اللغة
(نقمت) عليه أمره و نقمت منه نقما من باب ضرب و نقمت أنقم من باب
تعب لغة إذا عبته و كرهته أشدّ الكراهة بسوء فعله و اللغة الأولى هي الفصيحة و بهما قرء قوله تعالى وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا أى و ما تطعن فينا و تقدح، و قيل: ليس لنا عندك ذنب و لا ركبنا مكروها و (أرجأته) بالهمزة أخّرته (و قسمته) قسما من باب ضرب فرزته أجزاء فانقسم و القسم بالكسر اسم منه، ثمّ اطلق على الحصّة و النّصيب فيقال: هذا قسمى و الجمع أقسام مثل حمل و أحمال.
و (استأثر) بالشي ء استبدّ به أى انفرد به من غير مشارك له فيه و (حمله) على الأمر يحمله فانحمل أغراه به و (الاسوة) بالضمّ و الكسر القدوة (و لا وليّته هوى منّى) في أكثر النسخ بتشديد اللّام يقال ولّيته تولية أى جعلته واليا، و في بعضها بالتّخفيف و هو الأظهر من وليه إذا قام به و منه ولىّ الصغير أى القائم بأمره و (عتب) عليه عتبا من باب ضرب و قتل لامه في تسخّط، و أعتبنى الهمزة للسلب أى أزال الشكوى و العتاب، و العتبى وزان فعلى اسم من الاعتاب.
الاعراب
قوله: بعد بيعته بالخلافة من إضافة المصدر إلى المفعول، و يسيرا و كثيرا منصوبان على المفعول به، و قوله: ألا تخبرانى أىّ شي ء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه أىّ اسم استفهام مرفوع على الابتداء و جملة دفعتكما عنه خبره، و جملة لكما فيه حقّ صفة لشي ء، و لكما ظرف لغو متعلّق بحقّ، و فيه ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر خبر مقدّم، و حقّ مبتدأ و يحتمل أن يجعل الأوّل ظرف مستقرّ و الثاني ظرف لغو، و جملة أىّ شي ء اه منصوبة المحلّ مفعول لتخبراني اه.
و قوله: أم أىّ قسم في بعض النسخ أو بدل أم و كذلك في قوله أم جهلته و قوله: و لاوليّته هوى منّى، على رواية وليّته بالتشديد يكون هوى مفعولا به أى لم أجعل هواى واليا في هذا الأمر. و على رواية التخفيف فهو مفعول له أى ما قمت به لأجل هوى نفسى، و جملة قد فرغ منه بالبناء على الفاعل حال من رسول اللّه، و في بعض النسخ بالبناء على المفعول فتكون حالا من ما جاء به، و الفاء فى قوله: فليس فصيحة، و جملة رحم اللّه رجلا اه، دعائيّة لا محلّ لها من الاعراب
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام حسبما أشار إليه الرّضيّ رضي اللّه عنه: (كلّم به طلحة و الزّبير بعد بيعتهما له بالخلافة و قد عتبا من ترك مشورتهما و الاستعانة في الامور بهما) و من ترك تفضيلهما في العطاء على غيرهما.
قال الشّارح المعتزلي إنّهما قالا: ما نراه يستشيرنا في أمر و لا يفاوضنا في رأى و يقطع الأمر دوننا و كانا يرجوان غير ذلك، و أراد طلحة أن يوليّه البصرة و أراد الزّبير أن يوليّه الكوفة.
فلمّا شاهدا صلابته في الدّين و قوّته في العزم، و هجره الادهان و المراقبة و رفضه المدالسة و الموارية، و سلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب و السّنّة، و قد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه و سجيّته، و كان عمر قال لهما و لغيرهما: إنّ الأجلح أى الأنزع إن وليها ليحملنّكم على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم، و كان النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من قبل: و إن تولّوها عليّا تجدوه هاديا مهدّيا، إلّا انّه ليس الخبر كالعيان، و لا القول كالفعل، و لا الوعد كالانجاز حالا عنه و تنكّرا له، و وقعا فيه، و عاباه تطلّبا له العلل و التأويلات، و تنقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة، و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساوات الناس في قسمة الأموال، و أثنيا على عمر و حمدا سيرته و صوّبا رأيه، و قالا: إنّه كان يفضّل أهل السوابق، و ضلّلا عليّا فيما رآه و قالا: إنّه أخطاء، و إنّه خالف سيرة عمر، و استنجدا عليه بالرّؤساء من المسلمين كان عمر يفضّلهم في القسم على غيرهم.
و الناس أبناء الدّنيا و يحبّون المال حبّا جمّا فتنكّرت على أمير المؤمنين بتنكّرهما قلوب كثيرة.
و كان عمر منع قريشا و المهاجرين و ذوى السوابق من الخروج من المدينة و نهاهم عن مخالطة الناس، و نهى الناس عن مخالطتهم و رأى أنّ ذلك اسّ الفساد في الأرض، و أنّ الفتوح و الغنايم قد أبطرت المسلمين، و متى بعد الرءوس و الكبراء منهم عن دار الهجرة و انفردوا بأنفسهم و خالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يؤمن أن يحسنوا لهم الوثوب و طلب الامارة و مفارقة الجماعة و حلّ نظام الالفة و لكنّه نقض هذا الرّاى السّديد بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من الشّورى فانّ ذلك كان سبب كلّ فتنة وقع و يقع إلى أن تنقضى الدّنيا.
قال: و قد قدّمنا ذكّر ذلك و شرحنا ما أدّى إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كلّ من الستة من ترشيحه للخلافة إلى أن قال: إنّ طلحة و الزبير لما آيسا من جهة عليّ عليه السّلام و من حصول الدّنيا من قبله قلبا له ظهر المجنّ، فكاشفاه و عاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا قال: روى أبو عثمان الجاحظ قال: أرسل طلحة و الزّبير إلى عليّ عليه السّلام قبل خروجهما إلى مكّة محمّد بن طلحة و قالا: لا تقل له يا أمير المؤمنين و لكن قل له: يا أبا الحسن لقد فال «أى اخطأ» فيك رأينا و خاب ظننا أصلحنا لك الأمر و وطدنا لك الامرة و أجلبنا على عثمان حتّى قتل فلما طلبك الناس لأمرهم أسرعنا إليك و بايعناك و قدنا إليك أعناق العرب و وطأ المهاجرون و الأنصار أعقابنا في بيعتك حتّى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنّا و رفضتنا رفض التّريكة و أذلتنا إذالة الاماء و ملكت أمرك الاشتر و حكيم بن جبلة و غيرهما من الأعراب فلما جاء محمّد بن طلحة أبلغه ذاك فقال: اذهب إليهما فقل لهما فما الذى يرضيكما فذهب و جاء و قال: إنّهما يقولان ولّ أحدنا البصرة و آخرنا الكوفة.
