أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا يحزّنون به أنفسهم و يستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروّا باية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم، و إذا مرّوا باية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم، و أكفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم.
اللغة
(تطلّع) الى وروده استشرف و (صغى) إلى الشي ء كرضى مال إليه و أصغى اليه سمعه أى أماله نحوه و (حنيت) العود حنوا و حناء عطفته فانحنى و تحنّى، و حنت الناقة على ولدها حنوا عطفت و يقال لكلّ ما فيه اعوجاج من البدن كعظم اللّحى و الضلع و نحوهما الحنو بالكسر و الفتح.
الاعراب
قوله: أمّا الليل فصافون، بالنصب على الظرف، و الناصب، إما لتضمّنها معني الفعل أو الخبر كما في نحو قولك: أما اليوم فأنا ذاهب و أمّا إذا قلت اما في الدّار فزيد، فالعامل هو أما لا غير كما فى قولهم أما العبيد فذو عبيد، أى مهما ذكرت العبيد فهو ذو عبيد، هذا.
و يروى بالرّفع على الابتداء فيحتاج إلى العايد في الخبر أى صافّون أقدامهم فيها و قوله: تالين حال من فاعل صافّون أو من الضمير المجرور بالاضافة في أقدامهم: و الأول أولى، و جملة يرتّلونه حال من فاعل تالين، و في بعض النسخ يرتّلونها، فالضمير عايد إلى أجزاء القرآن، و نصب أعينهم بنصب النصب على الظرفية، و يروى بالرّفع على أنه خبر انّ و المصدر بمعني المفعول.
و قوله: يطلبون إلى اللّه في فكاك رقابهم، تعدية الطلب بحرف الجرّ أعني إلى لتضمينه معني التضرع و في للظرفية المجازية، أى يتضرّعون إليه سبحانه في فكاك رقابهم.
و أما ما قاله الشارح المعتزلي من أنّ الكلام على الحقيقة مقدّر فيه حال محذوفة يتعلّق بها حرف الجرّ أى يطلبون الى اللّه سائلين فى فكاك رقابهم لأنّ طلبت لا يتعدّى بحرف الجرّ فليس بشى ء لأنّ تأويل الطلب بالسؤال لا ينهض باثبات ما رامه كما لا يخفى.
المعنى
و السابع عشر اتّصافهم بالتهجّد و قيام الليل و إليه أشار بقوله (أمّا الليل فصافّون أقدامهم) فيها للصّلاة علما منهم بما فيه من الفضل العظيم و الأجر الخطير و قد مدح اللّه القيام فيها و القائمين في كتابه الكريم بقوله «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».
قال الصّادق عليه السّلام في تفسيره: هو السّهر في الصّلاة و بقوله «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» و قال تعالى أيضا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا».
قال الصّادق عليه السّلام فيه قيام الرّجل عن فراشه يريد به وجه اللّه تعالى عزّ و جلّ لا يريد به غيره.
و كفى فى فضله ما رواه في الفقية عن جابر بن إسماعيل عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام أنّ رجلا سأل عليّ بن أبي طالب عن قيام اللّيل بالقرآن، فقال عليه السّلام ابشر: من صلّى من الليل عشر ليلة مخلصا ابتغاء ثواب اللّه قال اللّه لملائكته: اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما انبت في الليل من حبّة و ورقة و شجرة و عدد كلّ قصبة و خوص و مرعى.
و من صلّى تسع ليلة أعطاه اللّه عشر دعوات مستجابات و أعطاه اللّه كتابه بيمينه.
و من صلّى ثمن ليلة أعطاه اللّه أجر شهيد صابر صادق النّية و شفّع في أهل بيته.
و من صلّى سبع ليلة خرج من قبره يوم يبعث و وجهه كالقمر ليلة البدر حتى يمرّ على الصراط مع الامنين
و من صلّى سدس ليلة كتب من الأوابين و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.
و من صلّى خمس ليلة زاحم إبراهيم خليل الرّحمن في قبّته.
و من صلّى ربع ليلة كان في أوّل الفائزين حتى يمرّ على الصراط كالريح العاصف و يدخل الجنة بلا حساب.
و من صلّى ثلث ليلة لم يلق ملكا إلّا غبطه لمنزلته من اللّه و قيل ادخل من أىّ أبواب الجنة شئت.
و من صلّى نصف ليلة فلو اعطى ملؤ الأرض ذهبا سبعين ألف مرّة لم يعدل جزاه و كان له بذلك عند اللّه أفضل من سبعين رقبة يعتقها من ولد إسماعيل عليه السّلام.
و من صلّى ثلثي ليلة كان له من الحسنات قدر رمل عالج أدناها حسنة أثقل من جبل احد عشر مرّات.
و من صلّى ليلة تامّة تاليا لكتاب اللّه راكعا و ساجدا و ذاكرا اعطى من الثواب ما أدناه يخرج من الذنوب كما ولدته امّه، و يكتب له عدد ما خلق اللّه من الحسنات و مثلها درجات و يثبت النّور في قبره و ينزع الاثم و الحسد من قلبه، و يجار من عذاب القبر و يعطى براءة من النّار و يبعث من الامنين، و يقول الربّ لملائكته يا ملائكتي انظروا إلى عبدى أحيا ليله ابتغاء مرضاتي اسكنوه الفردوس و له فيها مأئة ألف مدينة فى كلّ مدينة جميع ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و لم يخطر على بال سوى ما أعددت له من الكرامة و المزيد و القربة، هذا.
