و إنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، سيماهم سيما الصّدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل، و منار النّهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه و سنن رسوله لا يستكبرون، و لا يعلون، و لا يغلوّن، و لا يفسدون، قلوبهم في الجنان، و أجسادهم في العمل.
اللغة
(و السّيما) بالقصر و المدّ العلامة و (غلّ) يغلّ من باب قعد غلولا إذا خان في الغنيمة كأغلّ أو مطلق الخيانة و غلّ غلّا من باب ضرب أى حقد حقدا.
الاعراب
عمّار اللّيل بالرّفع خبر لمبتدأ محذوف، قوله: و أجسادهم فى العمل، الواو فيه للعطف و تحتمل الحال.
المعنی
ثمّ اشار عليه السّلام إلى مناقب له اخرى و فصّلها بقوله (و انّى لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم) أى لا تأخذهم في سلوك سبيله و التقرّب إليه سبحانه و اقامة أحكام الدّين و اعلاء كلمة الاسلام، ملامة لائم و وصف هؤلاء القوم بعشرة أوصاف: أولها أنّ (سيماهم سيما الصّديقين) أى علامتهم علامة هؤلاء قال الطبرسىّ في تفسير قوله تعالى: من يطع اللّه و الرّسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّديقين، قيل: في معنى الصّديق إنّه المصدّق بكلّ ما أمر اللّه به و بأنبيائه لا يدخله في ذلك شكّ و يؤيّده قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ و قال في قوله: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أى كثير التصديق في امور الدّين، و قيل: صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن اللّه.
أقول: مقتضى كون الصدّيق من أبنية المبالغة أن يكون كثير الصّدق مبالغا فيه، و ذلك مستلزم لكون عمله مطابقا لقوله مصدّقا له غير مكذّب أى صادقا في أقواله و أفعاله.
قال سبحانه فى وصف الصّادقين «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ» و فى البحار عن بصاير الدّرجات عن بريد العجلى قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» قال عليه السّلام ايّانا عنى و فيه من البصاير عن أحمد بن محمّد قال: سألت الرّضا عليه السّلام عن هذه الاية قال: الصادقون الأئمة الصدّيقون بطاعتهم.
و فيه من كنز جامع الفوايد عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: هبط على النبيّ ملك له عشرون ألف رأس فوثب النبىّ ليقبّل يده، فقال له الملك: مهلا مهلا يا محمّد فأنت و اللّه أكرم على اللّه من أهل السّماوات و أهل الأرضين أجمعين و الملك يقال له: محمود، فاذا بين منكبيه مكتوب لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علىّ الصّديق الأكبر، فقال له النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبيبى محمود كم هذا مكتوب بين منكبيك قال: من قبل أن يخلق اللّه أباك باثنى عشر ألف عام.
فقد علم بما ذكرنا كلّه أنّ المراد بالصدّيقين خصوص الأئمة أو الأعمّ منهم و من ساير المتّقين، و على أىّ تقدير فرئيسهم هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
(و) الثاني (أنّ كلامهم كلام الأبرار) أى المطيعين للّه المحسنين فى أفعالهم قال تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً قال الحسن فى تفسيره هم الذين لا يؤذون الذّر و لا يرضون الشرّ و قيل هم الّذين يقضون الحقوق اللّازمة و النّافلة قال الطبرسيّ و قد أجمع أهل البيت عليهم السّلام و موافقوهم و كثير من مخالفيهم أنّ المراد بذلك علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و الاية مع ما بعدها متعيّنة فيهم و أيضا فقد انعقد الاجماع على أنهم كانوا أبرارا و فى غيرهم خلاف، و على أيّ معنى فالمراد بكلامهم الذكر الدائم و قول الحقّ و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و الثالث أنّهم (عمّار اللّيل) أى بالدّعاء و المناجاة و الصّلاة و تلاوة القرآن (و) الرابع أنّهم (منار النّهار) يعنى أنّهم يفرغون باللّيل لعبادة الخالق و يقومون فى النّهار بهداية الخلايق فالنّاس يهتدون بهم من ظلمات الجهالة و الضّلالة كما يهتدي بالمنار فى غياهب الدّجى.