فقال: لا هاء اللّه إذا يحلم الأديم، و يستشرى الفساد، و تنتقض عليّ
البلاد من أقطارها، و اللّه انّى لا آمنهما و هما عندى بالمدينة فكيف آمنهما و قد ولّيتهما العراقين اذهب إليهما فقل أيّها الشيخان احذرا من اللّه و نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على امّته و لا تبغى المسلمين غايلة و كيدا و قد سمعتما قول اللّه تعالى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
فقام محمّد بن طلحة فأتا إليهما و لم يعدا له و تأخّرا عنه أيّاما ثمّ جاءاه فاستأذنا في الخروج إلى مكّة للعمرة فأذن لهما بعد أن أحلفهما أن لا ينقضا بيعته و لا يغدرا به و لا يشقّا عصا المسلمين و لا يوقعا الفرقة بينهم و أن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة، فحلفا على ذلك كلّه ثمّ خرجا ففعلا ما فعلا قال: و روى الطبرى في التاريخ قال: لمّا بايع الناس عليّا و تمّ الأمر له قال طلحة للزّبير: ما أرى أنّ لنا من هذا الأمر إلّا ككشحة أنف الكلب فقد ظهر لك من ذلك و يظهر أيضا ممّا نرويه من الاسكافي أنّ علّة نقم طلحة و الزّبير منه عليه السّلام إنّما كانت ترك استشارتهما و مداخلتهما في أمر الخلافة و عدم بذل مأمولهما فى تولية العراقين و التسوية بينهما و بين غيرهما في القسم و لمّا نقما عليه بذلك أجاب لهما بقوله: (لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا) أى طعنتما و عتبتما عليّ شيئا يسيرا و هو ترك الاستشارة و أمر التسوية حسبما عرفت مع عدم كونهما مورد طعن و عيب في الحقيقة و أخرتما شيئا كثيرا من رعاية حقوقي الواجبة و السعي فيما يعود إلى صلاح حال المسلمين و انتظام أمر الدّين و اتّساق حبل الالفة و الجماعة.
و قال الشّارح المعتزلي: أى نقمتما من أحوالى اليسير، و تركتما الكثير الّذى ليس لكما و لا لغيركما فيه طعن فلم تذكراه فهلا اغتفرتما اليسير الكثير.
و قال الشّارح البحراني: يحتمل أن يريدان الّذي أبدياه و نقماه بعض ممّا في أنفسهما و قد دلّ ذلك على أنّ في أنفسهما أشياء كثيرة وراء ما ذكراه.
أقول: يعنى قد بدت البغضاء من أفواههم و ما تخفى صدورهم أكبر،
و الأظهر ما قلناه.
ثمّ استخبر عمّا نقماه و استفهم عن وجوه النّقم المتصوّرة في المقام استفهاما انكاريا إبطاليّا تنبيها به على بطلان تلك الوجوه جميعا و على كذب مدّعيها فقال: (ألا تخبراني أىّ شي ء لكما فيه حقّ) ماليّ أو غير ماليّ (دفعتكما عنه) و ظلمتكما فيه.
و بطلان هذا الوجه مع كونه معصوما واضح، و يزيده وضوحا قوله الاتي في الكلام المأتين و العشرين: و كيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها و يطول في الثرى حلولها، و قوله فيه أيضا. و اللّه لو اعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، و من هذا حاله كيف يتصوّر في حقّه الظلم.
(و أىّ قسم استأثرت عليكما به) أى أىّ سهم و نصيب أخذت من بيت المال و تفرّدت به و لم اشارككم.
و بطلانه أيضا واضح ممّا مر و يزيده توضيحا ما مرّ في الكلام المأة و السادس و العشرين من قوله: لو كان المال لى لسوّيت بينهم فكيف و المال مال اللّه، و ما يأتي في باب المختار من كتبه في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصارى من قوله: و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه، و من هذا شأنه كيف يحيف الغير و يذهب بحقّه و غيره و بما ذكرته علم الفرق بين هذا الوجه و الوجه الأوّل، فانّ الأوّل أعم من الحقّ المالى و غيره، و هذا مخصوص بالمالي، و أيضا دفع الحقّ عنهما أعمّ من أن يصير إليه أو إلى غيره أو لم يصر إلى أحد بل يبقي في بيت المال و الاستيثار عليهما به هو أن يأخذ حقّهما لنفسه.
(أم أىّ حقّ رفعه إلىّ أحد من المسلمين ضعفت عنه) و كنت محتاجا فيه إلى المعاون و المعين.
و بطلان هذا الوجه أيضا لا ريب فيه لما قد عرف من بأسه و شجاعته و أنه لو لا سيفه لما قام للاسلام عمود و لا اخضرّ للدّين عود، و قد قال في الكلام السّابع و الثلاثين و استبددت برهانها كالجبل لا تحرّكه القواصف و لا تزيله العواصف لم يكن لأحد فيّ مهمز و لا لقائل فيّ مغمز الذّليل عندى عزيز حتى آخذ الحقّ له، و القوّى عندى ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه، و قال في الكلام المأة و السّادسة و الثلاثين: و ايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه و لأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ و إن كان كارها (أم جهلته أم أخطأت بابه) و كنت محتاجا إلى التعليم و التنبيه و الفرق بين الجهل و الخطاء في الباب الأوّل أن يكون اللّه سبحانه قد حكم بحرمة شي ء مثلا فأحلّه الامام و الثّانى أن يصيب في الحكم و يخطى ء في طريقه و الاستدلال عليه، أو أنّ الأوّل أن يجهل الحكم و يتحيّر فيه و لا يدرى كيف يحكم، و الثاني أن يحكم بخلاف الواقع و على أيّ تقدير فتوهّم أحد الأمرين في حقّه عليه السّلام، مع علمه بما كان و ما يكون و ما هو كائن و كونه أعلم بطرق السّماء من طرق الأرض و كونه باب مدينة العلم و الحكمة و كونه أقضي الامة على ما صدر عن صدر النّبوة و عرفته في تضاعيف الشّرح غير مرّة أوضح البطلان و فساده غنّى عن البرهان، هذا و لما أشار عليه السّلام إلى بطلان وجوه النّقم المتصوّرة إجمالا أراد إبطال ما نقما به عليه تصريحا و هو ترك الاستشارة و أمر الاسوة و أجاب عن النّقم بهما تفصيلا.
