ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الإسلام، فمن أعطيها طيّب النّفس بها فإنّها تعجل له كفّارة، و من النّار حجازا و وقاية، فلا يتبعنّها أحد نفسه، و لا يكثرنّ عليها لهفه، فانّ من أعطاها غير طيّب النّفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها، فهو جاهل بالسّنّة، مغبون الاجر، ضالّ العمل، طويل النّدم.
اللغة
(القربان) كفرقان اسم لما يتقرّب به إلى اللّه من أعمال البرّ. و قوله (فلا يتبعنّها) بنون التّوكيد مثقّلة من اتبعت فلانا لحقته قال تعالى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أى لحقهم
الاعراب
و قوله: طيّب النّفس، منصوب على الحال من فاعل أعطى قوله: غير طيّب النّفس، و جملة يرجو بها منصوبان لفظا و محلا أيضا على الحال
المعنى
و أما الفصل الثاني
فقد أشار اليه بقوله (ثمّ إنّ الزكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الاسلام) يعني كما جعل اللّه سبحانه الصّلاة قربانا للمسلمين يتقرّبون بها إليه تعالى، جعل الزكاة أيضا قربانا لهم مثلها.
و يدلّ على ذلك أنّه سبحانه عقّب الأمر باقام الصّلاة في أكثر آيات كتابه العزيز بالأمر بايتاء الزّكاة، فجعل الزكاة تالي الصّلاة في المطلوبيّة.
و يشهد به أيضا ما في الوسايل عن الصّدوق باسناده عن المجاشعي عن الرّضا عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: بني الاسلام على خمس خصال: على الشّهادتين، و القرينتين، قيل له: أمّا الشهادتان فقد عرفناهما، فما القرينتان قال: الصّلاة و الزّكاة، فانّه لا يقبل إحداهما إلّا بالاخرى، و الصيام و حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية.
و قد مضي الكلام في فضلها و عقوبة تاركها و أقسامها في شرح الخطبة المأة و التاسعة بما لا مزيد عليه فليراجع ثمّة.
و لما ذكر كونها قربانا لأهل الاسلام نبّه على شرط قربانيّتها و هو كون اتيانها عن وجه الخلوص و طيب النفس، و سرّ ذلك ما قدّمناه في شرح الخطبة الّتي أشرنا اليه، و محصّل ما قدّمناه أنّ الاسلام موقوف على توحيد الربّ عزّ و جلّ و كمال توحيده عبارة عن الاخلاص له، و معنى الاخلاص إفراده بالمعبوديّة و المحبوبيّة و اخلاء القلب عن محبّة ما سواه فلا يجتمع محبة المال مع محبّته تعالى.
(ف) علم من ذلك أنّ (من أعطاها طيّب النفس بها) حبّا له تعالى و امتثالا لأمره و ابتغاء لمرضاته و تقرّبا إليه عزّ و جلّ (فانها) حينئذ تقرّبه إليه و توجب حبّه تعالى له و القرب و الزّلفى لديه و (تجعل له) من الذّنوب (كفارة و من النار حجازا و وقاية) أى حاجزا مانعا من النار و وقاية من غضب الجبار.
كما يشهد به ما رواه في الفقيه عن الصادق عليه السّلام قال: خياركم سمحاؤكم و شراركم بخلاؤكم، و من خالص الايمان البرّ بالاخوان، و السعى فى حوائجهم، و انّ البارّ بالاخوان ليحبّه الرّحمن، و في ذلك مرغمة للشيطان، و تزحزح عن النيران و دخول الجنان ثمّ قال عليه السّلام لجميل: يا جميل أخبر بهذا غرر«» أصحابك، قلت: جعلت فداك من غرر أصحابي قال: هم البارّون بالاخوان فى العسر و اليسر، ثمّ قال: يا جميل اعلم أنّ صاحب الكثير يهوّن عليه ذلك و إنما مدح اللّه فى ذلك صاحب القليل فقال فى كتابه وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ.
و بعد ذلك (ف) اللّازم أن (لا يتبعنها أحد) من المعطين لها (نفسه و لا يكثرنّ عليها لهفه) و تحسّره، لأنّ اتباع النّفس و إكثار اللّهف كاشف عن محبّته لها و هو ينافي محبّته تعالى فكيف يتقرّب باعطائها إليه و يبتغي القرب و الزّلفى لديه (فانّ من أعطاها) على وجه الاكراه (غير طيّب النّفس بها) و الحال أنّه (يرجو) و يتوقّع (بها ما هو أفضل منها) من رضوان اللّه تعالى و الخلد في جنانه (فهو) كاذب فى دعوى المحبّة (جاهل بالسّنة) لأنّ السّنة فى أدائها أن يكون بطيب النفس، و لذلك مدح اللّه الباذلين للمال كذلك بقوله وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ و قوله وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.
(مغبون الأجر) لأنّ الأجر مترتّب على العمل، فاذا كان العمل لا على وجه الرّضا يكون الجزاء المترتّب عليه كذلك، و من هنا قيل: كما تدين تدان، و قد قال سبحانه وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.
(ضالّ العمل) حيث أتا به على غير الوجه المطلوب شرعا (طويل النّدم) في الاخرة على ما فوّته على نفسه من الأجر الجزيل و الجزاء الجميل
|