف يقاس التراب بالتبر المذاب، و أيّ نسبة للسّراب إلى الشراب و أيّ شبه بين الدّرّ و الحصى و السّيف و العصا، و أيّ تطابق بين الشجاع المبارز الغالب على كلّ غالب، و الأجبن من كلّ الثعالب و هذا مقام التمثيل بقول أبي العلاء:
- إذا وصف الطّائي بالبخل ما درو عيّر قسّا بالفهاهة باقل
- و قال السهيل للشمس أنت خفيّةو قال الدّجى للصّبح لونك حائل
- و طاولت الأرض السّماء ترفّعاو طاول شهبا الحصى و الجنادل
- فيا موت زر إنّ الحياة ذميمةو يا نفس جدّي إنّ دهرك هازل
فيقال لهذا الخابط الهازل اللّاغي الّذي لا ينفعل من لغوه و هذيه: أىّ جهاد كان قبل غزوة بدر و أىّ ذبّ نقل عن أبي بكر و لو كان منه قدرة الذّب و الدّفاع لنقل شي ء منها في محاربات الرّسول المختار مع الكفّار، و لنزل فيه ما نزل في أبي الحسن الكرّار، من مثل «وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» و لا فتى إلّا عليّ و لا سيف إلّا ذو الفقار.
و قد كانت العساكر في هذه المعارك حسبما قال مجتمعة، و الصفوف متلاصقة، و الكتائب مترادفة، فاختار هو و صاحبه عمر و الحال هذه الفرّ على الكرّ، و وليّا عن العدوّ الدّبر، فمن كان هذه حاله كيف كان يذبّ عن سيّد الأنام حين ضعف الاسلام مع عدم العساكر، و لا معين و لا ناصر.
الثامن عشر- قوله: إنّه كان متقدّما عليه في الزّمان.
فيه انّه إن أراد تقدّمه عليه من حيث الجهاد فقد عرفت بطلانه، إذ أوّل غزوة في الاسلام غزوة بدر و قد كانا كلاهما حاضرين فيها معا، ثمّ فيما بين حضوريهما من التفاوت ما لا يخفى، فانّ أبا بكر لم ينقل منه فيها فرد قتيل، و أمّا أمير المؤمنين عليه السّلام فقد روى جمهور المؤرّخين أنّ قتلاه فيها شطر جميع المقتولين و كانوا سبعين.
و إن أراد تقدّمه عليه في السّن ففيه إنّ الزّمان الّذى تقدّم به على أمير المؤمنين عليه السّلام مع سبقه عليه السّلام عليه بالاسلام و مع كونه فيما تقدّم به عليه من أهل الشّرك و عبدة الأصنام، فأيّ شرف لهذا التقدّم أو منقبة، أمّ أيّ خير فيه و منفعة.
التاسع عشر- قوله: جهاد أبي بكر في وقت ضعف الرّسول.
فيه إنّك قد عرفت فساده لأنّه لم يكن قبل غزوة بدر غزوة معروفة إلّا غزوات مختصرة مثل غزوة بواد بواط و عشيرة و غزوة بدر الصغرى، و لم ينجرّ الأمر فيها إلى القتال فيجاهد أبو بكر و يقعد عنه أمير المؤمنين مع أنّ حضور أبي بكر فيها و غياب عليّ عنها غير ثابت.
و أيضا لم يكن الرّسول عند المسير إليها ضعيفا، و إن أراد أنّه كان لأبي بكر جهاد قبل تلك الوقايع فهو ممّا تفرّد به و لم ينقله عن غيره.
نعم لو قلنا إنّ أمير المؤمنين كان سابقا بالجهاد لأنّه جاهد الكفّار صبيحة ليلة بات فيها على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما ذهب إلى الغار، و جاهدهم أيضا عند الهجرة بأهل بيت الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكّة إلى المدينة لمّا أرادت قريش المنع منها، لقلنا مقالا رواه أرباب السّير، و ورد في صحيح الخبر.
و كيف كان فجهاد أمير المؤمنين عليه السّلام في سبيل اللّه و كون حظّه فيه الأوفر أبين من الشمس في رابعة النّهار، و لنعم ما قيل:
- بعليّ شيّدت معالم دين اللّهو الأرض بالعناد تمور
- و به أيدّ الاله رسول اللّه إذ ليس في الأنام نصير
- أسد ما له إذا استفحل الناسسوى رنّة السلاح زئير
- ثابت الجاش لا يردعه الخطب و لا يعتريه فتور
- عزمات أمضى من القدر المحتوميجرى بحكمه المقدور
فقد ظهر بذلك كلّه أنّ مصداق قوله سبحانه فى الاية الشريفة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
و أمّا قوله سبحانه لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيظهر كونه مصداقا له و يصدّقه قوله صريحا في الفصل الاتي: و انّي لمن قوم لا يأخذهم فى اللّه لومة لائم.
و قوله عليه السّلام فى المختار الرّابع و العشرين: و لعمرى ما عليّ من قتال من خالف الحقّ و خابط الغيّ من إدهان و لا ايهان.
و قوله عليه السّلام في المختار الحادى و التسعين لما اريد على البيعة بعد قتل عثمان: دعوني و التمسوا غيرى فانا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول «إلى قوله» و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب.
و قوله عليه السّلام في المختار المأة و السادسة و العشرين لما عوتب على التسوية في العطاء: أ تأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه و اللّه ما أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السّماء نجما.
العشرون- قوله: و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و هذا لائق بأبي بكر متأكّد بقوله و لا يأتل أولو الفضل منكم و السعة اه و قد بيّنا أنّ هذه الاية في أبي بكر.
فيه بعد الغضّ عمّا روي عن ابن عباس و غيره من أنّها نزلت في جماعة من الصّحابة أقسموا على أن لا تتصدّقوا على رجل تكلّم بشي ء من الافك و لا يواسوهم، و البناء على نزولها في أبي بكر كما هو قول جمع من المفسّرين، انّ إحدى الايتين لا ارتباط لها بالاخرى، فانّ المراد بالفضل فى الاية الثانية هو الغنى و الثروة، و به في الاية الاولى اللّطف و التوفيق، و معنى قوله: و ذلك فضل اللّه إنّ محبّتهم للّه و لين جانبهم للمؤمنين و شدّتهم على الكافرين فضل من اللّه و توفيق و لطف منه و من جهته يمنّ به على من يشاء من عباده.
الحادى و العشرون- قوله: انا بيّنا بالدّليل.
فيه أنّك قد عرفت عدم تماميّة الدّليل بما لا مزيد عليه.
الثاني و العشرون- قوله: هذا الخبر من باب الاحاد.
فيه منع كونه من الأخبار الاحاد الّتي لا يعوّل عليها، بل هو خبر مستفيض رواه المخالف و المؤالف معتضد مضمونه بأخبار كثيرة قطعية، و نقتصر على بعض الأخبار العاميّة لكونه أدحض لحجّة الخصم.
