ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذي اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه خيرة خلقه، و أقام دعائمه على محبّته، أذلّ الاديان بعزّته، و وضع الملل برفعه، و أهان أعدائه بكرامته، و خذل محادّيه بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه، و سقى من عطش من حياضه، و أتاق الحياض بمواتحه. ثمّ جعله لا انفصام لعروته، و لا فكّ لحلقته، و لا انهدام لاساسه و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء لشرايعه، و لا جذّ لفروعه، و لا ضنك لطرقه، و لا وعوثة لسهولته و لا سواد لوضحه، و لا عوج لانتصابه، و لا عصل فى عوده، و لا وعث لفجّه، و لا انطفاء لمصابيحه، و لا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ في الحقّ أسناخها، و ثبّت لها أساسها، و ينابيع غزرت عيونها، و مصابيح شبّت نيرانها، و منار اقتدى بها سفّارها، و أعلام قصد بها فجاجها، و مناهل روى بها ورّادها، جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، و ذروة دعائمه، و سنام طاعته. فهو عند اللّه وثيق الاركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضي ء النّيران، عزيز السّلطان، مشرف المنار، معوز المثار، فشرّفوه، و أدّوا إليه حقّه، وضعوه مواضعه.
اللغة
(اصطنعه على عينه) افتعال من الصنع و الصنع اتّخاذ الخير لصاحبه كذا في مجمع البيان، و قيل: من الصنيعة و هى العطية و الاحسان و الكرامة يقال اصطنعتك لنفسى اخترتك لأمر أستكفيكه و اصطنع خاتما أمر أن يصنع له قال تعالى في سورة طه مخاطبا لموسى عليه السّلام وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي. وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي.
و قال الشارح المعتزلي: اصطنعه على عينه كلمة يقال لما يشتدّ الاهتمام به، تقول للصانع: اصنع لى خاتما على عينى، أى اصنعه صنعة كالصّنعة التي تصنعها و أنا حاضر اشاهدها.
و قال الزّمخشرى في الكشاف في تفسير قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ لتربى و يحسن إليك و أنا مراعيك و راقبك كما يرعى الرّجل الشي ء بعينه إذا اعتنى به، و تقول للصانع اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلّا تخالف به عن مرادى و (الخيرة) بفتح الياء وزان عنبة كالخيرة بسكونها اسم من اخترت الرّجل أى فضلته على غيره و (الدّعائم) جمع الدّعامة بالكسر عماد البيت و الخشب المنصوب للتعريش و (حادّه) محادّة عادّه و غاضبه و خالفه مأخوذ من الحدد و هو الغضب قال تعالى يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ.
و (تئق) الحوض من باب فرح امتلأ ماء و أتاق الحياض ملأها و (المواتح) جمع الماتح و هو الذى يستقى بالدّلو من المتح و هو الاستقاء يقال متحت الدّلو أى استخرجتها و (عروة) الكوز مقبضه و (الجذ) بالذّال المعجمة القطع أو القطع المستأصل، و في بعض النسخ بالحاء المهملة و هو القطع و في بعضها بالجيم و الدّال المهملة و هو القطع أيضا و الفعل في الجميع كمدّ.
و (وعث) الطريق و عوثة من باب قرب و تعب إذا شقّ على السالك فهو وعث و قيل: الوعث رمل دقيق تغيب فيه الأقدام فهو شاق، ثمّ استعير لكلّ أمر شاقّ من تعب و أثم و غير ذلك، و منه و عثاء السفر أى شدّة النصب و التعب.