و قبل الشروع في الجواب مهّد مقدّمة لطيفة دفعا بها توهّم كون نهوضه بالخلافة من حبّ الملك و الرّياسة و محبّة السلطنة و الولاية المقتضية للمماشاة و المشاورة مع الحاشية و البطانة كما كان في المتخلّفين الثلاثة و رفعا بها منّتهما عنه عليه السّلام حيث منّا عليه بأنّا أصلحنا الأمر و وطدنا لك الامرة و بايعناك و قدنا إليك أعناق العرب على ما مرّ في رواية أبي عثمان الجاحظ.
و تلك المقدّمة قوله عليه السّلام (و اللّه ما كانت لى في الخلافة رغبة و لا في الولاية اربة) و حاجة أمّا عدم احتياجه إليها فواضح، و أمّا عدم رغبته فيها فلكراهته لها طبعا و إن كان يحبّها شرعا أو كراهته لها من حيث الملك و السلطنة فلا تنافي رغبته من حيث التّمكن من إعلاء لواء الشرع و إقامة المعروف و إزاحة المنكر أو أنّ عدم الرّغبة حين عدم تحقّق الشرائط.
كما يشعر بذلك قوله عليه السّلام في الخطبة الثالثة المعروفة بالشّقشقيّة: أما و الذى فلق الحبّة و برء النّسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها و لألقيتم دنياكم هذه أزهد عندى من عفطة عنز.
و يشعر به أيضا قوله عليه السّلام في الكلام الحادى و التّسعين: دعونى و التمسوا غيرى، و مضى هناك أخبار مناسبة للمقام.
(و لكنكم دعوتمونى إليها) على رغبة منكم (و حملتمونى عليها) على كراهة منّي كما أوضحه عليه السّلام في المختار المأتين و الخامسة و العشرين حيث قال هناك: و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها ثمّ تداككتم علىّ تداكّ الابل الهيم على حياضها يوم ورودها حتّى انقطعت النّعل و سقطت الرّداء و وطى ء الضّعيف و بلغ من سرور الناس بيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصغير و هدج إليها الكبير.
و لمّا مهّد المقدّمة الشريفة المنبئة عن عدم رغبته في الولاية و الخلافة و رفع بها منّتهما عليه في المبايعة رتّب عليها الجواب عن نقمهما الأوّل أعني مسألة المشاورة و قال: (فلمّا أفضت) أى وصلت الخلافة (إليّ نظرت إلى كتاب اللّه) عزّ و جلّ (و) إلى (ما وضع لنا) أى ما وظفه لنا و ألزمه علينا معاشر الأئمة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحكم بين الناس بالعدل حيث قال كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
روى في البحار عن العياشى عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: في قراءة عليّ عليه السّلام «كنتم خير أئمّة أخرجت للناس» قال: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عن العياشى عن أبي بصير عنه عليه السّلام، قال: إنما انزلت هذه الاية على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه و في الأوصياء خاصّة فقال «أنتم خير أئمة «امة خ» اخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر» هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل و ما عنى بها إلّا محمّدا و أوصياءه صلوات اللّه عليهم.
و قال تعالى أيضا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً فانّ هذه الاية أيضا خطاب لخصوص ولاة الامر، و على كونها خطابا للعموم فيدخل فيه ولاة الأمر، و على أىّ تقدير فقد بيّن اللّه وظيفتهم فيها.
قال في مجمع البيان: قيل في معنى هذه الاية أقوال: أحدها أنّها في كلّ من اؤتمن أمانة من الأمانات و أمانات اللّه أوامره و نواهيه و أمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا من المال و غيره، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.
و ثانيها أنّ المراد به ولاة الأمر أمرهم اللّه أن يقوموا برعاية الرّعية و حملهم على موجب الدّين و الشّريعة و رواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصّادق عليهما السّلام قالا: أمر اللّه كلّ واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى من بعده، و يعضده أنّه أمر الرّعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر.
و روى عنهم عليهم السّلام انّهم قالوا: آيتان إحداهما لنا و الاخرى لكم قال اللّه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها الاية و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الاية.
و هذا القول داخل في القول الأوّل لأنّه من جملة ما ائتمن اللّه عليه الأئمة الصّادقين عليهم السّلام و لذلك قال أبو جعفر عليه السّلام إنّ الصّلاة و الزكاة و الصّوم و الحجّ من الأمانة و يكون من جملتها الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات و الغنايم و غير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعية، و قد عظم اللّه أمر الامانة بقوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ و قوله لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ و قوله وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ.
(و) إلى ما (أمرنا بالحكم به فاتبعته) أراد به الحكم بما أنزل اللّه فى كتابه دون غيره من أحكام الجاهليّة و الأحكام الصّادرة عن الاستحسانات العقليّة كما صدرت عن المتخلّفين الثلاثة و قد قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ و قال وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
فانّ هذه الايات كما ترى صريحة في وجوب الأخذ بحكم الكتاب، و الاية الأخيرة و إن كانت خاصة بالنبيّ إلّا أنّها تعمّ الائمة القائمين مقامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل تعمّ ساير أحكام الشرع بمقتضى أدلة الشركة في التكاليف.
و غير خفيّ على الفطن العارف حسن انطباق مفاد الاية الأخيرة بالمقام فانّ اللّه سبحانه أمر نبيّه فيها في الحكم بين أهل الكتاب بما أنزل اللّه و نهاه عن اتّباع هواهم و حذّره من تفتينهم و أشار إلى توليهم عن حكم اللّه و إلى ابتغائهم حكم الجاهلية، و كذلك كان حال أمير المؤمنين عليه السّلام مع طلحة و الزّبير اللذين هما تاليا أهل الكتاب فقد كان مراده أن يحكم بحكم اللّه و بالأخذ بسيرة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان مرادهما أن يداخلهما في الأمر و يشاورهما و يتابع هواهما و يسير فيهما و في غيرهما بسيرة عمر، و كان غرضهما تفتينه و تغييره حكم اللّه إلى حكم الجاهلية، إذ حكم الجاهلية لم يكن منحصرا في أحكام أيام الفترة بل كلّ حكم خالف الكتاب و السنة كما روى في الكافي عن الصادق عن أمير المؤمنين عليه السّلام الحكم حكمان: حكم اللّه و حكم الجاهلية فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهليّة.