ففى غاية المرام عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن المسيّب أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لأدفعنّ الرّاية إلى رجل يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله، فدعا عليّا و أنّه لأرمد ما يبصر موضع قدميه، فتفل في عينيه ثمّ دفعها إليه ففتح اللّه عليه.
و رواه أيضا عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل عن عبد الرّحمن أبي ليلى و عن عليّ عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عنه عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنه بسند آخر أيضا عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه بريدة الأسلمي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عنه عن سهل بن سعد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه أيضا من صحيح البخاري من الجزء الرّابع في رابع كراسه عن سلمة الأكوع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من الجزء الرّابع من صحيح البخارى أيضا في ثلثه الأخير في باب مناقب عليّ عن سلمة عنه صلّى اللّه عليه و آله و من الجزء الخامس منه أيضا عن سلمة عنه صلّى اللّه عليه و آله و من صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه أيضا من صحيح مسلم من الجزء الرابع في نصف الكراس من أوّله باسناده عن عمر بن الخطاب بعد قتل عامر أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى عليّ عليه السّلام و هو أرمد و قال: لاعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، الحديث.
و من صحيح مسلم في آخر كراس من الجزء الرابع منه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من صحيح مسلم عن سهل بن سعد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و من صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه أيضا من تفسير الثعلبي في تفسير قوله «وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» باسناده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه أيضا من مناقب ابن المغازلي بسند يرفعه إلى أياس بن سلمة عن أبيه في ذكر حديث خيبر قال فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و من مناقبه أيضا عن أبي طالب محمّد بن عثمان يرفعه إلى عمران بن الحصين قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمر إلى خيبر فرجع فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاعطين الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله ليس بفرّار.
و من المناقب أيضا عن القاضي أبو الخطاب يرفعه إلى عمران بن الحصين قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فأعطاها عليّا ففتح اللّه عزّ و جلّ خيبر به.
و من المناقب عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر إلى خيبر فلم يفتح عليه ثمّ بعث عمر فلم يفتح عليه فقال: لاعطينّ الراية رجلا كرّارا غير فرّار يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و من المناقب عن أحمد بن محمّد بن عبد الوهاب بن طاران يرفعه إلى أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه فاستشرف لها أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدفعها إلى عليّ بن أبي طالب.
و من المناقب قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن عليّ بن الميموني و أحمد بن محمّد بن عبد الوهاب بن طاران الواسطيان بقراءتى عليهما فأقرّا به يرفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان أرسل عمر بن الخطاب إلى خيبر هو و من معه فرجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبات تلك اللّيلة و به من الغمّ غير قليل فلما أصبح خرج إلى النّاس و معه الرّاية فقال: لاعطينّ اليوم رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله غير فرّار، فتعرّض لها جميع المهاجرين و الأنصار فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أين عليّ، فقالوا: يا رسول اللّه هو أرمد، فأرسل إليه أبا ذر و سلمان فجاء و هو يقاد لا يقدر على أنّه يفتح عينيه، ثمّ قال: اللّهمّ اذهب عنه الرّمد و الحرّ و البرد و انصره على عدوّه و افتح عليه فانّه عبدك و يحبّك و يحبّ رسولك «خ ل رسوله» غير فرّار، ثمّ دفع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الرّاية إليه عليه السّلام و استأذنه حسّان بن ثابت في أن يقول فيه شعرا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: قل، فأنشأ يقول:
- و كان عليّ أرمد العين يبتغيدواء فلمّا لم يحسّ مداويا
- شفاه رسول اللّه منه بتفلةفبورك مرقيّا و بورك رافيا
- و قال سأعطي اليوم راية صار ماكميّا محبّا للرّسول محاميا
- يحبّ إلهي و الاله يحبّه به يفتح اللّه الحصون الأوابيا
- فأصفى بها دون البريّة كلّهاعليّا و سمّاه الوزير المؤاخيا
و من المناقب أيضا عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل بحضرة أهل خيبر و قال: لاعطينّ اللّواء رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فلمّا كان من الغد صادف أبا بكر فدعا عليّا و هو أرمد العين فأعطاه الرّاية. و من المناقب بسند مرفوع إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول يوم الخيبر: لاعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و فيه من الجمع بين الصّحاح الستة باسناده عن سهل بن سعد عن أبيه قال: كان عليّ تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة خيبر فلحق، فلمّا أتينا اللّيلة الّتي فتحت في صبيحتها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لاعطينّ غدا الرّاية رجلا يفتح اللّه على يديه يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و من الجمع بين الصّحاح الستّة من الصحيح الترمدى قال بالاسناد عن سلمة قال: أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ و هو أرمد فقال: لاعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و فيه عن إبراهيم بن محمّد الحمويني مسندا عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري في ذكر حديث خيبر قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لابعثنّ غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله لا يولّي الدّبر، هذا.
و اقتصرنا على مورد الحاجة في أكثر هذه الرّوايات و حذفنا اسناد أكثرها للاختصار، و تركنا الأخبار الخاصيّة الواردة في هذا المعنى حذرا من الاطالة و دفعا لمكابرة الخصم و عناده، و ادّعى صاحب غاية المرام تواتر الخبر في القصّة من طريق العامّة و الخاصّة.
أقول: و هذه الأخبار الّتى رواها المخالفون في كتبهم فضلا عن أخبار الموالين له عليه السّلام كافية لمن راقب العدل و الانصاف، و جانب التّعصب و الاعتساف في إثبات كونه عليه السّلام محبّا للّه و رسوله و كون اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محبّين له.
و لكنّي أضيف إلى هذه الأخبار على رغم الناصب المعاند الرّازى المتعصّب الجاحد حديث الطير الّذى قال فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ اعطني «ايتنى ظ» بأحبّ الناس إليك و في بعض روايته: إليك و إلى رسولك يأكل معى فجاء عليّ عليه السّلام و أكل معه و قد رواه في غاية المرام بستّة و ثلاثين طريقا من طرق العامّة، و من جملتها أبو المظفر السمعاني في كتاب مناقب الصّحابة عن السّدى عن أنس بن مالك قال: كان عند النبيّ طير فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاء عليّ عليه السّلام فأكل معه.
و قد روى ذلك في الجمع بين الصّحاح الستّة لرزين من مسند أبي داود السّجستاني و رواه أحمد بن حنبل بطريق واحد من طريق السفينة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه ابن المغازلي الشافعي الواسطي من عشرين طريقا.