و (الوضح) محرّكة بياض الصبح و القمر و محجّة الطريق و (العصل) محرّكة الاعوجاج في صلابة و منه العصال بالكسر و هو السهم المعوّج و (الفج) الطريق الواسع بين الجبلين و (ساخت) قوائمه في الأرض أى غابت و ساخت بهم الأرض أى خسفت و يعدى بالهمزة فيقال: أساخه اللّه و (الينبوع) العين ينبع منه الماء أى يخرج و قيل: الجدول الكثير الماء و هو أنسب و (غزر) الماء بضمّ الزّاء المعجمة غزارة كثر فهو غزير و (شبت نيرانها) بضمّ الشين بالبناء على المفعول أى اوقدت و (ورّادها) جمع وارد قال الشارح المعتزلي: و روى روّادها جمع رائد و هو الذى يسبق القوم فيرتاد لهم الماء و الكلاء و (ذروة) الشي ء بالكسر و الضمّ أعلاه و (سنام) بالفتح وزان سحاب أيضا أعلاه و (عوز) الشي ء عوزا من باب تعب عزّ فلم يوجد، و عزت الشي ء أعوزه من باب قال احتجت إليه فلم أجده، و أعوزنى مثل أعجزنى وزنا و معنى، و أعوز الرّجل إعوازا افتقر، و أعوزه الدّهر أفقره و (ثار) الغبار يثور ثورا و ثورانا هاج، و ثار به الناس أى وثبوا عليه، و فلان أثار الفتنة أى هيّجها، و المثار مصدر أو اسم للمكان.
الاعراب
قوله: على عينه ظرف مستقرّ حال من فاعل اصطنع، و قوله: على محبّة يحتمل أن يكون ظرف لغو متعلّق بقوله أقام فالضمير راجع إلى اللّه، و أن يكون ظرفا مستقرّا حالا من فاعل أقام أو من الضمير في دعائمه، فالضمير فيه على الأوّل أيضا راجع إلى اللّه، و على الثاني فيعود إلى الاسلام، و يجوز جعل على بمعنى اللّام للتعليل كما فى قوله تعالى وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ و على هذا فايضا ظرف لغو و الضّمير يصحّ عوده إلى اللّه و إلى الاسلام فتدبّر، و الباء في قوله: بعزّته للسّببيّة، و قوله: ثمّ جعله لا انفصام لعروته المفعول الثّاني لجعل محذوف و جملة لا انفصام لعروته صفة له.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لمّا أوصى في الفصل السّابق بالتّقوى و الطّاعة أردفه بهذا الفصل المتضمّن لشرف الاسلام و فضايله لكونهما من شئونه فقال: (ثمّ إنّ هذا الاسلام دين اللّه) أى لا دين مرضىّ عند اللّه سوى الاسلام و هو التّوحيد و التّدرّع بالشّرع الّذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما قال تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ و قال وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أى من يطلب غيره دينا يدين به لن يقبل منه بل يعاقب عليه و هو من الهالكين في الاخرة، و فيه دلالة على أنّ الدّين و الاسلام واحد و هما عبارتان عن معبر واحد، و هو التّسليم و الانقياد بما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و هو (الّذي اصطفاه) اللّه و اختاره من بين ساير الأديان (لنفسه) أى لأن يكون طريقا إلى معرفته و طاعته مؤدّيا إلى جنّته.
(و اصطنعه على عينه) أى اتّخذه صنعة و اختاره حالكونه مراعيا حافظا له مراقبا عليه مشاهدا ايّاه، و يجوز جعل العين مجازا في العلم فيكون المعنى أنّه اصطنعه و أسّس قواعده على ما ينبغي و على علم منه به أى حالكونه عالما بدقايقه و نكاته أو بشرفه و فضله.
و يحتمل أن يكون معنى اصطنعه أنّه طلب صنعته أى انّه أمر بصنعته و القيام به حالكونه بمرئى منه أى كالمصنوع المشاهد له، و ذلك أنّ من صنع لغيره شيئا و هو ينظر إليه صنعه كما يحبّ و لا يتهيّأ له خلافه أو أنّه أمر بأن يصنع أي بصنعه و صنيعته أى بكرامته و الاتيان به على وجه الكمال.
و على هذا الاحتمال فالصّانع له أى المأمور بالصّنعة و الصنع و الصنيعة المكلّفون المطلوب منهم الاسلام.