الخامس أنّهم (متمسّكون بحبل القرآن) قال الشارح البحراني استعار لفظ الحبل للقرآن باعتبار كونه سببا لمتعلّميه و متدبّريه إلى التروّى من ماء الحياة الباقية كالعلوم و الأخلاق الفاضلة كالحبل هو سبب الارتواء و الاستسقاء من الماء أو باعتبار كونه عصمة لمن تمسّك به صاعدا من دركات الجهل إلى أقصى درجات العقل كالحبل يصعد فيه من السفل إلى العلو، انتهى و الأظهر أنّ تشبيهه بالحبل لأنّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض كما فى أخبار الثقلين: من اعتصم به فاز و نجا و ارتقى به إلى مقام القرب و الزلفى، و من تركه و لم يعتصم به ضلّ و غوى و فى مهواة المهانة هوى.
السادس أنّهم (يحيون سنن اللّه و سنن رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أى يقومون بنشر آثار الدّين و يواظبون على وظايف الشّرع المبين بأقوالهم و أعمالهم السابع أنّهم (لا يستكبرون و لا يعلون) لما قد علموا من مخازي الكبر و التّرفع و مفاسده التي تضمّنتها هذه الخطبة الشريفة و غيرها من الخطب المتقدّمة (و) الثامن أنّهم (لا يغلون) أى لا يحقدون و لا يحسدون علما منهم برذايل الحقد و الحسد المتكفلة لبيانها الخطبة الخامسة و الثمانون و شرحها، و لرذالة هذه الصّفة و دنائتها أخرجها سبحانه من صدور أهل الجنّة كما قال فى وصفهم «وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» أى أخرجنا ما في قلوبهم من حقد و حسد و عداوة في الجنّة حتّى لا يحسد بعضهم بعضا و إن رآه أرفع درجة منه، و على كون يغلون من الغلول فالمراد براءتهم من وصف الخيانة لمعرفتهم برذالتها.
(و) التاسع أنّهم (لا يفسدون) أى لا يحدثون الفساد لأنّه من صفة الفسّاق و المنافقين كما قال تعالى وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الاية قال الطبرسيّ: معناه إذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الأرض بعمل المعاصي و صدّ الناس عن الايمان أو بممايلة الكفار فانّ فيه توهين الاسلام أو بتغيير الملّة و تحريف الكتاب.
و العاشر أنّ (قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل) يعني أنّ قلوبهم متوجّهة إلى الجنان مشتاقة إلى الرّضوان، فهم و الجنّة كمن قد رآها و هم فيها منعّمون، و محصّله أنّ نفوسهم بكلّيتها معرضة عن الدّنيا مقبلة إلى الاخرة، و الحال أنّ أجسادهم مستغرقة في العبادة و أوقاتهم مصروفة بالطاعة.
و على كون الواو للعطف يكون قوله: و أجسادهم في العمل الوصف الحادى عشر، و على الاحتمالين فالمراد واحد.
تبصرة
حديث الشجرة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد روي في ضمن معاجزه على أنحاء مختلفة لا حاجة بنا إلى روايتها، و لكنّي أحببت أن اورد رواية مرويّة في تفسير الامام متضمنة لمعجزة شجرية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوجب مشاهدتها لمشاهدها علما و ايمانا، كما أنّ مشاهدة ما رواه أمير المؤمنين عليه السّلام لم يزد كفّار قريش إلّا كفرا و عتوّا و طغيانا فاقول: في تفسير الامام قال عليّ بن محمّد عليهما السّلام و أمّا دعاؤه صلّى اللّه عليه و آله الشجرة فانّ رجلا من ثقيف كان أطبّ النّاس يقال له حارث بن كلدة الثّقفي، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا محمّد جئت اداويك من جنونك فقد داويت مجانين كثيرا فشفوا على يدي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا حارث أنت تفعل فعل المجانين و تنسبني إلى الجنون، قال الحارث: و ما ذا فعلته من أفعال المجانين، قال: نسبتك إيّاى إلى الجنون من غير محنة منك و لا تجربة و نظر في صدقي أو كذبي، فقال الحارث: أو ليس قد عرفت كذبك و جنونك بدعويك النّبوّة التي لا تقدر لها، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قولك لا تقدر لها، فعل المجانين، لأنّك لم تقل لم قلت كذا و لا طالبتني بحجّة فعجزت عنها، فقال الحارث: صدقت و أنا أمتحن أمرك باية اطالبك بها، إن كنت نبيّا فادع تلك الشّجرة- و أشار بشجرة عظيمة بعيد عمقها- فان أتتك علمت أنّك رسول اللّه و شهدت لك بذلك، و إلّا فأنت المجنون الّذي قيل لي.
فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده إلى تلك الشّجرة و أشار إليها أن تعالى، فانقلعت الشّجرة باصولها و عروقها و جعلت تخدّ في الأرض اخدودا عظيما كالنهر حتّى دنت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوقفت بين يديه و نادت بصوت فصيح: ها أنا ذا يا رسول اللّه ما تأمرني.
فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دعوتك لتشهد لي بالنبوّة بعد شهادتك للّه بالتوحيد ثم تشهدي لعليّ هذا بالامامة و أنّه سندي و ظهري و عضدي و فخرى، و لولاه لما خلق اللّه شيئا ممّا خلق.
فنادت أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله أرسلك بالحقّ بشيرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه باذنه و سراجا منيرا، و أشهد أنّ عليّا ابن عمّك هو أخوك في دينك أوفر خلق اللّه من الدّين حظّا، و أجز لهم من الاسلام نصيبا، و أنّه سندك و ظهرك قاطع أعدائك و ناصر أوليائك، باب علومك في امتك، و أشهد أنّ أولياءك الّذين يوالونه و يعادون أعداءه حشو الجنّة، و أن أعداءك الذين يوالون أعداءك و يعادون أولياءك حشو النّار.
فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الحارث بن كلدة فقال: يا حارث أو مجنونا تعدّ من هذه آياته فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، و لكنّي أشهد أنّك رسول ربّ العالمين و سيّد الخلق أجمعين و حسن اسلامه.
و قد مضى نظير هذه المعجزة لأمير المؤمنين عليه السّلام في شرح الفصل الأوّل من الخطبة المأة و السابعة فتذكر.
قال الشارح عفى اللّه عنه: إنّ الفصول السّبعة الاول من هذه الخطبة الشريفة كما كانت قاصعة للمستكبرين المتجبّرين، راغمة لأنفهم، لاطمة لرأسهم بمقامع التوبيخ و التّقريع و التهديد، فكذلك الفصل الثامن و التاسع منها قاصعان للمنحرفين عنه عليه السّلام من غاصبي الخلافة و النّاكثين و القاسطين و المارقين بما فصّله عليه السّلام فيهما من مناقبه و مفاخره، فتلك المناقب الجميلة له عليه السّلام:
- على قمم من آل صخر ترفّعتكجلمود صخر حطّه السّيل من عل
قال الشارح المحتاج إلى غفران ربّه: هذا آخر المجلّد الخامس«» من مجلّدات منهاج البراعة، و يتلوه إنشاء اللّه المجلد السّادس بتوفيق منه سبحانه، و قد يسّر اللّه بفضله الواسع ختامه، و بكرمه السّابغ اتمامه بعد حصول الاياس و تفرّق الحواس و اضطراب النّاس و اختلال الحال بداهية دهيا، و بليّة عظمى، و زلزلة شديدة أدّب اللّه أهل بلدنا بها في هذه الأيام، يا لها رجفة ما رأيت مثلها و قد جاوزت خمسين درجة أخذتهم نصف الليل بينما كانوا راقدين فقاموا من مضاجعهم ذعرين مرعوبين كأنّهم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون بهول ترتعد منه الفرائص، و تفتّ الأكباد، و تصدّع القلوب، و تقشعرّ الجلود، و كان النّاس سكارى من مهول البلا.
فلو لا أن تداركنا رحمته السابقة على غضبه سبحانه لم يكن لأحد منها النجاة و لا لذى روح طماعية في الحياة، و قد حرمنا منذ ليال من سبت الرّقاد، و خرجنا من تحت الأبنية و العروش بعد ما أشرفت على السّقوط و الانهدام، و اتّخذنا الأخبية مسكنا و المظلة أكنانا، و الرّجفة في هذه المدّة و قد مضت منذ ظهرت عشرة أيّام تطرقنا ساعة بعد ساعة.
نعوذ باللّه سبحانه من غضبه و نسأله عزّ و جلّ أن لا يخاطبنا بذنوبنا و لا يؤاخذنا بأعمالنا و لا يقايسنا بأفعالنا، و أن يرفع عنا هذه البلية، و ينجينا من تلك الرزيّة بمحمّد و آله خير البرية، فانّه ذو المنّ الكريم و الرّؤف الرّحيم.
و قد وقع الفراغ منه ثالث عشر شهر ذى القعدة الحرام- من سنة سبع عشرة و ثلاثمأة بعد الألف- و هذه هى النسخة الأصل كتبتها بيمينى و أسأله سبحانه أن يحشرني في أصحاب اليمين بجاه محمّد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.
|