و من جملة طرق غاية المرام أيضا القاصم لظهر المكابرين و الرّاغم لانوف الناصبين ما أورده من كتاب المناقب الفاخرة في العترة الطاهرة، روى أبو جعفر بن محمّد بن أحمد بن روح مولى بني هاشم قال: حدّثني العباس بن عبد اللّه الباكناني عن محمّد بن يوسف السري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني أبي صميم حوثن بن عدي عن أبي ذرّ ره قال: بينا نحن قعود مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا هدي إليه طائر مشويّ، فلمّا وضع بين يديه قال لأنس: انطلق به إلى المنزل، و تبعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى إذا دخل المنزل وضع أنس الطائر بين يديه، فرفع النبيّ يديه نحو السماء و قال: اللهمّ ايت إلىّ بأحبّ النّاس اليك تحبّه أنت و يحبّه من في الأرض و من في السماوات حتّى يأكل معي من هذا الطير، قال أنس: فقلت: اللهمّ اجعله من قومي و قالت عايشة: اللهمّ اجعله أبي و قالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي فما لبثنا حتى أتى عليّ عليه السّلام فقال له أنس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى حاجة حتى أتى عليّ عليه السّلام ثلاث مرّات. فجثا النّبي صلّى اللّه عليه و آله على ركبتيه و رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه و قال: حاجتي يا ربّ الساعة الساعة، فما لبثنا أن قرع الباب فقال أنس: من ذا فقال: أنا عليّ و سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صوته فقال افتح، ففتحته، فلما دخل و كز أنس بيده حتى ظنّ أنس أنه قد أنفذ يده من ظهره، فلما بصر به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وثب قائما و قبّل عينيه و قال: ما الذي أبطاك عنّي يا قرّة عيني، فقال عليه السّلام: يا رسول اللّه قد أقبلت ثلاثا و يردّني أنس، فصفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان لا يصفق حتّى يغضب، فقال: يا أنس حجبت عنّي حبيبي، فقال: يا رسول اللّه إني أحببت أن يكون رجلا من قومي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أنس أما علمت أنّ المرء يحبّ قومه، إنّ عليا يحبّني و إنّ اللّه يحبّه و الملائكة تحبّه و يحبّه اللّه، يا أنس إنّي و عليا لم نزل ننقلب إلى مطهّرات الأرحام حتّى نقلنا إلى عبد المطلب فصار علىّ في صلب أبي طالب و صرت أنا في صلب عبد اللّه عمّ عليّ، فصارت فيّ النّبوة و في عليّ الولاية و الوصيّة أما علمت يا أنس أنّ اللّه عزّ و جلّ اشتقّ لى اسما من أسمائه و لعليّ اسما فسمّاني أحمد لتحمدني امّتي و أما عليّ فاللّه العليّ سمّاه عليا، يا أنس كما حجبت عنّي عليا ضربك اللّه بالوضح، و كان لا يدخل المسجد بعد الدّعوة إلّا متبرقع الوجه. و هذه الرّواية كما ترى ظاهرة بل صريحة من جهات عديدة في فرط محبّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له و محبّته للّه و محبّة اللّه له.
و الأخبار فى كونه أحبّ الناس إلى اللّه و إلى رسوله متجاوزة عن حدّ الاحصاء، و لو أردنا أن نجمع ما نقدر عليه منها لصار كتابا كبير الحجم و لكن اورد منها روايتين اختم بهما المقام ليكون ختامه مسكا فأقول: روى فى كشف الغمة من مناقب الخوارزمي عن عبد اللّه بن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج، قال: خاطبني بلغة عليّ بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا ربّ أنت خاطبتني أم عليّ فقال: يا أحمد أنا شي ء لا كالأشياء و لا أقاس بالناس و لا اوصف بالأشباه، خلقتك من نوري و خلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحبّ من عليّ بن أبي طالب، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئنّ قلبك.
و فيه من المناقب قال: و أخبرنا بهذا الحديث عاليا الامام الحافظ سليمان بن إبراهيم الاصفهاني مرفوعا إلى عايشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو فى بيتي لمّا حضره الموت. ادعوا إليّ حبيبي، فدعوت أبا بكر فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا إليّ حبيبي فقلت: ويلكم ادعوا له عليّ بن أبي طالب فو اللّه ما يريد غيره، فلما رآه فرج الثوب الذى كان عليه ثمّ ادخله فيه فلم يزل يحتضنه حتّى قبض و يده عليه.
إذا عرفت هذا فأقول:
- قال فيه البليغ ما قال ذو العيّفكلّ بفضله منطيق
- و كذاك العدوّ لم يعد أن قال فيه جميلا كما قال المحبّ الصديق
و مع ذلك كلّه فانظر هداك اللّه إلى سلوك صراطه المستقيم إلى الرازى و استمراره على غيّه، و غرقه فى سبيل نصبه و تعصّبه، و مكابرته الحقّ اللايح، و تنكّبه الجدد الواضح، و عدوله عن السنن، و بقائه على غمط«» حقّ أبي الحسن، و إرادته ستر الشمس المجلّلة بنورها للعالم بالنقاب، و النير الأعظم بالحجاب، فجزاه اللّه عن رسوله و عن أمير المؤمنين سلام اللّه عليهما شرّ الجزاء.
الثالث و العشرون- قوله: و لأنه معارض بالأخبار الدّالة على كون أبي بكر محبّا للّه و رسوله و كون اللّه محبّا له اه.
فيه أوّلا إنّه ليس هنا خبر متضمّن لمحبّة أبي بكر للّه أو محبّة اللّه له يحتجّ به على الاماميّة فضلا عن الأخبار، و ما رووه في هذا المعنى ممّا تفرّدوا بروايته لا يكون حجّة علينا.
و مع ذلك فمعارض بالأخبار الكثيرة المتضمّنة لكون عليّ عليه السّلام أحبّ النّاس إلى اللّه و إلى رسوله المستفيضة بل المتواترة معنى من طرقهم حسبما عرفت في الاعتراض الثاني و العشرين، و هي أقوى منها سندا و أظهر دلالة فلا يكاد تكافوء الأخبار الاولة على تقدير وجودها لها كما لا يخفى صدق المدّعى على أهل البصيرة و النهى الرابع و العشرون- قوله: قال تعالى في حقّ أبي بكر و لسوف يرضى.