و هذا نظير ما قاله المفسّرون في قوله تعالى وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي على قراءة لتصنع بلفظ الأمر مبنيّا للمفعول. إنّ المعنى ليصنعك غيرك أى لتربّى و تغذّى و يحسن إليك بمرئى منّي أى يجرى امرك على ما اريد من الرّفاهة.
(و أصفاه خيرة خلقه) أى آثر و اختار للبعثة به خيرة خلقه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو جعل خيرة خلقه خالصا لتبليغه دون غيره.
(و أقام دعائمه على محبّته) أى أثبت أركان الاسلام فوق محبّته تعالى، فانّ من أحبّه سبحانه أسلم له، أو أنّه قام دعائم حالكونه تعالى محبّا له أو حال كون الاسلام محبوبا له تعالى، أو لأجل حبّه إياه، أو لأجل محبوبيّته عنده على الاحتمالات المتقدّمة في الاعراب.
ثمّ المراد بدعائمه إما مطلق أركانه التي يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في أوائل باب المختار من حكمه و هو الأنسب.
أو خصوص ما اشير إليه في الحديث المرويّ في البحار من أمالى الصدوق بسنده عن المفضل عن الصادق عليه السّلام قال: بني الاسلام على خمس دعائم: على الصّلاة، و الزّكاة، و الصوم، و الحجّ، و ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده صلوات اللّه عليهم (أذلّ الأديان بعزّته) أراد بذلّتها نسخها أو المراد ذلّة أهلها على حذف المضاف و يحتملهما قوله (و وضع الملل برفعه) و يصدّق هاتين القرينتين صريحا قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى.
(و أهان أعداءه بكرامته) أى أهان أعداء الاسلام و هم اليهود و النصارى و المشركون و كلّ من عانده و لم يتديّن به من أهل الملل المتقدّمة، و إهانتهم بالقتل و الاستيصال و أخذ الجزية و الذلّ و الصّغار.
(و خذل محادّيه بنصره) أى ترك نصرة المخالفين للاسلام المحادّين له و أخزاهم بنصرته للاسلام و أهله.
(و هدم أركان الضّلالة بركنه) ركن الشي ء جانبه الّذى يستند إليه و يقوم به، فاستعار أركان الضلالة للعقايد المضلّة أو رؤساء أهل الضّلالة أو الأصنام، و أراد بركنه أصوله و قواعده أو النّبي أو كلمة التوحيد.
(و سقى من عطش من حياضه) المراد بمن عطش الجاهل بقواعد الاسلام المبتغي له، و بالحياض النّبي و الأئمّة سلام اللّه عليهم المملوون بمياه العلوم الحقّة، أو الأعمّ الشامل للعلماء الرّاشدين أيضا و يسقيه هدايته له إلى الاستفادة و أخذ علوم الدّين عنهم عليهم السّلام.
(و أتاق الحياض بمواتحه) أى ملأ صدور اولى العلم عليهم السّلام من زلال المعارف الحقّة و العلوم الدّينية بوساطة المبلّغين من اللّه تعالى من الملائكة و روح القدس و الالهامات الالهيّة. و إن اريد بالحياض الأعمّ الشامل للعلماء فيعمّم المواتح للأئمة لأنهم يستفيدون من علومهم عليهم السّلام و يستضيئون بأنوارهم عليهم السّلام و قيل هنا: معان اخر، و الأظهر ما قلناه.
(ثمّ جعله) وثيقا (لا انفصام لعروته) كما قال تعالى قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها.
قال أمين الاسلام الطبرسي «قد» قد ظهر الايمان من الكفر و الحقّ من الباطل، فمن يكفر بما خالف أمر اللّه و يصدق باللّه و بما جاءت به رسله فقد تمسّك و اعتصم بالعصمة الوثيقة و عقد لنفسه من الدّين عقدا وثيقا لا يحلّه شبهة، لا انفصام لها أى لا انقطاع لها كما لا ينقطع من تمسك بالعروة كذلك لا ينقطع أمر من تمسّك بالايمان، و محصّله أنّ من اعتصم بعروة الاسلام فهي تؤدّيه إلى غاية مقصده من رضاء الحقّ و رضوانه و نزول غرفات جنانه لأنّها وثيقة لا ينقطع و لا تنفصم.
