و (العظات) جمع العظة كالعذاب و هى الموعظة أى ما يلين القلب من ذكر الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و فى هذا (بلاغ) و بلغة و تبلّغ أى كفاية.
و قوله حقّا أقول صفة لمصدر محذوف مقدّم على فعله أىّ أقول قولا حقّا، و قوله كاشفتك العظات بنصب العظات على أنها مفعول به، و كاشفت بمعنى كشف أى كشفت لك المواعظ أو مفعول بالواسطة أىّ كاشفتك بالعظات و تروى بالرّفع على أنّها فاعل كاشفت و متّهم صفة لناصح و مكذب صفة لصادق.
و قوله: و لنعم داره المخصوص بالمدح محذوف و هو الضّمير الرّاجع إلى الدّنيا السابق ذكرها على حدّ قوله تعالى إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ أى هو و الضمير لأيّوب على نبيّنا و عليه السّلام السّابق ذكره فى قوله وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ و اضافة فاعل نعم إلى غير المعرّف باللام على حدّ قول الشاعر: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم.
و دارا و محلا منصوبان على التّميز
نبّه على وهن هذه العلّة و ضعفها بقوله (و حقّا أقول ما الدّنيا غرتك) يعنى انها ليست علّة تامّة قويّة للاغترار (و لكن) علّة مادّية ضعيفة سخيفة بنقصان عقلك (بها اغتررت) كما اغترّ بها كلّ ناقص العقل فاتّصافك بالاغترار بها حقيقة و اتّصافها بالغرور لك مجاز و إسناد الأول إليك أصدق و أجدر من إسناد الثاني إليها.
و أوضح عدم كونها سببا تامّا للغرور بالتّنبيه على اتّصافها بضدّه من النصح
و الموعظة فقال (و) ل (قد كاشفتك العظات) أى وعظتك جهارا بالمواعظ البالغة و النصايح الكاملة من تقلّباتها و تصاريفها بأهلها و فنائها و زوالها و غيرها فلم يكن أحد منها في حبرة إلّا أعقبته بعدها عبرة، و لم يلق من سرّائها بطنا إلّا منحته من ضرّائها ظهرا، و إن جانب منها اعذوذب و أحلى أمرّ منها جانب فأوبى لا ينال امر من غضارتها رغبا إلّا أرهقته من نوائبها تعبا، و لا يمسو منها في جناح أمن الّا أصبح على قوادم خوف.
و حسبك من عظاتها النظر في السلف الماضين من الاخوان و الأقربين الّذين أرهقتهم المنايا دون الامال، و شذبهم عنها تخرّم الاجال، حملوا إلى و هدة القبور بعد سكنى القصور، و جعل من الصّفيح أجنان، و من التراب أكفان و من الرّفات جيران، جميع و هم آحاد، و جيرة و هم أبعاد. متدانون لا يتزاورون، و قريبون لا يتقاربون، إلى غير تلك ممّا لا حاجة إلى ذكرها.
(و آذنتك على سواء) اى أعلمتك مساويها و معايبها و مال أمرها على عدل و صدق و صواب من دون جيف و ميل و زيغ عن مستقيم طريق الصدق.
(و) اقسم باللّه تعالى حقّا (لهى بما تعدك من نزول البلاء بجسمك) و بسرعة الافة إلى جسدك (و النقص في قوّتك) و الضعف و الانحلال في قواك (أصدق و أوفي) بوعدها (من أن تكذبك أو تغرّك) و تخلف الميعاد (و لرّب ناصح لها عندك متّهم و صادق من خبرها مكذّب) أى كم من ناصح و واعظ من عبرتها و عظاتها هو متّهم عندك في نصحه فلا تقبل قوله و لا تلتفت إلى نصحه لكونه خلاف هوى نفسك، و كم من صادق من اخباراتها الصّادقة هو مكذّب لديك أى تكذبه لكون خبره منافيا لرأيك مكروها لطبعك.
و حاصله أنّ العبر الدّنيوية ترشدك إلى الخير و الصلاح و حسن العاقبة و أنت في غفلة منها أو متوجّه إليها، و لكنّك معرض عنها لاستكراه نفسك لها و مضادّتها لشهواتك و امنيّاتك الحاضرة.
و نبّه عليه السّلام على خطاء المخاطب في الاتّهام و التكذيب و أنّ خبرها على
وجه الصّدق و الصواب و نصحها عن وجه الشفقّة و الصداقة بقوله (و لئن تعرّفتها) أى طلبت معرفة حالها في الصدق و الكذب و استخبرت نصحها و غشّها (في الدّيار الخاوية) اى الساقطة او الخالية من اسكانها (و الرّبوع الخالية) أى المنازل الخالية من أهلها (لتجدّنها من حسن تذكيرك و بلاغ موعظتك) أى موعظتها الكافية (بمحلّة الشفيق عليك) العطوف الرءوف بك حيث لم تألوك نصحا و لم تكذب في تذكيرها و لم تغشّ في نصحها (و) بمنزلة (الشحيح بك) أى البخيل بأن تصيبك ما يسوؤك و يكون مال أمرك مال أمر الغافلين الهالكين من عذاب النّار و سخط الجبّار.
(و لنعم دار من لم يرض بها دارا) بل جعلها ممرّا لمقرّه (و محلّ من لم يوطنها محلا) بل جعلها مجازا إلى مأواه.
و هؤلاء هم السّعداء المتقون المنتفعون بما فيها من العبر المشار إليهم بقوله (و إنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم) قال الشّارح البحراني: وجه سعادتهم بها استثمارهم للكمالات المعدّة في الاخرة منها و لن يحصل ذلك إلّا بالهرب منها اليوم و كنّى بالهرب منها عن الاعراض الحقيقى عن لذّاتها و التّباعد من اقتنائها لذاتها لاستلزام الهرب عن الشي ء التباعد عنه و الزّهد فيه، و ظاهر أنّ التباعد منها بالقلوب إلّا ما دعت الضرورة إليه و اتّخاذها مع ذلك سببا إلى الاخرة من أسباب السّعادة و مستلزماتها.
كما أشار إليه سيّد المرسلين عليه السّلام من حاله فيها بقوله: ما أنا و الدّنيا إنّما مثل فيها كمثل راكب سار في يوم صايف فرفعت له شجرة فنزل فقعد فى ظلّها ساعة ثمّ راح فتركها، هذا.
|