غير مسلّم نزولها في أبي بكر و لما نزله الرازى عن ابن الزّبير و عن أبي بكر الباقلاني، و المرويّ عن المفسّرين خلافه، فقد روى الواحدي بالاسناد المتّصل المرفوع عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّها نزلت في رجل من الأنصار، و عن عطاء قال: اسم الرّجل أبو الدّحداح، و في بعض روايات أصحابنا أنّها في عليّ عليه السّلام و قال بعض المفسّرين: الأولى إبقاؤها على العموم فيرجع الضمير إلى كلّ من يعطي حقّ اللّه من ماله ابتغاء وجه ربّه، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال و قوله: و قال: إنّ اللّه يتجلّي للناس عامة و يتجلّي لأبي بكر خاصّة أنت خبير بأنّه لا غبار في كونه من الأحاديث الموضوع خطبه 192 نهج البلاغه بخش 18ة، لأنّه إن أريد من تجلّيه سبحانه تجلّيه بذاته فهو مستلزم للتجسّم مخالف للاصول المحكمة و البراهين القاطعة السّاطعة، و إن اريد تجلّيه ببرّه و فضله و عناياته و لطفه المقرّب إلى طاعته و المبعد عن معصيته، ففيه أنّ التجلّى بهذا المعنى لعموم النّاس غير جايز إذ فيهم المؤمن و المنافق و المسلم و الكافر، فكيف يتصوّر التجلّى في حقّ الكافر المنافق و إن خصّ بالمؤمنين فهو مع كونه خلاف الظّاهر يتوجّه عليه أنّ من جملة المؤمنين الأنبياء و الرّسل و فيهم اولو العزم و غيرهم فيلزم أن يكون أبو بكر أعلى شأنا منهم و هو باطل بالاتفاق.
ثمّ كيف يتجلّى اللّه سبحانه على قلب أبي بكر و هو عشّ الشيطان و قد قال مخبرا عن نفسه: إنّ لي شيطانا يعتريني فان استقمت فأعينوني و إن زغت فقوّموني و قوله: و قال صلّى اللّه عليه و آله: ما صبّ اللّه شيئا في صدر إلّا و صبّه في صدر أبي بكر.
هو كسابقه أيضا في الوضع، لأنّ النكرة في سياق النفي مفيد للعموم، و من جملة ما صبّ في صدر النّبيّ نور النبوّة و الوحي و الالهام و علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن و نحوها، فهل ترى شيئا من ذلك ينصبّ في قلب أبي بكر فضلا عن جميعها و لو صحّ ذلك الصبّ لم يخف عليه معنى الكلالة و الأبّ الخامس و العشرون- قوله: إنّا لا نسلّم دلالة الاية الّتي بعد هذه الاية على امامته و سنذكر الكلام فيه اه.
يريد عدم تسليم دلالة الاية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الاية على إمامة أمير المؤمنين بما ذكره من الوجوه السخيفة في تفسير هذه الاية، و أنت قد عرفت تماميّة دلالتها على امامته في مقدّمات الخطبة الثالثة المعروفة بالشّقشقيّة، كما عرفت بطلان ما ذكره من الأدلّة، لعدم تماميّتها بما لا مزيد عليه.
و الحمد للّه الّذي هدانا لهذا و ما كنّا لنتهدي لو لا أن هدينا اللّه، و أسأل اللّه أن يثبت ما أوردناه هنا في ردّ الرّازي النّاصب في صحائف أعمالي، و يردّه إليّ يوم حشر الأوّلين و الاخرين، و يثقّل به ميزاني، و يحشرني مع من أتولّاه و احبّه و أتعصّب له من محمّد و آله الطيّبين الطاهرين، و أن يكتب ما أورده النّاصب الرّازي في صحيفة أعماله، و يردّه إليه، و يحشره يوم القيامة مع من تعصّب له من أوليائه الظالمين في حقّ آل الرّسول، صلّى اللّه عليهم و عليه أجمعين إلى يوم الدّين
التنبيه الثاني
قد أشرنا في شرح قوله عليه السّلام: إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى، أنّه ظاهر في سماع الامام ما يسمعه النبيّ من الملك و رؤيته له مثله، قد اختلفت الأخبار في ذلك فمما يدلّ على سماعه و رؤيته حديث الأمالى المتقدّم فى شرح الفقرة المذكورة و منه أيضا ما في البحار من البصاير عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّا نزاد فى اللّيل و النهار و لو لا أنّا نزاد لنفد ما عندنا، فقال أبو بصير: جعلت فداك من يأتيكم قال: إنا منا لمن يعاين معاينة، و منّا من ينقر فى قلبه كيت و كيت، و منا من يسمع باذنه وقعا كوقع السلسلة فى الطست، قال: قلت: جعلنى اللّه فداك من يأتيكم بذاك قال: هو خلق أكبر من جبرئيل و ميكائيل.
و من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان باسناده عن الرّضا عليه السّلام فى حديث طويل قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام فى كلام له: و ان شئتم أخبرتكم بما هو أعظم من ذلك قالوا: فافعل قال عليه السّلام: كنت ذات ليلة تحت سقيفة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اني لاحصي ستا و ستّين وطئة من الملائكة كلّ وطئة من الملائكة أعرفهم بلغاتهم و صفاتهم و أسمائهم و وطئهم.
و مما يدلّ على السماع فقط من دون الرّؤية مثل ما فى الاحتجاج قال: كان الصادق عليه السّلام يقول: علمنا غابر و مزبور و نكت فى القلوب و نقر فى الأسماع، فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال عليه السّلام: أما الغابر فالعلم بما يكون، و أما المزبور فالعلم بما كان، و أما النكت فى القلوب فهو الالهام، و أما النقر فى الأسماع فحديث الملائكة نسمع كلامهم و لا نرى أشخاصهم.
و مثله الأخبار الكثيرة الفارقة بين الرّسول و النبيّ و الامام و المحدث.
مثل ما رواه فى الكافى عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا، ما الرّسول و ما النبيّ قال عليه السّلام النبيّ الذي يرى فى منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرّسول الذى يسمع الصوت و يرى فى المنام و يعاين الملك، قلت: الامام ما منزلته قال: يسمع الصوت و لا يرى و لا يعاين الملك ثمّ تلا هذه الاية: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدث.
و فيه عن بريد (زيد خ) عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في قوله عزّ و جلّ «و ما ارسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث، قلت جعلت فداك ليست هذه قراءتنا فما الرّسول و النبيّ و المحدّث قال: الرّسول الّذي يظهر له الملك فيكلّمه و النّبيّ هو الّذي يرى في منامه و ربما اجتمعت النبوّة و الرّسالة لواحد، و المحدّث الذى يسمع الصوت و لا يرى الصّورة، قال: قلت: أصلحك اللّه كيف يعلم أنّ الذي رأى في النوم حقّ و أنّه الملك قال: يوفق لذلك حتّى يعرفه و لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب و ختم بنبيّكم الأنبياء و فيه عن الأحول قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرّسول و النبيّ و المحدّث قال عليه السّلام: الرّسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه و يكلّمه فهذا الرّسول، و أمّا النّبيّ فهو الّذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السّلام و نحو ما كان رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أسباب النبوّة قبل الوحي حتّى أتاه جبرئيل عليه السّلام من عند اللّه عزّ و جلّ بالرّسالة و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله حين جمع له النّبوة و جاءته الرّسالة من عند اللّه عزّ و جلّ يجيئه بها جبرئيل عليه السّلام يكلّمه بها قبلا، و من الأنبياء من جمع له النبوّة و يرى في منامه و يأتيه الرّوح و يكلّمه و يحدثه من غير أن يكون يرى في اليقظة، و أمّا المحدّث فهو الّذي يحدّث فيسمع و لا يعاين و لا يرى في منامه.