(و) جعله محكما (لا فكّ لحلقته) قال الشّارح البحراني: كناية عن عدم انقهار أهله و جماعته.
(و) مشيّدا (لا انهدام لأساسه) قال البحراني: استعار لفظ الأساس للكتاب و السّنة الّذين هما أساس الاسلام، و لفظ الانهدام لاضمحلالهما انتهى، و لا بأس به، و قد يفسّر في بعض الرّوايات بالولاية.
و هو ما رواه في البحار من أمالي الشيخ باسناده عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: لمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناسكه من حجّة الوداع ركب راحلته و أنشأ يقول: لا يدخل الجنّة إلّا من كان مسلما، فقام اليه أبو ذر الغفارى فقال: يا رسول اللّه و ما الاسلام فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الاسلام عريان و لباسه التقوى، و زينته الحياء، و ملاكه«» الورع و كماله الدّين، و ثمرته العمل، و لكلّ شي ء أساس و أساس الاسلام حبّنا أهل البيت.
(و) ثابتا (لا زوال لدعائمه) قال البحراني: استعار لفظ الدّعائم لعلمائه أو للكتاب و السنة و قوانينهما، و أراد بعدم زوالها عدم انقراض العلماء أو عدم القوانين الشرعيّة، انتهى.
و الأولى أن يراد بالدّعائم ما يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في أوائل باب المختار من حكمه عليه السّلام و هو ثالث أبواب النّهج.
(و) راسخا (لا انقلاع لشجرته) الظاهر أنّه من قبيل اضافة المشبّه به على المشبّه كما في لجين الماء، و المراد أنّ الاسلام كشجرة ثابتة أصلها ثابت و فرعها فى السماء كما اشير اليه في قوله مثل كلمة طيّبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الاية.
قال الطبرسي: قال ابن عبّاس: هي كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلّا اللّه كشجرة زاكية نامية راسخة اصولها فى الأرض عالية أغصانها، و ثمارها في السماء، و أراد به المبالغة في الرّفعة و الأصل سافل و الفرع عال إلّا أنه يتوصّل من الأصل إلى الفرع.
قال: و قيل: انّه سبحانه شبّه الايمان بالنّخلة لثبات الايمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها، و شبّه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة، و شبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الايمان و ثوابه في كلّ وقت و حين بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السّنة كلّها من الرّطب و التّمر.
و فى البحار من علل الشرائع باسناده عن معمّر بن قتادة عن أنس بن مالك في حديث قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال حبيبي جبرئيل عليه السّلام: إنّ مثل هذا الدّين كمثل شجرة ثابتة الايمان أصلها، و الصّلاة، عروقها، و الزّكاة ماؤها، و الصّوم سعفها، و حسن الخلق ورقها، و الكفّ عن المحارم ثمرها، فلا تكمل شجرة إلّا بالثمر كذلك الايمان لا يكمل إلّا بالكفّ عن المحارم.
(و) متماديا (لا انقطاع لمدّته) لاستمراره و بقائه إلى يوم القيامة.
(و) جديدا (لا عفاء لشرايعه) أى لا اندراس لما شرع اللّه منه لعباده و لا انمحاء لطرقه و شعبه الّتي يذهب بسالكها إلى حظاير القدس و محافل الانس (و) زاكيا (لا جذّ لفروعه) أى لا ينقطع ما يتفرّع عليه من الأحكام الّتي يستنبطها المجتهدون بأفكارهم السليمة من الكتاب و السّنة، و يحتمل أن يراد بها ما يتفرّع عليه من الثّمرات و المنافع الدنيويّة و الاخروية.