و لما وصف قيامهم بالصّلاة في اللّيل أشار إلى قراءتهم و وصف قراءتهم تفصيلا بقوله (تالين لأجزاء القرآن) فانّ البيوت الّتي يتلى فيها القرآن تضي ء لأهل السّماء كما تضي ء الكواكب لأهل الأرض كما روى في غير واحد من الأخبار و تكثر بركتها و تحضرها الملائكة و تهجرها الشّياطين كما رواه في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
(يرتّلونه ترتيلا) قال في مجمع البحرين: التّرتيل في القرآن التّأني و تبيين الحروف بحيث يتمكّن السّامع من عدّها.
و فى الكافي عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بيّنه تبيانا و لا تهذّه هذّ الشّعر، و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن افزعوا قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السّورة.
و فى مجمع البحرين عن أمير المؤمنين عليه السّلام: ترتيل القرآن حفظ الوقوف و بيان الحروف، و فسّر الوقوف بالوقف التامّ و هو الوقوف على كلام لا تعلّق له بما بعده لا لفظا و لا معنا، و بالحسن و هو الّذي له تعلّق، و فسّر الثاني بالاتيان بالصّفات المعتبرة عند القراءة من الهمس و الجهر و الاستعلاء و الاطباق.
و عن الصّادق عليه السّلام الترتيل أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك، و إذا مررت باية فيها ذكر الجنة فاسأل اللّه الجنة، و إذا مررت باية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار.
و قوله عليه السّلام (يحزنون به أنفسهم) أى يقرؤنه بصوت حزين.
روى في الكافي عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن.
و فى الوسائل من الكافي عن حفص قال: ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فاذا قرء فكأنه يخاطب إنسانا.
و قوله: (و يستثيرون به دواء دائهم) الظاهر أنّ المراد بدائهم هو داء الذّنوب الموجب للحرمان من الجنّة و الدّخول في النّار، و بدوائه هو التّدبّر و التفكّر الموجب لقضاء ما عليهم من الحقّ و سؤال الجنّة و طلب الرّحمة و المغفرة و التعوّذ من النّار عند قراءة آيتي الوعد و الوعيد.
كما أوضحه و شرحه بقوله (فاذا مرّوا باية فيها تشويق) إلى الجنّة (ركنوا) أى مالوا و اشتاقوا (إليها طمعا و تطلعت) أى أشرفت (نفوسهم إليها شوقا و ظنّوا أنّها نصب أعينهم) أى أيقنوا أنّ تلك الاية أى الجنّة الموعودة بها معدّة لهم بين أيديهم و إنما جعلنا الظنّ بمعني اليقين لما قد مرّ من اتّصافهم بعين اليقين و أنهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون.
(و إذا مرّوا باية فيها تخويف) و تحذير من النار (أصغوا) أى أمالوا (إليها مسامع قلوبهم و ظنّوا) أى علموا (أنّ زفير جهنّم و شهيقها) أى صوت توقدها (فى اصول آذانهم) أو المراد زفير أهلها و شهيقهم، و الزّفير إدخال النفس و الشهيق إخراجه، و منه قيل: إنّ الزّفير أوّل الصوت و الشهيق آخره، و الزّفير من الصّدر و الشهيق من الحلق، و كيف كان فالمراد أنهم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون.
و محصل المراد أنّ المتّقين يقرؤن القرآن بالتّرتيل و الصوت الحسن الحزين و يشتدّ رجاؤهم عند قراءة آيات الرّجا و خوفهم عند تلاوة آيات الخوف.
روى في الوسائل عن الشيخ عن البرقي و ابن أبي عمير جميعا عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قراءته فاذا مرّ باية فيها ذكر الجنّة و ذكر النار سأل اللّه الجنة و تعوّذ باللّه من النار، و إذا مرّ بيا أيها الناس و يا أيها الّذين آمنوا يقول لبّيك ربّنا.
و عنه عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ينبغي لمن قرء القرآن إذا مرّ باية فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو و يسأل العافية من النار و من العذاب.
و فيه عن الكليني عن الزّهرى في حديث قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قرء مالك «ملك» يوم الدّين يكرّرها حتى يكاد أن يموت، هذا.
و لما ذكر عليه السّلام وصف قيامهم و قراءتهم أشار إلى ركوعهم بقوله (فهم حانون) أى عاطفون (على أوساطهم) يعني أنّهم يحنون ظهرهم فى الرّكوع أى يميلونه في استواء من رقبتهم و من ظهرهم من غير تقويس.
و أشار إلى سجودهم بقوله (مفترشون لجباههم واه كفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم) أى باسطون لهذه الأعضاء السبعة في حالة السجدة على الأرض قال سبحانه وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
قال في مجمع البيان روى أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام عن هذه الاية فقال عليه السّلام: هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها.
و فى الوسائل عن الشيخ باسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السجود على سبعة أعظم: الجبهة، و اليدين، و الرّكبتين، و الابهامين من الرّجلين، و ترغم بأنفك إرغاما أمّا الفرض فهذه السبعة و أمّا الارغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و قوله عليه السّلام (يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم) إشارة إلى العلّة الغائيّة لهم من عباداتهم الليلية، يعنى أنهم يتضرّعون اليه سبحانه و يلحّون في فكاك رقابهم من النار و ادخالهم الجنة.
|