و عن محمّد بن مسلم قال: ذكر المحدّث عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال إنّه يسمع الصّوت و لا يرى الشّخص، قلت له: جعلت فداك كيف يعلم أنّه كلام الملك قال: إنّه يعطى السّكينة و الوقار حتّى يعلم أنّه كلام ملك
بيان
السّكينة اطمينان القلب و عدم التزلزل، و الوقار الحالة الّتي بها يعلم أنّه كلام الملك و فى رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: كيف يعلم أنّه كلام من الملك و لا يخاف أن يكون من الشّيطان إذا كان لا يرى الشّخص قال: إنّه يلقى عليه السّكينة فيعلم أنّه من الملك و لو كان من الشيطان اعتراه فزع، و إن كان الشّيطان بازراره لا يتعرّض لصاحب هذا الأمر.
و فى البحار من أمالي الشّيخ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان عليّ محدّثا و كان سلمان محدّثا، قال: قلت: فما آية المحدّث قال عليه السّلام: يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت و كيت.
و من البصاير عن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أهل بيتي اثنى عشر محدّثا.
و من البصاير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول الاثنى عشر الأئمة من آل محمّد عليه و عليهم السّلام كلّهم محدّث من ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ولد عليّ عليه السّلام فرسول اللّه و عليّ هما الوالدان، فقال عبد الرّحمن بن زيد و أنكر (ذكر) ذلك و كان أخا لعليّ بن الحسين عليهما السّلام لأمّه، فضرب أبو جعفر عليه السّلام فخذه فقال أمّا ابن امّك كان أحدهم.
و منه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: كان عليّ عليه السّلام و اللّه محدّثا، قال: قلت له: اشرح لي ذلك أصلحك اللّه قال: يبعث اللّه ملكا يوقر في اذنه كيت و كيت و كيت.
و منه عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أ لست حدّثتني أنّ عليّا عليه السّلام كان محدّثا قال: بلى قلت: من يحدّثه قال: ملك يحدّثه، قال: قلت: فأقول إنّه نبيّ أو رسول قال: لا بل مثله مثل صاحب سليمان و مثل صاحب موسى و مثل ذى القرنين، أما بلغك أنّ عليّا عليه السّلام سئل عن ذى القرنين فقالوا كان نبيّا قال: لا، بل كان عبدا أحبّ اللّه فأحبّه، و ناصح اللّه فناصحه فهذا مثله و بمعناها أخبار كثيرة احر تركنا ذكرها حذرا من الاطالة
بيان
المراد بصاحب موسى إمّا يوشع بن نون كما صرّح به في بعض الأخبار، أو الخضر على نبيّنا و عليه السّلام كما في البعض الاخر، فيدلّ على عدم نبوّة واحد منهما و يمكن أن يكون المراد عدم نبوّته في تلك الحال فلا ينافي نبوّته بعد في الأوّل و نبوّته قبل في الثّاني، هكذا قال في البحار، و المراد بصاحب سليمان عليه السّلام إمّا خضر عليه السّلام أو آصف بن برخيا.
قال المحدّث العلّامة المجلسيّ في البحار بعد ايراد هذه الأخبار ما هذا لفظه استنباط الفرق بين النبيّ و الامام من تلك الأخبار لا يخلو من إشكال، و كذا الجمع بينها مشكل جدّا، و الّذي يظهر من أكثرها هو أنّ الامام لا يرى الحكم الشرعي في المنام و النبيّ قد يراه فيه.
في المنام و النبيّ قد يراه فيه.
و أمّا الفرق بين النّبيّ و الامام و بين الرّسول هو أنّ الرّسول يرى الملك عند إلقاء الحكم و النّبي غير الرّسول و الامام لا يريانه في تلك الحال و ان رأياه في ساير الأحوال، و يمكن أن يخصّ الملك الّذي لا يريانه بجبرئيل عليه السّلام و يعمّ الأحوال لكن فيه أيضا منافاة لبعض الأخبار.
و مع قطع النظر من الأخبار لعلّ الفرق بين الأئمة و غير اولى العزم من الأنبياء أنّ الأئمة عليهم السّلام نوّاب للرّسول صلّى اللّه عليه و آله لا يبلّغون إلّا بالنيابة و أمّا الأنبياء و إن كانوا تابعين لشريعة غيرهم لكنّهم مبعوثون بالاصالة و إن كانت تلك النيابة أشرف من تلك الاصالة.
و بالجملة لا بدّ من الاذعان بعدم كونهم عليهم السّلام أنبياء و بأنّهم أشرف و أفضل من غير نبيّنا عليه و عليهم السّلام من الأنبياء و الأوصياء، و لا نعرف جهة لعدم اتّصافهم بالنّبوّة إلّا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلوات اللّه عليه و آله، و لا يصل عقولنا إلى فرق بيّن بين النبوّة و الامامة، و ما دلّت عليه الأخبار فقد عرفته، و اللّه تعالى يعلم حقايق أحوالهم صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين و قال المفيد رحمة اللّه عليه في كتاب المقالات: إنّ العقل لا يمنع من نزول الوحى اليهم صلوات اللّه عليهم و إن كانوا أئمة غير أنبياء فقد أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى أمّ موسى أن أرضعيه الاية، فعرفت صحّة ذلك بالوحي و عملت عليه و لم تكن رسولا و لا نبيّا و لا إماما، و لكنّها كانت من عباده الصّالحين، و إنّما منعت نزول الوحي إليهم و الايحاء بالأشياء إليهم للاجماع على المنع من ذلك و الاتفاق على أنه من زعم أنّ أحدا بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله يوحى اليه فقد أخطأ و كفر، و لحصول العلم بذلك من دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أنّ العقل لم يمنع من بعثة نبيّ بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسخ شرعنا كما نسخ ما قبله من شرايع الانبياء عليهم السّلام و إنما منع ذلك العلم و الاجماع، فانه خلاف دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جهة اليقين و ما يقارب الاضطرار«»، و الاماميّة جميعا على ما ذكرت ليس بينها على ما وصفت خلاف.