(و) وسيعا (لا ضنك لطرقه) أى لا ضيق لمسالكه بحيث يشقّ على السّالكين سلوكه، و المراد أنها ملّة سمحة سهلة ليس فيها ثقل على المكلّفين كما كان في الملل السّابقة.
قال تعالى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
قال أمين الاسلام الطبرسي: معناه يبيح لهم المستلذّات الحسنة و يحرّم عليهم القبايح و ما تعافه الأنفس، و قيل: يحلّ لهم ما اكتسبوه من وجه طيّب و يحرّم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث، و قيل: يحلّ لهم ما حرّمه عليهم رهبانيّهم و أحبارهم و ما كان يحرّمه أهل الجاهلية من البحائر و السوائب و غيرها، و يحرّم عليهم الميتة و الدّم و لحم الخنزير و ما ذكر معها.
و يضع عنهم إصرهم أى ثقلهم شبّه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل، و ذلك إن اللّه سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم و جعل توبة هذه الامّة الندم بالقلب حرمة للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و الاغلال الّتي كانت عليهم قيل: يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة و قرض ما يصيبه البول من أجسادهم و ما أشبه ذلك من تحريم السّبت و تحريم العروق و الشحوم و قطع الأعضاء الخاطئة و وجوب القصاص دون الدّية انتهى.
و قيل: الاصر الثقل الّذى يأصر حامله أى يحبسه فى مكانه لفرط ثقله.
و قال الزّمخشرى: هو مثل لثقل تكليفهم و صعوبته نحو اشتراط قتل الأنفس فى صحّة توبتهم، و كذلك الاغلال مثل لما كان فى شرايعهم من الأشياء الشّاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطاء من غير شرع الدّية، و قطع الأعضاء الخاطئة، و قرض موضع النّجاسة من الجلد و الثوب و إحراق الغنايم، و تحريم العروق فى اللّحم و تحريم السبت.
و عن عطا كانت بنو اسرائيل إذا قامت تصلّى لبسوا المسوح و غلّوا أيديهم إلى الأعناق، و ربّما ثقب الرّجل ترقوته و جعل فيها طرف السّلسلة و أوثقها إلى السّارية يحبس نفسه على العبادة.
(و) سهلا (لا وعوثة لسهولته) يعني أنّه على حدّ الاعتدال من السهولة، و ليس سهلا مفرطا كالوعث من الطريق يتعسّر سلوكه و يشقّ المشى فيه لرسوب الأقدام.
(و) واضحا (لا سواد لوضحه) يعنى أنّ بياضه لا يشوبه الظلام كما قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله: بعثت اليكم بالحنيفيّة السمحقة السهلة البيضاء، و بياضه كناية عن صفائه عن كدر الباطل.
(و) مستقيما (لا عوج لانتصابه) أى لا اعوجاج لقيامه كما قال تعالى قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و المراد أنّه صراط مستقيم مؤدّ لسالكه إلى الجنّة، و رضوان اللّه تعالى ليس فيه عوج و لا أمت.
(و) مستويا (لا عصل فى عوده) و هو أيضا كناية عن استقامته و ادائه إلى الحقّ.
(و) يسيرا (لا وعث لفجّه) أراد بالفجّ مطلق الطريق مجازا من إطلاق المقيّد على المطلق و يمكن إرادة المعنى الحقيقى و يكون النظر فى التشبيه إلى أنه الجادّة الوسطى بين طرفى الافراط و التفريط، كما أنّ الفجّ هو الطريق الواسع بين الجبلين.
(و) مضيئا (لا انطفاء لمصابيحه) الظاهر أنّ المراد بمصابيحه أئمة الدّين و أعلام اليقين الذينهم مصابيح الدّجى و منار الهدى، و أراد بعدم انطفائها عدم خلوّ الأرض منهم عليهم السّلام.
(و) حلوا (لا مرارة لحلاوته) لأنه أحلى و ألذّ فى أذواق المتديّنين من كلّ حلو، و لذيذ لا يشوبه مرارة مشقّة التكليف.