و قال الطبرسي في قوله أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قيل: المراد به كلّ من
طلب غير حكم اللّه فانه يخرج منه إلى حكم الجاهليّة و كفى بذلك أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم.
فقد علم بذلك أنّ تكليف الأئمة عليهم السّلام اتّباع أمر اللّه و الأخذ بحكم اللّه لا الحكم بالرأى و الأهواء كما في أئمّة الجور.
روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم عن حميد بن زياد عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: الأئمة في كتاب اللّه إمامان قال اللّه وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لا بأمر الناس يقدّمون أمر اللّه قبل أمرهم و حكم اللّه قبل حكمهم، قال وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يقدّمون أمرهم قبل أمر اللّه و حكمهم قبل حكم اللّه و يأخذون بأهوائهم خلافا لما في كتاب اللّه.
و كيف كان فمحصّل مفاد قوله عليه السّلام إنّي نظرت إلى كتاب اللّه جلّ شأنه و إلى ما عيّن لنا فيه من التكاليف و الأحكام فاتّبعته.
(و) نظرت إلى (ما استسنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و شرعه (فاقتديته) و تابعته (فلم) يبق الكتاب و السنة شيئا من الأحكام الشرعية (احتج في ذلك إلى رأيكما و لا رأى غيركما) من الاراء الباطلة و الاستحسانات الفاسدة.
(و لا وقع حكم جهلته) و هذا أحد الوجوه المتقدّمة التي أنكرها سابقا على سبيل الاستفهام و نفاه هنا صريحا أى لم يقع حكم شرعي لا أعلم به فأحتاج إلى التعلّم و المشاورة (فأستشير كما و اخواني من المسلمين) فيه و أتعلّمه منكم (و لو كان ذلك) أى لو وقع حكم كذلك (لم أرغب عنكما و لا عن غيركما).
و لما أجاب عن نقمهما الأوّل شرع في الجواب عن نقمهما الثاني فقال: (و أما ما ذكرتما من أمر الاسوة) أى القدوة و اقتدائكما بغيركما في النصيب و القسمة (فانّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي) و من تلقاء نفسي (و لا وليته هوى منى) أى ما جعلت هواى واليا أوما باشرته بهواى (بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) من القسم بالسوية و العدل في الرّعية و الحال أنه (قد فرغ منه) و أكمل و لم يبق مجال للكلام (فلم احتج إليكما) و لا إلى غيركما (فيما قد فرغ اللّه من قسمه و أمضى فيه حكمه) نسبة الفراغ أولا إلى الرّسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ثانيا إلى اللّه تنبيها على اتّحاد حكمهما لعدم كونه ناطقا عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى و المراد أنه لا حاجة لي إلى الغير في مال قد فرغ اللّه من تقسيمه و حكم فيه بالحكم النافذ الالزامي بأن يقسم بالسوية لا بالتفاوت.
(فليس لكما و اللّه عندى و لا لغيركما في هذا) القسم بالسوية (عتبى) أى ليس لكما و لا لغيركما علىّ أن ارضيكم و ازيل شكواكم عني.
ثمّ دعا لنفسه و لهما بقوله (أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ) أى صرفها إليه (و ألهمنا و اياكم الصبر) أى ألهمني الصبر على مشاق الخلافة و مقاساة المكاره و المساوى من الرعية و ألهمكم الصبر على ما تكرهه نفوسكم الامارة من القسم بالسوية و نحوه ممّا مر.
(ثمّ قال عليه السّلام رحم اللّه رجلا رأى حقا) و عدلا (فأعان عليه) و على العمل به (أو رأى جورا) و ظلما (فردّه) و دفعه (و كان عونا بالحقّ على صاحبه) أى على صاحب الجور.
و المراد به الجذب إلى طاعته و إعانته و الصرف عن مخالفته و اعانة ظالميه، لأنه عليه الصلاة و السلام مع الحقّ و الحقّ معه عليه السلام و الصّلاة يدور معه حيثما دار هو عليه التحية و الثناء، فالمعين له عليه الصلاة و السلام معين للحقّ، و المعاند له عليه السّلام معاند للحقّ و معين للجور و الباطل.
تكملة و تبصرة
روى في البحار من الامالي أمالى الشيخ عن أحمد بن محمّد بن موسى بن الصلت عن أحمد بن عقدة قال: حدّثنا الحسن بن صالح من كتابه في ربيع الأول سنة ثمان و سبعين و أحمد بن يحيى عن محمّد بن عمرو عن عبد الكريم عن القاسم بن أحمد عن أبي الصّلت الهروي و قال ابن عقدة و حدثناه القاسم بن الحسن الحسينى عن أبى الصلت عن عليّ بن عبد اللّه بن النّعجة عن أبى سهيل بن مالك عن مالك بن اوس بن الحدثان قال: لمّا ولى علىّ بن أبى طالب أسرع النّاس إلى بيعة المهاجرين و الأنصار و جماعة الناس لم يتخلّف عنه من أهل الفضل إلّا نفر يسير خذلوا و بايع الناس، و كان عثمان قد عود قريشا و الصحابة كلّهم، و صبّت عليهم الدّنيا صبا، و آثر بعضهم على بعض، و خصّ أهل بيته من بنى امية و جعل لهم البلاد و خوّلهم العباد فأظهروا فى الأرض الفساد و حمل أهل الجاهلية و المؤلفة قلوبهم على رقاب الناس حتى غلبوه على أمره فأنكر الناس ما رأوا من ذلك فعاتبوه فلم يعتبهم، و راجعوه فلم يسمع منهم، و حملهم على رقاب النّاس حتّى انتهى إلى أن ضرب بعضا و نفى بعضا و حرّم بعضا.
فرأى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يدفعوه و قالوا: إنّما بايعناه على كتاب اللّه و سنّة نبيّه و العمل بهما، فحيث لم يفعل ذلك لم تكن له عليهم طاعة فافترق النّاس في أمره على خاذل و قاتل.
فأمّا من قاتل فرأى أنّه حيث خالف الكتاب و السّنّة و استأثر بالفي ء و استعمل من لا يستأهل رأوا أنّ جهاده جهاد.
و أمّا من خذله فانّه رأى أنّه يستحقّ الخذلان و لم يستوجب النصرة بترك أمر اللّه حتّى قتل.