و قال رحمة اللّه عليه فى شرح عقايد الصدوق عليه الرّحمة: أصل الوحي هو الكلام الخفيّ، ثمّ قد يطلق على كلّ شي ء قصد به إفهام المخاطب على الستر له عن غيره و التخصيص له به دون من سواه، و إذا اضيف إلى اللّه تعالى كان فيما يخصّ به الرّسل خاصّة دون من سواهم على عرف الاسلام و شريعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إلى أن قال» و قد يرى اللّه فى منامه خلقا كثيرا ما يصحّ تأويله و يثبت حقّه، لكنّه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي و لا يقال في هذا الوقت لمن اطّلعه اللّه على علم شي ء أنه يوحى إليه و عندنا أنّ اللّه تعالى يسمع الحجج بعد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلاما يلقيه إليهم أى الأوصياء فى علم ما يكون لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحى لما قدّمناه من إجماع المسلمين على أنه لا وحي لأحد بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنه لا يقال في شي ء مما ذكرناه أنه وحي إلى أحد، و للّه تعالى أن يبيح اطلاق الكلام احيانا، و يحظره احيانا فأما المعاني فانها لا تتغير عن حقايقها، انتهى كلامه رفع مقامه
التنبيه الثالث
في ذكر الأخبار الواردة في وزارته عليه السّلام و هى كثيرة جدا من طرق الخاصّة و العامّة و لنقتصر على بعضهما حذرا من الاطالة فأقول و باللّه التوفيق: فى غاية المرام من مسند أحمد بن حنبل بسنده عن النسيم قال: سمعت رجلا من خثعم يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: اللهمّ إنّي أقول كما قال موسى: اللهمّ اجعل لي وزيرا من أهلى عليا أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري كي نسبّحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
و فيه عن أبى نعيم الحافظ باسناده عن رجاله عن ابن عباس قال: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و بيدي و نحن بمكة و صلّى أربع ركعات، ثمّ مدّ يديه إلى السماء و قال: اللّهم إنّ نبيّك موسى بن عمران عليه السّلام سألك فقال قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي الاية، و أنا محمّد نبيّك أسألك: ربّ اشرح لي صدرى و يسّر لي أمرى و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمرى، قال ابن عبّاس: فسمعت مناديا ينادى: قد اوتيت ما سألت.
و فيه عن أبي الحسن الفقيه من طريق العامّة باسناده عن الباقر عن أبيه عن جدّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خليفة اللّه و خليفتي، و حجّة اللّه و حجّتي، و باب اللّه و بابي، و صفيّ اللّه و صفيّي، و حبيب اللّه و حبيبي، و خليل اللّه و خليلي، و سيف اللّه و سيفي، و هو أخي و صاحبي، و وزيرى، و محبّه محبّي، و مبغضه مبغضي، و وليّه وليّي، و عدوّه عدوّي، و زوجته ابنتي، و ولده ولدى، و حزبه حزبي، و قوله قولي، و أمره أمري، و هو سيّد الوصيّين و خير امّتي و فيه عن ابن شاذان من طريق العامّة بحذف الاسناد عن سعيد بن المسيّب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهمّ اجعل لي وزيرا من أهل السماء، و وزيرا من أهل الأرض، فأوحى اللّه إليه أني قد جعلت وزيرك من أهل السماء جبرائيل، و وزيرك من أهل الأرض علىّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و أقنع من غاية المرام بهذه الأحاديث الأربعة، و قد روى فيه من طرق العامّة أحد عشر حديثا، و من طرق الخاصّة أحدا و عشرين حديثا، جلّها بل كلّها ناصّة بخلافته و وصايته عليه الصّلاة و السلام.
و روى الشارح المعتزلي عن الطبرى في تاريخه عن عبد اللّه بن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: لمّا نزلت هذه الاية «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعاني فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لى: يا علىّ إنّ اللّه أمرنى أن انذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعا و إنّي علمت متى اناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتّ حتّى جاءنى جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد إنّك إن لم تفعل ما امرت به يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعا من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املاء لنا عسّا من لبن، ثمّ اجمع بنيّ عبد المطلب حتّى اكلّمهم و ابلّغهم ما امرت به، ففعلت ما أمرنى به، ثمّ دعوتهم و هم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه و فيهم أعمامه: أبو طالب و حمزة و العباس، و أبو لهب.
فلما اجتمعوا إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا بالطعام الّذى صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بضعة من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها فى نواحى الصحفة، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلوا باسم اللّه فأكلوا حتّى ما لهم إلى شي ء من حاجة، و أيم اللّه الّذى نفس عليّ بيده أن كان الرّجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمته لجميعهم قال صلّى اللّه عليه و آله: اسق القوم يا عليّ، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتّى رووا جميعا و أيم اللّه ان كان الرّجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلمّا أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكلّمهم بدر أبو لهب إلى الكلام فقال: لشدّ ما سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم و لم يكلّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال من الغد: يا عليّ إنّ هذا الرّجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اكلّمهم فعدلنا اليوم إلى ما سمعت بالأمس ثمّ اجمعهم لى، ففعلت ثمّ جمعهم، ثمّ دعانى بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بشى ء حاجة، ثمّ قال: اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه جميعا حتّى رووا.
ثمّ تكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا بنيّ عبد المطلب إنّي و اللّه ما أعلم أنّ شابا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي جئتكم بخير الدّنيا و الاخرة، و قد أمرني اللّه أن أدعوكم اليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا و قلت أنا و إنّي لأحدثهم سنّا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا: أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه.
فأعاد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القول فأمسكوا و أعدت ما قلت.
فأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برقبتي ثمّ قال لهم: هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا، فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع.
قال الشارح المعتزلي و يدلّ على أنّه وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من نصّ الكتاب و السّنة قول اللّه تبارك و تعالى وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخبر المجمع على روايته بين ساير فرق الاسلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، فأثبت له جميع مراتب هارون و منازله عن موسى فاذا هو وزير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شادّ ازره، و لو لا أنّه خاتم النبيّين لكان شريكا في أمره.
أقول و هذه الأخبار كما ترى صريحة في إمامته عليه السّلام و وزارته و خلافته حسبما عرفت تحقيقه في مقدّمات الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية.
قال المفيد في الارشاد بعد الاستدلال على إمامته عليه السّلام بحديث المنزلة: فأوجب له الوزارة و التخصيص بالمودّة و الفضل على الكافّة له و الخلافة عليهم في حياته و بعد وفاته لشهادة القرآن بذلك كلّه لهارون من موسى عليهما السّلام، قال اللّه عزّ و جلّ مخبرا عن موسى عليه السّلام «وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ«» وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ» قال اللّه تعالى قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا.
فثبت لهارون شركة موسى عليه السّلام في النّبوة و وزارته على تأدية الرّسالة و شدّ ازره به فى النصرة.
و قال فى استخلافه له: «وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ» فثبت له خلافته بمحكم التنزيل فلمّا جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه الصّلاة و السّلام جميع منازل هارون من موسى على نبيّنا و عليه السّلام فى الحكم له منه إلّا النّبوة وجبت له وزارة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شدّ الازر بالنصرة و الفضل و المحبّة لما تقتضيه هذه الخصال من ذلك فى الحقيقة ثمّ الخلافة فى الحياة بالصّريح و بعد النّبوة بتخصيص الاستثناء لما اخرج منها«» بذكر البعد«»، و أمثال هذه الحجج كثيرة يطول بذكرها الكتاب.