كما قال الصادق عليه السّلام في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: لذّة ما فى النداء أزال تعب العبادة و العناء.
(فهو دعائم أساخ فى الحقّ أسناخها) يعنى أنّ الاسلام دعائم العبوديّة فلا ينافي حملها عليه هنا لما تقدّم سابقا من إضافتها إليه فى قوله: أقام دعائمه على محبّته، و قوله: و لا زوال لدعائمه، نظرا إلى أنّ ظهور الاضافة في التغاير.
وجه عدم المنافاة أنّ الغرض فيما سبق تشبيه الاسلام و الدّين بالبيت فأثبت له الدّعائم على سبيل الاستعارة المكنيّة التخييلية، فهو لا ينافي كون الاسلام نفسه أيضا دعائم لكن للعبوديّة.
و يمكن دفع المنافاة بوجه آخر و هو أنّا قد بيّنا فيما سبق أنّ المراد بدعائم الاسلام إمّا الدعائم الّتي يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في باب المختار من حكمه أو خصوص العبادات الخمس أعنى الصلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ و الولاية حسبما اشير إليه في الحديث الذى رويناه من البحار و في أحاديث كثيرة غيره تركنا ذكرها، و على أىّ تقدير فلمّا كان قوام الاسلام بتلك الدّعائم و ثباته عليها حتّى أنّه بدونها لا ينتفع بشي ء من أجزائه فجعله نفس تلك الدّعائم مبالغة من باب زيد عدل.
و يوضح ذلك ما في البحار من الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الصّلاة عمود دينكم.
و فى الكافى أيضا باسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مثل الصّلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود نفعت الأطناب و الأوتاد و الغشاء، و إذا انكسر العمود لم ينفع طناب و لاوتد و لا غشاء.
و أما قوله: أساخ في الحقّ أسناخها، فمعناه أنّه تعالى أثبت اصولها في الحقّ يعني أنّه بناء محكم بني على الحقّ و ثبت قوائمة عليه دون الباطل كما قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أى ذلك الدّين المستقيم الحقّ.
(و ثبّت لها أساسها) أى أحكم لهذه الدّعائم أبنيتها.
(و ينابيع غزرت عيونها) يعني جداول و أنهار كثيرة ماء عيونها الّتى تجريان منها، و الظاهر أنّه من التّشبيه البليغ، و المراد أنّ الاسلام بما تضمّنه من الأحكام الكثيرة الاسلاميّة بمنزلة ينابيع وصفها ما ذكر، و وجه الشّبه أنّ الينابيع منبع مادّة حياة الأبدان و الأحكام الاسلاميّة منشأ مادّة حياة الأرواح، إذ بامتثالها يحصل القرب من اللّه المحصّل لحياة الأبد.
و في وصف المشبّه به بغزارة العيون إشارة إلى ملاحظة ذلك الوصف في جانب المشبّه أيضا لأنّ الأحكام الاسلاميّة صادرة عن صدر النّبوّة و صدور الأئمة الّتي هى معادن العلوم الالهيّة و عيونها، و كفى بها كثرة و غزارة.
(و مصابيح شبّت نيرانها) و هو أيضا من التّشبيه البليغ، يعني أنّ الاسلام بما فيه من الطّاعات و العبادات الّتي من وظايفه مثل المصابيح الموقدة النّيران المشتعلة الّتي هي في غاية الاضاءة، و وجه الشّبه أنّ المصابيح الّتي وصفها ذلك كما أنها ترفع الظلام المحسوسة، فكذلك الطاعات الموظفة في دين الاسلام إذا اقيست عليها تنوّر القلوب و تجلو ظلمتها المعقولة.
(و منار اقتدى بها سفّارها) يعني أنّه بما فيه من الأدلّة السّاطعة و البراهين القاطعة الّتي يستدلّ بها العلماء في المقاصد، مثل منائر يهتدى بها المسافرون في الفلوات، و إضافة سفار إلى ضمير المنار من التّوسع.