و اجتمعوا على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فبايعوه فقام و حمد اللّه و اثنى عليه بما هو أهله و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله ثمّ قال: أما بعد فاني قد كنت كارها لهذه الولاية يعلم اللّه في سماواته و فوق عرشه على امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى اجتمعتم على ذلك فدخلت فيه، و ذلك أنى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أيّما وال ولى أمر امتي من بعدى اقيم يوم القيامة على الصراط و نشرت الملائكة صحيفته، فان نجى فبعدله، و إن جار انتفض به الصراط انتفاضة تزيل ما بين مفاصله حتى يكون بين كلّ عضو و عضو من أعضائه مسيرة مأئة عام يحرق به الصراط ، فأوّل ما يلقى به النار أنفه و حرّ وجهه، و لكنى لما اجتمعتم علىّ نظرت فلم يسعني ردّكم حيث اجتمعتم أقول ما سمعتم و أستغفر اللّه لي و لكم.
فقام إليه الناس فبايعوه فأوّل من قام فبايعه طلحة و الزّبير، ثمّ قام المهاجرون و الأنصار و سائر الناس حتى بايعه الناس و كان الذى يأخذ عليهم البيعة عمار بن ياسر و أبو الهيثم بن التيهان و هما يقولان: نبايعكم على طاعة اللّه و سنة رسوله و إن لم نف لكم فلا طاعة لنا عليكم و لا بيعة في أعناقكم و القرآن أمامنا و أمامكم ثمّ التفت عليّ عليه السّلام عن يمينه و عن شماله و هو على المنبر و هو يقول: ألا لا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدّنيا فاتخذوا العقار، و فجّروا الأنهار، و ركبوا الخيول الفارهة، و اتّخذوا الوصائف الرّدقة، فصار ذلك عليهم عارا و شنارا ان لم يغفر لهم الغفّار إذا منعوا ما كانوا فيه، و صيروا إلى حقوقهم التي يعلمون يقولون حرمنا عليّ بن أبي طالب و ظلمنا حقوقنا و نستعين باللّه و نستغفره، و أما من كان له فضل و سابقة منكم فانما أجره فيه على اللّه، فمن استجاب للّه و لرسوله و دخل في ديننا و استقبل قبلتنا و أكل ذبيحتنا فقد استوجب حقوق الاسلام و حدوده فأنتم أيها الناس عباد اللّه المسلمون و المال مال اللّه يقسم بينكم بالسوية و ليس لأحد على أحد فضل إلّا بالتقوى، و للمتقين عند اللّه خير الجزاء و أفضل الثواب، لم يجعل اللّه الدّنيا للمتقين جزاء و ما عند اللّه خير للأبرار، إذا كان غدا فاغدوا فانّ عندنا مالا اجتمع فلا يتخلّفن أحد كان في عطاء أو لم يكن إذا كان مسلما حرّا، احضروا رحمكم اللّه.
فاجتمعوا من الغد و لم يتخلّف عنه أحد، فقسم بينهم ثلاثة دنانير لكلّ إنسان الشريف و الوضيع و الأحمر و الأسود و لم يفضّل أحدا و لم يتخلّف عنه أحد إلّا هؤلاء الرّهط طلحة و الزبير و عبد اللّه بن عمر و سعيد بن العاص و مروان بن الحكم و ناس معهم، فسمع عبيد اللّه بن أبي رافع و هو كاتب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عبد اللّه بن الزبير و هو يقول للزبير و طلحة و سعيد بن العاص لقد التفت إلى زيد بن ثابت فقلت له: اياك اعني و اسمعي يا جارة فقال عبيد اللّه يا سعيد بن العاص و عبد اللّه بن الزّبير إنّ اللّه يقول في كتابه وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ قال عبيد اللّه فأخبرت عليا عليه السّلام فقال عليه السّلام لان سلمت لهم لأحملنهم على الطريق قاتل اللّه ابن العاص لقد علم في كلامى أني اريده و أصحابه بكلامى و اللّه المستعان.
قال مالك بن الأوس: و كان علىّ بن أبي طالب اكثر ما يسكن القناة، فبينا نحن في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير و طلحة فجلسا ناحية عن علىّ، ثمّ طلع مروان و سعيد و عبد اللّه بن الزّبير و المسور بن محزمة، فجلسوا و كان عليّ عليه السّلام جعل عمار بن ياسر على الخيل، فقال لأبي الهيثم بن التيهان و الخالد بن زيد أبى أيّوب و لأبي حية و لرفاعة بن رافع فى رجال من اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوموا إلى هؤلاء القوم فانه بلغنا عنهم ما نكره من خلاف أمير المؤمنين امامهم و الطعن عليه و قد دخل معهم قوم من أهل الجفاء و العداوة فانّهم سيحملونهم على ما ليس من رأيهم فقال، فقاموا و قمنا معهم حتّى جلسوا إليهم.
فتكلّم أبو الهيثم بن التيهان فقال: إنّ لكم لقدما في الاسلام و سابقة و قرابة من أمير المؤمنين عليه السّلام و قد بلغنا عنكم طعن و سخط لأمير المؤمنين فان يكن أمر لكما خاصّة فكاتبا ابن عمّتكما و امامكما، و إن كان نصيحة للمسلمين فلا تؤخّراه عنه و نحن عون لكما فقد علمتما أنّ بني اميّة لن تنصحكما و قد عرفتما و قال أحمد عرفتم عداوتهم لكما و قد شركتما في دم عثمان و مالأتما.
فسكت الزبير و تكلّم طلحة فقال: افرغوا جميعا ممّا تقولون، فانّى قد عرفت أنّ في كلّ واحد منكم خطبة فتكلّم عمّار بن ياسر رحمه اللّه فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: أنتما صاحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد اعطيتما إمامكم الطاعة و المناصحة و الميثاق على العمل بطاعة اللّه و طاعة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن يجعل كتاب اللّه اماما.
قال أحمد و جعل كتاب اللّه اماما ففيم السخط و الغضب على عليّ بن أبي طالب فغضب الرّجال للحق انصرا نصركما اللّه.
فتكلّم عبد اللّه بن الزبير، فقال: لقد تهدّدت يا أبا اليقظان.
فقال عمار: ما لك تتعلق في مثل هذا يا أعبس ثمّ أمر به فاخرج.
فقام الزّبير فقال: أعجلت يا أبا اليقظان على ابن أخيك رحمك اللّه.
فقال عمار: يا أبا عبد اللّه انشدك اللّه أن تسمع قول من رأيت فانكم معشر المهاجرين لم يهلك من هلك منكم حتى استدخل في أمره المؤلفة قلوبهم.
