و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالدّين المشهور، و العلم المأثور، و الكتاب المسطور، و النّور السّاطع، و الضّياء اللّامع، و الأمر الصادع، إزاحة للشّبهات، و احتجاجا بالبيّنات، و تحذيرا بالآيات، و تخويفا للمثلات.
اللغة
(العلم) ما يهتدى به و (المأثور) المنقول يقال، آثرت الحديث أثرا نقلته و الأثر بفتحتين اسم منه، و حديث مأثور ينقله خلف عن سلف و (السّاطع) و (اللّامع) بمعنى واحد و (الصّادع) الظاهر أو الفاصل أو الحاكم بالحقّ قال الفيروز آبادي: قوله تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» أى شقّ جماعتهم بالتّوحيد أو اجهر بالقرآن أو اظهر أو احكم بالحقّ و افصل بالأمر أو اقصد بما تؤمر أو افرق به بين الحقّ و الباطل و (الازاحة) الازالة يقال: أزاح الشي ء عن موضعه أزاله و نحّاه و (المثلات) بفتح الميم و ضمّ الثاء كالمثولات جمع المثلة بفتح الميم و ضمّ الثّاء هي العقوبة التي يعتبر بها، من مثل بفلان مثلا نكل، و مثّل تمثيلا بالتشديد للمبالغة، و من قال في الواحد مثلة بضمّ و سكون الثّاء قال في الجمع مثلات نحو غرفة و غرفات، و قيل: في جمعها مثلات كركبات بفتح الكاف قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى: «وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ».
أى عقوبات أمثالهم من المكذّبين فمالهم لم يعتبروا بها، و المثلة العقوبة بوزن السمرة و المثلة لما بين العقاب و المعاقب عليه من المماثلة: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها».
يقال أمثلت الرّجل من صاحبه أقطعته عنه، و المثال القصاص، و قرء المثلات بضمّتين و المثلات جمع مثلة كركبة و ركبات انتهى.
المعنى
(و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله) عقّب عليه السّلام الشّهادة بالتّوحيد بالشّهادة بالرّسالة أمّا أوّلا فلأنّ مرتبة الرّسالة تالية لمرتبة التّوحيد كما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثاني الموجودات في الموجودية و إن كان الأوّل تعالى لا ثاني له في الوجود فينبغي أن يكون الشهادة برسالته عقيب الشّهادة بالتّوحيد طباقا لما هو الواقع.
و أمّا ثانيا فلانّ المقصود من الخلق هو العرفان و إخلاص التّوحيد و السّلوك إلى اللّه و لا بدّ للسالك من دليل يدلّ عليه و هاد يستهدى به و مبلّغ يصدّق بقوله و يقرّ برسالته، فلا بدّ من اقتران التّصديق بالرّسالة بالتّصديق بالوحدانيّة كى يتوصل به إليه و يسلك به مسالكه، إذ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله موصل إليه و باب له و فاتح لمغلقات مراتب التّوحيد، و بوجوده صلّى اللّه عليه و آله يحصل المعرفة التّامّة و يكمل الاخلاص التّام.
و أمّا ثالثا فلأنّه سبحانه قد قارن بين كلمتي التّوحيد و الرّسالة و كتب لا إله إلّا اللّه و محمّد رسول اللّه بخطوط النّور على ساق العرش و طبقات السّماوات و أقطار الأرضين و صفحتي الشّمس و القمر، كما يستفاد من الأخبار، فينبغي المقارنة في شهادتيهما اقتفاء لما قد جرى عليه القلم الرّباني و سطور النّور، و أمّا فضل الجمع بينهما فقد روى في الكافي عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: من قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله كتب اللّه له ألف حسنة.
و في ثواب الأعمال عن بشر الأوزاعي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: من شهد أن لا إله إلّا اللّه و لم يشهد أنّ محمّدا رسول اللّه كتبت له عشر حسنات، فان شهد أنّ محمّدا رسول اللّه كتبت له ألفي ألفي حسنة.
و عن سهل بن سعد الأنصاري قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا».
قال كتب اللّه عزّ و جلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورق آس أنبته ثمّ وضعها على العرش، ثمّ نادى يا امّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن يلقني «لقيني خ ل» منكم يشهد أن لا إله إلّا أنا و أنّ محمّدا عبدي و رسولي أدخلته الجنّة برحمتي.
و في عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سرّه أن يلقى اللّه يوم القيامة و في صحيفته شهادة ان لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و يفتح له ثمانية أبواب الجنّة فيقال له يا وليّ اللّه ادخل الجنّة من أيّها شئت فليقل إذا أصبح و إذا أمسى: «اكتبا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أشهد أنّ السّاعة اتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور على ذلك أحيى و على ذلك أموت و على ذلك أبعث حيّا إنشاء اللّه، اقرءا محمّدا منّي السّلام، الحمد للّه الّذي أذهب اللّيل مظلما بقدرته، و جاء بالنّهار مبصرا برحمته، خلقا جديدا مرحبا بالحافظين» و يلتفت عن يمينه «و حيّا كما اللّه من كاتبين» و يلتفت عن شماله هذا.