و مثله قوله (و أعلام قصد بها فجاجها) أى مثل أعلام قصد بنصب تلك الأعلام إهداء المسافرين في تلك الفجاج.
(و مناهل روى بها ورّادها) يعني أنّه بما فيه من العلوم الاسلاميّة النقليّة و العقليّة بمنزلة مشارب تروى بمائها العطاش الواردون إليها.
(جعل اللّه فيه منتهى رضوانه) أى غاية رضاه لكونه أتمّ الوسايل و أكملها في الايصال إلى قربه و زلفاه كما اشير إليه في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ و قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
(و ذروة دعائمه) الظاهر أنّ المراد بالدعائم العبادات التي بنيت عليها بيت العبوديّة، و لما كان دين الاسلام أشرف الأديان و أفضلها تكون العبادات الموظفة فيه أفضل العبادات و أعلاها، و إضافة الدعائم إلى اللّه من باب التّشريف و التكريم باعتبار أنّها مجعولات له سبحانه أو من أجل كونها مطلوبة له تعالى.
و به يظهر أيضا معنى قوله (و سنام طاعته) و يستفاد من بعض الأخبار أنّ ذروة الاسلام و سنامه هو خصوص الجهاد.
و هو ما رواه في البحار من الكافي باسناده عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ألا اخبرك بأصل الاسلام و فرعه و ذروة سنامه قلت: بلى جعلت فداك، قال: أمّا أصله فالصّلاة، و فرعه الزّكاة، و ذروة سنامه الجهاد.
قال المحدّث العلامة المجلسي: الاضافة في ذروة سنامه بيانيّة أو لاميّة إذ للسّنام الذى هو ذروة البعير ذروة أيضا هو أرفع أجزائه، و إنما صارت الصلاة أصل الاسلام لأنه بدونها لا يثبت على ساق، و الزّكاة فرعه لأنه بدونها لا تتمّ، و الجهاد ذروة سنامه لأنه سبب لعلوّه و ارتفاعه، و قيل: لأنه فوق كل برّ كما ورد في الخبر و كيف كان (فهو عند اللّه وثيق الأركان) لابتنائه على أدلّة محكمة و اصول متقنة (رفيع البنيان) كناية عن علوّ شأنه و رفعة قدره على ساير الأديان.
(منير البرهان) أى الدّليل الدّال على حقيّته من الايات و المعجزات الباهرة منير واضح.
(مضي ء النيران) كناية عن كون أنواره أى العلوم و الحكم الثاقبة التي فيه في غاية الضياء بحيث لا تخفى على الناظر المتدبّر.
(عزيز السلطان) يريد أنّ حجّته قويّة أو أنّ سلطنته غالبة على ساير الأديان كما قال تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
(مشرف المنار) أى مرتفع المنارة قال الشارح البحراني: و كنى به عن علوّ قدر علمائه و أئمته و انتشار فضلهم و الهداية بهم.
(معوز المثار) قيل: أى يعجز الناس ازعاجه و إثارته لقوّته و ثباته و متانته و قال البحراني: أى يعجز الخلق إثارة دفائنه و استخراج ما فيه من كنوز الحكمة و لا يمكنهم استقصاؤها، و في بعض النسخ معوز المثال أى يعجز الخلق عن الاتيان بمثله، و في بعضها معوز المنال أى يعجزون عن النيل و الوصول إلى نكاته و دقائقه و أسراره.
(فشرّفوه) أى عظّموه و عدّوه شريفا و اعتقدوه كذلك (و اتّبعوه و أدّوا إليه حقّه) أى ما يحقّه من الاتّباع الكامل (و ضعوه مواضعه) أراد به الكفّ عن تغيير أحكامه و العلم بمرتبته و مقداره الذى جعله اللّه له، أو العمل بجميع ما تضمّنه من الأوامر و النواهي، و فّقنا اللّه لذلك بجاه محمّد و آله سلام اللّه عليه و عليهم.
|