و قال «ره» فى موضع آخر من الارشاد: فأمّا مناقبه عليه السّلام الغنيّة لشهرتها و تواتر النقل بها و اجماع العلماء عليها عن ايراد أسانيد الأخبار بها فهى كثيرة يطول بشرحها الكتاب و فى رسمنا منها طرفا كفاية عن ايراد جميعها.
فمن ذلك أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمع خاصّة أهله و عشيرته فى ابتداء الدعوة إلى الاسلام فعرض عليهم الايمان و استنصرهم على الكفر و العدوان و ضمن لهم على ذلك الخطوة«» فى الدّنيا و الشرف و ثواب الجنان فلم يجبه منهم إلّا أمير المؤمنين علىّ ابن أبي طالب عليه الصّلاة و السّلام فنحله«» بذلك تحقيق الاخوّة و الوزارة و الوصيّة و الوراثة و الخلافة، و أوجب له به الجنّة.
و ذلك فى حديث الدّار الّذي أجمع على صحّته نقّاد الاثار حين جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى عبد المطلب فى دار أبى طالب و هم أربعون رجلا يومئذ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا فيما ذكره الرّواة.
و أمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يصنع لهم طعاما فخذ شاة مع مدّ من برّ و يعدّ لهم صاع من اللّبن، و قد كان الرّجل منهم معروفا بأكل الجذعة- و هو من الضّأن ما له سنة كاملة- فى مقام واحد، و يشرب الفرق«» من الشراب فى ذلك المقعد.
فأراد عليه و آله السلام باعداد قليل الطعام و الشراب لجماعتهم إظهار الاية لهم فى شبعهم و ريّهم مما كان لا يشبع واحدا منهم و لا يرويه ثمّ أمر بتقديمه لهم، فأكلت الجماعة كلّها من ذلك اليسير حتى تملوا منه و لم يبن ما أكلوه منه و شربوه فيه فبهرهم«» بذلك و بيّن لهم آية نبوّته و علامة صدقه ببرهان اللّه تعالى فيه.
ثمّ قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام و رووا من الشراب: يا بنى عبد المطلب إنّ اللّه بعثنى إلى الخلق كافّة و بعثنى إليكم خاصّة فقال وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللّسان ثقيلتين فى الميزان تملكون بهما العرب و العجم و تنقاد لكم بهما الامم و تدخلون بهما الجنّة و تنجون بهما من النّار: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و أنّى رسول اللّه، فمن يجيبني إلى هذا الأمر و يوازرني عليه و على القيام به يكون أخى و وصيّى و وزيرى و خليفتى من بعدى.
فلم يجبه أحد منهم، فقال أمير المؤمنين عليه الصّلاة و السّلام فقمت بين يديه من بينهم و أنا إذ ذاك أصغرهم سنا و أحمشهم«» ساقا و أرمصهم عينا فقلت: أنا يا رسول اللّه اوازرك على هذا الأمر، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجلس.
ثمّ أعاد صلّى اللّه عليه و آله القول على القوم ثانية فاصمتوا، فقمت أنا و قلت مثل مقالتى الاولى، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجلس. ثمّ أعاد على القوم ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت و قلت: أنا أوازرك يا رسول اللّه على هذا الأمر.
فقال صلّى اللّه عليه و آله: اجلس فانت أخى و وصيّى و وزيرى و وارثى و خليفتى من بعدى فنهض القوم و هم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب ليهنئك اليوم ان دخلت فى دين ابن اخيك فقد جعل ابنك أميرا عليك.
قال المفيد قدّس سرّه العزيز: و هذه منقبة جليلة اختصّ بها أمير المؤمنين عليه الصّلاة و السّلام و لم يشركه فيها أحد من المهاجرين و الأنصار و لا أحد من أهل الاسلام، و ليس لغيره عليه السّلام عدل لها من الفضل و لا مقارب على حال.
و فى الخبر بها ما يفيد أنّ به عليه الصّلاة و السّلام تمكّن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبليغ الرسالة و إظهار الدّعوة و الصدع بالاسلام، و لولاه لم تثبت الملّة و لا استقرّت الشريعة و لا ظهرت الدّعوة.
فهو عليه الصّلاة و السّلام ناصر الاسلام و وزيره الدّاعى اليه من قبل اللّه عزّ و جلّ، و بضمانه لنبيّ الهدى عليه و آله السلام النصرة، تمّ له فى النّبوة ما أراد و في ذلك من الفضل ما لا توازنه الجبال فضلا، و لا تعادله الفضايل كلّها محلّا.
اعلم أنّه عليه الصّلاة و السّلام لمّا نبّه فى الفصل السابق على علوّ مقامه و رفعة شأنه و شرف محلّه، و ذكر المخاطبين بمناقبه الجميلة و عدّ فيه منها تسعا أردفه بهذا الفصل تذكيرا لهم بمنقبته العاشرة و هو ايمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تصديقه بالمعجزة الظاهرة منه صلوات اللّه و سلامه عليه فى الشجرة لمّا كفر به غيره و نسبوه إلى السّحر و الكذب و هو قوله عليه الصّلاة و السّلام: (و لقد كنت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتاه الملاء من قريش) أى الجماعة منهم (فقالوا له يا محمّد إنّك قد ادّعيت أمرا عظيما) و هو النّبوة و الرّسالة (لم يدّعه آباؤك) أى الأقربون منهم و إن كان الأبعدون أنبياء و مرسلين كاسماعيل و إبراهيم و غيرهما (و لا أحد من) أهل (بيتك و نحن نسألك أمرا) خارقا للعادة (إن أجبتنا إليه) و أتيت به (و أريتناه علمنا أنّك نبيّ و رسول) لاتيانك بما أتى به ساير الأنبياء و الرّسل ممّا يعجز عنه غيرهم من الايات البيّنات المصدّقة لرسالتهم و نبوّتهم (و ان لم تفعل علمنا) بطلان دعواك و انّك ساحر كذّاب) لأنّ عدم فعلك لما نسأله كاشف عن عجزك من معاجزة النّبوة و دلائل الرّسالة.
ف (قال لهم) النّبي صلّى اللّه عليه و آله (و ما تسألون).