و أمّا تسمية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحمد فأوّل من سمّاه بذلك الاسم هو اللّه سبحانه كما يدلّ عليه حديث عرض الاشباح لآدم عليه السّلام حيث قال سبحانه له: هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في فعالى شققت له اسما من اسمي، و قد مرّ بتمامه في ثاني تنبيهات الفصل الحاد يعشر من فصول الخطبة الاولى، ثمّ سمّاه عبد المطلب بذلك يوم سابع ولادته إلهاما منه سبحانه و تفألا بكثرة حمد الخلق له، لكثرة خصاله الحميدة، و قد قيل لم شمّيت ابنك محمّدا و ليس من أسماء آبائك و لا قومك فقال: رجوت أن يحمد في السّماء و الأرض، و قد حقّق اللّه رجائه، و في الوسائل عن كشف الغمة عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم كلّ من كان اسمه محمّد فليدخل الجنّة بكرامة سميّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
و في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يولد لنا ولد إلّا سمّيناه محمّدا، فاذا مضى سبعة أيّام فان شئنا غيّرنا و إلّا تركنا هذا.
و قد ورد الأخبار المتظافرة بل المستفيضة في استحباب التّسمية بذلك الاسم المبارك، و روي له خواص كثيرة من أراد الاطلاع عليها فليراجع إلى أبواب أحكام الأولاد في كتب الأخبار.
و أمّا تقديم وصف العبودية على الوصف بالرّسالة في كلمة الشّهادة، فلأن مقام العبوديّة متقدّم على مرتبة الرّسالة كما يشهد به ما رواه في الكافي عن زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إن اللّه تبارك و تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيا و إن اللّه اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و إنّ اللّه اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا، و إنّ اللّه اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما فلما جمع له الأشياء «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» قال فمن عظمها في عين ابراهيم: «قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» قال لا يكون السّفيه إمام التّقى، و مثله أخبار اخر و يأتي تحقيق الكلام فيها عند الكلام على مسألة الامامة في مواضعها اللّايقة إنشاء اللّه.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى تعظيم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بما جاء به فقال (أرسله بالدين المشهور) أى بين الامم الماضية و القرون الخالية (و العلم المأثور) توكيد للفقرة الاولى و أشار به إلى كون ذلك الدين علما يهتدى إلى حظيرة القدس التي يطلب السّلوك إليها، و كونه مأثورا إشارة إلى كون ذلك الدين مختارا على ساير الأديان، أو أنّه مأثور منقول من قرن الى قرن و يهتدى به قوم بعد قوم (و الكتاب المسطور) بقلم النّور على اللّوح المحفوظ قبل وجود الأنفس و الآفاق، و المكتوب على الأوراق و الصّفحات بعد تلبّسه بلباس الحروف و جلباب الأصوات (و النّور السّاطع و الضياء اللّامع) يحتمل أن يكون المراد بهما الكتاب فيكون العطف للتوكيد قال تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» فهو نور عقلي ينكشف به أحوال المبدأ و المعاد و يتراءى منه حقايق الأشياء و ضياء يهتدى به في ظلمات برّ الأجسام و بحر النّفوس، و يظهر به للسّالكين إلى الدّار الاخرى طريق الجنّة و النّور، و يحتمل أن يكون المراد علم النّبوة فانّه نور مقتبس من الوحى الالهى يتنوّر به في ظلمات الجهالة، و ضياء يستضاء به في مفاوز الضّلالة (و الأمر الصّادع) أى الظاهر أو الفارق بين الحقّ و الباطل أو الحاكم بالحقّ و فيه تلميح إلى قوله تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» ثمّ أشار عليه السّلام إلى دواعى البعثة و ما هو المقصود بالرّسالة فقال عليه السّلام: (ازاحة للشبهات) أى أرسله صلّى اللّه عليه و آله إزالة للشبهات الباطلة و الشكوكات الفاسدة (و احتجاجا بالبيّنات) أى بالمعجزات القاهرة و البراهين السّاطعة (و تحذيرا بالآيات) أى إنذارا بالآيات القرآنية و الخطابات الشّرعية و يحتمل أن يكون المراد بالآيات العقوبات النّازلة بالعصاة التي هي علامة القهر و القدرة و فيها عبرة للمعتبرين كما قال تعالى: «وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» و قال: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» و على هذا الاحتمال فيكون عطف قوله: (و تخويفا للمثلات) عليه من قبيل العطف للتّوكيد، أى تخويفا بالعقوبات الواقعة بأهل الجنايات، هكذا فسّر الشّارحان البحراني و المعتزلي هذه الفقرة، الأوّل تصريحا و الثّاني تلويحا، و لكنه خلاف الظاهر، لأنّه قال عليه السّلام: للمثلات و لم يقل: بالمثلات، و الأظهر عندي هو أنّ المراد بها التمثيل و التّنكيل بجدع الأنف و قطع الأذن و نحوهما ممّا كان شعارا في الجاهليّة، و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه و خوف له، كما يدلّ عليه وصيّته الآتية في الكتاب للحسن و الحسين عليهما السّلام لما ضربه ابن ملجم: يا بني عبد المطلب لا الفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين ألا لا تقتلنّ لى إلّا قاتلي: انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة و لا يمثل بالرّجل فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور.
و في الكافي باسناده عن إسحاق بن عمّار قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ اللّه يقول في كتابه: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» ما هذا الاسراف الذي نهى اللّه عنه قال: نهى أن يقتل غير القاتل أو يمثّل بالقاتل الحديث، و الأخبار في هذا الباب كثيرة، و لعلّنا نشير إلى بعضها عند شرح الوصية الآتية إن ساعدنا التّوفيق إن شاء اللّه.
|