فقال الزبير: معاذ اللّه أن نسمع منهم.
فقال عمار: و اللّه يا أبا عبد اللّه لو لم يبق أحد إلّا خالف عليّ بن أبي طالب لما خالفته و لا زالت يدي مع يده، و ذلك لأنّ عليا لم يزل مع الحقّ منذ بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاني أشهد أنه لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحدا.
فاجتمع عمار بن ياسر و أبو الهيثم و رفاعة و أبو أيوب و سهل بن حنيف فتشاوروا أن يركبوا إلى عليّ عليه السّلام بالقناة فتخبروه بخبر القوم، فركبوا إليه فأخبروه باجتماع القوم و ما هم فيه من إظهار الشكوى و التعظيم لقتل عثمان، و قال له أبو الهيثم: يا أمير المؤمنين انظر في هذا الأمر.
فركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دخل المدينة و صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و اجتمع أهل الخير و الفضل من الصحابة و المهاجرين فقالوا لعليّ: إنهم قد كرهوا الاسوة و طلبوا الاثرة و سخطوا لذلك، فقال عليّ عليه السّلام: ليس لأحد فضل فى هذا المال، و هذا كتاب اللّه بيننا و بينكم و نبيكم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرته.
ثمّ صاح بأعلى صوته: يا معشر الأنصار أتمنّون علىّ باسلامكم أنا أبو الحسن القرم و نزل عن المنبر و جلس ناحية المسجد و بعث إلى طلحة و الزبير فدعاهما ثمّ قال لهما: ألم يأتياني و تبايعانى طائعين غير مكرهين فما أنكرتم أجور فى حكم أو استيثار في في ء قالا: لا.
قال: أو فى أمر دعوتمانى إليه فى أمر المسلمين فقصرت عنه قالا: معاذ اللّه.
قال: فما الذي كرهتما في أمري حتى رأيتما خلافي قالا: خلافك لعمر بن الخطاب فى القسم و انتقاصنا حقنا من الفي ء، جعلت حظنا فى الاسلام كحظّ غيرنا مما أفاء اللّه علينا بسيوفنا ممّن هو لنا في ء، فسوّيت بيننا و بينهم.
فقال عليّ: اللّه أكبر اللّهمّ إنى اشهدك و اشهد من حضر عليهما أما ما ذكرتما من الاستيثار فو اللّه ما كانت لى فى الولاية رغبة و لا لي فيها محبّة، و لكنكم دعوتمونى إليها و حملتمونى عليها فكرهت خلافكم، فلما أفضت إلىّ نظرت إلى كتاب اللّه و ما وضع و امر فيه بالحكم و قسّم و سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأمضيته و لم احتج فيه إلى رأيكما و دخولكما معى و لا غيركما و لم يقع أمر جهلته فأتقوّى فيه برأيكما و مشورتكما، و لو كان ذلك لم أرغب عنكما و لا عن غيركما إذا لم يكن فى كتاب اللّه و لا فى سنّة نبيّنا، فأما ما كان فلا يحتاج فيه إلى أحد.
و أما ما ذكرتما من أمر الأسوة فانّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه و وجدت أنا و أنتما ما قد جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كتاب اللّه فلم أحتج فيه إليكما قد فرغ من قسمه كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد و أما قولكما جعلتنا فيه كمن ضربناه بأسيافنا و أفاء اللّه علينا و قد سبق رجال رجالا فلم يضرّهم و لم يستأثر عليهم من سبقهم لم يضرّهم حتّى استجابوا لرّبهم، و اللّه ما لكم و لا لغيركم إلّا ذلك ألهمنا اللّه و إيّاكم الصبر عليه.
فذهب عبد اللّه بن الزّبير يتكلّم فامر به فوجئت عنقه و اخرج من المسجد و هو يصيح و يقول: ردّوا إليه بيعته.
فقال عليّ عليه السّلام: لست مخرجكما من أمر دخلتما فيه و لا مدخلكما في أمر خرجتما منه.
فقاما عنه فقالا: أما انّه ليس عندنا أمر إلّا الوفاء، قال:
فقال عليه السّلام: رحم اللّه عبدا رأى حقّا فأعان عليه أو رأى جورا فردّه و كان عونا للحقّ على من خالفه.
و روى الشّارح المعتزلي في شرح الخطبة الحادى و التسعين عن أبي جعفر الاسكافي من كتابه الذي نقض به كتاب العثمانية للجاحظ قال: قال أبو جعفر: لما اجتمعت الصّحابة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد قتل عثمان للنظر في أمر الامامة أشار أبو الهيثم بن التيهان و رفاعة بن رافع و مالك بن العجلان و أبو أيّوب الأنصاري و عمّار بن ياسر بعليّ عليه السّلام و ذكروا فضله و سابقته و جهاده و قرابته، فأجابهم النّاس إليه فقام كلّ واحد منهم خطيبا بذكر فضل عليّ عليه السّلام، فمنهم من فضّله على أهل عصره خاصّة، و منهم من فضّله على المسلمين كلّهم كافة، ثمّ بويع فصعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة و هو يوم السّبت لاحدى عشر ليلة بقين من ذى الحجة، فحمد اللّه و أثنى عليه و ذكر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصلّى عليه، ثمّ ذكر نعمة اللّه على أهل الاسلام، ثمّ ذكر الدّنيا فزهّدهم فيها و ذكر الاخرة فرغّبهم إليها ثمّ قال: أما بعد فانّه لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استخلف النّاس أبا بكر، ثمّ استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقه ثمّ جعلها شورى بين ستّة فأفضى الأمر منهم إلى عثمان فعمل ما أنكرتم و عرفتم ثمّ حصر و قتل، ثمّ جئتموني فطلبتم إلىّ و إنّما أنا رجل منكم لي ما لكم و عليّ ما عليكم، و قد فتح اللّه الباب بينكم و بين أهل القبلة، و أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم و لا يحمل هذا الأمر إلّا أهل الصّبر و النصر و العلم بمواقع الأمر، و إني حاملكم على منهج نبيّكم، و منفذ فيكم ما أمرت به، إن استقمتم لي و باللّه المستعان ألا إنّ موضعى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته، فامضوا لما تؤمرون و قفوا عند ما تنهون عنه، و لا تعجلوا في أمر حتّى نبيّنه لكم، فانّ لنا عن كلّ أمر تنكرونه عذرا، ألا و إنّ اللّه عالم من فوق سمائه و عرشه أني كنت كارها للولاية على امة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى اجتمع رأيكم على ذلك لأني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أيّما وال ولي الامر من بعدي اقيم على حدّ الصراط و نشرت الملائكة صحيفته، فان كان عادلا أنجاه اللّه بعدله و إن كان جائرا انتقض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ثمّ يهوى إلى النار، فيكون أوّل ما يتّقيها به أنفه و حرّ وجهه، و لكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم.