(قالوا تدع لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها) من الأرض و تأتى (و تقف بين يديك) إجابة لدعوتك (فقال صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه على كلّ شي ء قدير) لا يعجزه شي ء و لا يقصر قدرته عن شي ء (فان فعل اللّه ذلك بكم) و أجاب إلى مسئولكم (أ تؤمنون) به (و تشهدون بالحقّ) و إنّما نسب الفعل إلى اللّه و لم ينسبه إلى نفسه تنبيها لهم على أنّ ما يفعله و يصدر منه صلّى اللّه عليه و آله فانّما هو فعل اللّه سبحانه و هو عليه السّلام مظهر له كما قال تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ و لذلك ذكر أوّلا عموم قدرته تعالى و فرّع عليه قوله: فان فعل اللّه ذلك، ايماء إلى أنّ ما تسألونه من انقلاع الشجرة من مكانها و وقوفها بين أيديهم أمر يعجز عنه المخلوق الضعيف و يقدر عليه الخالق القاهر القادر على كلّ شي ء، فقال لهم: فان فعلت ذلك مع كونى بشرا مثلكم فانّما هو بكونى مبعوثا من عنده خليفة له و كون فعلى فعله أ تؤمنون حينئذ و تشهدون بأن لا إله إلّا اللّه و أنّى رسول اللّه.
(قالوا نعم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّى ساريكم ما تطلبون) أسند الارائة إلى نفسه القدسى بعد اسناد الفعل إلى اللّه، لما ذكرناه من النكتة (و إنّي لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) أى لا ترجعون إلى الاسلام الجامع لخير الدّنيا و الاخرة و فى تصدير الجملة بانّ و اللّام تنبيها على أنّ عدم رجوعهم إلى الحقّ و بقائهم على الكفر و الضلال محقّق معلوم له صلّى اللّه عليه و آله بعلم اليقين ليس فيه شكّ و ريب (و انّ فيكم من) يبقى على كفره و يقتل و (يطرح فى القليب) قليب بدر (و من) يستمرّ على غيّه و (يحزّب الأحزاب) و يجمع جموع الكفّار و المشركين على محاربتى و جهادى.
و هذه الخبر من أخباره الغيبيّة و دلائل نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و قد وقع المخبر به على طبق الخبر، فممّن طرح فى القليب بعد قتلهم عتبة و شيبة ابنى ربيعة و أبى جهل و اميّة ابن عبد شمس و الوليد بن المغيرة و غيرهم، و ممّن حزّب الأحزاب أبو سفيان بن حرب و عمرو بن ود و صفوان بن اميّة و عكرمة بن أبى جهل و سهل بن عمرو و غيرهم.
(ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر و تعلمين أنّى رسول اللّه) خطابه للشّجرة بخطاب ذوي العقول يدلّ على أنّها صارت بتوجّه نفسه القدسى إليها شاعرة مدركة قابلة للخطاب كساير ذوى العقول المتّصفة بالاحساس و الحياة لأنّ مشيّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشية اللّه و إذا أراد اللّه شيئا أن يقول له كن فيكون.
و نظير هذا الخطاب خطاب اللّه سبحانه للأرض و السماء بقوله «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا» و في قوله: ان كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر، دلالة على أنّ للنبات و الجماد تكليفا كساير المكلّفين، و قد مرّ بعض الكلام فى ذلك فى شرح المختار المأة و التسعين.
و كيف كان فقد خاطب الشّجرة و قال لها (فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ باذن اللّه) و مشيّته ف (و الّذى بعثه بالحقّ) نبيّا (لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دوىّ شديد) صوت كصوت الرّيح (و قصف كقصيف) أى صوت مثل صوت (أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) ممتثلة لأمره منقادة لحكمه (مرفرفة) رفرفة الطير (و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) متثلة لأمر منقادة لحكمه (مرفوعة) رفرقة الطير (و ألقت بغضها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم) إجلالا له و إعظاما (و ببعض أغصانها على منكبى) تكريما و تعظيما (و كنت) واقفا (عن يمينه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا نظر القوم إلى ذلك) الاعجاز (قالوا) له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (علوا و استكبارا) لا اهتداء و استرشادا (فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها فأمرها بذلك) إتماما للحجّة و اكمالا للبيّنة (فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويا) و هو كناية عن سرعة إجابتها لأمره (فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بمزيد دنوّها منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فقالوا) ثالثة (كفرا و عتوّا) و تمرّدا و اعتلاء بقصد تعجيزه و افحامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قطعا للعذر و حسما لمادّة المكابرة (فرجع) إلى النّصف الاخر و انضمّ اليه.
قال أمير المؤمنين لما شاهد هذه المعجزة (فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه فانّى أوّل مؤمن بك) أى برسالتك (يا رسول اللّه و أوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه) و اذنه (تصديقا لنبوّتك و إجلالا لكلمتك) و إجابة لأمرك.
(فقال القوم كلّهم بل ساحر كذّاب) أى أنت مموّه مدلّس لا حقيقة لما فعلته و إنّما هو تمويه و تخييل لا أصل له و أنّك كذّاب فيما تدعوننا إليه من التوحيد و الايمان.
و قد حكى اللّه عنهم ذلك بقوله في سورة ص وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ.
قال الطبرسي في وجه نزول الاية: قال المفسّرون: إنّ أشراف قريش و هم خمسة و عشرون منهم الوليد بن المغيرة و هو أكبرهم و أبو جهل و أبيّ و اميّة ابنا خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و النضر بن الحارث أتوا أبا طالب و قالوا أنت شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضى بيننا و بين ابن اخيك فانّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا، شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضى بيننا و بين ابن اخيك فانّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا، فدعى أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك: فقال: ما ذا يسألونني قالوا دعنا و آلهتنا ندعك و إلهك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب و العجم، فقال أبو جهل: للّه أبوك نعطيك ذلك و عشر أمثالها فقال: قولوا: لا إله إلّا اللّه، فقاموا و قالوا: أ جعل الالهة إلها واحدا، فنزلت هذه الايات، هذا.
و لمّا قالوا: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساحر و لم يكونوا شاهدين مثل ما أتى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من غيره أعظموا أمره و وصفوه بأنّه (عجيب السّحر) لأنّه قد أتى بما يعجز عنه غيره و بأنّه (خفيف فيه) لأنّه فعل ما فعل سريعا من دون تراخ و تأخير.
ثمّ قالوا استحقارا و استصغارا: (و هل يصدّقك) و يؤمن بك (فى أمرك إلّا مثل هذا) الغلام الحدث السنّ (يعنونني) و قد حذا حذو هؤلاء الكفّار أتباعهم الّذين فضّلوا ابن أبي قحافة على أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قالوا: إنّ ابن أبي قحافة أسلم و هو ابن أربعين سنة و علىّ أسلم و هو حدث و لم يبلغ الحلم فكان إسلام الأوّل أفضل و قد نقل تفصيل مقالهم الشارح المعتزلي من كتاب العثمانيّة للجاحظ، و تفصيل الجواب عن ذلك من كتاب نقض العثمانية لأبي جعفر الاسكافي تغمّده اللّه بغفرانه، و كفانا نقل الشّارح المعتزلي له مؤنة النقل هنا، من أراد الاطلاع فليراجع شرحه.
|