ثمّ التفت يمينا و شمالا فقال: ألا لا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدّنيا فاتّخذوا العقار و فجّروا الأنهار و ركبوا الخيول الفارهة و اتّخذوا الوصايف الرّدقة، فصار ذلك عليهم عارا و شنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و اصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون فينقمون ذلك و يستنكرون و يقولون: حرّمنا ابن أبي طالب حقوقنا، ألا و أيّما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى أنّ الفضل له على من سواه لصحبته فانّ له الفضل النيّر غدا عند اللّه و ثوابه و أجره على اللّه، و أيما رجل استجاب للّه و للرسول فصدّق ملّتنا و دخل فى ديننا و استقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الاسلام و حدوده فأنتم عباد اللّه و المال مال اللّه يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد و للمتّقين غدا عند اللّه أحسن الجزاء و أفضل الثواب، لم يجعل اللّه الدّنيا للمتقين أجرا و لا ثوابا، و ما عند اللّه خير للأبرار، و إذا كان غدا إنشاء اللّه فاغدوا علينا فانّ عندنا مالا نقسمه فيكم و لا يتخلّفنّ أحد منكم عربيّ و لا عجميّ كان من أهل العطاء أو لم يكن إذا كان مسلما حرّا، أقول قولي هذا و أستغفر اللّه لي و لكم، ثمّ نزل.
قال أبو جعفر: و كان هذا أوّل ما أنكروه من كلامه عليه السّلام و أورثهم الضّغن عليه و كرهوا اعطاءه و قسمه بالسّوية فلمّا كان من الغد غدا و غدا النّاس لقبض المال، فقال لعبيد اللّه بن أبي رافع كاتبه: ابدء بالمهاجرين فنادهم و أعط كلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، و من يحضر من الناس كلّهم الأحمر و الأسود فافعل به مثل ذلك.
فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين هذا غلامي و قد اعتقته اليوم.
- فقال: نعطيه كما نعطيك فأعطى كلّ واحد منهم ثلاثة دنانير، و لم يفضّل أحدا على أحد، و تخلّف عن هذا القسم يومئذ طلحة و الزبير و عبد اللّه بن عمر و سعيد ابن العاص و مروان بن الحكم و رجال من قريش و غيرها.قال: و سمع عبيد اللّه بن أبي رافع عبد اللّه بن الزبير يقول لأبيه و طلحة و مروان و سعيد ما خفى علينا أمس من كلام عليّ عليه السّلام ما يريد، فقال سعيد بن العاص و التفت إلى زيد بن ثابت: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.
فقال عبيد اللّه بن أبي رافع لسعيد و عبد اللّه بن الزبير: إنّ اللّه يقول فى كتابه وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ.
ثمّ إنّ عبيد اللّه بن أبى رافع أخبر عليا عليه السّلام بذلك فقال عليه السّلام إن بقيت و سلمت لهم لاقيمنّهم على المحجّة البيضاء و الطريق الواضح، قاتل اللّه بنى العاص لقد عرف من كلامي و نظرى إليه امس أنّي اريده و أصحابه ممّن هلك فيمن هلك.
قال: فبينا الناس في المسجد بعد الصّبح إذ طلع الزبير و طلحة فجلسا ناحية عن علىّ عليه السّلام ثمّ طلع مروان و سعيد و عبد اللّه بن الزبير فجلسوا إليهما، ثمّ جاء قوم من قريش فانضمّوا إليهم فتحدّثوا نجيا ساعة.
ثمّ قام الوليد بن عقبة بن أبي معط فجاء إلى عليّ عليه السّلام فقال: يا أبا الحسن قد و ترتنا جميعا أمّا أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا و خذلت أخى يوم الدار بالأمس، و أمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر فى الحرب و كان ثور قريش، و أما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه و نحن اخوتك و نظراؤك من بنى عبد مناف، و نحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيّام عثمان، و أن تقتل قتلته و أنا إن خفناك تركنا و التحقنا بالشام.
فقال عليه السّلام: أما ما ذكرتم من وترى إياكم فالحقّ وتركم، و أما وضعى عنكم ما أصبتم فليس لى أن أضع حقّ اللّه عنكم و لا عن غيركم، و أما قتلى قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس و لكن لكم علىّ إن خفتمونى أن اؤمنكم و إن خفتكم أن اسيركم فقام الوليد إلى أصحابه فحدّثهم و افترقوا على إظهار العداوة و إشاعة الخلاف فلمّا ظهر ذلك من أمرهم قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فانه قد بلغنا عنهم و رأينا منهم ما نكره من خلاف و طعن على إمامهم و قد دخل أهل الجفا بينهم و بين الزّبير، و الاعسر العاق يعني طلحة.
فقام أبو الهيثم و عمّار و أبو أيّوب و سهل بن حنيف و جماعة معهم على عليّ فقالوا يا أمير المؤمنين انظر في أمرك و عاتب قومك هذا الحىّ من قريش فانّهم قد نقضوا عهدك و أخلفوا وعدك و قد دعونا في السرّ إلى رفضك هداك اللّه لرشدك، و ذاك لأنهم كرهوا الاسوة و فقدوا الاثرة و لمّا آسيت بينهم و بين الأعاجم أنكروا و استأثروا عدوّك و أعظموه و أظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة و تألّفا لأهل الضلالة فرأيك.
فخرج عليّ عليه السّلام فدخل المسجد و صعد المنبر مرتديا بطاق مؤتزرا ببرد قطرى متقلّدا سيفا متوكّئا على قوس فقال: أمّا بعد فانّا نحمد اللّه ربّنا و إلهنا و وليّنا و وليّ النعم علينا الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة و باطنة امتنانا منه بغير حول منّا و لا قوّة ليبلونا أنشكر أم نكفر فمن شكر زاده و من كفر عذّبه، فأفضل النّاس عند اللّه منزلة و أقربهم من اللّه وسيلة أطوعهم لأمره و أحملهم «أعملهم خ» بطاعته و أتبعهم لسنّة رسوله و أحياهم لكتابه، ليس لأحد عندنا فضل إلّا بطاعة اللّه و طاعة الرّسول، هذا كتاب اللّه بين أظهرنا و عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرته فينا لا يجهل ذلك إلّا جاهل عاند عن الحقّ منكر قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ثمّ صاح بأعلى صوته: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول فان تولّيتم فانّ اللّه لا يحبّ الكافرين، ثمّ قال: يا معشر المهاجرين و الأنصار أتمنّون على اللّه و رسوله باسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هديكم للايمان إن كنتم صادقين ثمّ قال: أنا أبو الحسن- و كان يقولها إذا غضب- .
ثمّ قال: ألا إنّ هذه الدّنيا الّتي أصبحتم تتمنّونها و ترغبون فيها و أصبحت تغضبكم و ترضيكم ليست بداركم و لا منزلكم الّذي خلقتم له، فلا تغرّنّكم فقد حذّرتموها و استتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر لأنفسكم على طاعة اللّه و الذّلّ لحكمه جلّ ثناؤه، فأمّا هذا الفي، فليس لأحد على أحد فيه اثرة، فقد فرغ اللّه من قسمته فهومال اللّه و أنتم عباد اللّه المسلمون، و هذا كتاب اللّه به أقررنا و إليه أسلمنا و عهد نبيّنا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتولّ كيف شاء، فانّ العامل بطاعة اللّه و الحاكم بحكم اللّه لا وحشة عليه.
ثمّ نزل عن المنبر فصلّى ركعتين ثمّ بعث بعمّار بن ياسر و عبد اللّه بن خلّ القرشي إلى طلحة و الزبير و هما في ناحية المسجد، فأتياهما فدعواهما فقاما حتى جلسا إليه فقال لهما: نشدتكما اللّه هل جئتما طائعين للبيعة و دعوتماني إليها و أنا كاره لها قالا: نعم.
فقال: غير مجبرين و لا مقسورين فأسلمتما لي بيعتكما و أعطيتماني عهدكما قالا: نعم.
قال: فما دعاكما إلى ما أرى قالا: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضى الامور و لا تقطعها دوننا، و أن تستشيرنا في كلّ أمر و لا تستبدّ بذلك علينا و لنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسم و تقطع الأمر و تمضى الحكم بغير مشاورتنا و لا علمنا.
فقال عليه السّلام: لقد نقمتما يسيرا و أرجاتما كثيرا فاستغفرا اللّه يغفر كما ألا تخبراننى أدفعتكما عن حقّ وجب لكما فظلمتكما إيّاه قالا: معاذ اللّه.
قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشي قالا: معاذ اللّه.
قال: فوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه قالا: معاذ اللّه.
قال: فما الذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي قالا، خلافك عمر بن الخطاب في القسم إنّك جعلت حقنا فى القسم كحقّ غيرنا و سوّيت بيننا و بين من لا يماثلنا فيما أفاءه اللّه تعالى علينا بأسيافنا و رماحنا و أو جفنا عليه بخيلنا و ظهرت عليه دعوتنا و أخذناه قسرا قهرا ممن لا يرى الاسلام إلّا كرها فقال: أما ما ذكرتماه من أمر الاستشارة فو اللّه ما كانت لي في الولاية رغبة،و لكنّكم دعوتموني إليها و جعلتموني عليها فخفت أن أردّكم فتختلف الامّة فلمّا افضت إليّ نظرت في كتاب اللّه و سنّة رسوله فأمضيت ما ولّاني عليه و اتّبعته و لم احتج إلى رأيكما فيه و لا رأى غيركما، و لو وقع حكم ليس في كتاب اللّه بيانه و لا في السنة برهانه و احتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه.
و أمّا القسم و الاسوة فانّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادى ء بدء، قد وجدت أنا و أنتما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحكم بذلك و كتاب اللّه ناطق به و هو الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
و أمّا قولكما جعلت فيئنا و ما أفاءه سيوفنا و رماحنا سواء بيننا و بين غيرنا فقديما سبق إلى الاسلام قوم و نصروه بسيوفهم و رماحهم فلا فضّلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في القسم و لا آثرهم بالسّبق و اللّه سبحانه موفّ السّابق و المجاهد يوم القيامة أعمالهم و ليس لكما و اللّه عندي و لا لغيركما إلّا هذا، أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ و ألهمنا و ايّاكم الصّبر- ثمّ قال- رحم اللّه امرء رأى حقّا فأعان عليه و رأى جورا فردّه و كان عونا للحقّ على من خالفه.
قال أبو جعفر: و قد روى أنّهما قالا له عليه السّلام وقت البيعة: نبايعك على أنّا شركاؤك في هذا الأمر.
فقال: و لكنّكما شريكاى في الفي ء لا أستأثر عليكما و لا على عبد حبشي مجدّع بدرهم فما دونه، لا أنا و لا ولداى هذان، فان أبيتم إلّا لفظ الشّركة فأنتما عونان لي عند العجز و الفاقة لا عند القوّة و الاستقامة.
قال أبو جعفر: فاشترطا ما لا يجوز في عقد الامامة و شرط عليه السّلام لهما ما يجب في الدّين و الشريعة.
قال الشّارح المعتزلي بعد نقله هذا الكلام من الاسكافي: فان قلت: فانّ أبا بكر قسّم بالسويّة كما قسّمه أمير المؤمنين و لم ينكروا ذلك كما أنكروه أيام أمير المؤمنين فما الفرق بين الحالتين قلت: إنّ أبا بكر قسّم محتذيا لقسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا ولي عمر الخلافة
و فضّل قوما على قوم ألفوا ذلك و نسوا تلك القسمة الاولى و طالت أيّام عمر و اشربت قلوبهم كثرة العطاء و حبّ المال، و أمّا الذين اهتضموا فقنعوا و مرّنوا على القناعة و لم يخطر لأحد من الفريقين أنّ هذه الحال تنتقض أو تتغيّر بوجه ما.
فلمّا ولي عثمان أجرى الأمر على ما كان عمر يجريه، فازداد وثوق القوم بذلك و من ألف أمرا شقّ عليه فراقه و ترك العادة فيه.
فلمّا ولي أمير المؤمنين أراد أن يردّ الأمر إلى ما كان في أيّام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و قد نسي ذلك و رفض و تخلل بين الزّمانين اثنتان و عشرون سنة فشقّ ذلك عليهم و أكبروه حتّى حدث ما حدث من نقض البيعة و مفارقة الطّاعة، و للّه أمر هو بالغه.
|